الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن
(أدلة حجية السنة المطهرة (4)، دفع الشبهات المثارة حول حُجية السنة (1))
بقية الأدلة على حجية السنة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله، وأحبابه، وأصحابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
قد تكلمنا في الدروس السابقة عن الأدلة من القرآن الكريم وعن الأدلة من السنة المطهرة والإجماع ودليل الإيمان.
وفضيلة الشيخ عبد الخالق -رحمه الله تعالى- في كتابه (حجية السنة) يُضيف أدلة أخرى إلى حجية السنة -أي: وجوب العمل بها، مما ذكره رحمه الله
- دليل العصمة:
وخلاصة هذا الدليل: أن الأمة أجمعت على عصمته صلى الله عليه وسلم عمَّا يخلُّ بالتبليغ، يعني: هذا محل إجماع الأمة كلها؛ أن الله تبارك وتعالى قد عصم نبيه صلى الله عليه وسلم عن أيِّ خللٍ يقع فيما يتعلق بتبليغه للرسالة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67)، لكي ينفَّذ هذا الأمر الإلهي لا بدَّ أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بمهمة التبليغ، ولا بد أن يُعصم؛ حتى يكون التبليغ على الوجه الذي يُرضيه سبحانه وتعالى، فهل يُعقل أن يبلغ بأحاديث من عنده، ولم يوحِ إليه بها ربه؟!
الرسول صلى الله عليه وسلم معصومٌ أن يضيف، أو أن ينقص، أو أن يُغيّر، أو أن يبدل شيئًا مما أمره الله تبارك وتعالى من تبليغه، خطورة النقص مثل خطورة الزيادة مثل خطورة التحريف أو التغيير أو التبديل، كل ذلك قد عصم الله منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم، ومن يعتقد عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في التبليغ، فلا بد أن يعتقد بحجية السنة، التلازم والترابط بينهما واضح جدًّا، الله عز وجل عصمه من أي خلل في أمر التبليغ؛ إذن السنة من جملة ما بلّغ به، وإلا يكون قد أتى بها من عند نفسه، وإذا كان قد أتى بها من
عند نفسه فقد أخل بضرورة التبليغ، وهذا ليس طعنًا في السنة فحسب، وإنما هو طعن في الرسالة ذاتها، والعياذ بالله.
- أيضًا من الأدلة التي يضيفها فضيلة الشيخ عبد الغني عبد الخالق -رحمه الله تعالى- فهمُ الصحابة للسنة، وتطبيقهم لها، وتمسكهم بها في كل أمور حياتهم:
عشرات الأدلة على أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا لا يُقدمون على أمر إلا بعد أن يعرفوا حكم الله تبارك وتعالى فيه، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
هذا الجيل الذي عاصر الوحي وشاهد الوقائع وساهم فيها، وعلم أسباب النزول، وأسباب ورود الأحاديث وما إلى ذلك، فهمه قاضٍ على الأمة كلها، وقد فهم هذا الجيل المبارك الذي هو خير أجيال هذه الأمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) وهو حديث متفق على صحته في الصحيحين في فضائل الصحابة- هذا الجيل أجمع على ألا يفعل شيئًا من أمور الدين أو الدنيا إلا بعد أن يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لو كانوا بعيدين عنه؛ فإنهم ينتظرون إلى حين مجيئهم إليه، قد تقع بعض الأمور بعيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم في غزو مثلًا، أو وهم في سفر فحين يعودون يذكرون للنبي صلى الله عليه وسلم ما حدث، ويعرفون الحكم الشرعي فيه، هذا الإجماع على ذلك الأمر من الصحابة يدلُّ في جلاء ووضوح على أن السنة عندهم حجة لا بدَّ من الرجوع إليها والعمل بها، والاستجابة لأحكامها.
الأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى، ويكفي أن نشير إلى بعض الأحاديث الصحيحة في هذا الأمر، مثلًا: النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثًا، وأمَّر عليه أميرًا، هذا الأمير كان يصلي بهم، وفي صلاتهم جهرية؛ سواء كان ذلك في صلاة المغرب أو العشاء أو الفجر وهي الصلوات الجهرية، يقرأ بهم الفاتحة ثم يقرأ بهم ما شاء الله
أن يقرأ من القرآن، ويختم قراءته بـ سورة قل هو الله أحد لما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه: الأمير الذي أمَّرته علينا كان يفعل كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم:((سلوه: لأي شيء يفعل ذلك؟ قال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال صلى الله عليه وسلم: بلغوه أن الله تعالى يُحبُّه))، هذا حديث في الصحيحين، رواه الإمام البخاري في كتاب التوحيد؛ إذن حدث هذا بعيدًا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعادوا ليسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم الشرع في مثل هذا الصنيع. وحتى هذا الحديث نضربه مثالًا لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة على بعض أفعالهم التي تصبح جزءًا من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم بها وأقرهم عليها.
