المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أي: امنعه من الفساد. قال جرير: ..... أحكموا سفهاءكم ...... أي: - الزيادة والإحسان في علوم القرآن - جـ ٥

[محمد عقيلة]

فهرس الكتاب

- ‌النوع السادس والتسعون علم المحكم والمتشابه

- ‌فأما المحكم:

- ‌وأما المتشابه:

- ‌تنبيه: قال ابن اللبان: ليس من المتشابه قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [

- ‌النوع السابع والتسعون علم خاصّه وعامّه

- ‌ العام:

- ‌فصل: العام على ثلاثة أقسام:

- ‌الأول: الباقي على عمومه

- ‌الثاني: العام المراد به الخصوص

- ‌الثالث: العام المخصوص

- ‌ الخاص:

- ‌وحكمه:

- ‌فروع وفوائد تتعلق بالعموم والخصوص

- ‌فائدة: العطف على العام لا يقتضي العموم في المعطوف

- ‌فائدة: في الخطاب الخاص به

- ‌فائدة: اختلف في الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} هل يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌فائدة: الأصح في الأصول أن الخطاب

- ‌فائدة: المخاطب داخل في خطابه وإن كان خيرًا

- ‌النوع الثامن والتسعونعلم مشتركه ومؤوَّله

- ‌والمشترك:

- ‌وأما المؤوَّل:

- ‌فائدة: هل يجوز استعمال المشترك في كلا المعنيين مثلًا إذا احتمل الكلام ذلك

- ‌النوع التاسع والتسعونعلم ظاهره وخفيِّه

- ‌فالظاهر:

- ‌ الخفي

- ‌النوع المائةعلم نصه ومشكله

- ‌ النص

- ‌ المُشْكِل:

- ‌النوع الحادي والمائةعلم مفسره ومجمله

- ‌ المفسَّر:

- ‌ المجمل

- ‌وللإجمال أسباب:

- ‌فصل: قد يقع التبيين متصلًا

- ‌تنبيه: اختلف في آيات هل هي من قبيل المجمل أو لا

- ‌تنبيه: قال ابن الحصار: من الناس من جعل المجمل والمحتمل بإزاء شيء واحد

- ‌والمبهم:

- ‌النوع الثاني بعد المائةعلم منطوقه ومفهومه

- ‌ المنطوق:

- ‌المفهوم:

- ‌النوع الثالث بعد المائةعلم مطلقه ومقيده

- ‌ المطلق:

- ‌والفرق بين العام والمطلق:

- ‌النوع الرابع بعد المائةعلم مقدمه ومؤخره

- ‌ التأخير:

- ‌ أسباب التقديم وأسراره

- ‌النوع الخامس بعد المائةعلم ما أوهم التناقض والتعارض وليس بمتناقض ولا بمتعارض

- ‌فصل: قال الزركشي في البرهان للاختلاف أسباب:

- ‌فائدة: قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني إذا تعارضت الآي وتعذر فيها الترتيب والجمع

- ‌النوع السادس بعد المائةمعرفة وجوهه ونظائره

- ‌فصل: قال ابن فارس في كتاب الأفراد: كل ما في القرآن من ذكر الأسف فمعناه الحزن

- ‌فرع:

- ‌النوع السابع بعد المائةعِلْمُ وجوهِ مُخاطَباتِه

- ‌ ذكر ابن الجوزي في كتاب المدهش الخطاب في القرآن على خمسة عشر وجهًا.وقال غيره: على أكثر من ثلاثين وجهًا:

- ‌أحدها: خطاب العام

- ‌والثاني: خطاب الخاص والمراد به الخصوص

- ‌الثالث: خطاب العام والمراد به الخصوص

- ‌الرابع: خطاب الخاص والمراد به العموم

- ‌الخامس: خطاب الجنس

- ‌السادس: خطاب النوع

- ‌السابع: خطاب العي

- ‌الثامن: خطاب المدح

- ‌التاسع: خطاب الذم

- ‌العاشر: خطاب الكرامة

- ‌الحادي عشر: خطاب الإهانة

- ‌الثاني عشر: خطاب التهكم

- ‌الثالث عشر: خطاب الجمع بلفظ الواحد

- ‌الرابع عشر: خطاب الواحد بلفظ الجمع

- ‌الخامس عشر: خطاب الواحد بلفظ الاثني

- ‌السادس عشر: خطاب الاثنين بلفظ الواحد

- ‌السابع عشر: خطاب الاثنين بلفظ الجمع

- ‌الثامن عشر: خطاب الجمع بلفظ الاثنين

- ‌‌‌التاسع عشر: خطاب الجمع بعد الواحد

- ‌التاسع عشر: خطاب الجمع بعد الواحد

- ‌العشرون: عكسه وهو خطاب الواحد بعد الجمع

- ‌الحادي والعشرون: خطاب الاثنين بعد الواحد

- ‌الثاني والعشرون: عكسه أي خطاب الواحد بعد الاثنين

- ‌الثالث والعشرون: خطاب العين والمراد به الغير

- ‌الرابع والعشرون: خطاب الغير والمراد العين

- ‌الخامس والعشرون: الخطاب العام الذي لم يقصد به مخاطب مُعَيَّن

- ‌السادس والعشرون: خطاب الشخص ثم العدول إلى غيره

- ‌السابع والعشرون: خطاب التلوين وهو الالتفات

- ‌الثامن والعشرون: خطاب الجمادات خطاب من لا يعقل

- ‌التاسع والعشرون: خطاب التهييج

- ‌الثلاثون: خطاب التحنن والاستعطاف

- ‌الحادي والثلاثون: خطاب التحبب

- ‌الثاني والثلاثون: خطاب التعجيز

- ‌الثالث والثلاثون: خطاب التشريف وهو كل ما في القرآن مخاطبة بـ (قل) فإنه تشريف منه تعالى

- ‌الرابع والثلاثون: خطاب المعدوم ويصح ذلك تبعًا لموجود

- ‌فائدة: قال بعضهم خطاب القرآن ثلاثة أقسام قسم لا يصلح إلا للنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فائدة: قال ابن القيم: تأمل خطاب القرآن تجد ملِكًا له الملك كله وله الحمد كله

- ‌فائدة: قال بعض الأقدمين: أُنزل القرآن على ثلاثين نحوًا كل نحو منه غير صاحبه

- ‌النوع الثامن بعد المائةعلم ناسخه ومنسوخه

- ‌والنسخ:

- ‌ومعناه في العرف:

- ‌والناسخ:

- ‌والمنسوخ:

- ‌والناسخ أربعة أنواع:

