الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلماء غير واحد، والسّاخر من الذّاهب إليهما من علماء الملّة الإسلامية متعدّ لحدود القوارع القرآنية، قال الله تعالى:{لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُواْ خَيْراً مِنْهُم} [الحجرات:11] ونحن نذكر كلّ واحدة من هاتين المسألتين ليظهر للنّاظر أنّه ليس في شيء منهما ما يوجب /السّخرية والاستهزاء بمن ذهب إليهما، أو عوّل عليهما:
المسألة
الأولى: في وجوب التّرجيح أو جوازه في حقّ المميّز من طلبة العلم
لا سيّما طلبة علم الحديث النّبويّ، فهذه مسألة قد ذكرها غير واحد من العلماء، وقد حكاه في ((مختصر المنتهى)) (1) عن أحمد بن حنبل، وابن سريج، وحكاه القطب الشّيرازي في الشّرح عنهما، وعن القفّال، وأبي حامد الغزّالي، وجماعة من الفقهاء والأصوليين وهو الذي اختاره المنصور بالله، واحتجّ على وجوبه في كتاب ((صفوة الاختيار)) ، وهو ظاهر حكاية عبد الله بن زيد العنسيّ عن الزّيديّة في كتاب ((الدّرر)) ، وهو الذي نصّ عليه المؤيّد بالله في كتابه ((الزّيادات)) فقال ما لفظه:((فصل فيما يجب على العامّي والمستفتي، وما يكون الاشتغال به أولى من العلوم: عندي أنّ التّنقير والبحث واجب على العامّيّ، فإن كان ممن له رشد وثبت له وجه القوّة بين المسألتين أخذ بأقواهما عنده، وإن لم يكن له رشد فلابدّ أن ينظر إلى التّرجيح بين العلماء ويطلب ذلك)) إلى آخر كلامه.
وقال الإمام الدّاعي يحيى بن المحسن (2) ما لفظه: ((من انتهى في
(1)(3/ 369) مع ((بيان المختصر)) للأصفهاني.
(2)
هو: يحيى بن المحسن بن محفوظ، الملقب بالمعتضد بالله، من أئمة الزّيديّة ت (636هـ) ، له كتاب في أصول الفقه اسمه ((المقنع)) منه نسخة خطية، ذكرها بروكلمان في ((تاريخ الأدب)):(1/ 510). انظر: ((الأعلام)): (8/ 163)، و ((مصادر الفكر)):(ص/600 - 601).
العلم إلى حالة يمكنه معها التّرجيح بين الأقوال وجب عليه استعمال نظره في التّرجيح، وإن لم يبلغ درجة الاجتهاد)).
وذكر النّووي في ((شرح المهذب)): (1) أنّه صحّ عن الشّافعيّ رضي الله عنه أنّه قال: ((إذا صحّ الحديث فاعملوا به ودعوا مذهبي)) ، قال النّووي في ((شرح المهذب)) (2):((وورد هذا المعنى عنه بألفاظ مختلفة)) ، وهذا يدلّ على ما قلناه، لأنّ قول الشّافعيّ هذا لا يجوز أن يوجّه إلى المجتهدين لأنّهم غير عاملين بمذهبه، سواء صحّ الحديث أو لم يصحّ، ولأنّهم غير محتاجين إلى مثل هذا التّعليم، وإنّما وصّى بهذا ملتزمي مذهبه إشفاقاً منه رضي الله عنه على أصحابه ومتّبعيه من الوقوع في العصبيّة [له و](3) تقديم قوله على ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يدل على تعظيمه رضي الله عنه للسّنن النّبويّة ومحبّته لتقديم العمل بها على الآراء القياسيّة والأنظار المبنيّة على كثير من الأمارات العقليّة.
وذكر النّووي رحمه الله: أنّ كثيراً من علماء الشّافعيّة عملوا على مقتضى هذه القاعدة في مسائل كثيرة، منها اختيار التّأذين بالصّلاة
(1)((المجموع)): (1/ 63).
