الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أئمة الحديث: كأحمد بن محمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد الأنصاري (1) ، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ومحمد بن إسماعيل البخاري، فإنّ هؤلاء قد تكلّموا في الرّواة، وبيّنوا العدل ممن سواه. قلنا: هذا لا يصح لوجوه؛ أحدها: أنّا إذا قبلنا تعديلهم فيمن كان متقدماً، فما يكون فيمن بعدهم من الرّواة؟ فإنّ اتصال رواية الحديث من وقتنا إلى مصنّفي الكتب الصّحاح كالبخاري ومسلم على وجه الصّحة متعسر لأجل العدالة.
ثمّ خرج المعترض إلى ذكر شيء يتعلّق بمسألة [المتأَولين](2) فتركته، لأنّ الكلام عليها يأتي مستقلاً كما فعل المعترض (3) ، فإنه أفردها.
أقول: الجواب على هذا المعترض يتبيّن بذكر وجوه:
الوجه الأول:
طلب الحديث ومعرفته شرط في الاجتهاد (4) ، والاجتهاد فرض واجب على الأمّة بلا خلاف (5) ، لكنّه من فروض
(1) كذا في الأصول! ولعل الأولى: القطّان، فهو المشهور بالكلام على الرجال، وهو قريب من طبقة من ذكر معه، أما الأنصاري: فكلامه نزر، وهو متقدّم الطبقة.
(2)
انظر (أ): ((المتلوين))! والتصويب من (ي).
(3)
انظر (ص/481) من هذا الكتاب.
(4)
انظر: ((شرح الكوكب المنير)): (4/ 461) ، وحاشيته.
(5)
انظر: ((الإحكام)): (4/ 455) للآمدي، و ((شرح الكوكب)):(4/ 564)، و ((مجموع الفتاوى)):(20/ 204).
وألف السيوطي كتاباً مفرداً في مسألة وجوب الاجتهاد، سمّاه:((الردّ على من أخلد إلى الأرض، وجهل الاجتهاد في كل عصر فرض)).
الكفايات التي تسقط بوجود من هو قائم بها وتتعيّن عند عدم ذلك.
فإذا ثبت أنّه فرض لزم أنّه من الدين، وإذا لزم أنّه من الدين لزم أنّه غير متعسّر ولا متعذّر لقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة:185]. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:/ ((بعثت بالحنيفيّة السّمحة)) (1).
والمعترض مقرٌ بأن الله يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، ومقرّ أن الله يريد منا الاجتهاد ومعرفة الحديث الصّحيح. فقوله: إنّ معرفة الحديث متعسّر يستلزم أنّ الله تعالى يريد منّا المتعسّر، بل لم يقنع حتّى قال: إنّه متعسّر أو متعذّر، واستلزم أن الله تعالى يريد منا المتعسّر أو المتعذّر.
فإن قال: إنّما أردت بذلك مشقّة، والمشقّة تلازم التّكاليف غالباً.
قلنا: مجرّد المشقّة لا يسمّى عُسراً في العرف العربي، فإنّ
(1) أخرجه أحمد: (6/ 116)، بلفظ:» إني أرسلت بحنيفية سمحة «من طريق عبد الرحمن بن أبي الزّناد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في قصة لعب الحبشة.
قال السخاوي: ((وسنده صحيح)).
وله شواهد كثيرة.
انظر: ((المقاصد الحسنة)): (ص/109)، و ((كشف الخفاء)):(1/ 251)، و ((الصحيحة)):(رقم 1829).
المشقة ملازمة لأكثر الأعمال الدنيوية والأخروية، وقد يشقّ على الإنسان قيامه من مجلسه إلى بيته، ونحو ذلك.
والعُسر في عرف اللسان العربي مستعمل في الأمور العظيمة لا في كل أمر فيه مشقّة، فإذا قيل: فلان في عسر، أفاد أنّه في شدّة عظيمة من مرض أو خوف أو فقر شديد أو غير ذلك، وقد يطلق على ما هو دون ذلك مع القرينة، فأمّا إذا تجرّد الكلام عن القرينة، وقيل: إنّ فلاناً في عسر، لم يسبق إلى الفهم أنّ معنى ذلك: أنّه في قراءة في العلم، وتعليق للفوائد، ولو كان هذا عسراً لكان الجهاد [عسراً](1) والحج عسراً، والورع الشّحيح عُسرين اثنين، وعبادة الله كأنك تراه أعسر وأعسر، ولكانت الشّريعة كلّها أو أكثرها تشديداً وتعسيراً وتحريجاً وتغليظاً. وما بهذا نطق القرآن، ولا به جاء صاحب بيعة الرضوان. بل نفى الله الحرج عن الدين، ووصف الشّريعة بالسّهولة سيد المرسلين، وإنّما الحرج في صدور المتعنّتين.
فإن قيل: فإذا كانت الشريعة سهلة فما معنى: ((حفّت الجنة بالمكاره)) (2) ، ولأي شيء مدح الله الصابرين، ووصّى عباده بالصبر؟.
قلنا: لأن النّفوس الخبيثة تستعسر السّهل من الخير لنفرتها عنه وعدم رياضتها عليه، لا لصعوبته في نفسه، ولهذا نجد أهل الصّلاح يستسهلون كثيراً مما يستعسره غيرهم، فلو كان العسر في نفس (3) الأمر
(1) من (ي) و (س).
(2)
أخرجه مسلم برقم (2822) ، من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
في (ي): ((نفسه)).
المشروع لكان عسيراً على كلّ واحد، وفي كلّ حال.
