الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أكثرهم في هذه المسألة.
أقصى ما في الباب: أنّ إجماعهم حجة قاطعة، لكنّا قد بيّنّا من قبل أنّهم مجمعون على صحّة أحاديث كتب السّنّة التي صحّحها أئمّة الحديث، وبيّنّا أنّهم يعوّلون في أحاديث الأحكام عليها ويفزعون في مهمّات حوادث الشّريعة إليها، وأنّ ذلك مستمر شائع ذائع في ديارهم من غير ظهور نكير، وهذه إحدى طرق الإجماع، أقصى ما في الباب أن ينازع في صحّة كتب الحديث، وهذا القدر -أعني أنّ فيهم من يقول بذلك- معلوم لا يمكن إنكاره، ومع ذلك بطل عليك إجماعهم، ولم تكن في الاحتجاج ببعضهم أولى من خصمك في الاحتجاج [بمن](1) خالف من قلّدته ونازع من تابعته.
الوجه الثّاني:
أنّ قولك بالرّجوع في الحديث وتصحيحه وتضعيفه وردّه وتعليله إلى أئمة الزّيديّة يحتاج إلى تمهيد قاعدة، وهي: أنّ يكون أئمة الزّيديّة قد صنّفوا في معرفة صحيح الحديث، ومعلومه، ومقبوله، ومردوده ما يكفي أهل الاجتهاد من أهل الإسلام، والمعلوم خلاف ذلك، فإنّ من أهل الاجتهاد من لا يقبل المرسل، ومنهم من لا يقبل [ما](2) وقفه الأكثرون ورفعه بعض الثّقات؛ أو وصله وقطعوه، أو أسنده وأرسلوه، ومعرفة هذا يحتاج إلى تأليف في العلل، والذي كتب العلل هم علماء الحديث: كالدّارقطنيّ
(1) في (أ): ((لمن)) ، والتّصويب من (ي) و (س).
(2)
في (أ): ((من)) ، والتّصويب من (ي) و (س).
وغيره، وليس لأئمة الزّيديّة في ذلك تصنيف /البتّة، ومن لم يفرد للعلل تأليفاً من المحدّثين ذكرها في تأليفه في الحديث كما يصنع أبو داود والنّسائيّ وغيرهما، بخلاف من جمع الحديث من الزّيديّة فإنّه لا يتعرّض لذلك، وكذلك المجتهد يحتاج عند تعارض الأحاديث إلى معرفة الرّاجح بكثرة الرّواة أو زيادة معدّليهم أو كون بعضهم مجمعاً عليه وبعضهم مختلفاً فيه، وهذا يحتاج إلى معرفة فنّين عظيمين:
أحدهما: معرفة طرق الحديث، وهو فنّ واسع لا نعرف للزّيديّة فيه تأليفاً، وقد تعرّض لذلك جماعة من أهل المسانيد والصّحاح والسّنن من المحدّثين، وجمع الحافظ الماسرجسي (1) في ذلك ((المسند الكبير)) الذي فرغ في قدر ثلاث مئة مجلّد كبار (2) ، واختصر الحفّاظ منهم أحاديث الأحكام وجرّدوها من هذه المؤلّفات الواسعة، وذكروا ما يجب معرفته من وجوه التّرجيح على أخصر ما يمكن تسهيلاً
(1) هو الحافظ الكبير أبو علي، الحسين بن محمد بن أحمد الماسرجسي النّيسابوري. ت (365هـ).
انظر: ((تاريخ الإسلام)): (وفيات 365هـ)، و ((السير)):(16/ 287)، و ((الأنساب)):(5/ 171).
والماسرجسي: ((بفتح الميم، والسّين المهملة، وسكون الرّاء، وكسر الجيم، وفي آخرها سين أخرى)) قيّده السّمعاني في ((الأنساب)). وغيره.
(2)
قال الحاكم: وعلى التخمين يكون مسنده بخطّ الورّاقين في أكثر من ثلاثة آلاف جزء.
قال الذّهبي: يجيء في مئة وخمسين مجلّداً.
قال الحاكم: فعندي أنه لم يُصنّف في الإسلام مسند أكبر منه.
((السير)): (16/ 289).
على الأمّة وتمهيداً لقواعد الملّة.
الفنّ الثّاني: علم الجرح والتّعديل، وما فيه من تعريف مراتب الثّقات والضّعفاء الذين لا يتم ترجيح حديث بعضهم على بعض إلا بعد معرفته، وهو علم واسع صنّف الحفّاظ فيه الكتب الواسعة الحافلة. حتّى جمع الفلكيّ (1)
فيه كتاباً فرغ في ألف جزء (2) ، ثمّ لم يزل الحفّاظ يهذّبونه ويختصرون ما لابدّ من معرفته حتّى انضبط ذلك بعد الانتشار الكثير في مقدار الخمسة المجلدات أو ما يقاربها، وليس للزّيديّة في هذا الفنّ تأليف البتّة.