(2)
المصدر نفسه.
(3)
في (أ): ((العصبية أو)) ، والمثبت من (ي) و (س).
خير من النّوم (1) فإنّ قول الشّافعيّ الجديد أنّ ذلك ليس بسنّة، لكنّهم خالفوه لمّا صحّ الحديث في ذلك، وكذلك الحافظ عماد الدّين المعروف بابن كثير ذكر مثل ذلك في كتاب:((إرشاد الفقيه إلى أدلّة التّنبيه)) (2) في مسألة تحريم الزّكاة على موالي بني هاشم [وبني المطّلب](3) ، وقدّم الحديث على مذهب الشّافعيّ، وحكى مثل ذلك عن النّواوي رحمه الله، وهو الذي اختاره الإمام العلاّمة شيخ الإمام النّووي (4): عزّ الدّين ابن عبد السّلام الشّافعي الذي قال النّووي في ((شرح المهذب)) في ترجمته: إنّهم اتفقوا على براعته في العلوم كلّها، وعلى أمانته وديانته أو كما قال، ذكر ذلك عزّ الدين ابن عبد السّلام في كتابه ((قواعد الأحكام في مصالح الإنام)). وأجمع كلام /في هذا رأيته كلام الإمام النّواوي في ((شرح المهذب)) (5) وهو هذا بلفظه، قال -رحمه الله تعالى-: ((صحّ عن الشّافعيّ رحمه الله أنّه قال: إذا
(1)((المجموع)): (3/ 92).
(2)
(1/ 274).
(3)
ما بينهما من ((الإرشاد)) و (ت) وهو ساقط من بقية الأصول.
(4)
في هامش (أ) و (ي) ما نصّه:
((قوله: شيخ النّواوي فيه نظر، فما عرف للنواوي عليه تلمذة. تمت)) اهـ.
أقول: وهو الصحيح، فلم يذكر أحد ممّن ترجم للنّووي أنّه تتلمذ على العز ابن عبد السّلام.
(5)
(1/ 63 - 64).
وللعلاّمة تقي الدين السبكي (756) رسالة مفردة في ذلك سمّاها: ((معنى قول الإمام المطلبي: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي)) طبعت ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (3/ 98 - 114).
وجدتم في كتابي خلاف سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بالسّنّة ودعوا قولي. وروي عنه: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي. وروي عنه هذا المعنى بألفاظ مختلفة، وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التّثويب، واشتراط التّحلل (1) من الإحرام بعذر المرض، وغيرهما مما هو معروف. وممّن أفتى بالحديث البويطيّ والدّاركيّ (2) ونصّ عليه الكيا الطّبريّ، واستعمله من أصحابنا المحدّثين: البيهقيّ وآخرون.
وكان جماعة من متقدّمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشّافعيّ بخلافه عملوا بالحديث وأفتوا به قائلين: مذهب الشّافعي ما وافق الحديث. ولم يتفق ذلك إلا نادراً لما نقل عن الشّافعيّ. وهذا الذي قاله الشّافعي ليس معناه أنّ كلّ من رأى حديثاً صحيحاً، قال: هذا مذهب الشّافعيّ بظاهره (3) ، وإنّما هو فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدّم من صفته أو قريب منه، وشرطه: أن يغلب على ظنّه أنّ الشّافعيّ لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحّته، وهذا إنّما يكون بعد مطالعة كتب الشّافعيّ كلّها ونحوها من
(1) في (س): ((التحليل))!.
(2)
هو: الإمام الفقيه عبد العزيز بن عبد الله بن محمد، أبو القاسم الشّافعيّ، من أصحاب الوجوه، ت (375هـ). انظر:((السير)): (16/ 404).
