المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فكيف ينكر على من قبله مع مثل هذه القرائن الكثيرة؟ - الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - - جـ ١

[ابن الوزير]

فهرس الكتاب

- ‌النص المحقق

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السّابع:

- ‌الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه العاشر:

- ‌الوجه الحادي عشر:

- ‌الوجه الثّاني عشر:

- ‌ تنبيهات

- ‌التّنبيه الثاني:

- ‌التنبيه الثالث:

- ‌المبحث الأول:

- ‌المبحث الثاني:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌المسألة الأولى:

- ‌الفصل الأوّل:

- ‌الفصل الثّاني:

- ‌الحجّة الأولى:

- ‌الحجة الثانية:

- ‌الحجة الثّالثة:

- ‌البحث الثاني:

- ‌البحث الثالث:

- ‌البحث الرّابع:

- ‌البحث الخامس:

- ‌البحث السّادس:

- ‌البحث السّابع:

- ‌البحث الثّامن:

- ‌البحث التّاسع:

- ‌البحث العاشر:

- ‌البحث الحادي عشر:

- ‌النّوع الأوّل:

- ‌النّوع الثّاني:

- ‌الوجه الثّاني:

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثّانية:

- ‌المسألة [الثّالثة]

- ‌ الأولى: في وجوب التّرجيح أو جوازه في حقّ المميّز من طلبة العلم

- ‌النّظر الأوّل:

- ‌النّظر الثّاني:

- ‌النظر الثالث:

- ‌النّظر الرّابع:

- ‌النّظر الخامس:

- ‌ الأوّل:

- ‌ الثّاني:

- ‌الوهم الثّاني:

- ‌ الموضع الأوّل:

- ‌الموضع الثاني:

- ‌الموضع الثالث:

- ‌الموضع الرّابع:

- ‌المحمل الأول:

- ‌المحمل الثّاني:

- ‌المحمل الثّالث:

- ‌المحمل الرّابع:

الفصل: فكيف ينكر على من قبله مع مثل هذه القرائن الكثيرة؟

فكيف ينكر على من قبله مع مثل هذه القرائن الكثيرة؟ وإذا كان المعتبر (1) في باب الرّواية هو الظّنّ المطلق كما يأتي تحقيقه عند كثير من أهل العلم، فكيف ينكر على من استند إلى مثل هذا الظّنّ القوي؟

/فإن قيل: إنّ أهل الحفظ والثقة قد يسندون عن معمَّرين (2) لا يعرفون الحديث، ولا يضبطونه؛ فكان هذا قدحاً في رواية الحديث (3) عنهم.

قلنا: أهل الحديث لا يعتمدون على أولئك المعمّرين في جواز الرّواية والعمل بالحديث، بل يعتمدون على من قرأ لهم، وعلى من أثبت طباق السّماع لهم، وإنّما احتاجوا إلى أولئك لأجل علوّ السّند، ذكر معنى ذلك الذّهبي في خطبة ((الميزان)) (4) وقال:((إنّه مبسوط في علوم الحديث)) ، وقال:((من المعلوم أنّه لابدّ من صون الرّاوي وستره)).

وذكر ذلك كلّه زين الدّين في كتابه في ((علوم الحديث)) (5) والله أعلم.

‌الوجه السّابع:

أنّ أقصى ما في الباب أن يروي المحدث عن المجاهيل من المسلمين والمجاهيل من العلماء، فقد قال

(1) في (ي) و (س): ((المعتمد)).

(2)

في (ي): ((مغمورين)) ، وهو كذلك في نسخة كما في هامش (أ).

(3)

في (س): ((الثقات)).

(4)

(1/ 4).

(5)

((شرح الألفية للعراقي)): (ص/170).

ص: 36

بذلك (1) من أهل العلم المجمع على فضلهم ونبلهم من لا يحصى، فقد ذهب أئمة الحنفيّة إلى قبول المجهول من أهل الإسلام، وذهب إلى ذلك كثير من المعتزلة والزّيدية، وهو أحد قولي المنصور بالله: ذكر ما يقتضي ذلك في كتابه: ((هداية المسترشدين)) ، وهو الذي ذكره عالم الزّيدية ومصنّفهم وعابدهم وثقتهم عبد الله بن زيد العنسي (2) ، ذكره في ((الدّرر المنظومة)) (3) بعبارة محتملة للرّواية عن مذهب الزّيدية كلّهم، وهو الذي أشار إلى ترجيحه أبو طالب في كتاب:((جوامع الأدلة)) (4) وتوقّف فيه في كتاب: ((المجزي)) وذكر أنّه محل نظر، وحكاه المنصور في ((الصّفوة)) عن الشّافعي.

فكيف تنكر أيّها الزّيدي ما ذهب إليه جلّة من أئمة الزّيدية ومحقّقيهم؟ ّ! على أنّ المحدث غنيّ عن النزول إلى هذا الحدّ في الترخّص، وأكثر ما يحتاج إليه في بعض الأحوال: الرّواية عن المجهول مطلقاً، وقول ابن عبد البرّ، وابن الموّاق (5) معهم، فقد وافقوهما على

(1) في (ي) و (س): ((بكل ذلك)).

(2)

عبد الله بن زيد بن أحمد بن ابي الخير العني، له عدة مصنفات ت

(667هـ). ((مصادر الفكر الإسلامي في اليمن)): (ص/120 - 121).

(3)

في أصول الفقه.

(4)

مخطوط ذكره الزركلي باسم ((جوامع النصوص)). ((الأعلام)): (8/ 141).

(5)

وهو: محمد بن يحيى بن أبي بكر، أبو عبد الله المرّاكشي، إمام في الحديث، من تلاميذ ابن القطان الفاسي، وله مصنفات منها:((المآخذ الحفال السّامية .. )) في انتقاد كتاب شيخه ((بيان الوهم والإيهام)) لم يكمل ت (642هـ). انظر: ((الإعلام بمن حلّ مرّاكش وأغمات من الأعلام)): (4/ 232).

