المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌النص المحقق - الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - - جـ ١

[ابن الوزير]

فهرس الكتاب

- ‌النص المحقق

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السّابع:

- ‌الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه العاشر:

- ‌الوجه الحادي عشر:

- ‌الوجه الثّاني عشر:

- ‌ تنبيهات

- ‌التّنبيه الثاني:

- ‌التنبيه الثالث:

- ‌المبحث الأول:

- ‌المبحث الثاني:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌المسألة الأولى:

- ‌الفصل الأوّل:

- ‌الفصل الثّاني:

- ‌الحجّة الأولى:

- ‌الحجة الثانية:

- ‌الحجة الثّالثة:

- ‌البحث الثاني:

- ‌البحث الثالث:

- ‌البحث الرّابع:

- ‌البحث الخامس:

- ‌البحث السّادس:

- ‌البحث السّابع:

- ‌البحث الثّامن:

- ‌البحث التّاسع:

- ‌البحث العاشر:

- ‌البحث الحادي عشر:

- ‌النّوع الأوّل:

- ‌النّوع الثّاني:

- ‌الوجه الثّاني:

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثّانية:

- ‌المسألة [الثّالثة]

- ‌ الأولى: في وجوب التّرجيح أو جوازه في حقّ المميّز من طلبة العلم

- ‌النّظر الأوّل:

- ‌النّظر الثّاني:

- ‌النظر الثالث:

- ‌النّظر الرّابع:

- ‌النّظر الخامس:

- ‌ الأوّل:

- ‌ الثّاني:

- ‌الوهم الثّاني:

- ‌ الموضع الأوّل:

- ‌الموضع الثاني:

- ‌الموضع الثالث:

- ‌الموضع الرّابع:

- ‌المحمل الأول:

- ‌المحمل الثّاني:

- ‌المحمل الثّالث:

- ‌المحمل الرّابع:

الفصل: ‌ ‌النص المحقق

‌النص المحقق

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، ومعلّماً للأمّيين بلسان عربيّ مبين، وقال وهو أصدق القائلين:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيّينَ رَسُولاً مِنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة:2].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير. وأشهد أنّه كما وصف ذاته الكريمة في كتابه المنير:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. وأنّه مُنزّه عن إجبار العباد، وأنّه لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، وأنّه لا يظلم العبيد، وأنّه لا يخلف الوعد ولا الوعيد، وأنّه المختصّ بصفات الكمال، ونعوت الجلال، وأنّه منزّه عن الأشكال والأمثال.

وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله المبعوث بالكتاب الكريم، المنعوت بالخلق العظيم. الموعود يوم القيامة مقاماً محموداً، وحوضاً موروداً، وشرفاً مشهوداً، وأصلّي وأسلّم صلاة دائمة النّماء، تملأ الأرض والسّماء وما بينهما، عليه وعلى آله الكرماء، الثّقل المذكور مع القرآن (1)

أئمة الإسلام، وأركان الإيمان المتوّجين بتاج: {قُل لَاّ

(1) جاء ذلك في حديث عند مسلم برقم (2408) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب الله

)) ثم قال: ((وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي

)).

وأخرجه أحمد: (3/ 59)، والترمذي:(5/ 621)، وغيرهما بلفظ:((عترتي، أهل بيتي)) وهو حديث لا يصح. انظر ((العلل المتناهية)): (1/ 266) لابن الجوزي.

والثّقل: يطلق على كلّ خطير نفيس. انظر: ((النهاية)): (1/ 126) لابن الأثير.

ص: 3

أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجْراً إِلَاّ المَوَدَّةَ فِي القُربَى} الشاهد بمناقبهم كتاب: ((ذخائر العقبى)) (1) ، وعلى أصحابه حماة الإسلام، وليوث الصّدام، وهداة الأنام، وأهل المشاهد العظام، أهل مكّة والهجرتين، وطيبة والعقبتين، الذين أغناهم نصّ القرآن على فضلهم عن أخبار الآحاد والقياس، حيث قال تعالى [في خطابهم] (2):{كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].