- ‌ ونبدأ من أول كل سورة فيها منسوخ أو ناسخ بعدد

- ‌سورة البقرة مدنية

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة الأنفال

- ‌سورة التوبة

- ‌سورة يونس

- ‌سورة هود

- ‌سورة يوسف

- ‌سورة الرعد

- ‌سورة إبراهيم

- ‌سورة الحجر

- ‌سورة النحل

- ‌سورة الإسراء

- ‌سورة الكهف

- ‌سورة مريم

- ‌سورة طه

- ‌سورة الأنبياء

- ‌سورة الحج

- ‌سورة المؤمنون

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان

- ‌سورة الشعراء

- ‌سورة النمل

- ‌سورة القصص

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة الروم

- ‌سورة لقمان

- ‌سورة السجدة

- ‌سورة الأحزاب

- ‌سورة سبأ

- ‌سورة فاطر

- ‌سورة يس

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة ص

- ‌سورة الزمر

- ‌سورة غافر

- ‌سورة فصلت:

- ‌سورة الشورى

- ‌سورة الزخرف

- ‌سورة الدخان

- ‌سورة الجاثية

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة محمد

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة الفتح

- ‌سورة ق

- ‌سورة الذاريات

- ‌سورة الطور

- ‌سورة النجم

- ‌سورة القمر

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصف والجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التغابن

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة التحريم والملك

- ‌سورة القلم

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المرسلات، والنبأ، والنازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التكوير

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر إلى آخر سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة إلى آخر الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌سورة النصر إلى آخر المعوذتين

- ‌فوائد منشورة

- ‌تنبيه: حكى القاضي أبو بكر في (الانتصار)

- ‌تنبيه: قال ابن الحصار في هذا النوع إن قيل كيف يقع النسخ إلى غير بدل

- ‌النوع التاسع بعد المائةعلم حقيقته ومجازه

- ‌فصل: اختلف الناس في أنواع هل هي من الحقيقة أو المجاز

- ‌فائدة: من المجاز مجاز المجاز وجعل

- ‌فائدة: يوصف بعض الألفاظ بأنه حقيقة ومجاز باعتبارين

- ‌النوع العاشر بعد المائةعلم صريحه وكنايته

- ‌ الصريح

- ‌ الكناية

- ‌فائدة: للناس في الفرق بين الكناية والتعريض عبارات:

- ‌النوع الحادي عشر بعد المائةعلم تشبيه القرآن الكريم

- ‌فائدة: قال ابن أبي الأصبع: لم يقع في القرآن تشبيه شيئين بشيئين

- ‌فائدة: الأصل في المشبه أن يكون أدنى والمشبه به أعلى

- ‌النوع الثاني عشر بعد المائةعلم استعارته

- ‌ الاستعارة:

- ‌النوع الثالث عشر بعد المائةعلم أحوال المسند والمسند إليه

- ‌وأما علم المعاني فيشتمل على أبحاث ثمانية:

الفصل: أي: امنعه من الفساد. قال جرير: ..... أحكموا سفهاءكم ...... أي:

أي: امنعه من الفساد. قال جرير: ..... أحكموا سفهاءكم ......

أي: امنعوهم.

وبناء محكم: أي وثيق يمنع من تعرَّض له.

وسميت الحكمة حكمة: لأنها تمنع مما لا ينبغي.

‌وأما المتشابه:

فهو أن يكون أحد الشيئين مشابهًا للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز. قال الله تعالى:{إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا (70)} [البقرة: 70]،

ص: 9

وقال في وصف ثمار الجنة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا (25)} [البقرة: 25] أي متفق المنظر مختلف الطعوم، وقال تعالى:{تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ (118)} [البقرة: 118]

ومنه يقال: اشتبه عليّ الأمران، إذا لم يفرق بينهما. ويقال لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه .............

ص: 10

وقال عليه الصلاة والسلام: «الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أمور مُتَشَابِهَاتٌ» ، وفي رواية:(مُشْتَبِهَاتٌ).

ونظيره: المشكل، سمي بذلك لأنه أشكل، أي: دخل في شكل غيره فأشبهه وشاكله.

ص: 11

ثم يقال لكل ما غمض -وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة- مشكل.

ويحتمل أن يقال: إنه الذي لا يُعرَف أن الحق ثبوته أو عدمه، وكان الحكم بثبوته مساويًا للحكم بعدمه في العقل والذهن، ومشابهًا له، وغير متميز أحدهما عن الآخر بمزيد رجحان، فلا جرم أن سمي غير المعلوم بأنه متشابه.

فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة.

وأما في عرف العلماء فنقول: الناس قد أكثروا من الوجوه في تفسير (المحكم والمتشابه)، ونحن نذكر الوجه الملخص الذي عليه أكثر المحققين، ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه، فنقول: اللفظ الذي جُعل موضوعًا لمعنى، فإما أن يكون محتملًا لغير ذلك المعنى، وإما أن لا يكون، فإن كان اللفظ موضوعًا لمعنى، ولا يكون محتملًا لغيره فهذا هو النص، وأما إن كان محتملًا لغيره فلا يخلو: إما أن يكون احتماله لأحدهما راجحًا على الآخر، وإما أن لا يكون كذلك، بل يكون احتماله

ص: 12

لهما على السوية. فإن كان احتماله لأحدهما راجحًا على الآخر سمي ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهرًا، وبالنسبة إلى المرجوح مؤوَّلًا. وأما إن كان احتماله لهما على السوية: كان اللفظ بالنسبة إليهما معًا: مشتركًا، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملًا.

فقد خرج من التقسيم الذي ذكرناه: أن اللفظ إما أن يكون (نصًا) أو (ظاهرًا) أو (مؤولًا) أو (مشتركًا) أو (مجملًا).

أما النص الظاهر: فيشتركان في حصول الترجيح، إلا أن (النص) راجح مانع من الغير، و (الظاهر) راجح غير مانع من الغير.

فهذا القدر المشترك هو المسمى بـ: (المحكم).

وأما (المجمل) و (المؤوَّل): فهما مشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة.

فهذا القدر المشترك المسمى بـ (المتشابه)، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعًا.

ص: 13

وقد بيَّنا أن ذلك سمي متشابهًا: إمّا لأن الذي لا يعلم يكون النفي مشابهًا للإثبات في الذهن، وإمّا لأجل أن الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم، فَأُطْلِقَ لفظُ المتشابهِ على ما لا يُعْلَم، إطلاقًا لاسم السبب على المسبب.

فهذا هو الكلام المحصل في المحكم والمتشابه.