ص: 37

قبول مجهول العلماء لأنه من جملة المجاهيل، لكنّهما خالفاهم في قبول من عدا هذا الجنس، ولهما من الحجج على ما اختاراه ما يمكن الرّكون إليه والاعتماد عليه، لولا عدم الحاجة إلى ذلك، ومحبّة الاحتياط بسلوك أوضح المسالك، وقد ذكرت في ((الأصل)) (1) لهما حججاً في ذلك، وطوّلت الكلام عليها، وأنا أذكرها في هذا ((المختصر)) وأحذف من التّطويل فأقول:

يمكن أن يحتج لهما بحجج قرآنية، وأثريّة، ونظرية:

أما القرآنية: فقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِكْرِ إِنْ كُنتُم لَا تَعلَمُونَ} [الأنبياء:7]، فإطلاق هذا الأمر القرآني يدلّ وجوب سؤال العلماء إلا ما خصّه الإجماع وهو: الفاسق المتعمّد؛ وهذا نادر في العلماء، وإن اتّفق ذلك من أحد منهم فهو معروف غير معتمد، وإنّما يصدر منهم من المعاصي ما لم يجمع على [الجرح](2) به كما سيأتي/ قريباً.

وأما الأثريّة؛ فقد ورد في ذلك آثار:

الأثر الأول: النّبي صلى الله عليه وسلم: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله (3))). روي مرفوعاً مسنداً من طريق أبي هريرة، وعلي بن أبي

(1)((العواصم والقواصم)): (1/ 308 - 326).

(2)

في (أ): ((على المجروح))! ، وفي (س):((على الخروج))! ، والتصويب في (ي).

(3)

أخرجه ابن عدي في ((الكامل)): (1/ 147)، ومن طريقه البيهقي في ((السنن الكبرى)):(10/ 209) ، من طريق الوليد بن مسلم عن إبراهيم العُذري عن الثقة من أشياخه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرجه العقيلي في ((الضعفاء)): (4/ 256)، وابن أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)):(2/ 17)، وابن حبان في ((الثقات)):(4/ 10)، وابن عدي:(1/ 146)، من طرق عن مُعان بن رفاعة عن إبراهيم العذري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. فالطريق الأول: فيه إبراهيم العذري، وهو مجهول، قال الذهبي في ((الميزان)):(1/ 45): ((لا يدرى من هو)) ، وفيه -أيضاً- التعديل على الإبهام، وهو لا يقبل من الثقة! فكيف يقبل ممن لا يدرى من هو؟!.

والطريق الثاني: قال الذهبي في ((الميزان)): (1/ 45) -لما ذكر هذا الحديث-: ((رواه غير واحد عن معان بن رفاعة عنه، ومعان ليس بعمدة، ولا سيما أتى بواحد لا يدرى من هو!.

وفيه -أيضاً- الإرسال.

والكلام على الحديث طويل الذّيل، وقد جاء من رواية جماعة من الصحابة منهم: أسامة بن زيد، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأبي أمامة الباهلي، ومعاذ، وأبي هريرة رضي الله عنهم وجميع طرقه لا تخلو من مقال! والراجح ضعفه على قواعد المحدّثين، والله أعلم.

فكلام المصنّف رحمه الله على الحديث فيه بعض التسمّح، مع تقرير أشياء غير مقبولة، ثمّ البناء عليها، مع عدم قبول الأصل المبني عليه، فليتنبّه!.

ص: 38

طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبي أمامة، وجابر بن سمرة.

واختلفوا في صحة إسناده وإرساله؛ فأسنده العقيلي (1) عن أبي هريرة، وابن عمرو بن العاص وقال: الإسناد أولى، وضعّف إسناده

(1)((الضعفاء)): (1/ 9 - 10).

ص: 39

زين الدّين ابن العراقي (1)، وقال ابن القطّان (2): الإرسال أولى. وتوقّف في ذلك الحافظ ابن النّحوي الشّافعي المصري. وقال ابن عدي (3): ((رواه الثّقات عن الوليد بن مسلم عن إبراهيم بن عبد الرحمن [ثنا] (4) الثّقة من أصحابنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

)) وساقه. قال الذّهبي (5): ((رواه غير واحد من معان يعني ابن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرّحمن العذري التّابعي)).

فالقوي صحّة الحديث كما ذهب إلى ذلك: إمام أهل الحديث أحمد بن حنبل، والعلاّمة الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ، روى تصحيحه عن أحمد بن حنبل غير واحد وابن النّحوي في ((البدر المنير)) (6) والزّين ابن العراقي في ((التبصرة)) (7) وقال:((ذكر الخلال في ((كتاب العلل)) أنّ أحمد سئل عنه فقيل له: كأنّه كلام موضوع؟ فقال: لا، هو صحيح، فقيل له: ممن سمعته؟ قال: من غير واحد)).

قلت: الظّاهر صحته أو حسنه، فإنّما علّل بالإرسال، والاختلاف في معان.

(1)((التقيد والإيضاح)): (ص/116).

(2)

في ((بيان الوهم والإيهام)): (3/ 40).

(3)

((الكامل)): (1/ 147) ، ونقله المؤلف هنا بمعناه.

(4)

((ثنا)) سقطت من (أ) و (ي) و (س)، والاستدراك من ((الكامل)) و ((العواصم)):(1/ 310).

(5)

((الميزان)): (1/ 45).

(6)

(1/ 215).

(7)

(ص/143)، و ((التقييد)):(ص/139).