أيضًا، أم سليم، الحديث أيضًا في الصحيحين في كتاب الطهارة عند البخاري ومسلم من حديث أم سليم -رضي الله تعالى عنها- ((أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء)) الصحابية الجليلة أم سليم تعرف أنه لا بد من معرفة حكم الشرع في ذلك، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله.
أيضًا، علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-:"كنت رجلًا مذَّاء، فاستحييت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم"؛ لموقعه ولموقع ابنته منه وبعث من يسأل له عن حكم هذا المذي الذي يصاحبه في بعض أوقاته، وعلم أن الحكم الشرعي أنه لا يُوجب الغسل، وأنه يغسل نفسه ثم يتوضأ ويصلي.
حديث ابن عمر في كتاب الطلاق عند البخاري ومسلم، وهو حديث صحح مشهور، وهو أصل لمن قالوا: بأن الطلاق البدعي لا يقع، ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- كان قد طلّق امرأته وهي حائض، فأبوه عمر -رضي الله تعالى عنه- أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال:((مره فليراجعها)) إذن، يسألون عن أحكام عشرات، بل مئات الأمثلة على هذه القضية؛ إذن فالصحابة مجمعون على أن السنة حجة، وأنه إذا طرأ لأحدهم أمر
لا بد أن يتجه للنبي صلى الله عليه وسلم، أحيانًا تنزل الآيات بحكم الشرع كما في قصة الظهار خولة بنت ثعلبة، التي سمع الله تعالى قولها وهي تجادل النبي صلى الله عليه وسلم حين ظاهر منها زوجها:((إن لي منه صبية صغارًا، إن ضممتهم إليّ ضاعوا، وإن ضممتهم إليه جاعوا)) حتى نزلت الآيات بحكم الظهار، وبينه لهم النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في القرآن الكريم. يعني: إما أن ينزل الحكم في القرآن الكريم، وكثير من الأحكام تعتمد على السنة المطهرة.
أيضًا، في صلاة العصر في بني قريظة لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يصلينَّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة))، وتعدَّدت أفهام الصحابة في ذلك؛ فمنهم من صلى في الطريق مخافة أن يخرج الوقت عن وقته، لأنهم يعلمون أن هناك أدلة تنصُّ على وجوب أو استحباب أداء الصلاة في أول وقتها، وهناك من أصرَّ على تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحذافيره، فأجّل الصلاة حتى وصل إلى ديار بني قريظة، ورُفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقرَّ كلّا من الفريقين على فهمه.
إذن، الصحابة بإجماع يعلمون ويعتقدون أن السنة حجة، وأنهم لا يسعهم أن يُقدِموا على أي عمل يتعلق بأمر دينهم أو دنياهم إلا بعد أن يعلموا حكم الله فيه من خلال القرآن الكريم، أو من خلال السنة المطهرة، وقد رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في عشرات، بل في مئات المسائل، ولذلك يعتبر العلماء منهج الصحابة في التعامل مع السنة إنما هو دليل على حجية هذه السنة، وأنه لا بد من العمل بها، وقد مرَّ بنا ما قاله الصديق -رضي الله تعالى عنه- للمرأة الجدة التي جاءت تسأل حقها في الميراث فقال لها أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-:"لا أجد لك في كتاب الله شيئًا، ولا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لك بشيء"، إذن هو يعلم يقينًا أن السنة حجة، وأنها تشرع كما يشرع القرآن الكريم، وأنه على المسلمين أن يقولوا: سمعنا وأطعنا في كل حكمٍ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- من الأدلة على وجوب العمل بالسنة: استحالة العمل بالقرآن الكريم وحده:
وأيُّ مدرك لعلاقة السنة بالقرآن الكريم يعلم ذلك جيدًا؛ أنها تبين القرآن الكريم بوسيلة من وسائل البيان المعروفة عند العلماء، وهي مثلًا تفصيل المجمل، تقييد المطلق، تخصيص العام، توضيح المشكل، وهي أيضًا تُشرّع كما يُشرع القرآن الكريم تمامًا.