أما بعد: فإنّ الله لما اختار محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً أميناً، ومعلّماً مبيناً، واختار له ديناً قويماً، وهداه صراطاً مستقيماً، ارتضاه لجميع البشر إماماً، وجعله للشرائع النّبوية ختاماً، وأقسم في كتابه الكريم تبجيلاً [له](3) وتعظيماً، فقال عزّ قائلاً كريماً:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِم حَرَجاً مِّمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسلِيماً} [النساء:65] ثم إنه عز وجل أثار أشواق

(1) كتاب ((ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى)) لمحب الدين أحمد بن عبد الله الطبري المتوفى سنة (694هـ) طبع في مجلدين، وانظر ثناء المؤلف عليه في ((الإيثار)):(ص/416).

(2)

زيادة من (ي) و (س).

(3)

زيادة من (ي) و (س).

ص: 4

العارفين إلى الاقتداء برسوله؛ بكثرة الثّناء عليهم في تنزيله، مثل قوله في التعظيم لهم والتبجيل:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوباً عِندَهُم فِي التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]. إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، الشّاهدة لمتبعيه بالطريقة القويمة.

فلمّا وعت هذه الآيات آذان العارفين، وتأمَّلتها قلوب الصّادقين، حرصوا على الاقتداء به في أفعاله، والاستماع منه في أقواله، فكانوا له أتبع من الظّلم، وأطوع من النّعل: فعلّمهم أركان الإسلام وشرائعه وفرائضه ونوافله، وكان بهم رءوفاً رحيماً، وعلى تعليمهم حريصاً أميناً، كما وصفه ربّ العالمين، حيث قال في كتابه المبين:{لَقَد جَآءَكُم رَسُولٌ/ مِّن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَاعَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128].

فلم يزل عليه الصلاة والسلام يرشدهم إلى أفضل الأعمال، ويهديهم إلى أحسن الأخلاق، ويلزمهم ما فيه النجاة والفوز في الآخرة، والسلامة والغبطة في الدنيا، من لزوم الواجب [والمسنون، ومجانبة المكروه، وترك الفضول، فلم يترك خيراً قطّ إلا أمرهم به](1) ففعلوه، ودعاهم إليه فأجابوه، حتّى لم يكن شيء في زمانه من أعمال البرّ متروكاً، ولا منهجاً من مناهج الخير إلا مسلوكاً، فلمّا تمّ ما أراده الله تعالى برسوله من هداية أهل الإسلام، وبلّغ إلى الأنام جميع ما عنده من الأحكام؛ من العقائد والآداب والحلال والحرام، أنزل الله في ذلك تنصيصاً وتبييناً: {اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمْتُ عَلَيكُم نِعمَتِي

(1) ما بين المعقوقين ساقط من (أ).

ص: 5

وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلَامَ دِيناً} [المائدة:3]. فكمل الدين في ذلك الزّمان، ووضحت الحجّة والبرهان، ودحضت وساوس المشبّهين؛ وانحسمت مواد المبطلين، إذ لا حجّة على الله بعد الرّسل لأحد من العالمين، بنصّ كتابه المبين.

هذا؛ وإنّي لما رَتَبْت (1) رتوب الكعب في مجالسة العلماء السّادة، وثبتُ ثبوت القطب في مجالس العلم والإفادة، ولم أزل منذ عرفت شمالي من يميني مشمّراً في طلب معرفة ديني، أنتقل في رتبة الشّيوخ من قدوة إلى قدوة، وأَتَوَقَّل (2) في مدارس العلم من ربوة إلى ربوة، ولم يزل يراعي بلطائف الفوائد نَوَاطِف، وبناني للطف المعارف قَوَاطِف: لم يكن حتماً أن يرجع طرف نظري عن المعارف خاسئاً حسيراً، ولم يجب قطعاً أن يعود جناح طلبي للفوائد مَهيضاً كسيراً، ولم يكن بدعاً أن تنسّمت من أعطارها روائح، وتبصّرت من أنوارها لوائح، أشربت قلبي محبّة الحديث النّبوي، والعلم المصطفوي، وكنت ممن يرى الحظ الأسنى في خدمة علومه، وتمهيد ما تعفَّى من رسومه.

ورأيت أولى ما اشتغلت به: ما تعيّن فرض كفايته بعد الارتفاع، وتضيّق وقت القيام به بعد الاتساع، من الذَّبَّ عنه، والمحاماة عليه، والحثّ على اتّباعه والدُّعاء إليه.