ص: 40

أمّا الإرسال: فقد ارتفع بقول ابن عديّ: إنّ الثّقات رووه عن إبراهيم بن عبد الرحمن [ثنا](1) الثقة مع شهادة تلك الطرق المقدّمة لإسناده، وإن كان زين الدّين ضعّفها؛ فالضعيف يستشهد به، وقد تكثر الطّرق الضّعيفة فيقوى المتن على حسب ذلك الضّعف في القلّة والكثرة، كما يعرف ذلك من عرف كلام أهل [هذا](2) العلم في مراتب التّجريح والتّعديل.

وأمّا مُعان؛ فقد قال أحمد: ((لا بأس به)) (3) ووثّقه ابن المديني، لكن ليّنه ابن معين (4) والتّليين لا يقتضي ردّ الحديث، بل يسقطه من مرتبة الصّحة، ويجوز أن يكون حسناً لا سيمّا وهو من قبيل الجرح المطلق، وهو مردود مع التوثيق الرّاجح، وموقوف فيه مع انفراده.

وهذا الجرح المطلق معارض بما هو أرجح منه، وهو كلام أحمد وابن المديني فإنّهما أرجح من ابن معين لأجل العدد، وإن كان مثلنا أقلّ من أن يرجح بينهم في المعرفة بالحديث، فأمّا التّرجيح بالعدد فهو ظاهر، على أنه لم يصرّح (5) بما يعارض كلاميهما.

فقد يقال فيمن يجب قبوله: ((فيه لين)) ، وقد تطلق هذه العبارة في بعض رجال الصّحيح، وإنّما فائدتها: ترجيح من لم يقل فيه ذلك

(1) سقطت من الأصول.

(2)

من (ي) و (س).

(3)

((بحر الدم)): (ص/407).

(4)

((تهذيب التهذيب)): (10/ 201).

(5)

أي: ابن معين، من هامش الأصل.

ص: 41

على [من](1) قيل فيه عند التعارض، كيف وقد وردت شواهد لحديث مُعان! فقد قال ابن عدي:((رواه الثقات عن إبراهيم بن عبد الرحمن)) فالثّقات جمع أقلّه ثلاثة، وقد رواه أحمد بن حنبل عن غير واحد، منهم مسكين، إلا أنّه وهم في اسم إبراهيم بن عبد الرحمن، فقال: القاسم بن عبد الرحمن.

هذا كلّه من غير اعتبار/ الطّرق المسندة التي اوردها ابن العراقي في ((التّبصرة)) (2).

وأمّا إبراهيم بن عبد الرحمن؛ فقد قال ابن الأثير في ((أسد الغابة)): (3) إنّه من الصّحابة، وقد قيل: إنّه ليس بصحابيّ.

لكن المثبت أولى من النّافي، والزّيادة من العدل مقبولة إذا لم تكن معلولة، وقال جماعة: تقبل وإن كانت معلولة ولم تضعّف، بل قد قال الذّهبي (4)((ما علمته واهياً)) ، وحديثه مقبول عند طوائف من العلماء.

أما المحدّثون؛ فلأنّ إمامهم أحمد بن حنبل يقبله، ولأنّ له قاعدة في تصحيح الأخبار معروفة (5) عندهم، ولا يظن بمثله أنّه يقضي

(1) في (أ): ((ما)) ، والتصويب من (ي) و (س).

(2)

(ص/143 - 144).

(3)

(1/ 52/53).

(4)

((الميزان)): (1/ 45).

(5)

كان في (أ) و (ي): ((مردودة)) ثم أصلحت إلى ((معروفة)) ورمز لها بـ ((ظ)).

ثم شرح في هامش (ي) قوله: ((مردودة)): ((مراد بقوله: ((مردودة)) أنه اشترط اموراً غير ما قاله الأكثر، فينظر، لأنّ اللفظ في نسخة [

] من جملة اشتراطه: عدم ذكر حديث من الواقفيّة)) اهـ.

ص: 42

بصحّته قبل تمهُّد قاعدةِ الصحّة، وكذلك ابن عبد البر، وقد روى عنه غير واحد من الثّقات فخرج عن مطلق الجهالة، ولأنّه قد قال فيه الثقة: إنه صحابي.

وأما الحنفيّة؛ فإنهم يقبلون المجهول، كيف إذا كان تابعيّاً! كيف إذا قيل: إنه صحابيّ!.

وأمّا المالكيّة؛ فإنّهم يقبلون المرسل.

وامّا الشّافعيّة فإنّهم يقبلون بعض المراسيل، وإذا جمعت طرق هذا كلّه وجدته أقرب إلى القبول على قواعدهم.

فهذه الوجوه مع تصحيح أحمد، وابن عبد البر، وترجيح العقيلي لإسناده (1) مع سعة اطّلاعهم، وإمامتهم: تقضي بجواز التّمسّك به.

وأمّا ما اعترض به زين الدّين على هذا الحديث من جهة المعنى، فإنه ضعيف.

فإنه قال: ((لو كان خبراً لما وجد في حملة العلم من ليس بعدل، فوجب حمله على الأمر به)) (2).

والجواب: أنّ هذا غير لازم؛ لأنه يجوز تخصيص الأخبار كما يجوز تخصيص الأوامر، وذلك مستفيض في القرآن والسّنة، ومنه:

(1) إلا أن العقيلي قال في ترجمة (معان)(4/ 256): ((وقد رواه قوم مرفوعاً من جهة لا تثبت)) اهـ.

(2)

((التقييد والإيضاح)): (ص/115).

ص: 43

{وَأُوتِيَت مِنْ كُلِّ شَيءٍ} [النمل:23]، وقد قال الله تعالى في أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم:{كُنتُم خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110].

مع صحة ارتداد جماعة منهم، كما ذكره أئمة الحديث في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام:((فأقول سحقاً لمن بدّل بعدي)) (1) ، فلم يوجب ذلك تأويل الآية على الأمر (2) ، وسلب الصّحابة رضي الله عنهم هذه الفضيلة العظمى.