إذن، الاكتفاء بالقرآن الكريم تضييع للإسلام، وأن هذه الدعوى تحمل في طياتها هدفًا خبيثًا جدًّا، وهو تضييع الإسلام نفسه؛ لأن كيف نصلي الظهر أربعًا من خلال القرآن الكريم؟ كيف نصلي العشاء أربعًا؟ كيف نخرج زكاة الأموال بنسبة ربع العشر؟ أين زكاة عروض التجارة في القرآن الكريم؟ أين زكاة الماشية في القرآن الكريم؟ أين أين؟ أمور الإسلام في أركانه وفي غير أركانه تتوقف على السنة المطهرة، فيستحيل عمليًّا وواقعيًّا أن نكتفي بالقرآن الكريم وحده. هي دعوى ظاهرها خدَّاع لكن باطنها هو تضييع الإسلام كله؛ لأنه لو سلمنا جدلًا بهذه المقولة ونحَّينا السنة، فسيتوقف القرآن عن الفهم والتطبيق، وبالتالي يضيع الإسلام الذي هو في المقام الأول يعتمد على القرآن الكريم وعلى السنة المطهرة.
- من الأدلة على حجية السنة: أنها وحي من عند الله تبارك وتعالى:
وما دامت وحيًا فلا بد من الاستجابة لها واتباعها، أما أنها وحيٌ من عند الله تبارك وتعالى فقد قامت على ذلك أدلةٌ كثيرة، من ذلك قوله سبحانه وتعالى:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 1: 4) أي: كل ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم مقصورٌ على كونه وحيًا من عند الله تبارك وتعالى، كل ما يقوله هو وحيٌ من عند الله تبارك وتعالى الآيات لم
تستثنِ شيئًا، والذي قاله هو القرآن الكريم وهو السنة المطهرة، وأيضًا الآيات التي ذكرت القرآن الكريم والسنة المطهرة، أو والحكمة:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب: 34)، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة: 2)، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين} (آل عمران: 164).
كل الآيات التي جمعت بين الكتاب والحكمة العطف بينهما يقتضي المغايرة، بالضرورة الحكمة غير الكتاب؛ لأنه لا يجوز عند النحاة عطف الشيء على نفسه، فإذن الحكمة غير الكتاب، وما هي الحكمة؟ يتحتَّم أن تكون الحكمة هي السنة، وقد قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في (الرسالة):"سمعت من أرضى من أهل العلم يقول بأن الحكمة هي السنة"، وكون الحكمة في هذه الآيات سنة أجمع عليها علماء الأمة، واستقروا على هذا الفهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتانا بالقرآن الكريم وأتانا بالسنة المطهرة، ولا بد من حمل الحكمة على السنة؛ لأنه لم يأتنا بغير ذلك، وإذا كانت الحكمة هي السنة، فإن الكتاب والحكمة قد نزلا من عند الله تبارك وتعالى، والدليل على ذلك في آية النساء:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (النساء: 113) يعني: الآيات التي سبقت في سورة البقرة ذُكرت: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة: 129)، وفي آل عمران ذكرت:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وفي سورة الجمعة، وفي سورة الأحزاب:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} ثم آية النساء التي تضيف أمرًا آخر وهو أن السنة والحكمة
كليهما نازل من عند الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (النساء: 113).
الآيات السابقة لم يأتِ فيها هذا الأمر، قد يقول قائل من خلال الآيات السابقة: ليس هناك ما يدل على أن الحكمة -حتى وإن سلمنا بأنها هي السنة- ليس هناك ما يدل على أنها نزلت من عند الله تبارك وتعالى فتأتي آية النساء قاطعة في هذا الأمر: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} ، إذن السنة بمقتضى آيات القرآن الكريم وحيٌ من عند الله تبارك وتعالى، وأيضًا على ذلك جاءت الأحاديث الكثيرة التي تُثبت هذا الأمر عند الإمام أحمد بسندٍ صحيح حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- أنه كان يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهته قريشٌ عن ذلك، وقالت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرٌ يتكلم في الغضب والرضا، بمعنى: أنه قد يقول أقوالًا بمقتضى بشريته ليست منهجًا، ليست تشريعًا، مَن الذي يحسم المسألة؟ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الذي يقضي في المسألة، فرُفع الأمر إليه فقال له:((اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق)) النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق الذي جاء من عند الله تبارك وتعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) أيضًا: ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)) أوتيت: بالبناء للمجهول، أوتي القرآن وأوتي مثله معه، وهذا المثل يُحمل بالضرورة عند كل عاقلٍ رشيد على أنه السنة المطهّرة.
هذه الأدلة كلها دلَّت على أن السنة وحيٌ من عند الله تبارك وتعالى، وما دامت وحيًا من عند الله فهي واجبة الاتباع، كما أن القرآن الكريم وحيٌ من عند الله تبارك وتعالى فهو واجب الاتباع أيضًا، والفرق أن القرآن الكريم هو كلام
الله تبارك وتعالى وأن الحديث النبوي هو كلام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم لكنه أوحي إليه بمعناه من عند الله تبارك وتعالى.