(3)
في هامش (ي) ما نصّه:
((وقد ذكر ابن دقيق العيد -رحمه الله تعالى- هذا في ((العمدة)): إنّه صح رفع اليدين في القيام من الركعتين الأوليين، ثمّ قال: فالأولى عندي أن يقال: إنه صح في الحديث ولا يقال: إنه مذهب الشافعي. فراجعه. شيخنا حفظه الله وبارك في أيّامه)) اهـ.
كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قلّ من يتّصف به. وإنّما اشترطوا ما ذكرناه لأنّ الشّافعيّ ترك العمل بظاهر أحاديث علمها ورآها، لكن قام الدّليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تأويلها أو نحو ذلك.
قال ابن الصّلاح: ((ليس العمل بظاهر ما قاله الشّافعي، فليس كلّ (1) فقيه يسوغ له أن يستقلّ بالعمل بما رآه حجة من الحديث. وممّن سلك هذا المسلك أبو الوليد موسى بن [أبي] الجارود (2) - ممّن صحب الشافعيّ- قال: صحّ حديث: ((أفطر (3) الحاجم والمحجوم له)) فأقول: قال الشّافعيّ: أفطر الحاجم والمحجوم. فردّوا ذلك عن أبي الوليد لأنّ الشّافعيّ تركه مع علمه بصحّته لكونه منسوخاً عنده، وبيّن نسخه.
قال أبو عمرو (4) بن الصّلاح -فيمن وجد حديثاً يخالف مذهبه-: نظر إن كان من أهل الاجتهاد فيه مطلقاً أو في ذلك الباب أو المسألة كان له العمل به، وإن لم يكن، وشقّ عليه مخالفة الحديث بعد البحث عنه، ولم يجد جواباً شافياً؛ فله العمل به إن كان عمل به إمام مستقل، ويكون هذا [عذراً](5) في ترك مذهب إمامه. وما قاله
(1)((كل)) سقطت من (س).
(2)
المكّي، من ثقات أصحاب الشّافعي، وراوي كتاب ((الأمالي)) عنه. انظر:((طبقات الشافعية الكبرى)): (2/ 161).
(3)
في (س): ((قد أفطر
…
))!.
(4)
في (أ) و (ي): ((عمر)) ، وهو خطأ.
(5)
سقطت من (أ) و (ي).
متعيّن)). انتهى ما حكاه النّووي -رحمه الله تعالى- في هذا.
ونقلت من خط شيخنا الحافظ العلامة شيح الحرمين الشّريفين جمال الدين /كعبة الطّالبين: محمد بن عبد الله بن ظهيرة (1) رضي الله عنه في ذلك عجباً عجيباً، وكان يقول: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي، إذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وسلك في ذلك أسلوباً غريباً حتّى إنّ أكبر أصحابه أبا يعقوب يوسف بن يحيى البويطي كشط يوماً شيئاً من كتابه، فقيل له في ذلك؟ فقال: هذا صاحبنا أوصانا به، وحكى رضي الله عنه بإسناد (2) إلى الربيع بن سليمان أنّه قال: سمعت الشّافعيّ رضي الله عنه يقول -وسأله رجل عن مسألة- فقال: روي عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال كذا وكذا. فقال له السّائل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله؟ فارتعد الشّافعي واصفرّ وحال لونه وقال: ويحك! أيّ أرض تقلّني وأيّ سماء تُظلّني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً [و](3) لم أقل به!؟ نعم على الرأس والعين (4).
وفي رواية فقال الشّافعيّ: تراني في بيعة أو كنسية؟ تراني على زيّ الكفّار؟ هو ذا تراني في مسجد المسلمين على زيّ المسلمين، مستقبل قبلتهم أروي حديثاً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أقول به))؟
(1) توفي سنة (817هـ)، ترجمته في:((إنباء الغمر)): (7/ 157)، و ((الضوء اللامع)):(8/ 93).
(2)
كذا في الأصول، وفي (ت):((بإسناده)).
(3)
سقطت من (أ) و (ي).
(4)
القصة في ((مناقب الشّافعي)): (1/ 470) للبيهقي.