والوجه في ذلك أنّ التخصيص كثير في الشّريعة واللّغة، حتّى قال بعضهم: إنّ كلّ عموم في القرآن مخصوص إلا قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شِيءٍ عَلِيمٍ} [الأنعام:101] وقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٍ} [المائدة:120].

وحتّى قال بعض الأصوليين: إنّ ألفاظ العموم مشتركة بينه وبين الخصوص، بخلاف ورود الخبر بمعنى الأمر فإنّه ليس في هذه المرتبة (3) ، وما كان أكثر وقوعاً كان أرجح.

وأمّا قوله: إنّ ذلك قد جاء في بعض طرق [ابن] أبي حاتم (4) ، فمردود بضعفه وإعلاله لمخالفة جميع الرّواة الثّقات وغير الثّقات (5).

(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري (مع الفتح): (11/ 472) ، ومسلم برقم (2291) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

أي: في قوله تعالى: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍِ}

(3)

أي: في الكثرة.

(4)

في (أ) و (ي): ((طرق أبي حاتم)) ، والتصويب من ((التقييد والإيضاح)):(ص/115).

(5)

وانظر جواب المؤلّف في كتابه ((تنقيح الأنظار)): (ق/47أ).

ص: 44

الأثر الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدّين)) (1) ، رواه جماعة من الصّحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو صحيح صحّحه محمد بن إسماعيل البخاري، / وأبو عيسى الترمذي (2) وغيرهما، وهو دليل على أن الله قد أراد الخير لأهل الفقه، ولا معنى لتخصيصهم بذلك إلا لوقوع ما أراده بهم، أمّا عند أهل السنة فظاهر، وأمّا عند المعتزلة فلتخصيصهم بالذّكر، وأمّا الزّيدية فقد احتجوا بمثله في قوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطْهِيراً} [الأحزاب:33].وهذا الأثر يخصّ من فقه في دينه دون غيره من أهل العلم، والكلام فيمن يطلق عليه ذلك يتعلق بشروح الحديث.

الأثر الثالث: ما ورد في ((الصّحيح)) (3) من قصّة الرّجل الذي قتل تسعة وتسعين، وسأل عن أعبد أهل الأرض، فدلّ عليه، [فسأله](4) فأفتاه ألاّ توبة له فقتله، ثمّ سأل عن أعلم أهل الأرض، فدلّ عليه، فسأله فأفتاه بأن توبته مقبولة، وفيه: بأنّه من أهل الخير.

فحكى رسول الله صلى الله عليه وسلم قصّته، ولم يحك فيها أنّه بعد معرفة علم

(1) جاء من رواية جماعة من الصحابة. وأخرجه البخاري (الفتح): (1/ 197) ، ومسلم برقم (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه.

(2)

((الجامع)): (5/ 28).

(3)

أخرجه البخاري (الفتح): (6/ 591) ، ومسلم برقم (2766) ، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(4)

من (ي) و (س).

ص: 45

الرّجل سأل عن عدالته، وقد اعتمد هذا الرّجل على فتواه فيما يتعلق بالتّوبة من أحكام تلك الشّريعة من الدّية وسقوط القود، وغير ذلك، والظّاهر أنّه لم يكن القود في شرعهم (1) ، أو كان هناك مسقط للقود من كفر القاتل والمقتول أو غير ذلك، والله أعلم.

الأثر الرابع: وهو في ((الصّحيح)) (2) أيضاً وذلك أنّ الله تعالى لما قال لموسى عليه السلام:» إنّ لنا عبداً هو أعلم منك «-يعني: الخضر عليه السلام ، سأل موسى من الله تعالى لقاء الخضر ليتعلم منه وسافر للقائه، ولم يرد في الحديث أنّه سأل عن عدالته بعد أن أعلمه الله تعالى بعلمه (3)، مع أنّ من الجائز أن يكون عظيم العلم غير عدل مثل:

(1) في هامش (أ) و (ي) ما نصه:

((قلت: أخرج البيهقي في ((السنن)) عن أبي العالية: أنّ الدية لم تحلّ لأهل التوراة، إنما هو قصاص أو عفو ليس غيره، فجعل لهذه الأمة القود والدية والعفو.

ومثله أخرج عبد الرزّاق، وسعيد بن منصور، والبخاري، والبيهقي في ((السنن)) عن ابن عبّاس مثله. فقول المصنف:((الظاهر أنه لم يكن القود في شرعهم)) يتم إن كان قاتل المئة من النصارى، تمت من خط البدر الأمير)) اهـ.

(2)

أخرجه البخاري (الفتح): (1/ 263) ، ومسلم برقم (2380) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

((بعلمه)) سقطت من (س).

ص: 46

بلعام (1) وغيره، و [لكنه](2) تجويز بعيد، قليل الاتفاق، نادر الوقوع، فلم يجب الاحتراز منه كما لا يجب الاحتراز من تعمّد كذب الثّقة، ولا من وهم الحافظ.

وفي بعض هذه الآثار ما لو انفرد كان في الاحتجاج به نظر، لكنّها تقوى باجتماعها، وما قدّمنا في شهادة القرآن لها، ولم يذكر ابن عبد البرّ (3) منها إلا حديث: إبراهيم بن عبد الرّحمن العذري المقدّم.

وأما الاستدلال على ذلك من النّظر فهو يظهر بذكر أنظار:

النظر الأول: أنّ الظّاهر من حملة العلم أنّهم مقيمون لأركان الإسلام الخمسة، مجتنبون لكبائر المعاصي، ولما يدل على الخسّة، معظّمون لحرمة الإسلام، لا يجترثون على الله تعالى بتعمّد الكذب عليه.

والظّاهر أيضاً فيهم قلة الوهم بعد الاعتماد على الكتابة، وظهور العناية بالفنّ، فصاحب الفنّ الشهير به قليل الغلط فيه، وإن كان يغلط في غيره، على أن الوهم المقدوح به عند أهل الأصول شرطه أن يكون أكثر من الصّواب أو مساوياً له، على اختلاف بينهم في المساوي.