وحتى الأمور التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم باجتهاده، وهناك وقائع تثبت هذا في قصة أسرى بدر، وفي غيرها النبي صلى الله عليه وسلم قال باجتهاده، لكن دور الوحي معه هو إما أن يصحح له إذا كان الأمر يحتاج إلى تصحيح، أو أن يقرََّه على ما ذهب إليه اجتهاده إن لم يكن يحتاج إلى تصحيح، وفي كلتا الحالتين القِسم الذي قاله باجتهاده مردُّه أيضًا إلى الوحي، إما بالإقرار وإما بالتصحيح، وبالتالي فإن السنة كلها وحي من عند الله تبارك وتعالى.
كل هذه أدلةٌ على وجوب العمل بالسنة المطهرة، القرآن الكريم والآيات التي ذكرنها.
إنها قضية قرآنية، وقضية عقدية، وقضية إيمانية، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة الذي انعقد على وجوب العمل بالسنة، وكلمة للإمام الشوكاني في هذا:"دليل الإيمان، وخلاصته أن إيمان المؤمن لا ينعقد إلا إذا حكّم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شأن من شئون حياته"، وهذه قضية ذكرتها آياتٌ كثيرة، وعلّق الله تبارك وتعالى عليها الإيمان؛ بل أقسم على هذه القضية، أقسم -جلّ في علاه- بذاته الشريفة أن إيمان المؤمنين لن يكون إلا إذا حكّموا الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شأنٍ من شئون حياتهم، وذلك في قوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم} (النساء: 65)، والأدلة الأخرى التي ذكرها فضيلة الشيخ عبد الغني عبد الخالق -رحمه الله تعالى- في كتاب (حجية السنة). وهذه الأدلة تتلخص في دليل العصمة، وفي تمسك الصحابة بالسنة الذي يدل على أنهم فهموا أنها حجة، ولا بد من الرجوع إليها، وأيضًا استحالة العمل بالقرآن الكريم
وحده، وإلا كان ذلك تضييعًا للإسلام كله، وأيضًا إثبات أن السنة وحيٌ من عند الله تبارك وتعالى وما دامت وحيًا فهي واجبة الاتباع وواجبة التطبيق في حياة المسلمين.
لم يُنازع في ذلك أحدٌ من المسلمين الذين ينعقد بهم الإجماع، أجمعت الأمة على كل هذه الأدلة، وعلى خلاصة الأمر وزبدته في أن السنة لا بد أن تُتبع، وأن يُعمل بها، وأن نستجيب لكل حكم حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في أثناء أبحاثه في كتابه (حجية السنة) يُعلِّق فضيلة الشيخ -رحمه الله تعالى- تعليقًا يقول فيه -حاكمًا على من نازعوا في هذه القضية- يقول: "وليت شعري، كيف يُتصور أن يكون نزاع في هذه المسألة بين المسلمين! وأن يأتي رجلٌ في رأسه عقل ويقول: أنا مسلم، ثم يُنازع في حجية السنة بجملتها، مع أن ذلك مما يترتب عليه عدم اعترافه بالدين الإسلامي كله من أوله إلى آخره، فإن أساس هذا الدين هو الكتاب، ولا يمكن القول بأنه كلام الله مع إنكار حجية السنة جملةً، فإن كونه كلام الله لم يثبت إلا بقول الرسول الذي ثبت صدقُه بالمعجزة، إن هذا كلام الله وكتابه، وقول الرسول هذا من السنة التي يُزعم أنها ليست بحجة، فهل هذا إلا إلحاد وزندقة، وإنكار للضروري من الدين يُقصد به تقويض الدين من أساسه، فإن قلت: لا نُقرّك على أن كون الكتاب كلام الله؛ لا يثبته إلا ذلك القول، وإنما ثبت بإعجازهم مباشرة، قلت: نعم، جميع القرآن وسورة منه وثلاث آيات يُمكن أن يقال فيها: إنه ثبت كونها كتاب الله بإعجازها، ولا حاجة لقول الرسول فيها، وذلك لقيام الإعجاز بها. أما الآيتان والآية وبعض الآية فلم يقم بها صفة الإعجاز، حتى نعلم أنها كلام الله؛ فلا يمكننا العلم حينئذٍ بأنها منه إلا بقول الرسول الذي ثبت صدقه بإعجاز القرآن كله، أو سورة منه وبغير ذلك من المعجزات- إنها من كلام الله.