وذكر شيخنا ابن ظهيرة -أمتع الله المستفيدين ببقائه- تفصيل ما أجمله العلاّمة النّووي من ألفاظ الشّافعيّ ونقل ذلك كلّه من طريق أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الحاكم، وقد تركت التّطويل بترك (1) جميع ذلك؛ لشهرته عند جميع أهل المعرفة من أصحاب الشّافعيّ رضي الله عنهم.
وأمّا الدّليل على ما اختاره هؤلاء العلماء الأعلام فوجوه:
أحدهما: أنّه لو جاز (2) للمقلّد أن يتخيّر عند الاختلاف ما يشاء من غير ترجيح لكان مخيّراً بين التّحليل والتّحريم، إن شاء حلّ (3) الشّيء، وإن شاء حرّم، وإن شاء أوجب، وإن شاء حرّم ثم حلّ أو أحلّ ثم حرّم بغير دليل ولا ضابط، وهذا ممنوع؛ لأنّه يؤدّي إلى تمكّن العوامّ من سقوط جميع التكاليف الظّنّيّة الخلافيّة والإجماعيّة، أمّا الخلافيّة، فظاهر، وأمّا الإجماعيّة الظّنّيّة؛ فلأنّ في العلماء من يقول: إن الإجماع المنقول بالآحاد لا يجب (4) العمل به فيقلّدون من قال بهذا، وحينئذ لا يجب عليهم إلا الضّروريات من الدين أو من الإجماع، لكن الضّروريات من الإجماع هي الضّروريات من الدين، فحينئد لا يجب عليهم إلا المعلوم ضرورة من الدّين، بل هذا القول
(1) في (ت)، وهامش (ي):((بذكر)) ، في نسخة.
(2)
في (أ): ((لو كان جاز)) ثم كتب أعلى منها ((جائزاً)) وكان كذلك في (ي) ثم ضرب على ((كان)).
(3)
في (س): ((حلل)) في المواضع الثلاثة.
(4)
في (س): ((لا يجوز)) وكذا في نسخة كما في هامش (ي).
يؤدّي إلى جواز تقليد من يقول: إنّ التّقليد غير جائز، وتقليد من يقول: إنّ الاجتهاد غير واجب، إمّا لأنّ في النّاس من هو قائم بفرضه، أو لأنّه قد عدم العلماء فتعذّر التعليم وسقط الوجوب.
فإن قيل: /ليس له أن يقلّد من يقول بسقوط التّقليد، وسقوط الاجتهاد، وإنّما يجوز له تقليد أحدهما؛ لأنّ المسقط للتّقليد يقول بوجوب الاجتهاد، والمسقط للاجتهاد يوجب التّقليد.
قلنا: قد قال بجواز مثل هذه الصورة في التّقليد بعض العلماء، فإذا [جاز](1) التّقليد مطلقاً جاز مثل هذا التّقليد، وهذا كلّه يؤدّي إلى تمكّن العامّيّ من عدم وجوب الرجوع إلى العلماء. لكن المعلوم وجوب ذلك على العوامّ من إجماع الصّحابة؛ فبطل ما أدّى إلى مخالفة إجماعهم.
الوجه الثّاني: أنّ الأدلّة على جواز التّقليد غير عامّة لهذه الصّورة ولا متناولة لها، أمّا قوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُم لَا تَعلَمُونَ} [الأنبياء:7]. فلما تقدّم (2) ، وأمّا إجماع الصّحابة على تقرير العوامّ على التّقليد فلأنّه إجماع فعلي لا لفظي، والأفعال لا عموم لها، وهذه الصّورة لم تقع في زمانهم ولم تشتهر ويجمعوا على جوازها، فإنّه لم يعلم أنّ أحداً من طلبة العلم في زمنهم قلّد في مسألة يحفظ فيها حديثاً صحيحاً مخالفاً لما هو عليه، وأنّهم علموا (3)
(1) في (أ): ((أجاز)).
(2)
(1/ 74 - وما بعدها).