(1) يقال: بِلْعم، وبِلْعَام.

وقصته عند تفسير قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175].

انظر: ((جامع البيان)): (6/ 118)، و ((تفسير ابن كثير)):(2/ 275)، و ((الدر المنثور)):(3/ 265 - 268)

(2)

في (أ) و (ي): ((ولكن)) والمثبت من (س).

(3)

((التمهيد)): (1/ 59).

ص: 47

وهذا الذي ذكروه نادر الوقوع في حقّ الشّيوخ المتأخرين، ولا شكّ أنّ هذه الأمور أمارة/ العدالة المشترطة في الرّواية التي يترجّح معها ظن الصّدق، وخوف المضرّة بالمخالفة.

النّظر الثاني: أنّه ثبت بالاجماع الظّاهر جواز رجوع العامّي في الفتوى إلى من رآه في المصر مُنتصباً للفتوى، ورأى المسلمين يأخذون عنه، وهذا كافٍ للعامّي، مع أنّ العدالة شرط في المفتي، فدلّ على أنّ ظاهر العلماء العدالة، وأنّه لا يجب البحث حتّى يظهر.

وإنّما قلنا: إنّ ذلك يكفي العامّي لأنّ العامّة ما زالوا على ذلك، ولم ينكر عليهم أحد من السّلف والخلف (1) ، ولو أنّ أحداً أوجب على العامّي إذا دخل المصر يستفتي أن يختبر المفتي في سفره وحضره

(1) في هامش (أ) و (ي) كتب ما نصه:

((هذا استدلال بعدم النكير على العامّي، فهو من الاستدلال بالإجماع السكوتي، ولا يخفى أنّ المسألة خلافية، كما ذكره في الوجه السابع، وقد علم أنه لا نكير في الخلافيات، فلا يتم هذا الدليل، تمت من خط البدر الأمير رحمه الله).

ثم علق عليه العلامة محمد بن عبد الملك الآنسي بقوله: ((هذا فرع يقرر أنه لا نكير في مختلف فيه، وفيه مناقشة كبيرة حتى للمحشّي رحمه الله، وأيضاً هو فرع كون المسألة خلافية في ذلك الزمان، وقد تقدّم لمن الاستدلال له حكاية إجماع التابعين على ذلك، فهو لا يسلّم كونها خلافية في ذلك العصر، فلا يتم مناقشة المحشّي.

وكثيراً ما تراهم في كتب الأصول يستدلّون بمثل هذه الإجماعات على ما يختارونه في مسائله الخلافية فانظره. تمت القاضي العلامة محمد بن عبد الملك الآنسي رحمه الله)).

ص: 48

ورضاه وغضبه ونحو ذلك لخالف الإجماع، وقد نصّ على هذا جماعة من أهل الأصول، ذكرتهم في ((الأصل)) (1).

النّظر الثالث: وجوب إجابة العامّة للقاضي الذي على هذه الصفة وامتثال قضائه، مع اشتراط العدالة فيه.

النظر الرابع: أنّه ظهر من طلبة العلم أنهم يسألون عن العارف بالفنّ، فإذا سمعوا به رحلوا إليه، وأخذوا [عنه](2) من أوّل المجالسة قبل طول الخبرة، وربّما طالت المجالسة، وحصلت الخبرة فيما بعد، وربّما تعجّلت الفرقة قبل الخبرة، ومع استمرار وقوع هذا في جميع أقطار الإسلام لم نعلم أنّ أحداً من العلماء قال لمن فارقه قبل الخبرة: إنه لا يجوز لك العمل بما أخذت عنّي، ولا قال لمن جالسه في أوّل المجالسة: إنّه لا يجوز لك الأخذ بما تأخذ (3) عني حتى تطول المجالسة وتحصل الخبرة.

والمقصود بهذا النّظر أنّ العمل بهذا كثير في قديم الزّمان وحديثه؛ فإذا عمل به طالب الحديث لم ينسب إلى الشذوذ، وكذا إذا قيل: إنّ هذا مذهب ابن عبد البرّ، وابن الموّاق لم يتوهّم أنّهما شذّا بهذا.

فإذا قيل: ليس كلّ طالب علم معلوماً أنّه يريد العمل، ولا كلّ طالب [أيضاً](4) يظهر منه أنه يستجيز العمل قبل الخبرة، قلنا: ذلك

(1)((العواصم)): (1/ 316 - 317).

(2)

في (أ): ((عليه)) ، والمثبت من (ي) و (س).

(3)

((بما تأخذ)) ليست في (س).

(4)

من (ي) و (س).

ص: 49

صحيح. ولكن الأكثر يظهر ذلك منهم.

فإن قيل: كيف يستنبط من هذا النّظر إجماع مع ظهور الخلاف؟ قلنا: يستنبط منه إجماع على عدم النكير (1) على من استجاز ذلك، لا على أنّ الكلّ من العلماء قائلون به.

النظر الخامس: أنّه قد ظهر تفسير كثير من الكتاب والسنة بألفاظ لغويّة ومعاني نحويّة عن كثير من الأدباء من غير عناية بمعرفة أحوالهم في التّوثيق، فإنّ التّوثيق وإن وجد في بعضهم فلا يطّرد في جميعهم، ألا ترى إلى إطباق الطوائف على الرجوع إلى ((النهاية)) (2) لابن الأثير من غير تثبّت في توثيقه؟.

ولو قدّرنا معرفة بعض الخاصّة لذلك فالأكثر على النّقل/ منه من غير معرفة لثقة مؤلّفه، حتّى إنّ الزّيدية يعتمدون على الرجوع إلى كتابه، مع أنّه لو ثبت أنه عدل لما كفى ذلك، فإنه لم يشافه العرب، وينقل عنهم بغير واسطة، بل روى عن جماعة كثيرة من اللّغويين كما أشار إليه في خطبة كتابه، بل كلّ واحد من اولئك الذين روى عنهم روى عن خلق أيضاً، ألا ترى أنّه يروي عن الزّمخشريّ مع أنّ الزّمحشريّ معتزلي حنفيّ والظّاهر من الحنفية قبول المجهول (3) ،

(1) في هامش (أ) و (ي) كتب:

((الإجماع على عدم النكير هو مفاد كون المسألة خلافية. تمت البدر الأمير رحمه الله).