ثم اعلم أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية، فها هنا يتوقف الذهن، مثل:(القرء) بالنسبة إلى الحيض و (الظهر). وإنما المشكل

ص: 14

أن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحًا في (أحد) المعنيين، ومرجوحًا في الآخر ثم كان الراجح باطلًا والمرجوح حقًا.

ومثاله من القرآن قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} [الإسراء: 16]، فظاهر هذا الكلام أنهم يؤُمرون بأن يفسقوا،

ص: 15

ومحكمه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ (28)} [الأعراف: 28]، ردًا على الكفار فيما حكى عنهم:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا (28)} [الأعراف: 28]

وكذلك قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ (67)} [التوبة: 67]، وظاهر النسيان ما يكون ضدًا للعلم، ومرجوحه الترك، والآية المحكمة فيه قوله تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: 64]

وقوله تعالى: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه: 52]

واعلم أن هذا موضع عظيم فنقول: إنَّ كل أحد من أصحاب المذاهب يدَّعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، وأن الآيات الموافقة لقول خصمه متشابهة، فالمعتزلي يقول: قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (29)} [الكهف: 29]، محكم، وقوله:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 29]، متشابه.

والسني يقلب الأمر في ذلك، فلا بدّ هاهنا من قانون يرجع إليه في هذا الباب، فنقول: اللفظ إذا كان محتملًا لمعنيين، وكان بالنسبة إلى أحدهما راجحًا، وبالنسبة إلى الآخر مرجوحًا، فإن حملناه على الراجح ولم نحمله على المرجوح فهذا هو (المحكم)، وإن حملناه على المرجوح ولم نحمله على الراجح فهذا هو (المتشابه). ونقول: صرف اللفظ من الراجح إلى

ص: 16

المرجوح لا بدّ فيه من دليل منفصل، وذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظيًا وإما أن يكون عقليًا.

أما القسم الأول، فنقول: هذا إنما يتم إذا حصل بين ذينك الدليلين اللفظين تعارض، فليس ترك أحدهما رعاية لظاهر الآخر أولى من العكس، اللهم إلا أن يقال: أن أحدهما قاطع في دلالته، والآخر غير قاطع، فحينئذٍ يحصل الرجحان أو يقال لكل واحد منهما وإن كان راجحًا إلا أن أحدهما يكون أرجح، وحينئذٍ يحصل الرجحان، إلا أن نقول: أما الأول: فباطل، لأن الدلائل اللفظية لا تكون قاطعة البتة. لأن كل دليل لفظي فإنه موقوف على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وموقوف على عدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم التخصيص، وعدم الإضمار، وعدم المعارض النقلي والعقلي، وكل ذلك مظنون، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونًا، فثبت أن شيئًا من الدلائل اللفظية لا يكون قاطعًا.

وأما الثاني: وهو أن يقال: أحد الدليلين أقوى من الدليل الثاني، وإن كان أصل الاحتمال قائمًا فيهما معًا، فهذا صحيح، ولكن على هذا التقدير يصير صرف الدليل اللفظي عن ظاهره إلى المعنى المرجوح ظنيًا، ومثل هذا لا يجوز التعديل عليه في المسائل الأصولية، بل يجوز التعويل عليه في المسائل الفقهية. فثبت بما ذكرنا أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلا عند قيام الدليل القطعي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال، وقد علمنا في الجملة أن استعمال اللفظ في معناه المرجوح جائز عند تعذر حمله على ظاهره، فعند هذا

ص: 17

تعين التأويل. فظهر أنه لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلية القاطعة على أن معناه الراجح محال عقلًا.

ثم إذا قامت هذه الدلالة، وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذا اللفظ ما أشهر بع ظاهره، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح -الذي هو المراد- ماذا؟ لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز، وترجيح تأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية، والدلائل اللفظية -على ما بينا- ظنية، لا سيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في غاية الضعف، والتعويل على مثل هذه الدلائل اللفظية في المسائل القطعية محال.

فلهذا: التحقيق المتين مذهبًا، أن بعد إقامة الدلالة العقلية على أن حمل اللفظ على ظاهره محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل. فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب. والله ولي الهداية والرشاد.

المسألة الثانية: في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه: فالأول: ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المحكمات: هي الثلاث الآيات في سورة (الأنعام): {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ

} إلى آخر الآيات الثلاث.

ص: 18

والمتشابهات: هي التي تشابهت على اليهود، وهي أسماء حروف التهجي المذكورة في أوائل السور. وذلك أنهم أوَّلوها على حساب الجُمَّل، فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة، فاختلط الأمر عليهم واشتبه.

ص: 19

وأقول: التكاليف الواردة من الله تعالى تنقسم إلى قسمين: منها: ما لا يجوز أن يتغير بشرع وشرع وذلك كالأمر بطاعة الله تعالى، والاحتراز عن الظلم والكذب، والجهل، وقتل النفس بغير حق.

ومنها: ما يختلف بشرع وشرع كأعداد الصلوات، ومقادير الزكوات، وشرائط البيع، والنكاح، وغير ذلك.

فالقسم الأول: هو المسمى بالمحكم عند ابن عباس رضي الله عنهما لأن الآيات الثلاث في سورة (الأنعام) مشتملة على هذا التقسيم.

وأما المتشابه: فهو الذي سميناه بالمجمل، وهو ما يكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية، إلا بدليل منفصل على ما لخَّصناه في أول سورة (البقرة).

ص: 20

والقول الثاني: وهو أيضًا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن المحكم: هو الناسخ، والمتشابه: هو المنسوخ.

والقول الثالث: قال الأصم: المحكم هو الذي تكون دلائله واضحة

ص: 21

لائحة. مثل: ما أخبر الله تعالى من إنشاء الخلق في قوله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: 14]، وقوله:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وقوله تبارك اسمه:{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22]

والمتشابه: ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل نحو: الحكم بأنه تعالى يبعثهم بعد أن صاروا ترابًا. ولو تأملوا لصار المتشابه عندهم محكمًا؛ لأن من قدر على الإنشاء أولًا قدر على الإعادة ثانيًا.

واعلم أن كلام الأصم غير ملخص، فإنه إن عّني بقوله:(المحكم: ما تكون دلائله واضحة) أن المحكم: هو الذي تكون دلالة لفظه على معناه متعينة راجحة، والمتشابه: ما لا يكون كذلك وهو: إما المجمل المتساوي، أو المؤول المرجوح، فهذا هو الذي ذكرناه أولًا.

وإن عني به: أنه الذي تعرف صحة معناه من غير دليل، يصير (المحكم) على قوله: ما تعلم صحته بضرورة العقل، و (المتشابه): ما تعلم صحته بدليل العقل.

