الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة؛ فلا معنى للإنكار على من ذهب إلى أحد هذه الأقوال، إذ ليس فيها ما يخالف الإجماع القطعيّ، بل ولا الظّنيّ، ولا ما يخالف النّصّ المتواتر المعلوم معناه، بل ولا الآحادي المظنون معناه، فالتّشعيب على طلبة علم السّنة بذكر ذلك من جملة مبتدعات المعترض في [رسالته](1) ، فإنّه ابتكر فيها من منكرات الأساليب، وتعسّفات أهل اللّجاج، ما لم يسبقه إليه مبتدع، ولا سيّما وقد أنكر المعترض في هذه المسألة القول المشهور، المعمول عليه عند الجمهور.
الوجه الثاني:
وهو المعتمد في الجواب، وذلك أنّ المختار الصّحيح الذي قامت عليه الأدلّة، ومضى عليه عمل السّلف والخلف هو: الاكتفاء في التّعديل بالإطلاق، والدّليل عليه وجوه:
أولها: أنّا متى فرضنا أنّ المعدّل ثقة مأمون، وأخبرنا خبراً جازماً بعدالة رجل آخر فإنّه يجب قبول قوله، لأنّه خبر ثقة معروف بالعدالة، فوجب قبوله كسائر أخبار الثقات.
وثانيها: إمّا أن يترجح صدقه أو لا، إن لم يترجح لم (2) يقبل، لكن هذا الفرض لا يقع إلا لعلة، وكلامنا في توثيقه إذا لم يكن معلوماً بما يدلّ على وهمه، أو معارضاً بأقوى منه، وإن ترجّح صدقه وجب قبوله، وإلا لزم المساواة بين الرّاجح والمرجوح، وهو قبيح اتفاقاً.
وثالثها: إن ردّ قوله تهمةً له بالكذب والخيانة، أو بالتّقصير
(1) في (أ) و (ي): ((رسالاته)) والمثبت من (س).
(2)
((لم)) سقطت من (س) ، فتغيّر المعنى!.
والإقدام على ما لم يتقن حفظه، والفرض أنّه عدل مأمون، وتهمة العدل المأمون بغير موجب محرّمة، وما استلزم المحرّم لا يكون مشروعاً.
ورابعها: أنّ الله تعالى إنّما اشترط في الشّاهد أن يكون ذا عدل، وكذلك الرّاوي، مع أنّه أصل، والمعدّل له فرع، والفرع لا يكون أعظم من أصله، ولا آكد، فكما أن العدل في الشّهادة والرّواية لا يجب عليه التّفصيل فيما يحتمله؛ فكذلك العدل لا يجب عليه ذلك في التّعديل.
فإن قلت: وكيف يحتمل التّفصيل في الشّهادة والرّواية؟
قلت: أمّا الشّهادة فإذا شهد بالمال لزيد سئل عن سبب اعتقاده لملك زيد للمال، فربّما استند اعتقاده لذلك إلى ما لا يدل على الملك / من: خبر ثقة، أو بيع باطل، أو غير ذلك، وهذا يجوز على الشّاهد الثّقة إذا لم يكن فقيهاً، ولا مخالطاً لأهل الفقه مخالطة كثيرة.
وأمّا الرّواية فقد يجوز في راوي الحديث أنه رواه باللّفظ أو بالمعنى، وقد يجوز فيمن روى بالمعنى أن يعتقد أنه روى بالمعنى (1) مع الخطأ الذي يدقّ على كثير، ونحو ذلك مما يدلّ على قبول الثّقة من غير تفصيل وإن احتمل التفصيل.
ومما يزيد ذلك وضوحاً: أنّ كلّ دليل دلّ على وجوب قبول أقوال العدول بمجرّد عدالتهم؛ فهو بعمومه يدلّ على قبولهم على
(1)((أن يعتقد أنه روى بالمعنى)) سقط من (س).
الإطلاق، ويدخل في ذلك قبولهم في التّعديل.
وخامسها: -وهو المعتمد- أنّ اشتراط التّفصيل في التّعديل يودّي إلى ذكر اجتناب المعدّل لجميع المحرّمات، وتأديته لجميع الواجبات، على حسب مذهب المعدّل في تفسير العدالة، فإن كان ممن يتشدد ذكر ذلك كلّه، وإن كان ممن يترخص ذكر اجتنابه لجميع الكبائر معدّداً لها، ولجميع معاصي الأدنياء الدّالّة على الخسّة وقلّة المبالاة بالدّين، وذكر أداءه لجميع الواجبات التي يدلّ تركها على الجرح.