(2)

((النهاية)) في غريب الحديث والأثر)) ، مطبوع في خمسة مجلدات.

(3)

إلا أنهم خصّوة بالقرون الثلاثة المفضّلة.

انظر: ((أصول السرخسي)): (1/ 352)، و ((المغني في أصول الفقه)):(ص/202)، و ((قواعد في علوم الحديث)):(ص/202 - 209) للتهانوي.

ص: 50

وهو ظاهر عن كثير من المعتزلة وغيرهم، كما ذلك مذكور في مصنّفاتهم.

ومع أنّ الزّمخشريّ، وإن كان صالحاً عند أهل الحديث في نفسه؛ فهو عندهم داعية إلى الاعتزال، غير معروف بتحريم الرّواية عن المجاهيل في الحديث، دع عنك اللّغة، بل قد روى الموضوعات في ((كشّافه)) في فضائل السّور، مع الإطباق أنّه من أئمة اللّغة والعربيّة، والرّجوع إلى مصنّفاته في ذلك، وهذا يدلّ على ما ذهب إليه أبو عمر بن عبد البرّ من حمل كلّ صاحب علم معروف العناية فيه على السّلامة في علمه حتّى يتبيّن جرحه (1) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

فإن قلت: هذه الحجج كلّها مبنيّة على تحسين الظنّ بجملة العلماء، والقول بأنّ المجروح فيهم نادر، و [أنّه](2) إذا كان نادراً فالحكم بالنّادر تقديم للمرجوح على الرّاجح، وذلك قبيح وفاقاً، لكن كون المجروح نادراً فيهم غير مسلّم، فإنّ وقوع الغيبة منهم والحسد فيما بينهم والمنافسة في الدّنيا كثير غير قليل.

قلت: الجواب عن ذلك أن نقول: أمّا قوله: إنّ المجروح فيهم

(1) في هامش (أ)، و (ي) ما نصّه:

((قلت: أو تبيّن الكذب فيما نقله، كأحاديث فضائل السّور، ولا يقدح في الزمخشري أنه رواها، ويحمل على السّلامة بأنّه لم يعلم وضعها.

وهو حنفي المذهب يقبل المراسيل، وقد تكون فيها المجاهيل. تمت السيد محمد الأمير رحمه الله)) اهـ.

(2)

من (ي) و (س).

ص: 51

كثير غير نادر؛ فهو بناء على أنّ كلّ من وقع منه معصية فهو مجروح، ومتى سلّم له أنّ العدالة هي: ترك جميع الذّنوب؛ فالسؤال واقع، ولكن هذا ممنوع بدليل القرآن والأثر والنّظر والنّقل.

أما القرآن: فما حكى الله تعالى عن ذنوب أنبيائه وأوليائه، ونزع الغلّ من صدور أهل الجنّة، مع أنّ شهادة ذي الغلّ لا تقبل، وذكر ذلك على التفصيل يطول.

وأما الأثر: ففيه أخبار كثيرة، أذكر ما حضرني منها وهو اليسير:

الأثر الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من نوقش الحساب عُذّب)) (1) وهو صحيح الإسناد والاستناد.

الأثر الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب قضاء المسلمين حتّى يناله ثمّ غلب عدله جوره فله الجنّة، ومن غلب جوره عدله فله النّار)) رواه أبو داود (2) عن أبي هريرة مرفوعاً. قال الحافظ ابن كثير: ((إسناده حسن)) (3).

الأثر الثالث: ما ورد في تحريم قبول ذي الإحنة (4) في الشّهادة

(1) أخرجه البخاري (الفتح): (1/ 237) ، ومسلم برقم (2876) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

((السنن)): (4/ 7)، ومن طريقه البيهقي في ((الكبرى)):(10/ 88).

وفيه: موسى بن نجده، قال الذّهبي في ((الميزان)):(5/ 350): ((لا يعرف)).

(3)

إرشاد الفقيه إلى معرفة أدلة التنبيه)): (2/ 390).

(4)

الإحنة: الحقد، والغضب. ((القاموس)):(ص/1516).

ص: 52

على من هو له مبغض (1) ، وإن كانا مسلمين عدلين، فالإحنة على المسلم محرّمة، / وذو الإحنة مقبول على من ليس بينه وبينه إحنة؛ لأنّ مجرّد دخول الإحنة، ووجود بعض العداوة لا يمنع من العدالة، ولهذا قال الله تعالى في صفة أهل الجنّة:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43] ولو كان صاحب الإحنة على أخيه مجروحاً في حقّ كلّ أحد، لم يكن لتخصيص ردّه إذا شهد على من يبغضه معنى.

الأثر الرابع: الحديث الصّحيح الذي فيه: ((قاربوا وسدّدوا وأبشروا، ولن يدخل الجنّة أحد إلا برحمة الله تعالى)) (2) ونحو ذلك.

وأما النّظر: فلأنّا إذا تركنا شهادة من هذه صفته من المسلمين، وطرحنا روايتهم وفتواهم ومصنّفاتهم، واعتبرنا في الشهادة قول بعض المتعنّتين في العدالة: إنّها الخروج من كلّ شبهة، ومحاسبة النّفس في كلّ لحظة، ونحو ذلك من التّشديدات تعطّلت المصالح والأحكام، وتضرّر جميع أهل الإسلام، واختلفت (3) الأحوال، وضاعت الحقوق

(1) أخرج أحمد: (2/ 204)، وأبو داود:(4/ 24)، والدّارقطني:(4/ 243) وغيرهم، من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه

)) الحديث.