(1) رتب الشيء: ثبت ودام، يقال: رتب فلان رتوب الكعب، في المقام الصعب. انظر ((أساس البلاغة)):(ص/153).

(2)

أي: أصعد، والتوقّل: الصعود. انظر: ((اللسان)): (11/ 733).

ص: 6

فإنه علم الصّدر الأوّل، والذي عليه بعد القرآن المعوّل.

وهو لعلوم الإسلام أصل وأساس.

وهو المفسّر للقرآن بشهادة: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل:44].

وهو الذي قال الله فيه تصريحاً: {إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحيٌ يُوحَى} [النجم:4].

وهو الذي وصفه الصّادق الأمين، بمماثلة القرآن المبين؛ حيث قال في التوبيخ لكل مترف إمّعة:((إني أوتيت بالقرآن ومثله معه)) (1).

وهو العلم الذي لم يشارك القرآن سواه، في الإجماع على كفر جاحد المعلوم من لفظه ومعناه.

وهو العلم الذي إذا تجاثت الخصوم للرّكب، وتفاوتت العلوم في الرتب، أصمَّت مِرْنانُ (2) نوافله كلّ مناضل، وأَصمَّت برهان معارفه كلّ فاضل.

وهو العلم/ الذي ورّثه المصطفى المختار، والصّحابة الأبرار، والتّابعون الأخيار.

وهو العلم الفائضة بركاته على جميع أقاليم الإسلام، الباقية

(1) أخرجه أحمد: (4/ 131)، وأبو داود:(5/ 10)، ومن طريقه ابن عبد البر في ((التمهيد)):(1/ 150) وغيرهم.

كلهم من طريق حريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام بن معد يكرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإسناده صحيح.

(2)

المرنان: القوس. ((القاموس)): (ص/1595).

ص: 7

حسناته في أمّة الرّسول عليه الصلاة والسلام.

وهو العلم الذي صانه الله عن عبارات الفلاسفة، وتقيّدت عن سلوك مناهجه فهي راسفة (1) في [الأغلال](2) آسفة.

وهو العلم الذي جلي للإسلام به في ميدان الحجّة وصلى، وتجمّل بديباج ملابسه من صام لله وصلّى.

وهو العلم الفاصل حين تلجلج الألسنة بالخطاب، الشاهد له بالفضل رجوع عمر بن الخطّاب (3).

وهو العلم الذي تفجّرت منه بحار العلوم الفقهية، والأحكام الشّرعية، وتزيّنت بجواهره التفاسير القرآنية، والشّواهد النّحوية، والدّقائق الوعظية.

وهو العلم الذي يميز الله به الخبيث من الطّيّب، ولا يرغم إلا المبتدع المتريّب.

وهو العلم الذي يسلك بصاحبه نهج السّلامة، ويوصله إلى دار الكرامة، والسّارب (4) في رياض حدائقه، الشّارب من حياض حقائقه، عالم بالسنّة، ولابس من كلّ خوف جنّة، وسالك منهاج الحق إلى

(1) أي: مقيّدة.

(2)

في (أ) و (ي): ((الفلا)) والمثبت من (س).

(3)

أي رجوعه إلى السنة عندما بلغته، في قصص كثيرة، منها: حديث أبي موسى في الاستئذان، وحديث عبد الرحمن بن عوف في الطاعون، وحديثه في أخذ الجزية من المجوس، ودية الأصابع.

(4)

بالسين المهملة، أي الذاهب.

ص: 8

الجنّة.

وهو العلم الذي يرجع إليه الأصولي، وإن برز في علمه، والفقيه وإن برّز في ذكائه وفهمه، والنّحوي وإن برّز في تجويد لفظه، واللّغوي وإن اتسع في حفظه، والواعظ المبصّر، والصّوفي والمفسّر، كلّهم إليه راجعون، ولرياضه منتجعون.

ولنورد نبذة لطيفة ونكتة شريفة مما قيل فيه من أشعار الحكمة، وكلمات أحبار هذه الأمة، ارتياحاً إلى ذكر ممادحه، والتذاذاً بِسَطر فضائله.