ومعلوم أنّ التّعديل بهذه الصّفة لم يكن قط، لا من معدّلي حملة العلم، ولا من معدّلي الشّهود في الحقوق، فإنّ تعديد هذه الأشياء مما يفوت ذهن المعدّل، ولو سئل ذلك ما استحضره، فإنّه يحتاج إلى تأمّل كثير، وجمع وتأليف، وقد عددتّ من ذلك في ((الأصل)) (1) شيئاً كثيراً فبلغ إلى بطلان عدالة العدول ويترتّب على ذلك من المفاسد الدّينية ما لا يقول به منصف.
فإن قيل: أقلّ من ذلك التّفصيل يكفي، قلنا: إن كفى الإجمال في صورة ما، كفى قوله: ثقة، وإن لم يكف وجب ذلك التّفصيل، فأمّا أنّ الإجمال يجوز في موضع دون موضع فهذا تحكّم.
فإن قيل: إنّما يشترط التّفصيل من الفاسق والكافر المتأوّلين لأنّه لا يؤمن أن يعدّلا من يعتقد اعتقادهما، وهو غير عدل عند من لم يقبل
(1)((العواصم والقواصم)): (1/ 365 - 367).
المتأوّلين، وإنّما أشار إلى هذا صاحب الرّسالة.
فالجواب: أن لا معنى لهذا، لأنّ من يقبله فهو يقبله، [و](1) يقبل من عدّله من المبتدعة، ومن لا يقبله فإنه لا يقبله. وإن فصّل في التّعديل؛ فالخلاف إنّما هو في قبوله لا في قبول ما أطلقه من تعديله، وأمّا من لا يقبل بعض المبتدعة ويقبل بعضهم فإنّه يشكل عليه تعديل المبتدع المقبول.
مثاله: مبتدع غير داعية عدل عند بعض أهل مذهبه، فيحتمل أنّ المعدّل داعية إلى مذهبه (2)، فإذا اتفق هذا ففيه احتمالان:
أحدهما: أن يقبل تعديل غير الدّاعية حتّى يثبت أنّ المعدّل داعية، لأنّ الأصل أنّه غير داعية، وقد ورد التّمسّك بالأصل في الشّريعة في يومي الشّكّ وغير ذلك، وهو ظاهر إطلاق أهل القول بقبول التّعديل الإجمالي.
وثانيهما: أن يقبل في عدالة من عدّله في جميع الأمور إلاّ في كونه داعية فيبحث عن ذلك حتى يظنّ عدمه، ويؤخذ بتعديل المبتدع المقبول فيما عدا ذلك من شرائط العدالة والله أعلم.
وأمّا الجرح: فالقول باشتراط التّعيين فيه أقرب، لأنّ الجارح إذا قال: فلان ليس ثقة، لأنّه يشرب الخمر، أو غير ذلك كفى ذلك، ولم يلزمه تعديد جميع المعاصي فظهر الفرق.
(1) في (أ): ((أو)).
(2)
ما بينهما ساقط من (س).
قال: الخامس: أنّ هؤلاء الأئمة في الحديث يرون عدالة الصّحابة جميعاً، ويرى أكثرهم/ أنّ الصّحابي من رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم مؤمناً به وإن لم تطل ولم يلزم، وهذان المذهبان باطلان، وبِبُطلانهما يبطل كثير من الأخبار المخرّجة في الصّحاح.
أمّا المذهب الأول: فلأنّ من حارب عليّاً عليه السلام مروح، ومن قعد عن نصرته كذلك، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد قال:((اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)) (1)، وقال:((لا يبغضك إلا منافق شقي)) (2) وأقل أحوال هذا ألا تقبل روايته.
وأمّا الثّاني: فيلزمهم أن يكون الأعرابي الذي بال في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) عدلاً بتعديل الله، ولا يحتاج إلى تعديل أحد، وكذلك
(1) هذا الحديث جاء من طريق جماعة كثيرة من الصحابة رضي الله عنهم منهم: علي بن أبي طالب، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وعن أبي أيوب الأنصاري، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، وطلحة، وسعد بن أبي وقّاص، وغيرهم.
وقال الحافظ في ((الفتح)) (7/ 93): ((وأما حديث:» من كنت مولاه فعليّ مولاه)) فقد أخرجه الترمذي، النسائي، وهو كثير الطرق جداً، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان)) اهـ.
وانظر: ((السلسلة الصحيحة)) رقم (1750) ففيه توسّع في التخريج.
(2)
رواه مسلم برقم (78) ، من طريق عدي بن ثابت، عن زرّ، قال: قال عليّ: ((والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة! إنه لعهد النبي الأميّ صلى الله عليه وسلم إليّ (أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق) .. ))
(3)
أخرجه البخاري (الفتح): (1/ 385) ، ومسلم برقم (284) من حديث أنس رضي الله عنه.