قال الحافظ ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)): (2/ 420): ((إسناده جيّد)).

وقال الحافظ ابن حجر في ((التخليص)): (4/ 218): ((وسنده قوي)).

(2)

أخرجه البخاري (الفتح): (1/ 116) من حديث أبي هريرة، ومسلم برقم (2816، 2817، 2818) من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.

(3)

في هامش (ي) إشارة إلى أنه من نسخة: ((واختلت)) ، وكذا في (س).

ص: 53

والأموال، ولم يجد المقلّد من يروي له مذهب إمامه، ولا العامّي من يفتيه، ولا الحاكم من يقيم له الشّهادة، ولا وجد صاحب الولاية من يصلح للقضاء، ولا وجد أهل عقد النّكاح من يشهد بينهم.

فإنّ أهل الورع الشّحيح ورياضة النّفوس على دقائق المراقبة أعزّ من العَيُّوق (1) ملمساً، ومن الكبريت الأحمر وجوداً، فإن وجدتهم لم تجدهم أهل التدريس والفتوى والشهادة بين أهل اللّجاج والحضور عند أهل الخصومات، وإذا تأمّلت وجدت السّالم من جميع المعاصي من أهل الفتوى والتّدريس عديم الوجود.

فمن منهم الذي لا يسمع منه غيبة أحد، ولا يداهن على مثل ذلك [أحد](2) ، ويصدع بمرّ الحقّ في كلّ موقف، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يتخلّف عن إنكار منكر يجب إنكاره، ولا يتثاقل عن أداء واجب عليه لعدوّ، ولا يترخّص إن وجب عليه عداوة صديق، ولا يلين بالمداهنة لأمير، ولا يتكبر على فقير!!.

ولسنا نعتقد أنّ أهل هذه الصّفة غير موجودين، ولكن نعتقد أنّهم غير كافين للمسلمين في التّعليم والرّواية والقضاء والشّهادة، ومن أين لكلّ عاقد نكاح وبايع حقّ شاهدان كذلك؟ ومن أين لكلّ طالب علم من جميع طلبة الفنون، وكلّ طالب فتوى في جميع الأقطار من هو كذلك؟!!.

(1) العيّوق: نجم أحمر مضيء في طرف المجرّة الأيمن، يتلو الثريّا لا يتقدّمها. قاله في ((القاموس)):(ص/1179).

(2)

من (ي) و (س).

ص: 54

وأما النّقل: فعن الشّافعي رضي الله عنه أنّه قال (1): لو كان العدل من لا ذنب له لم نجد عدلاً، ولو كان كلّ مذنب عدلاً لم نجد مجروحاً، ولكنّ العدل من اجتنب الكبائر، وكانت محاسنه أكثر من مساويه، أو كما قال الشّافعي.

وقد روى النّووي في ((الرّوضة)) (2) عن الشّافعي هذا المعنى، ولم يحضرني لفظه/ ولا كتابه.

وروي عن أحمد بن حنبل -رضي الله تعالى عنه- أنّه قال: [إنّه](3) يعمل بالحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب من الحديث الصّحيح ما يدفعه (4) ، وعن أبي داود مثله (5).

ولهما حجّة فيما روي عن عليّ رضي الله عنه من تحليف من اتّهمه وقبول حديثه، وسيأتي بلفظه وأنّه حسن الإسناد (6).

وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أكثر من هذا في هذا في المعنى المقصود.

وبالجملة؛ فإنه أجاز قبول المجاهيل، وحكم لهم باسم العدالة متى كانوا من أهل الإسلام. وقد جاء في كلام عمر رضي الله عنه له

(1)((آداب الشافعي ومناقبه)): (ص/306) بنحوه، و ((الكفاية)):(ص/79).

(2)

((روضة الطالبين)): (11/ 225).

(3)

من (ي) و (س).

(4)

انظر: ((إعلام الموقعين)): (1/ 31)، و ((المسوّدة)):(ص/273).

(5)

((رسالته إلى أهل مكة)): (ص/25، 30).

(6)

(1/ 106) من هذا الكتاب.

ص: 55

حجّة، وهو قوله في كتابه إلى أبي موسى:((والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشّهادات، إلاّ مجلوداً في حدّ، أو مجرّباً عليه شهادة الزّور)) الحديث. رواه البيهقي (1) عن معمر البصري عن أبي العوّام عنه. وقال: ((وهو كتاب معروف)).

وأما كلام أصحاب المعترض: فقال عبد الله بن زيد، من علماء الزّيدية في كتابه ((الدّرر المنظومة)) في تفسير لفظ العدل:((ومعنى كونه عدلاً: أن يكون مؤدياً للواجبات مجتنباً للكبائر من المستقبحات)).

قال شيخ الاعتزال أبو الحسين البصري (2) في كتابه ((المعتمد)) (3) في تفسير لفظة العدل: ((وتعورف أيضاً فيمن تقبل روايته عن النّبي صلى الله عليه وسلم ، وهو من اجتنب الكبائر، والكذب، والمستخفّات من المعاصي والمباحثات)) ، ومثّل المستخفات من المعاصي: بالتّطفيف بحبّة، والمستخفّات من المباحات: بالأكل على الطريق.

ومن المنقول في ذلك عن فضلاء السّلف والخلف: ما اشتهر عنهم من وصفهم لأنفسهم بمقارفة الذّنوب والوقوع في المعاصي.

فروى الأعمش عن إبراهيم التّيمي عن أبيه قال: قال عبد الله

-يعني ابن مسعود-: ((لو تعلمون ذنوبي ما وطيء عقبي اثنان،

(1)((معرفة السنن والآثار)): (7/ 366)، وكذا في ((السنن الكبرى)):(10/ 150). وانظر (1/ 100 - 101) من هذا الكتاب.