ص: 22

وعلى هذا يصير جملة القرآن متشابهًا، لأن قوله تعالى:{خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: 14]

أمر يحتاج إلى معرفة صحته إلى الدلائل العقلية، وإن أهل الطبيعة يقولون: السبب في ذلك الطبائع والفصول، وتأثيرات الكواكب، وتركيبات العناصر وامتزاجها. وكما أن إثبات الحشر والنشر يفتقر إلى الدليل، فكذلك إسناد هذه الحوادث إلى الله يفتقر إلى الدليل.

ولعل الأصم يقول: هذه الأشياء وإن كانت كلها مفتقرة إلى الدليل إلا أنها تنقسم إلى ما يكون الدليل فيه ظاهرًا، بحيث تكون مقدماته قليلة ومرتبة، ومنسقة، يؤمن الغلط فيها إلا نادرًا، ومنه ما يكون الدليل فيه خفيًا كثير المقدمات، غير مرتبها. فالقسم الأول هو (المحكم) والثاني هو (المتشابه).

والقول الرابع: أن كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء أكان ذلك بدليل جلي أو بدليل خفي فذاك هو: (المحكم).

وكل ما لا سبيل إلى معرفته فذاك هو (المتشابه). وذلك كالعلم بوقت قيام القيامة، والعلم بمقادير الثواب والعقاب في حق كل المكلفين. ونظيره قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [النازعات: 42]

ص: 23

المسألة الثالثة: في الفوائد التي لأجلها جعل بعض القرآن (محكمًا)، وبعضه (متشابهًا).

واعلم أن من الملاحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات، وقال: إنكم تقولون: إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيان الساعة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه.

فالجبري: يتمسك بآيات الجبر، كقوله تعالى:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25]

والقدري يقول: بل هذا مذهب الكفار، بدليل أن الله حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله تعالى:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5]، وفي موضع آخر:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88]

ص: 24

وأيضًا مثبت الرؤية يتمسك بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 24]، والنافي يتمسك بقوله:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، ومثبت الجهة متمسك بقوله:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، وبقوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. والنافي متمسك بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. ثم إن كل أحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه: (محكمة)، والآيات المخالفة لمذهبه (متشابهة). وربما آل في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة. فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب -الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام القيامة- هكذا؟ ! أليس أنه لو جعله ظاهرًا جليًا نقيًا عن هذه المتشابهات، كان أقرب إلى حصول الغرض؟ !

واعلم أن العلماء ذكروا في فوائد المتشابهات وجوهًا: الوجه الأول: أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب. قال الله تعالى: {أَمْ

ص: 25

حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]

الوجه الثاني: لو كان القرآن محكمًا بالكلية لما كان مطابقًا إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلًا لكل ما سوى ذلك المذهب. وذلك مما ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله، والنظر فيه، والاستمتاع به. أما لما كان مشتملًا على المحكم والمتشابه، فحينئذٍ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مذهبه، ويؤيد مقالته، فحينئذٍ ينظر فيه جميع المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب. وإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات.

فبهذا الطريق يتلخص المبطل عن باطله ويصل إلى الحق.

الوجه الثالث: أن القرآن إذا كان مشتملا على (المحكم) و (المتشابه)،

ص: 26

افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذٍ يتلخص عن ظلمة التقليد ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة.

أما لو كان كله محكمًا، لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية، فحينئذٍ كان يبقى في الجهل والتقليد.

الوجه الرابع: أن القرآن لما كان مشتملًا على المحكم والمتشابه، افتقر الناظر فيه إلى تعلم طرق التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة، والنحو، وعلم أصول الفقه. ولو لم يكن الأمر كذلك، ما كان يحتاج الإنسان إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة.

فكان في إيراد المتشابهات هذه الفوائد الكثيرة.

الوجه الخامس: السبب الأقوى في هذا الباب: أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخاص والعام بالكلية، وطبائع العلوم تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم، ولا بمتحيز، ولا بمشار إليه، ظن أن هذا عدم، فنفى، فوقع في التعطيل. فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه وتخيَّلوه، يكون ذلك مخلوطًا بما يدل على الحق الصريح.

فالقسم الأول: -وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر- يكون من

ص: 27

باب (المتشابهات).

والقسم الثاني: -وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر- هو (المحكم).

فهذا ما حضرنا في هذا الباب، والله أعلم بمراده.

وإذا عرفت هذه المباحث، فلنرجع إلى التفسير.

أما قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 7]، فالمراد: القرآن.

{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7]، وهي التي تكون مدلولاتها متأكدة، إمَّا بالدلائل العقلية القاطعة، وذلك في المسائل القطعية، أو تكون مدلولاتها خالية عن معارضات أقوى منها. ثم قال: هن أم الكتاب. وفيه سؤالان: السؤال الأول: ما معنى كون المحكم (أُمَّا) للمتشابه؟

ص: 28

الجواب: الأم في حقيقة اللغة: الأصل الذي يتكون منه الشيء. فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات، لا جرم صارت المحكمات كالأم للمتشابهات. وقيل: وإنما جرى في الإنجيل من ذكر الأب هو أنه قال: الباري تعالى القديم المكون للأشياء الذي به قامت الخلائق، وبه ثبتت إلى أن يفنيهما.

فعبر عن هذا المعنى بلفظ الأب من جهة أن الأب هو الذي حصل منه تكوين الابن. ثم وقع في الترجمة ما أوهم الأبوة الواقعة من جهة الولادة.

فكان قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} [مريم: 35].

محكم، معناه متأكد بالدلائل العقلية القطعية. فكان قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ

} [النساء: 171]،

ص: 29

من المتشابهات التي يجب ردها إلى ذلك المحكم.

السؤال الثاني: لِمَ قال: {أُمُّ الْكِتَابِ} ولم يقل: (أمهات) الكتاب؟

والجواب: أن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد، ومجموع المتشابه في تقدير شيء آخر، وأحدهما أم الآخر. ونظيره قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ولم يقل آيتين، وإنما قال ذلك: على معنى أن مجموعهما آية واحدة. فكذا هاهنا.

ثم قال: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} ، وقد عرفت حقيقة المتشابه. قال الخليل وسيبويه: إن (أُخر) فارقت أخواتها في حكم واحد، وذلك أن (أُخر)

ص: 30

جمع أخرى، و (أخرى) تأنيث آخر، و (آخر) على وزن (أفعل)، وما كان على وزن (أفعل) فإنه يستعمل مع (من)، أو بالألف واللام، فيقال: زيد أفضل من عمرو، وزيد الأفضل من عمرو، فالألف واللام معاقبتان لـ (من) في باب (أفعل).