وقد نصّ الله تعالى على هذا المعنى فقال في الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الخَاشِعِينَ} [البقرة:45] فدلّ على أنّ العسر والحرج لا يكون في أفعال الخير، وإنّما يكون في النُّفوس السُّوء، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجعَل صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرِجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] فمدار المشقّة التي في الطّاعات على الدّواعي والصّوارف، ولهذا ترى (1) قاطع الصّلاة يقوم نشيطاً إلى أعمال كثيرة أشق من الصّلاة.
وقد يكون العسر الموهوم في أعمال الخير من قساوة القلب، وكثرة الذنوب، وعدم الريّاضة وملازمة البطالة، ألا ترى إلى ما في قيام الليل وإحيائه بالعبادة (2) من المشقّة على النّفوس، وهو يسهل عليها سهره في كثير من الأحوال في العرسات والأسمار، والسّروات في الأسفار.
فإذا عرفت هذا فاعلم أن من الناس من يحصل له من شدّة الرّغبة في العلم وسائر الفضائل ما يسهّل عليه عسيرها، ويقرّب إليه بعيدها، فلا معنى لتعسير الأمر الشّرعي في نفسه، لأنّ ذلك يخالف كلام الله/ تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أنّ من العقوق، لوم الخلي للمَشُوق، وفي هذا يقول
(1) في هامش (أ) و (ي) إشارة إلى أنّ في بعض النسخ: ((تجد)) بدلاً من ((ترى)).
(2)
في (س): ((بالعادة))!.
أبو الطّيّب (1):
لا تَعْذُل المُشتاق في أشواقِهِ
…
حتّى يكونَ حَشاكَ في أَحشائِهِ
أما علمت أنّ حبّ المعالي، يُرخص الغوالي (2) ، ويقوّي ضعف الصّدور على الصَّبر للعوالي. وربما بُذلت الأرواح، لما هو أنفس منها من الأرباح. قال ابن الفارض (3):
بذلت له روحي لراحِة قُربهِ
…
وغير عجيب بذلي الغالِ بالغالي (4)
وفي ((المقالات)) (5) للزّمحشري: ((عزّة النّفس وبعد الهمّة، الموت الأحمر والخطوب المدلهِمّة. ولكن من عرف منهل الذّلّ فعافه؛ استعذب نقيع العزّ وزُعافه (6))).
(1) وهو: المتنبي، والبيت في ((ديوانه)):(1/ 6) مع شرح العكبري.
(2)
إشارة في هامش (ي) إلى أنه في نسخة ((العوالي)).
(3)
هو: عمر بن علي بن مرشد الحموي، أبو حفص، الشاعر، الصوفي، الاتحادي، ت (632هـ).
قال الذهبي: ((فإن لم يكن في تلك القصيدة -يعني التائية- صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده؛ فما في العالم زندقة ولا ضلال
…
)) اهـ، أما شعره ففي الذّروة.
انظر: ((سير أعلام النّبلاء)): (22/ 368)، و ((وفيات الأعيان)):(3/ 454).
(4)
((ديوانه)): (ص/174 - 176) من قصيدة طويلة.
(5)
((أطواق الذهب)): (ص/22).
والزّمخشري هو: محمود بن عمر جار الله الزمخشري الخوارزمي ت (538هـ).
ترجمته في: ((إنباه الرواة)): (3/ 265)، و ((الفوائد البهية)):(ص/209).
(6)
يقال: سم زعاف، أي: قاتل. ((مقاييس اللغة)): (3/ 8).
وقد أجاد وأبدع من قال في هذا المعنى:
صحبُ اللهُ راكبين إلى العز
…
طريقاً من المخافة وَعرْا
شرِبُوا الموت في الكريهة حُلواً
…
خوفَ أن يشربوا من الضّيمِ مُرَّاً
يا هذا! إن الدّواعي تحرّك القُوى، وإنّ القلوب ليست بسَوَى. إنّ الإبل إذا كلّت قواها، ونفخت في بُراها، أطربها السّائق بحداها، فنفحت في سُراها، فعلّلوها بحديث حاجِرٍ، ولتصنع الفلاة ما بدا لها. هذا وهي غليظة الطّباع بهيميّة، فكيف بأهل القلوب الرّوحانية؟! وأنشد الحجّة (1) في هذا المعنى في كتابه:((سر العالمين وكشف ما في الدّارين)) (2):
(1) يعني: أبا حامد الغزالي ت (505هـ) ، ويلقّب بـ (حجة الاسلام).
(2)
نسبه له في ((إيضاح المكنون)): (2/ 11) ، والصحيح أنّ هذا الكتاب منحول على الغزالي، قاله الدهلوي في ((التحفة الإثنى عشرية)):(ص/87) وهناك دليل يقطع بذلك، وهو: أنه في هذا الكتاب يقول: أنشدني المعرّي لنفسه، والمعري ت (449هـ) ، والغزالي ولد (450هـ) ، فكيف ينشده لنفسه، وعمره سنتين؟!
انظر: ((مؤلفات الغزالي)): (ص/271 - 272) لعبد الرحمن بدوي.
وذكر المؤلف هذه الأبيات في كتابه التحفة الصفية)): (ق/61أ)، وذكر قبلها بيتاً هو:
إن كنت تنكر أنّ للنّـ
…
ـغمات تأثيراً ونفعاً
فانظر إلى ......
وفي حاشية (ي) كتب قبلهما:
إن كنت تنكر أنّ للألحـ
…
ـان في الأسماع وقعا))
أقول: لم أجد هذه الأبيات في مطبوعة كتاب ((سرّ العالمين))!.