(3)
في (س): ((وعملوا))! في الموضعين.
[بذلك](1) كلّهم وأجازوه، ولا علم (2) أنّ عامّيّاً اختلف عليه عالمان فقلّد المفضول منهما وعلموا بذلك وأجازوه.
الوجه الثّالث: أنّ كلامنا إنّما هو فيمن اعتقد وجوب التّرجيح، ومن اعتقد ذلك وجب عليه بالإجماع، ولم يكن لأحد أن يعترضه، بل من أمره بمخالفة ما يجب عنده فقد عصى الله تعالى وأمره بمعصيته نسأل الله السّلامة.
الوجه الرّابع: أنّ كلامنا أيضاً إنّما هو في الذي يوجب العمل بالتّرجيح بعد أن عرف الرّاجح، وحصل له الرّجحان الذي لا يمكن دفعه، بسماعه للأحاديث الصّحيحة، ووقوفه على كلام الحفّاظ، وأهل المعرفة التّامّة والاطّلاع الواسع، ونصّهم على صحّة الحديث، وعدم وجود ما يدفع العمل به، فأخبرني على الانصاف؛ ما الموجب لترك العمل بمقتضى الحديث؟ هل كونه مخالفاً لبعض العلماء؟ فقد صار العمل به موافقاً لبعضهم، وترك العمل به مخالفاً لبعضهم أيضاً.
[أو](3) الموجب لتركه كونه راجحاً مظنوناً، وكون ترك العمل به ضعيفاً مرجوحاً؟ فهذا عكس المعقول والمنقول، فاعجب من سخرية المعترض بمتّبع السّنن، والسّائر من الحقّ في مثل هذا السَّنن!!.
ويستشهد لهذا بولاد العقيم، وإعراضه عما يجب لحملة علم السّنّة من التّعظيم. يا هذا! إن الملائكة تفرش أجنحتها (2 تعظيماً لطالب
(1) سقطت من (أ).
(2)
في (أ): ((أعلم)) والمثبت من (ي) و (س).
(3)
في (أ) و (ي): ((و)) والمثبت من (س) ، ولعلّه الأنسب.
العلم و (1) لمن احتقرت من طلاب السّنّة، وتكريماً لمن أهنت من سالكي طريق الجنّة.
وإذا الأكابر عظّمتك فلا تبل
…
بمطاعن الأوزاع والأخياف (2)
المسالة الثانية: أنّ طالب الحديث والنّحو وسائر الفنون يجوز أن يكون مجتهداً في مسألة معيّنة أو في فنّ معيّن، وإن كان غير مجتهد في غير /ذلك، وهذا هو قول الأكثر، كذا قال قطب الدّين الشّيرازي في ((شرح مختصر المنتهى)) وحكى فيه عن الغزالي أنّه قال:((وليس الاجتهاد عندي [منصباً] (3) لا يتجزّأ، بل يجوز أن ينال العالم منصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون البعض)) (4) انتهى.
وحجّة الجمهور على ذلك: أنّ طالب العلم قد يعرف في بعض المسائل جميع ما يتعلق بها، وما يعرفه المجتهد العام في ذلك، وقول المخالفين يجوز أن يكون فيما لم يعلم ما يتعلّق بذلك ضعيف، لأنّ مجرّد التّجويز المرجوح لا يمنع الاجتهاد، إذ كلّ مجتهد يجوز ذلك [في حقّه](5) وإن اجتهد في جميع العلوم، لكن النّادر لا عبرة به.
وقد أجاب قطب الدّين بهذا وقال: ((الكلام مفروض فيما إذا
(1) ما بينهما ليس في (س).
(2)
في هامش (أ) و (ي):
((ومنه قيل للناس أخياف، أي: مختلفون)) اهـ.
(3)
في (أ) و (ي): ((مذهباً)) والمثبت من ((المستصفى)) ، و (ت).
(4)
((المستصفى)): (2/ 353).
(5)
ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و (ي).