فمن ذلك ما قال الحافظ الصّوري (1):

قل لمن عاند الحديث وأضحى

عائباً أهله ومن يدّعيه

أبعلم تقول هذا أبن لي

أم بجهل فالجهل خلق السّفيه

أيعاب الذين هم حفظوا الدين

من الترهات والتّمويه

وإلى قولهم وما قد رووه

راجع كل عالم وفقيه (2)

ومن ذلك قول الحافظ الحُميدي (3):

كتاب الله عز وجل قولي

وما صحّت به الآثار ديني

(1) هو: محمد بن علي بن عبد الله الشّامي السّاحلي الصّوري، أبو عبد الله ت (441هـ).

انظر: ((تاريخ بغداد)): (3/ 103)، و ((السير)):(17/ 627).

(2)

الأبيات في ((شرف أصحاب الحديث)): (ص/77)،و ((الإلماع)):(ص/39).

(3)

هو: محمد بن أبي نصر فتوح، الأزدي، الحميدي، الأندلسي ت (488هـ) انظر:((الصلة)): (2/ 560) لابن بشكوال، و ((السير)):(19/ 120).

ص: 9

وما اتفق الجميع عليه بدءاً

وعوداً فهو من حقّ يقين (1)

فدع ما صدّ عن هذا وخذها

تكن منها على عين اليقين (2)

ومن ذلك قول أبي محمد هبة الله بن الحسن الشّيرازي (3):

عليك بأصحاب الحديث فإنهم

على منهج ما زال بالدين معلما

وا النور إلاّ في الحديث وأهله

إذا ما دجى الليل البهيم وأظلما

فأعلى البرايا من إلى السّنن اعتزى

وأغوى البرايا من إلى البدع انتمى

ومن يترك الآثار ظل بسعيه (4)

وهل يترك الآثار من كان مسلماً

ومن ذلك قول العلاّمة مجد الدّين محمد بن أحمد بن [الظهير](5) الإربلي (6):

إذا شئت أن تتوخّى الهدى

وأن تأتي الحقّ من بابه

فدع كلّ قول ومن قاله

لقول النّبيّ وأصحابه

فلم تنج من محادثات الأمور

بغير الحديث وأربابه

ومن ذلك قول الحافظ أبي محمد علي بن أحمد الفارسي:

(1) في ((معجم الأدباء)) و ((السير)): (مبين) بدلاً من (يقين).

(2)

الأبيات في ((معجم الأدباء)): (18/ 285)، و ((نفح الطيب)):(2/ 115)، و ((السير)):(19/ 120)

(3)

لم أجد له ترجمة!. والأبيات ذكرها القنّوجي في ((الحطّة)): (ص/43).

(4)

في هامش (أ) و (ي): ((ضلّل سعيه)) في نسخة.

(5)

في (أ) و (ب): ((ابن أبي الطّهر)) وهو خطأ، والتصويب من مصادر الترجمة.

(6)

أديب، علاّمة، حنفي، توفي سنة (667هـ). انظر:((معجم شيوخ الذهبي)): (2/ 152)، و ((العبر)):(3/ 336).

والأبيات ذكرها القنوجي في ((الحطّة)): (ص/46).

ص: 10

عليك كتاب الله لا تتعدّه

ففيه هدى للزّيغ ماح وقامع

وما سنَّهُ النّبي محمدٌ/

فقد خاب عاصيه وفاز المتابع

فخير الأمور السّالفات على الهدى

وشرّ الأمور المحدثات البدائع

ومن ذلك قول الحافظ أبي عبد الله الذّهبي:

العلم قال الله قال رسوله

إن صحّ والإجماع فاجهد فيه

وحذار من نصب الخلاف جهالة

بين النّبي وبين رأي فقيه (1)

ومن ذلك قول بعضهم (2):

دين النّبي محمد آثار

نعم المطيّة للفتى الأخبار

لا ترغبنّ عن الحديث وأهله

فالرّأي ليل والحديث نهار

وممّا قلت في ذلك:

العلم ميراث النّبي كذا أتى

في النّصّ، والعلماء هم ورّاثه

فإذا أردتّ حقيقة تدري بمن (3)

وُرَّاثه فكَّرت ما ميراثُه

ما ورّث المختار غير حديثه

فينا، وذاك متاعه وأَثاثه

فلنا الحديثُ وراثة نبويّة

ولكلّ مُحدِث بِدعةٍ إِحداثُه

ومما قلت في الرّدّ على من كره تمسّكي بالسّنة (4):

(1) نسبه له جماعة. انظر: ((الرد الوافر)): (ص/67).