فكان القياس أن يقال: زيد آخر من عمرو، أو يقال: زيد الآخر من عمرو، إلا أنهم حذفوا منه لفظة:(من)؛ لأن لفظه اقتضى معنى (من) فأسقطوا اكتفاء بدلالة اللفظ عليه، والألف واللام معاقبتان لـ (من)، فسقط الألف واللام أيضًا. فلما جاز استعماله بغير الألف واللام صار (أخر)، ف (أخر) جمعه، فصارت هذه اللفظة معدولة عن حكم نظائرها في سقوط الألف واللام عن جمعها ووحدانها.

ثم قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7]

اعلم أنه تعالى لما بيَّن أن الكتاب ينقسم إلى قسمين: منه محكم، ومنه متشابه، بيَّن أن أهل الزيغ لا يتمسكون إلا بالمتشابه. و (الزيغ): الميل عن

ص: 31

الحق. يقال: زاغ زيغًا، أي: مال ميلًا. واختلفوا في هؤلاء الذين أريدوا بقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7]، قال الربيع: هم وفد نجران لما حاجوُّا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا: أليس هو كلمة الله وروح منه؟ قال: بلى، قالوا: حسبنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ثم أنزل:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59]

وقال الكلبي: هم اليهود طلبوا علم بقاء هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة في أوائل السور.

ص: 32

وقال قتادة والزجاج: هم الكفار الذين ينكرون البعث، لأنه قال في آخر الآية:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، وما ذاك إلا وقت قيام القيامة، فإنه تعالى أخفاه عن كل الخلائق، حتى الملائكة،

ص: 33

والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وقال المحققون: إن هذا يعم جميع المبطلين، وكل من احتج لباطله بالمتشابه، لأن اللفظ عام، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، فيدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه، ومن جملته ما وعد الله به الرسول صلى الله عليه وسلم من النصرة، وما أوعد الكفار من النقمة، الذين يقولون:{ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 29] و {لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} [سبأ: 3] و {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} [الحجر: 7] فموَّهوا الأمر على الضعفة.

ويدخل في هذا الباب استدلال المشتبهة بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، فإنه لما ثبت بصريح العقل أن كل ما كان مختصًا بالخير فإما أن يكون في الصغر كالجزء الذي لا يتجزأ، وهو باطل بالاتفاق.

وإما أن يكون أكبر، فيكون منقسمًا مركبًا، وكل مركب فإنه ممكن، ومحدث.

ص: 34

فهذا الدليل الظاهر يمنع أن يكون الإله في مكان. فيكون قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} من المتشابه. فمن تمسك به كان متمسكًا بالمتشابهات.

ومن جملة ذلك: استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل

ص: 35

بالكلية إلى العبد. فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي، وثبت أن حصول ذلك الداعي من الله، وثبت أنه متى كان الأمر كذلك، كان حصول الفعل عند تلك الداعية واجبًا، وعدمه عند عدم هذا الداعي واجبًا. فحينئذٍ بطل ذلك التفويض، وثبت أن الكل بقضاء الله تعالى وقدره، ومشيئته. فيصير استدلال المعتزلة بتلك الظواهر -وإن كثرت- استدلالًا بالمتشابهات. فبين تعالى في كل هؤلاء الذين يعرضون عن الدلائل القاطعة ويقتصرون على الظواهر الموهمة أنهم يتمسكون بالمتشابهات، لأجل أن في قلوبهم زيغًا عن الحق، وطلبًا لتقرير الباطل.

واعلم أنك لا ترى طائفة في الدنيا إلا وتسمي الآيات المطابقة لمذهبهم محكمة، والآيات المطابقة لمذهب خصمهم متشابهة.

ص: 36

ثم يهول الأمر في ذلك. ألا ترى إلى الجبائي فإنه يقول: المجبرة الذين يضيفون الظلم، والكذب، وتكليف ما لا يطاق إلى الله، هم المتمسكون بالمتشابهات. وقال أبو مسلم الأصفهاني:(الزائغ): الطالب للفتنة، وهو من يتعلق بآيات الضلالة، ولا يتأول على المحكم الذي بيَّنه الله -جل شأنه- بقوله:{وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه: 85]، {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 79]، {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]، وفسروا أيضًا قوله:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16] على أنه -تعالى- أهلكهم وأراد فسقهم، وأن الله -تعالى- يطلب العلل على خلقه

ص: 37

ليهلكهم، مع أنه -تعالى- قال:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} [النساء: 26]

وتأولوا قوله تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل: 4] على أنه تعالى زين لهم أنعُمَه. ونقضوا بذلك ما في القرآن، كقوله تعالى:{نَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، وقال تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، وقال تعالى:{فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [يونس: 108]، وقال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]، فكيف يزين النعمة؟ ! فهذا ما قاله أبو مسلم. وليت شعري لِمَ حكم على الآيات الموافقة لمذهبه بأنها محكمات، وعلى الآيات المخالفة لذلك بأنها متشابهات؟ !

ولم أوجَبَ في تلك الآيات المطابقة لمذهبه إجراءَها على الظاهر، وفي الآيات المخالفة لمذهبه صرفها عن الظاهر؟ !

ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالرجوع إلى الدلائل العقلية. فإذا دلت على بطلان مذهب المعتزلة -الأدلة العقلية الباهرة- فإن مذهبهم لا يتم إلا إذا قلنا بأنه صدر عن أحد الفعلين دون الثاني من غير مرجح، وذلك تصريح بنفي الصانع، ولا يتم إلا إذا قلنا بأنه -سبحانه- ما كان

ص: 38

عالمًا بكيفيات الأعمال في الأزل وذلك تصريح بتجهيل الصانع، ولا يتم إلا إذا قلنا بأن صدور الفعل المحكم المتقن عن العبد لا يدل على علم فاعله به. فحينئذٍ يكون قد تخصص ذلك العدد بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا بمخصص وذلك نفي للصانع.

ويلزم أيضًا أن لا يدل صدور الفعل المحكم على كون الفاعل عالمًا، وحينئذٍ يفسد الاستدلال بأحكام أفعال الله تعالى على كون فاعلها عالمًا. ولو أن أهل السموات والأرض اجتمعوا على هذه الدلائل لم يقدروا على دفعها، فإذا لاحت هذه الجلائل العقلية الباهرة، فكيف يجوز للعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه؟ ! فظهر بما ذكرناه، أن القانون المستمر عند جمهور الناس، أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة، وكل آية تخالفه فهي المتشابه.