ونحن في استدلالنا على عقيدة دينية أو حكم شرعي من كتاب الله، إنما نستدلّ بالآية أو ببعضها، فلو لم يكن هذا القول من الرسول حجة؛ لما أمكن للاستدلال بالآية أو ببعضها. ولا يخفى عليك أن كون الآية، أو كون بعضها من القرآن أصبح ضرورة دينية، لا يسع مسلمًا إنكاره بحال، وكذا الاستدلال بشيء من ذلك على حكم شرعي. وإذا كان هذان الأمران الضروريان متوقفين على حجية السنة؛ كانت هي أيضًا ضرورة دينية، فكيف يمكن لمن يعتنق دين الإسلام أن يقدِم على إنكار حجيتها أو الشك فيها؟! "
خلاصة كلام الشيخ في هذا الجزء: أن السنة هي التي بيَّنت أن القرآن من عند الله تبارك وتعالى وكأن النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن قال: إن هذا كلام الله وكتابه، فمن لم يؤمن بالسنة فأنكر القرآن الكريم؛ لأن السنة من طرق إثبات القرآن الكريم، ونقل على لسان البعض قد لا يُقرّون هذا، بمعنى: أن القرآن الكريم الذي هو كلام الله لا يُثبته إلا ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم إنه كلام الله، بل ثبت بإعجازه مباشرة، سلّم الشيخ بقولهم، لو قلنا جميع القرآن، أو سورة منه، أو ثلاث آيات -القدر الذي يتفق عليه العلماء- بأنه يتحقق به الإعجاز، ثبت كونها من كتاب الله بكونها معجزة، لكن الآيتان والآية وبعض الآية، وكثير من الأحكام الشرعية نستدلُّ بها بآية واحدة أو بآيتين، وأحيانًا ببعض آية؛ فإذن الأحكام الشرعية تتوقف إثباتها على آية أو بعض آية، وهذا القدر لم يتحقق به الإعجاز على ما ذهب إليه علماء التفسير وعلوم القرآن.
إذن، لا بد من حجية السنة لكي نؤمن بالقرآن أيضًا، وينتهي إلى أنه قد يصل الأمر بقائل هذه الأقوال إلى حكم الرّدّة، كما قال ذلك، وهذا بعض كلامه في
هذا: "وليت شعري كيف يمكن القول بأنها ليست ضرورية دينية، مع العلم بأن كثيرًا من المسائل التي أجمع الفقهاء عليها، وعلى أنها معلومة من الدين بالضرورة، وأن إنكارها يُوجب الرّدّة، كعدد ركعات الفرائض متوقفة عليها، وكيف يَتوقف الضروري على ما ليس ضروريًّا، وزعم إمكان فهم هذه المسائل من الكتاب وحده باطلٌ بالضرورة، ومحاولة هذا الفهم محاولةٌ لتحقيق المُحال، ولقد كان الأئمة السابقون أقدر منا على ذلك، واعترفوا بالعجز عنه -يعني: محاولة إثبات الأدلة على الأحكام الشرعية من القرآن فقط، وإذا كانت هذه المسائل الضرورية -الصلاة مثلًا، وكون الظهر أربعًا، وكون العصر أربعًا أيضًا- كل ذلك يتوقف على السنة، وهي مسائل ضرورية -يعني: معلومة من الدين بالضرورة وإنكارها كفر- وإذا كانت هذه المسائل الضرورية متوقفة على حجية السنة، فكيف يتأتى من مؤمن أن يُنازع فيها، مع أن النزاع فيها يستلزم النزاع في هذه المسائل -يعني: النزاع في حجية السنة يستلزم النزاع في كون الظهر أربعًا، في كون أن الزكاة ربع العشر، في كون المواشي عليها زكاة
…
إلى آخره، وهذا يستلزم الارتداد؛ فإن قيل: إن هذه الأحكام دليلها الإجماع فهي ليست متوقفة على حجية السنة! قلت: هذا عبثٌ من القول، فإن الإجماع لا بد له من مستند، وليس هذا المستند في هذه المسائل الكتاب -القرآن فقط- إذ لا يمكن فهمها منه، وليس القياس، ولو ذهبنا إلى أنه قد يكون مستندًا للإجماع فيما يكون له أصلٌ معقول المعنى؛ لأن كثيرًا من هذه المسائل -أي: مسائل العبادة- لا مجال للعقول فيها، وليس لها أصلٌ تُقاس عليه؛ فتعيّن أن يكون هذا المستند السنة، بل قد أجمعوا على أن المستند في هذه المسائل هو السنة لا غير، وهذا يستلزم إجماعهم على حجيتها وضروريتها". انتهى كلام الشيخ رحمه الله تبارك وتعالى.