(2)

البيتان في ((شرف أصحاب الحديث)): (ص/76)، و ((جامع بيان العلم وفضله)):(2/ 35)، و ((الإلماع)):(ص/38) ، وفي كل مصدر نسبت إلى قائل.

(3)

في (س): ((لمن)).

(4)

والقصيدة أطول مما هنا.

ص: 11

يا لائمي كُفّ عن لومي ومعتقدي

قول النبي فهمّي في تعرُّفِه

فما قفوت سوى آثار (1) منهجه

ولا تلوثُ سوى آياتِ مُصحفِه

ففي المجازات أمضي نحو مَعْلمه

وفي المحاراة أبقى وسط موقِفِه

وإذا سعيت فسعي نحو كعبته

وإن وقفت ففي وادي معرَّفه

وحقّ حبّي له أنّي به كلفٌ

يغنيني الطّبع فيه عن تكلّفه

هذا الذي كثّر العذّال فيه فما

تعجَّب القلب إلا من مُعَنِّقه

يستأهل القلب ما يلقاه إن بقيت

له علاقة توليع بمألفه

ومما قلت في ذلك: القصيدة الطويلة (2) التي أوّلها:

ظلَّت عواذله تروح وتغتدي

وتُعيدُ تعنيف المحبّ وتَبْتَدي

يا صاحِبيَّ على الصَّبابة والهوى

من مِنكما في حبِّ أحمد مُسعدي

حسبي بأني قد شُهرتُ بحبِّه

شرفاً ببردته الجِميلةِ أَرتدي

لي باسمه وبحبّه وبقربه

ذِمَمٌ عِظامٌ قد شَدَدت بها يدي

ومحمد أوفى الخلائق ذمّة

فليبلغنّ بي الأماني في غَدِ

يا قلبُ لا تستبعدنَّ لقاءه

ثق باللقاء، وبالوفاء فكأَن قَدِ

يا حبَّذا يوم القيامة شُهرتي

بين الخلائق في المقام الأحمدِ

(1) في (س): ((آيات))!.

(2)

وقد أنشأها المصنف في سنة (808هـ) وعدد أبياتها مئة وثلاثة أبيات.

ولما رآها شيخه المردود عليه علي بن محمد بن أبي القاسم، انتقد ما فيها بتشنيع وتحامل، فردّ عليه أخو المصنف الهادي بن إبراهيم الوزير بمصنّف سمّاه ((الجواب الناطق بالحق اليقين الشافي لصدور المتقين)) مخطوط بالجامع الكبير بصنعاء في (136ق). وعندي نسخة منه.

ص: 12

بمحبَّتي سنن الشّفيع وأَنَّني

فيها عَصَيتُ معنِّفي ومفنِّدي

وتركتُ فيها جيرتي وعشيرتي

ومكان أترابي وموضعَ مولدي

فلأشكونَّ عليه شكوى موجعٍ

متظلِّم متجرِّم مُستنجد

وأقولُ: أنَجِد صادقاً في حُبّه

من يُنْجدِ المظلومَ إِن لم تُنجدِ

إِني أُحبُّ محمداً فوقَ الورى

وبه كما فَعَلَ الأوائل أقتدي

فقد انقضت خير القرون ولم يكن

فيهم بغيرِ محمدٍ من يَهتدي (1)

هذا؛ وإنّي لما تمسّكت بعروة السّنن الوثيقة، وسلكت سنن الطريقة العتيقة؛ تناولتني الألسنة البذيّة من أعداء السّنة النّبوية، ونسبوني إلى دعوى في العلم كبيرة، وأمور غير ذلك كثيرة. حرصاً على ألا يتّبع ما دعوت إليه من العمل بسنّة سيّد المرسلين، والخلفاء الرّاشدين، والسّلف الصّالحين، فصبرت على الأذى/، وعلمت أنّ النّاس ما زالوا هكذا.

ما سَلِمَ الله من بريَّته

ولا نبيُّ الهدى، فكيفَ أَنَا! (2)

إلا أنّه لما اتّسع الكلام وطال، واتّسع مجال القيل والقال، جاءتني رسالة محبّرة (3)

، واعتراضات محرّرة، مشتملة على الزّواجر

(1) في (ي): ((يقتدي)) وكتب في هامشها: في نسخة: ((يهتدي)).