وأما المحقق المنصف فإنه يجد الأمر في الآيات على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يتأكد ظاهرها بالأدلة العقلية، فذاك هو المحكم حقًا.

وثانيها: الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها، فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهر.

وثالثها: الذي لم يوجد مثل هذا الدليل على طرفي ثبوته وانتفائه، فيكون فرضه التوقف، ويكون ذلك متشابهًا، بمعنى أن الأمر اشتبه فيهـ ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر، إلا أن الظن الراجح حصل في إجرائها على ظواهرها. فهذا ما عندي في هذا الباب.

ص: 39

واعلم أنه تعالى لما بيَّن أن الزائغين يتبعون المتشابه، بيَّن أن لهم فيه غرضين: فالأول: قوله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} .

والثاني: قوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} .

فأما الأول: فاعلم أن الفتنة في اللغة: الاستهتار بالشيء والغلو فيه.

يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا، أي: قد غلا في طلبها وتجاوز القدر.

وذكر المفسرون في تفسير هذه (الفتنة) وجوهًا: أولها: قول الأصم: إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين، صار بعضهم مخالفًا للبعض في الدين، وذلك يفضي إلى التقاتل، والهرج والمرج، فذاك هو (الفتنة).

وثانيها: أن التمسك بذاك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه، فيصير مفتونًا بذلك الباطل، عاكفًا عليه، لا ينقلع عنه بحيلة البتة،

ص: 40

وثالثها: أن الفتنة في الدين هو الضلال عنه، ومعلوم أنه لا فتنة ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه.

وأما الغرض الثاني لهم، وهو قوله تعالى:{وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]: فاعلم أن (التأويل) هو التفسير. وأصله في اللغة: المرجع والمصير من قولك: آل الأمر إلى كذا، إذا صار إليه، وأولته تأويلًا: إذا صيرته إليه. هذا معنى التأويل في اللغة. ثم يسمى (التفسير) تأويلًا، قال تعالى:{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78]، وقال تعالى:{وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}

ص: 41

[النساء: 59]، وذلك لأنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ في المعنى.

واعلم أن المراد منه: أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان، مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم؟ وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون؟ !

قال القاضي: هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين: أحدهما: أن يحملوه على غير الحق، وهو المراد من قوله:{ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} .

والثاني: أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه وهو المراد من قوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} . ثم بيَّن تعالى ما يكون زيادة في ذم طريقة هؤلاء الزائغين فقال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} .

ص: 42

واختلف في هذا الموضع: فمنهم من قال: تم الكلام ههنا. ثم (الواو) في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، واو ابتداء. وعلى هذا القول لا يعلم المتشابه إلا الله. هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وعائشة، ومالك بن أنس، والكسائي، والفراء. ومن المعتزلة: قول أبي علي الجبائي وهو المختار عندنا.

والقول الثاني: أن الكلام إنما يتم عند قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وعلى هذا القول: يكون العلم بالمتشابه حاصلًا عند الله وعند الراسخين في العلم.

وهذا القول أيضًا مروى عن ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن أنس، وأكثر المتكلمين.

ص: 43

والذي يدل على صحة القول الأول وجوه: الحجة الأولى: أن اللفظ إذا كان له معنى ظاهر، ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد، علمنا أن مراد الله تعالى بعض مجازات تلك الحقيقة، والمجازات كثيرة. وترجُّح البعض على البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية. والترجيحات اللغوية لا تفيد إلا الظن الضعيف، فإذا كانت المسألة قطعية يقينية، كان القول فيها بالدلائل الظنية الضعيفة غير جائز.

مثاله: قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

ثم قال الدليل القاطع على أن مثل هذا التكليف قد وجه على ما بيناه بالبراهين الخمسة في تفسير هذه الآية علمنا أن مراد الله تعالى ليس ما يدل عليه ظاهر هذه الآية فلا بدّ من صرف اللفظ إلى بعض المجازات، وفي المجازات كثرة، وترجيح بعض على بعض لا يكون إلا بالتراجيح اللغوية، ولا تفيد إلا الظن الضعيف. وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية، فوجب أن يكون القول فيها بالدلائل الظنية باطلًا.

وأيضًا قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، ودل الدليل على

ص: 44

أنه يمتنع أن يكون الإله في المكان، فعرفنا أنه ليس مراد الله من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها، إلا أن في مجازات هذا اللفظ كثرة فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالتراجيح اللغوية الظنية والقول بالظن في ذات الله تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين. وهذه حجة قاطعة في المسألة. والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه والفطرة الأصلية تشهد بصحته.

الحجة الثانية: وهو أن ما قيل: هذه الآية تدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم حيث قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} . ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزًا لما ذم الله تعالى ذلك.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد منه طلب وقت قيام الساعة، كما في قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187] وأيضًا: طلب مقادير الثواب والعقاب وطلب ظهور الفتح والنصرة كما قالوا: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} [الحجر: 7]

قلنا: أنه تعالى لما قسم الكتاب إلى قسمين: (محكم)، و (متشابه)، ودل العقل على صحة هذه القسمة من حيث أن حمل اللفظ على معناه الراجح (محكم) وحمله على معناه الذي ليس براجح (المتشابه) ثم إنه تعالى ذم طريقة من طلب تأويل المتشابه كان تخصيص ذلك ببعض المتشابهات دون البعض تركًا للظاهر وهو لا يجوز.

الحجة الثالثة: أن الله تعالى مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنَّا

ص: 45

به، وقال في أول سورة البقرة:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 26]، فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح، لأن كل من عرف شيئًا على سبيل التفصيل فإنه لا بدّ وأن يؤمن به. إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا -بالدلائل القطعية- أن الله عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها -من الكليات والجزئيات- وعلموا أن القرآن كلام الله وعلموا أنه لا يتكلم بالباطل والعبث فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل القاطعة على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مرادًا لله تعالى، علموا أن المراد الله تعالى منه غير ذلك الظاهر، ثم فوَّضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه، وقطعوا بأن ذلك المعنى -أي شيء كان- فهو الحق والصواب. فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله، بحيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر، ولا عدم علمهم بالمراد على التعيين، عن الإيمان بالله، والجزم بصحة القرآن.

الحجة الرابعة: لو كان قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، معطوفًا على قوله:{إِلَّا اللَّهُ} ، لصار قوله:{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ابتداء، وهو بعيد عن ذوق

ص: 46

الفصاحة، بل كان الأولى أن يقال: وهم يقولون آمنا به، أو يقال: ويقولون آمنا به. فإن قيل: في تصحيحه وجهان: الأول: أن قوله: (يقولون) كلام مبتدأ، والتقدير: هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون: (آمنا به).