وهذه علوم جليلة لابدّ من معرفتها عند من يعتقد وجوب معرفتها من أهل الاجتهاد. فقول المعترض: إنّ الواجب هو الرّجوع إلى أئمّة الزّيديّة في علوم الحديث قول مغفّل! لا يعرف أنّ ذلك مستحيل في حقّ أكثر أهل العلم الذين يشترطون في علوم الاجتهاد ما لم تقم به الزّيديّة!! وإنّما هذا مثل قول (3) من يقول: إنّه يجب الرّجوع في علم الطّب إلى الأحاديث النّبويّة والآثار الصّحابيّة ولا يجوز تعدّيها إلى غيرها، ومثل من يقول: إنّه يجب الرّجوع في علوم الأدب إلى أئمة الزّهادة وأقطاب أهل الرّياضة.
(1) هو الحافظ علي بن الحسين بن أحمد، الهمذاني، أبو الفضل، عرف بالفلكي ت (427هـ).
انظر: ((السير)): (17/ 502)، و ((الأنساب)):(4/ 399).
(2)
اختلف في اسمه، فقيل:((المنتهى في معرفة الرّجال)) وقيل: ((منتهى الكمال في معرفة الرّجال)) وقيل غير ذلك.
(3)
((قول)) ليست في (س).
ولقد ذكر إمام الحرمين الجويني في كتاب ((البرهان)) (1) أنّه لا يجوز لأحد التزام مذهب أحد من علماء الصّحابة رضي الله عنهم، وقال شارح (2) ((البرهان)):((إنّ العلّة في ذلك كون الصّحابة رضي الله عنهم ليس لهم نصوص على الحوادث تكفي الملتزم لمذهب أحدهم كأئمة الفقه المتبوعين)) ، فكذلك أئمة الزّيديّة ليس لهم من التّأليف في علم الحديث ما يكفي المجتهدين، فما للمعترض والتّعرّض لانتقاص المحدّثين الذين قاموا بما قعد عنه غيرهم من علوم الدّين، وهذا أمر يعرفه من له أدنى تمييز، وإنّما أُتي المعترض في انتقاض المحدّثين من قلّة الإنصاف ومحبّة الاعتساف، ولله درّ من قال:
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم
من اللّوم، أو سدّوا المكان الذي سدّوا (3)
الوجه الثّالث: أنّا لو رجعنا إلى تصانيف الزّيديّة في الحديث، لكنّا قد رجعنا إلى أضعف مما استضعفت (4) وأنكر مما استنكرت، وذلك لأنّ المصنّفين من الزّيديّة في الحديث ليس إلا /القاضي زيد، والإمام أحمد بن سليمان، والأمير الحسين، والإمام يحيى بن حمزة، هؤلاء الذين توجد تصانيفهم في أيدي الزّيديّة في نجد اليمن.
(1)(2/ 1352).
(2)
شرحه جماعة، واعتنى بشرحه المالكية، انظر:((البحر المحيط)): (1/ 8).
(3)
البيت للحطيئة انظر: ((ديوانه)): (ص/52).
(4)
في (س): ((استعضفت))!.
أمّا القاضي زيد، فقد ادّعى في شرحه الذي يروي فيه الحديث إجماع الأمّة على قبول خبر أهل الأهواء.
وأمّا الإمام أحمد بن سليمان، فقد صرّح في خطبة كتابه بالنّقل من كتب المحدّثين، بل ذكر أنّ جميع (1) كتابه، من كتب مسموعة، وكتب غير مسموعة، ولم يميّز ما رواه من الكتب المسموعة، مع أنّ كتابه عمدة عند علماء الزّيديّة معتمد عند المجتهدين منهم.
وأمّا الأمير الحسين فينقل من كتب المحدّثين، وهما معاً ينقلان من كتاب القاضي زيد، وكلّ كتبهم خالية عن الإسناد، وعن بيان من خرّج الحديث من الأئمة.
وأمّا الإمام يحيى بن حمزة فينقل عنهم الجميع، وعن جميع أهل التأويل ويصرّح بذلك (2).
وأمّا من لم يصنّف في الحديث من أئمة الزّيديّة ولكن توجد الأحاديث في كتبه؛ فمنهم من صرّح بقبول أهل الأهواء: فسّاقهم وكفّارهم كالمؤيد بالله، مع إجماع الزّيديّة على قبول ما أرسله، بل قال
(1) كذا في (أ) و (ي)، وفي (س):((أنّه جمع)).