كانت (1) جميع الأمارات المتعلّقة بتلك المسألة حاصلة في ظنّ الفقيه عن مجتهد بأن يوقفه على الكلام عليها، أو الكلام مفروض بعد تحرير الأئمة للأمارات، وتخصيص كلّ بعض من الأمارات ببعض المسائل، وجمع كلّ إلى جنسه (2))). فهذه حجّة الجمهور.
وأمّا مسألتنا فإنّما هي فيمن ذهب إلى مذهب الجمهور، واعتقد صحّته، ثمّ إنّه بعد البحث الكثير في مصنّفات العلماء التي [حرّروا فيها](3) الأدلّة على الأبواب، وذكروا الخلاف والحجج على الإنصاف والاستيفاء، ثمّ ترجّح له بعض المذاهب لموافقة النّصوص الصّحيحة، وخاف أن يكون قد صار مجتهداً في تلك المسألة، وإن لم يكن مجتهداً فمقلّداً مرجّحاً، ولم يكن في دماغه من دخان العصبيّة ما يوجب اتباع المفضول، والعمل بالمرجوح الذي هو خلاف الأولى عند جميع العلماء، وإنّما اختلفوا في وجوبه لا في جوازه (4) ولا في استحبابه.
أمّا من قال: بتجزّىء الاجتهاد؛ فظاهر، وأمّا من منعه؛ فإنّه يقول بجوازه لمن اعتقد جوازه، لأنّ المسألة ظنّيّة خلافيّة، لا قاطع فيها، ولا مانع من العمل بها، فالمستهزىء بالعامل بهذا، السّاخر
(1) في (أ) و (ي): ((كان)).
(2)
في (س): ((حبه))! وهو تحريف.
(3)
في (أ) و (ي): ((حرروها في)) والمثبت من (س) وهو الصواب.
(4)
في (س): ((في جوازه لا في وحوبه
…
)) وكذا كان في (أ) و (ي) ثم ضرب عليها، وكتب ما هو مثبت.
منه، المشبّه لعلمه (1) بما لا يستقيم من استنتاج العقيم، منتظم في سلك الذين:{كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّواْ بِهِم يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُواْ فَكِهِينَ، وَإِذَا رَأَوْهُم قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ، وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِم حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33].
الوجه الثّاني في الجواب: أنّ المعترض قد ارتكب ما استقبح، وانتهك ما استعظم، فإنّه ضعّف القول بوضع اليمنى على اليسرى في الصّلاة، وضعّف القول بالتأمين فيها -أيضاً- وأخذ يرجّح مذهبه بما روى من الأخبار، انتصاراً لمذهبه المختار، هذا مع اعترافه أنّه من المقلّدين، وغلوّه في القول بعدم المجتهدين، فما باله أنتج وهو عقيم، وأفتى وليس بعليم!! وقد قال الحكيم (2):
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم
/الوجه الثّالث: أن نقول: ما مرادك بهذا الإنتاج؟ (2 هل إنتاج (3) الاستدلال العامّ في جميع المسائل التي لا تصحّ (4) إلا من المجتهدين في علوم الدّين، أو إنتاج التّرجيح لبعض المسائل التي ذهب خصمك إلى جوازه من المقلّدين كما هو مذهب الأكثرين؟ إن كان الأوّل؛ فليس فيه نزاع، وإن كان الثّاني؛ فليس يبطل بمجرّد الأسجاع. فهلمّ الدّليل، وتنحّ عن (5 التّعويل على مجرّد (5) التّهويل.
(1) في (س): ((لعمله)).
(2)
البيت لأبي الأسود الدؤلي.
(3)
ما بينهما سقط من (س).
(4)
في (س): ((الذي لا يصح))!.
(5)
ما بينهما ساقط من (س).