والثاني: أن يكون: (يقولون) حالًا من الراسخين.

قلنا: أما الأول: فمدفوع، لأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الإضمار أولى من تفسيره بما يحتاج معه إلى الإضمار.

والثاني: أن هذا الحال هو الذي تقدم ذكره. وههنا تقدم ذكر الله وذكر الراسخين في العلم، فوجب أن يجعل قوله:{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} حالا من الراسخين، لا من الله، فيكون ذلك تركًا للظاهر. فثبت أن ذلك المذهب لا يتم إلا بالعدول عن الظاهر. ومذهبنا لا يحتاج إليه. فكان هذا القول أولى.

الحجة الخامسة: قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، يعني أنهم آمنوا بما عرفوا على التفصيل، وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله. ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة.

الحجة السادسة: نقل عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يسع أحدًا جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله.

ص: 47

وسئل مالك بن أنس -رضي الله تعالى عنه- فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

وقد ذكرنا بعض هذه المسألة في أول سورة البقرة. فإذا ضم ما ذكرناه ههنا إلى ما ذكرناه هناك تم الكلام في هذه المسألة.

ثم قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، وفيه مسائل: المسألة الأولى: الرسوخ في اللغة: الثبوت في الشيء.

واعلم أن الراسخ في العلم هو الذي عرف ذات الله تعالى وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية. وعرف أن القرآن كلام الله بالدلائل اليقينية. فإذا

ص: 48

رأى متشابهًا، وقد دل الدليل القاطع على أن ظاهره ليس مرادًا لله تعالى، علم حينئذٍ قطعًا أن مراد الله شيء آخر سوى ما دل عليه ظاهره، وأن ذلك المراد حق، ولا يصير كون ظاهره مردودًا شبهة في الطعن في صحة القرآن.

ثم حكى عنهم أيضًا: {يَقُولُونَ

كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، والمعنى: أن كل واحد من المحكم والمتشابه من عند ربنا. وفيه سؤالان: السؤال الأول: لو قال: (كل من ربنا) كان صحيحًا، فما الفائدة في لفظ:(عند)؟

الجواب: الإيمان بالمتشابه يحتاج إلى زيادة التأكيد، فذكر كلمة (عند) لمزيد التأكيد.

السؤال الثاني: لمَ جاز حذف المضاف إليه من (كل)؟

الجواب: لأن دلالته على المضاف قوية، فبعد الحذف الأمن من اللبس حاصل.

ثم قال تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . وهذا ثناء من الله تعالى

ص: 49

على الذين قالوا: آمنا. ومعناه: ما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة، فصار هذا الوصف كالدلالة على أنهم يستعملون عقولهم في فهم القرآن فيعلمون ما الذي يطابق ظاهره دلائل العقول، فيكون محكمًا؟ أو ما الذي يخالف ظاهره دلائل العقول فيكون متشابهًا؟ ثم يعلمون أن الكل: كلام من لا يجوز في كلامه التناقض والباطل، فيعلمون أن ذلك المتشابه لا بدّ وأن يكون له معنى صحيح عند الله.

وهذه الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية، ويتوسلون بها إلى معرفة ذات الله تعالى، وصفاته، وأفعاله، ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول، ويوافق اللغة والإعراب.

ص: 50

واعلم أن الشيء كلما كان أشرف، كان ضده أخس. فلما كان مفسر القرآن موصوفًا بهذه الصفة كانت درجته هذه الدرجة العظمى التي عظم الله الثناء عليها. وكذلك من تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحرًا في علم الأصول وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن الله ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«من فسَّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» .

قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]

اعلم أنه تعالى كما حكى عن الراسخين بأنهم: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ، حكى أنهم يقولون:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ، وحذف {يَقُولُونَ} لدلالة الأول عليه.

كما في قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191]

ص: 51

وفي هذه الآية: اختلف كلام أهل السنة وكلام المعتزلة.

أما كلام أهل السنة فظاهر، وذلك لأن القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان، وصالح لأن يميل إلى الكفر، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين إلا عند حدوث داعية وإرادة يحدثها الله تعالى. فإن كانت تلك الداعية: داعية الكفر فهي: الخذلان، والإزاغة، والصد، والختم، والطبع، والرين، والقسوة، والوقر، والكنان، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن.

وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان فهي: التوفيق، والإرشاد، والهداية، والتسديد، والتثبت، والعصمة، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن.

وكان رسول صلى الله عليه وسلم يقول: «قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن» .

ص: 52

والمراد من هذين الأصبعين: الداعيتان. وكما أن الشيء الذي يكون بين أصبعي الإنسان يقلبه الإنسان بواسطة تينك الأصبعين، فكذلك القلب، لكونه بين الداعيتين يتقلب، كما يقلبه الحق بواسطة تينك الداعيتين. ومن أنصف ولم يتعسف، وجرب نفسه وجد هذا المعنى كالشيء المحسوس.

ولو جوز حدوث إحدى الداعيتين من غير محدث ومؤثر، لزم

ص: 53

نفي الصانع.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك» ، ومعناه ما ذكرناه. فلما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إليه سبحانه في أن لا يجعل قلبهم مائلًا إلى الباطل بعد أن جعله مائلًا إلى الحق. فهذا كلام برهاني متأكد بتحقيق قرآني. ومما يؤكد ما ذكرنا أن الله تعالى مدح هؤلاء المؤمنين بأنهم لا يتعبون المتشابهات. بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال، وترك الخوض فيها. فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه، فلا بدّ وأن يكونوا قد تكلموا بهذا الدعاء، لاعتقادهم أنه من المحكمات.

ثم إن الله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم، والثناء عليهم، لسبب أنهم قالوا ذلك. وهذا يدل على أن الآية من أقوى المحكمات. وهذا كلام مبين. انتهى كلام الفخر الرازي في تفسيره عفا الله عنه.

وقال الإمام الحافظ السيوطي -رحمه الله تعالى- في: «الإتقان» : ذكر

ص: 54

الآيات المتشابهة على طريقة أهل السنة.

من ذلك: صفة الاستواء، وحاصل ما رأيت فيها سبعة أجوبة: أحدها: حكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن: {اسْتَوَى} [الأعراف: 54] بمعنى: (استقر). وهذا إن صح يحتاج إلى تأويل، فإن الاستقرار يُشعر بالتجسيم.