(2)

في هامش ((الأصل)) و (ي): ((قبله:

وليس يخلو الزّمان من شغل

فيه ولا من خيانةٍ وخَنَا))

(3)

وصاحبها هو: جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم، أحد شيوخ ابن الوزير ت (837هـ).

قال الشوكاني في وصف رسالته هذه: ((

وترسّل عليه برسالة تدلّ على عدم إنصافه، ومزيد تعصّبه، سامحه الله)) اهـ. ((البدر الطالع)):(1/ 485).

ص: 13

والعظات، والتنبيه بالكلم الموقظات، زعم صاحبها أنه من النّاصحين المحبين، وأنّه أدّى به ما عليه لي من حقّ الأقربين، وأهلاً بمن أهدى إليّ (1) النصيحة، فقد جاء الترغيب إلى ذلك في الأحاديث الصحيحة، وليس بضائر إن شاء الله ما يعرض في ذلك من الجدال، مهما وزن بميزان الاعتدال، لأنه حينئذ (2) يدخل في السّنن، ويتناوله أمر:{وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] وقد أجاد من قال وأحسن:

وجِدَالُ أهلِ العلمِ ليس بضائرٍ

ما بينَ غَالبهم إلى المَغلُوبِ

بيد أنّها لم تضع تاج المرح والاختيال، وتستعمل ميزان العدل في الاستدلال، بل خلطها من سيما المختالين بِشوب (3) ، ومالت من التّعنّت في الحجاج إلى صوب، فجاءتني تمشي الخطراء، وتميس في محافل الخطراء، مفضوضة لم تختم، مشهورة لم تكتم. متبرّجة قد كشفت حجابها، وطرحت نقابها، وطافت على الأكابر، وطاشت إلى الأصاغر، حتّى مضّت أيدي الابتذال نُضارتها، وافتضّت أفكار الرّجال بكارتها، وإنّ خير النَّصائح الخفيّ، وخير النُّصاح الحفيّ، وخير الكتاب المختوم، وخير العتاب المكتوم.

ثم إني تأملت فصولها وتدبّرت أصولها، فوجدتها مشتملة على

(1) في (ي): ((لي)) ، وفي (س):((ممن أبدى النصيحة)).

(2)

في ((الأصل)) و (ي) حرف: ح، اختصاراً لكلمة (حينئذ) وهذا الاختصار مستعمل عند متأخري النساخ، انظر مثلاً في:((مجموع رسائل الملا علي القاري)) نسخة عارف حكمت، ونسخة ((ترتيب العلوم)) لساجقلي زاده.

(3)

في (ي): ((شوب)).

ص: 14

القدح تارة فيما نقل عنّي من الكلام، وتارة في كثير من قواعد العلماء الأعلام، وتارة في سنّة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، فرأيت ما يخصّني غير جدير بصرف العناية إليه، ولا كبير يستحق الإقبال بالجواب عليه، وأما ما يختص بالسنن النبوية والقواعد الإسلامية، مثل قدحه في صحة الرّجوع إلى الآيات القرآنية، والأخبار النبوية، والآثار الصّحابية، ونحو ذلك من القواعد الأصولية، فإني رأيت القدح فيها ليس أمراً هيناً، والذّبّ عنها لازماً متعيناً، فتعرّضت لجواب ما اشتملت عليه من نقض القواعد الكبار، التي قال بها الجلّة من العلماء الأخيار، وجعلت الجواب متوسّطاً بين الإطناب والاختصار، وصدّني عن التّوسيع والتكثير، خشية التنفير والتأخير:

أمّا التنفير: فلأن التوسيع [يُمل](1) الكاتب والمكتوب إليه، والمتطلع إلى رؤية الجواب والوقوف عليه، مع أنّ القليل يكفي المنصف، والكثير لا يكفي المتعسّف، وضوء البرق المنير، يدلّ على النّوء الغزير.

وأمّا التأخير: فلأن التوسيع يحتاج إلى تمهيد عرائس الأفكار، حتّى تستكمل الزّينة، ومطالعة نفائس الأسفار، الحافلة بالآثار المتينة، والأنظار الرّصينة.