الوجه الرّابع: أن نقول: ما قصدك بذكر استنتاج العقيم، واستفتاء من ليس بعليم؟ هل قصدك مجرّد السّجع في الكلام، أو الإفحام للخصم والإلزام؟ إن كان الأوّل؛ فالبلغاء لا يستطيبون من الأسجاع مواردها، متى كانت [تنقص من المذاهب](1) قواعدها، فإنّها لا تصلح إلا زينة للحجج الصّحيحة، فمتى أفسدتها كانت عند البلغاء قبيحة، لكن سجعك هذا يهدم قواعدك، ويخالف مقاصدك؛ لأنّك الذي أجزت للمقلّد العقيم أن يفتي وليس بعليم، وفي نصرة هذا المذهب أنشأت هذه الرّسالة؛ وأعدت وأبديت في نصرة هذه المقالة.
وأمّا إن كان المعترض قال ذلك الكلام على سبيل الإفحام لخصمه والإلزام؛ فقد عاد الإلزام أيضاً إليه، وخرج الاحتجاج من يديه، لأنّه الذي قضى بفقد المجتهدين، وحكم بمرتبة الفتيا للمقلّدين، وأنتج العقيم، وخبط من المناقضة في ليل بهيم، فبطلت حجّته واضمحلت، وجاء المثل:((رمتني بدائها وانسلت)) (2).
ومن العجائب: أنّ المعترض متصدّر للفتوى والتّدريس والمناظرة والتّصنيف، وهو معترف بالجهل، مدّع لخلوّ العالم من أهل العلم، منكر على من يرى جواز التّرجيح بالأخبار، مقتد في ذلك
(1) في ((الأصول)): ((ببعض المذهب))! ثم كتب على هامش (أ) و (ي): ((لعله متى كانت مبنيّة على بعض
…
إلخ. تمت القاضي محمد بن عبد الملك الآنسي)).
أقول: وما أثبته هو الصواب، وهو من نسخة (ت). والله أعلم.
(2)
((مجمع الأمثال)): (2/ 23) ، وله قصة انظرها فيه.
بالجلّة من العلماء الأخيار، زاعماً أنّ ذلك يؤدّي إلى إنتاج العقيم (2وفتوى من ليس بعليم، مصدّراً لكلامه بكيف الإنكاريّة، مصوّراً لذلك في أبعد صور المحالات العادية وهو ولاّد العقيم (1) الذي لا يصحّ ولا يستقيم!! وهذا يقتضي أنه العقيم الولود، والظّئر الودود (2) ، فكيف يعيب خصمه بما هو فيه، ويلزمه من المحالات ما هو بالحقيقة مدّعيه؟ وما ذاك إلا أنّه غفل عن كون هذه من عيوبه، وتوهّم أنّه (3) من عيوب خصومه، فباح به أشدّ البواح، وأكثر عليهم من الصّياح.
ولم تزل قلّة الإنصاف قاطعة
…
بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
قال: فأمّا أن يكون له في كلّ مسألة أن يرجّح ويخرج عن مذهب من كان قلّده؛ فالصحيح أنّ عليه التزام مذهب إمام معيّن، ذكره المنصور بالله، والشّيخ الحسن بن محمد، والشّيخ أحمد بن محمد، واحتجّ لهم بوجوه:
أحدها: بالإجماع، وهو أنّه لا يعلم أحد من المقلّدين يتردّد بين مذاهب علماء الإسلام المتقدّمين منهم والمتأخّرين، ففي مسألة يقلّد أبا بكر، وفي أخرى عمر، وفي ثالثة ابن عباس، وفي رابعة ابن مسعود، وهلمّ جرّا، ولا من يكون مقلّداً لطاووس، وعطاء، والحسن، والشّعبي، ولابن المسيّب، ولغيرهم ممّن كان وراءهم، يقلّد في كلّ مسألة إماماً، ولا من /يكون حنفيّاً في مسألة، شافعيّاً في أخرى،
(1) ما بينهما ساقط من (س).
(2)
الظّئر -بالكسر- التي تعطف على غير ولده. ((القاموس)): (ص/555).
(3)
في (س): ((أنها)).