(2)
في هامش (ي) ما نصّه:
((هذا يفهم أن المصنّف عليه السلام لم يطّلع على ((شرح التجريد)) والنصف الأول منه بالأسانيد، وأكثره من طريق الطحاوي، وهو أمثل كتابو لكن النّصف الأخير مرسل محذوف الأسانيد ويروي عن أبي داود، وصاحب كتاب المختصر، تمت شيخنا حفظه الله)) أي الجنداري.
ونحوه في هامش (أ).
المؤيّد بالله: إنّ الظّاهر من قول أصحابنا قبول شهادة كفّار التّأويل بلفظة (أصحابنا) ، وهذا يقتضي روايته لذلك عن جميع [علماء](1) الزّيديّة؛ وهو مجمع على ثقته عند الزّيديّة فوجب قبول روايته، [وهي] (2) تقتضي أنّ الرّجوع إلى حديث الزّيديّة مشكل على من لا يقبل حديث كفّار التّأويل. وكذلك المنصور بالله عليه السلام فإنّه قال في ((المهذّب)) (3) ما لفظه:((وقد ذكر أهل التّحصيل من العلماء جواز قبول أخبار المخالفين في الاعتقادات. وروى عنهم المحقّقون بغير مناكرة)). هذا لفظه، وهو رواية منه عن أهل التّحصيل، وقد ادّعى الإجماع على قبول فسّاق التّأويل في كتاب ((الصّفوة)) ، وكذلك الإمام يحيى بن حمزة، والفقيه عبد الله بن زيد ادّعيا الإجماع على قبول فسّاق التّأويل، ودعواهم الإجماع يفيد روايتهم لذلك عن أسلافهم.
وأمّا الهادي والقاسم عليهما السلام فقد اختلفوا عليهما في ذلك، فرواية هؤلاء تفيد أنّهما يذهبان إلى ذلك، وكذا رواية أبي مضر عنهما، وتخريج (4) المؤيد بالله عليه السلام لهما وأحد تخريجيّ أبي طالب، وهو يقتضي أنّ ذلك مذهبهما، وهو أرجح من أحد
(1) زيادة من (ي) و (س).
(2)
في (أ): ((وهنا)) والتّصويب من (ي) و (س).
(3)
((المهذّب من فتاوى الإمام المنصور بالله)) ، جمعها محمد بن أسعد المرادي.
منه عدّة نسخ خطيه في الجامع الكبير. انظر: ((مصادر الفكر)): (ص/600).
(4)
في (س): ((تخريج)).
تخريجي أبي طالب ورواية أبي جعفر، لأنّ هؤلاء أكثر [وأخير](1) ، ولأنّ عمل الهادي عليه السلام في الأحكام يوافق ذلك، فإنّه روى عن المخالفين، بل عن ضعفاء المخالفين، فروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه (2) ، وروى عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة (3) عن أبيه عن جدّه.
وعلى الجملة؛ فالزّيديّة إن لم يقبلوا كفّار التّأويل وفسّاقه؛ قبلوا مرسل من يقبلهم من أئمتهم، وإن لم يقبلوا المجهول؛ قبلوا مرسل من يقبله، ولا يعرف فيهم من يحترس من هذا البتّة. وهذا يدلّ على أنّ حديثهم في مرتبة لم (4) يقبلها إلا من جمع بين قبول المراسيل بل المقاطيع، وقبول المجاهيل، وقبول الكفّار والفسّاق من أهل التّأويل فكيف يقال مع هذا: إنّ الرّجوع إلى حديثهم أولى من الرّجوع إلى حديث أئمة الأثر ونقّاده الذين أفنوا أعمارهم في معرفة ثقاته، وجمع متفرّقاته، وبيان صحاحه من مستضعفاته، فتكثّرت بهم فوائده،
(1) زيادة من (ي) و (س).
(2)
لا يسلّم أنّه من الضعفاء، بل أقلّ ما يقال في هذه السلسلة أنها من أعلى درجات الحسن.
انظر: ((تهذيب التّهذيب)): (8/ 48)، و ((الميزان)):(4/ 183)، وتعليق الشيخ أحمد شاكر على ((جامع الترمذي)):(2/ 141 - 144).
(3)
الحسين هذا كذّبه مالك، وهو أحد الضّعفاء الواهين. انظر:((الميزان)): (2/ 61)، و ((من روى عن ابيه عن جدّه)):(ص/175 - 177) ، لابن قطلوبُغا.
(4)
في (س): ((لا)).