فهذا البحر وهو الزّخّار، يحتاج من السّحب إلى مَددٍ (2) ، والبدر

(1) في (الأصل): ((على)) ، والتصويب من (ي) و (س).

(2)

كذا في الأصول.

ثم كتب في هامشها: ((إلى مدّ، كذا المحفوظ، وهو المناسب للسجع، وهو بمعنى المدد. أفاده العلامة محمد بن الحسين العمري)) اهـ.

وفي (س): ((مدّ)).

ص: 15

وهو النّوار، يفتقر من الشّمس إلى يد. ومن أين يتأتّى ذلك أو يتهيّأ لي، وأنا في بوادٍ خوالي، وجبالٍ عوالي! (1)

فحيناً بطودٍ تُمطر السُّحب دونه

أَشمَّ مُنيفٍ بالغمامِ مُؤَزَّرُ

وحيناً بشعب بطنِ وادٍ كأَنه

حَشا قلم تُمسي به الطيرُ تصفر

إذا التفتَ الساري به نحو قلةٍ

توهّمها من طولها تتأخّر

أجاور في أرجائه البومَ والقَطا

فَجيرتها للمرءِ أولي وأَجدرُ/

هنالك يصفو لي من العيش وِرده

وإلاّ فورد العيش رَنق (2) مكدَّر

فإِن يبست ثَمَّ المراعي وأَجدبت

فَرَوْضُ العُلا والعلم والدّين أخضر

ولا عارَ أن ينجو كريمٌ بنفسه

ولكنَّ عاراً عجْزُهُ حين يُنصر

فقد هاجَر المختار قبلي وصحبُه

وفرّ إلى أَرض النَّجاشي جعفرُ

ولما أنشأت هذا الجواب من هذه الجبال العالية، والبوادي الخالية، قصر باعي، وضاقت رباعي، فتمصّصتُ من بَلَلِ ما عندي بَرَضا (3) ، وما أكفى ذلك وأرضى، إذا كان ذلك طيباً محضاً!.

سامحاً بالقليل من غير عذر

ربما أَقنع القليلُ وأرضى

ولكن هيهات لذلك! لا محيص لي عن أوفر نصيب من طَفِّ (4)

(1) ذكر القاضي الأكوع في مقدمة ((العواصم)): (1/ 67) أن ابن الوزير قال هذه الأبيات لما كان في رأس قُلّة بني مِسْلم (جبل سَحَمَّر).

(2)

بالراء المهملة المفتوحة، ونون ساكنة.

(3)

أي: قليلاً. ((القاموس)): (ص/821).

(4)

أي: محاولة ملأه. ((الأساس)): (ص/281). وهذه الكلمة من الأضداد.

ص: 16

الصّاع، ولا بد لي من الانخداع بداعية الطّباع. وقد قصدت وجه الله تعالى في الذّبّ عن السنن النبوية والقواعد الدينية، وليس يضرّني وقوف أهل المعرفة على مالي من التّقصير، ومعرفتهم أنّ باعي في هذا الميدان قصير، لاعترافي بأني لست من نقّاد هذا الشأن، لا من فرسان هذا الميدان. لكني لم أجد من الأصحاب من تصدّى لجواب هذه الرسالة، لما يجرّ إليه [ذلك](1) من سوء القالة، فتصديت لذلك من غير إحسان ولا إعجاب، ومن عدم الماء تيمّم بالتراب، عالماً بأني وإن (2) كنت باري قوسها ونبالها، وعنترة فوارسِها ونِزالها، فلن يخلو كلامي من الخطأ عند الانتقاد، ولا يصفو جوابي من الكدر عند النّقاد.

فالكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو: كلام الله الحكيم، وكلام من شهد بعصمته القرآن الكريم. وكلّ كلام بعد ذلك فله خطأ وصواب، وقشر ولباب. ولو أنّ العلماء رضي الله عنهم تركوا الذّبّ عن الحقّ خوفاً من كلام الخلق: لكانوا قد أضاعوا كثيراً، وخافوا حقيراً.

وأكثر ما يخاف الخائض في ذلك أن يكل حسامه في معترك المناظرة وينبو، ويعثر جواده في مجال المحاجة ويكبو، فالأمر في ذلك قريب: إن أخطأ فمن الذي عُصم، وإن خُطىء فمن الذي ما وُصِم؟.