(2)

هو: أبو الحسين محمد بن عليّ بن الطّيب البصري المعتزلي ت (436هـ). ترجمته في: ((تاريخ بغداد)): (3/ 100)، ((السير)):(17/ 587).

(3)

(2/ 617).

ص: 56

ولحثيتم على رأسي التراب، ولوددت أنّ الله غفر لي ذنباً من ذنوبي وأني دعيت: عبد الله بن روثة)) (1).

وروى الأعمش عن إبراهيم التّيمي عن الحارث بن سويد قال: أكثروا على عبد الله يوماً فقال: ((والله الذي لا إله غيره لو تعلمون [علمي] (2) لحثيتم التّراب على رأسي)) (3). قال الذّهبي في ((النبلاء)) (4): ((روي هذا من غير وجه عن ابن مسعود رضي الله عنه)).

قلت: هذا؛ وقد روى علقمة عن أبي الدرداء (5) أنّه قال: ((إنّ الله أجار ابن مسعود من الشّيطان على لسان نبيّه)).

وجاء من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ((لو كنت مؤمّراً أحداً من غير مشورة لأمّرت ابن أم عبد)) (6)، وجاء عنه عليه السلام: ((اهتدوا

(1) أخرجه البسوي في ((المعرفة والتاريخ)): (2/ 548)، والحاكم في ((المستدرك)):(3/ 326).

(2)

في (أ) و (ي): ((عملي)) والتصويب من مصادر الأثر.

(3)

أخرجه البسوي: (2/ 549)، وأبو نعيم في ((الحلية)):(1/ 133).

(4)

(1/ 495).

(5)

هذا سبق قلم من المصنّف رحمه الله فالذي جاء عن أبي الدّرداء، كما في ((صحيح البخاري)) (الفتح):(7/ 114)، وغيره: أنّ الله أجار عمّار بن ياسر من الشيطان، لا عبد الله بن مسعود.

(6)

أخرجه أحمد: (1/ 76 وغيرها)، والترمذي:(5/ 632)، وابن ماجه:(1/ 49). من حديث الحارث (الأعور) عن علي رضي الله عنه.

قال الترمذي: ((هذا حديث غريب إنما نعرفه من حديث الحارث عن علي)) اهـ.

والحارث: ضعيف، واتهمه بعضهم.

ص: 57

بهدي عمّار وتمسّكوا بعهد ابن أم عبد)) (1) وقال عليه السلام: ((رضيت لأمّتي ما رضي لها ابن أم عبد)) (2) رواه الثّوري وإسرائيل عن منصور (3). وأجمعت الأمّة على صحة حديثه وجلالة قدره.

فإذا كان مثل هذا الصّاحب الجليل يقسم بالله الذي لا إله إلا هو: لو يعلم النّاس ذنوبه لحثوا على رأسه التّراب، فكيف يشترط في العدل أن لا تبدو منه هفوة ولا يقع في معصية؟!.

وأعظم من هذا سؤال عمر بن الخطاب رضي الله عنه

(1) أخرجه الترمذي: (5/ 630)، والحاكم:(3/ 75) ، من حديث إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، قال: حدّثني أبي عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود به.

قال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، من حديث ابن مسعود لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، ويحيى بن سلمة يضعف في الحديث)) اهـ.

وقال الحاكم: ((إسناده صحيح))!.

وتعقّبه الذّهبي بقوله: ((سنده واهٍ)).

أقول: للحديث شواهد من حديث: حذيفة بن اليمان، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر. انظرها في ((السلسلة الصحيحة)) برقم (1233).

(2)

أخرجه الحاكم: (3/ 318)، وقال:((هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)) وأعلّه الحاكم والذّهبي بالإرسال.

وله شاهد من حديث أبي الدّرداء رضي الله عنه.

(3)

رواه الثوري وإسرائيل عن منصور مرسلاً، وخالفهم زائدة بن قدامة، فرواه عن منصور موصولاً.

ص: 58

لحذيفة، هل هو منافق؟ وقول حذيفة بعد تزكيته: لا أزكّي بعدك أحداً (1). ولم يخف/ عمر رضي الله عنه من النّفاق الذي هو الشّكّ في الإسلام، فإنّه يعلم براءة نفسه منه، بل نحن نعلم براءته رضي الله عنه[منه](2) بما شهد له به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضائل الكثيرة، والمناقب الكبيرة، وإنّما خاف رضي الله عنه من صغائر النّفاق الذي هو: خلف الموعد، وخيانة الأمانة، والكذب في الحديث، فإنّ المؤمن الورع قد يدخل عليه من صغائر بعض هذه الخصال ما يدقّ ولا يتفطّن له، وربما كان الغير (3) أبصر بعيب الإنسان منه.

وربّما قصد عمر تنبيه ضعفاء المسلمين على تفقّد أنفسهم، وجعل لهم بنفسه الكريمة أسوة حسنة حيث أتّهمها على أمر عظيم. وقد كان عمر رضي الله عنه إماماً في التّقوى والمراقبة، شديد المناقشة لنفسه والمحاسبة، وقد قال لبعض الصحابة: كيف وجدتموني؟ [قالوا](4):صالحاً، ولو زغت لقوّمناك. فقال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا زغت قوّموني (5) أو كما قالا.

(1) أخرجه الفسوي في ((تاريخه)): (2/ 769) ، وضعّفه، وردّ ذلك عليه الذهبي في ((الميزان)):(2/ 297)، وانظر:((كنز العمال)): (13/ 344)، ((السير)):(2/ 364).

(2)

من (ي) و (س).

(3)

في ((الأصل)): ((هذا الغير))!. والمثبت من (ي) و (س).

(4)

في (أ): ((قال)) ، والمثبت من (ي) و (س).

(5)

بنحوه في ((الرياض النّضرة في مناقب العشرة)): (1/ 325) للمحبّ الطبري.

ص: 59