والقاصد لوجه الله تعالى لا يخاف أن يُنقد عليه خلل في كلامه،

(1) من (ي) و (س).

(2)

إشارة في هامش (الأصل) و (ي) إلى أنه في نسخة: ((ولو)).

ص: 17

ولا يهاب أن يُدل على بطلان قوله، بل يحبّ الحقّ من حيث أتَاه، ويقبل الهُدى ممن اهداه، بل المُخاشنة بالحقّ والنّصيحة، أحبّ إليه من المداهنة على الأقوال القبيحة، وصديقك من [صَدَقك](1) لا من صدّقك.

وفي نوابغ الحكمة: عليك بمن ينذر الإبسال والإبلاس، وإيّاك من يقول: لا باسَ ولا تاسَ.

ثمّ إن الجواب (2) لما تمّ -بحمد الله تعالى- اشتمل على علوم كثيرة، وفوائد غزيرة، أثرية ونظرية، ودقيقة وجليلة، وجدليّة وأدبية، وكلّها رياض للعارفين نضرة، وفراديس عند المحققين مزهرة، لكنّي وضعته وأنا قويّ النّشاط، متوفّر الدّاعي، ثائر الغيرة، فاستكثرت من الاحتجاج رغبة في قطع الّلجاج.

فربما كانت المسألة في كتب العلماء رضي الله عنهم مذكورة غير محتج عليها بأكثر من حجة واحدة، فأحتج عليها/ بعشر حجج، وتارة بعشرين حجة، وتارة بثلاثين حجة، وكذلك قد يتعنّت صاحب الرسالة، ويُظهر العجب بما قاله، فأحبّ أن يُظهر له ضعف اختياره، وعظيم اغتراره، فأستكثر من إيراد الإشكالات عليه، حتّى يتضح له خروج الحقّ من يديه، فربما أوردت عليه في بعض المسائل أكثر من مئتي إشكال، على مقدار نصف ورقة من كتابه.

(1) في (أ): ((صدق)) والمثبت من (ي) و (س).

(2)

يقصد (الأصل) واسمه ((العواصم والقواصم في الذّبّ عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ، طبع في تسع مجلدات.

ص: 18

ثم إنِّي تأمّلت الكتاب -بعد ذلك- فوجدت ما فيه من التطويل والتدقيق، يصرف الأكثرين عن التأمل له والتحقيق، لا سيمّا والباعث لداعية النشاط إلى معرفة مثل هذا إنما هو وجود من يعارض أهل السنّة، ويورد على ضعفائهم الشّبه الدّقيقة، ومن عوفي من هذا ربما نفر عن مطالعة هذه الكتب نفرة الصّحيح عن شرب الأدوية النّافعة، وألم المكاوي الموجعة. فاختصرت منه هذا الكتاب، على أني لم أطنب في ((الأصل)) كلّ الإطناب لما قدّمت من العذر عن ذلك، وتوعّر تلك المسالك.

وقد اقتصرت في هذا ((المختصر)) على نصرة السّنن النّبويّة، والذّبّ عنها وعن أهلها من حملة الأخبار المصطفوية، سالكاً من ذلك في محجّة جليّة، غير عويصة ولا خفيّة، وتركت التعمّق في الدّقائق، والتقحّم في المضايق، رجاء أن ينتفع بهذا المختصر المبتدي والمنتهي، والأثري والنّظري، وسمّيته: ((الروض الباسم، في الذّبّ عن سنّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ، وجعلنا من جيران حِماه المحرّم.

وهذا حين الشّروع في الجواب، والله الهادي إلى الصّواب:

قال: معرفة الأخبار مبنية على معرفة عدالة الرّواة [ومعرفة عدالتهم](1) في هذا الزّمان مع كثرة الوسائط كالمعتذرة، ذكر هذا كثير من العلماء منهم: الغزالي، والرّازي. وإذا كان ذلك في زمانهم فهو في زماننا أصعب، وعلى طالبه أتعب، لازدياد الوسائط كثرة والعلوم دروساً وفترة. فإن قيل: نحن نقول بما قال الغزالي: إنّا نكتفي بتعديل

(1) في (أ): ((ومعرفتهم)) والمثبت من (ي) و (س).

ص: 19