ثانيها: أن {اسْتَوَى} بمعنى: استولى، ورد بوجهين: أحدها: أن الله تعالى مستول على الكونين والجنة والنار وأهلهما فأي فائدة في تخصيص العرش؟ !

والآخر: أن الاستيلاء إنما يكون بعد قهر وغلبة، والله تعالى منزه عن

ص: 55

ذلك. أخرج اللالكائي في السنة عن ابن الأعرابي أنه سئل عن معنى: {اسْتَوَى} فقال: هو على عرشه كما أخبر، فقيل: يا أبا عبد الله معناه: استولى؟ قال: اسكت، لا يقال: استولى على الشيء إلا إذا كان له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى.

ثالثها: أنه بمعنى صعد، قاله أبو عبيد. ورُد بأنه تعالى منزه عن

ص: 56

الصعود أيضًا.

رابعها: أن التقدير: (الرحمن علا) أي: ارتفع من العلو، والعرش له استوى. حكاه إسماعيل الضرير في تفسيره. ورد بوجهين: أحدها: أنه جعل «علا» فعلًا، وهي «حرف» هنا باتفاق فلو كانت فعلًا لكتب بالألف كقوله:{عَلَا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4]

والآخر: أنه رفع (العرش) ولم يرفعه أحد من القراء.

خامسها: أن الكلام تم عند قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ} ، ثم ابتدأ بقوله:{اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [طه: 5، 6] ورد: بأنه يزيل الآية عن نظمها ومرادها.

قلت: ولا يتأتى له في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54].

ص: 57

سادسها: أن معنى (استوى): أقبل على خلق العرش، وعمد إلى خلقه، كقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]، أي: قصد، وعمد إلى خلقها. قاله: الفراء والأشعري، وجماعة أهل المعاني، وقال إسماعيل الضرير: إنه الصواب.

قلت: يبعده تعديته بـ (على)، ولو كان كما ذكروه لتعدى بـ (إلى)، كما في قوله:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29، فصلت: 11 [

ص: 58

سابعها: قال ابن اللبان: الاستواء المنسوب إليه تعالى بمعنى: (اعتدل)، أي قام بالعدل، كقوله تعالى:{قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]، و (العدل) هو استواؤه، ويرجع معناه: إلى أنه أعطى بعزته كل شيء خلقه موزونًا بحكمته البالغة.

ومن ذلك: (النفس) في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116].

ووجه: بأنه خرج على سبيل المشاكلة، مرادًا به (الغيب)، لأنه مستتر

ص: 59

كالنفس.

وقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] أي: عقوبته، وقيل: إياه.

وقال السهيلي: (النفس) عبارة عن حقيقة الوجود، دون معنى زائد، وقد استعمل من لفظها النفاسة، والشيء النفيس، فصلحت للتعبير عنه سبحانه.

وقال ابن اللبان: أولها العلماء بتأويلات: منها: أن (النفس) عبر بها عن الذات. قال: وهذا -وإن كان سائغًا في اللغة- ولكن تعدى الفعل إليها بـ (في) المفيدة للظرفية، محال عليه تعالى.

وقد أولها بعضهم بـ (الغيب)، أي: ولا أعلم ما في غيبك وسرك.

ص: 60

قال: وهذا حسن، لقوله آخر الآية:{إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109]

ومن ذلك (الوجه)، وهو مؤول بالذات. قال ابن اللبان في قوله تعالى:{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9]، {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} [الليل: 20]، والمراد: إخلاص النية.

ص: 61

وقال غيره في قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] أي: الجهة التي أمر بالتوجه إليها.

ومن ذلك: (العين) وهي مؤولة بالبصر والإدراك. بل قال بعضهم: إنها حقيقة في ذلك، خلافًا لتوهم بعض الناس أنها مجاز، وإنما المجاز في تسمية العضو بها.

وقال ابن اللبان: نسبة (العين) إليه سبحانه وتعالى، اسم لآياته المبصرة التي بها -سبحانه- ينظر للمؤمنين، وبها ينظرون إليه، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا

ص: 62

مُبْصِرَةً} [النمل: 13]، نسب البصر للآيات على سبيل المجاز تحقيقًا، لأنها المرادة بـ (العين)، المنسوبة إليه، وقال:{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104].

قال: وعلى هذا يتنزل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] أي: بآياتنا تنظر بها إلينا، وننظر بها إليك.

ويؤيد أن المراد بالأعين هنا الآيات: كونه علل بها الصبر لحكم ربه صريحًا في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الإنسان: 23، 24]. قال: وقوله تعالى في سفينة نوح: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] أي: بآياتنا، بدليل:{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]، وقال:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، أي على حكم آيتي التي أوحيتها إلى أمك {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} الآية [القصص: 7].

وقال غيره: المراد بالآيات كلاءته وحفظه تعالى. ومن ذلك:

ص: 63

(اليد) في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]، {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} [الحديد: 29] و] آل عمران: 73 [، وهي مؤولة بالقدرة.

وقال السهيلي: (اليد) في الأصل كالمصدر، عبارة عن صفة لموصوف، ولذلك مدح -سبحانه- بالأيدي مقرونة بالأبصار في قوله تعالى:{أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]، فلم يمدحهم بالجوارح، لأن المدح لا يتعلق إلا بالصفات لا بالجواهر.

قال: ولهذا قال الأشعري أن (اليد) صفة ورد بها الشرع.

ص: 64

والذي يلوح من معنى الصفة أنها قريبة من معنى (القدرة) إلا أنها أخص، والقدرة أعم، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة، فإن في (اليد) تشريفًا لآدم.

وقال البغوي: في قوله: (بيدي) في تحقيق الله التثنية في (اليد) دليل على أنها ليست بمعنى: القدرة، والقوة، والنعمة، وإنما هما صفتان من صفات ذاته. وقال مجاهد:(اليد) ههنا صلة وتأكيد، كقوله:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]. قال البغوي: وهذا تأويل غير قوي، لأنها لو كانت صلة، لكان لإبليس أن يقول: إن كنت خلقته فقد خلقتني. وكذلك في القدرة، والنعمة، لا يكون لآدم في الخلق مزية على إبليس.

وقال ابن اللبان: فإن قلت: فما حقيقة (اليدين) في خلق آدم؟ قلت: الله أعلم بما أراد، ولكن الذي استشرته من تدبر كتابه: أن (اليدين) استعارة لنور قدرته، القائم بصفة فضله، ولنورها القائم بصفة عدله. ونبه على تخصيص آدم وتكريمه بأن جمع له في خلقه بين فضله وعدله.

قال: وصاحبة الفضل هي (اليمين) التي ذكرها في قوله: {وَالسَّمَاوَاتُ

ص: 65

مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، ومن ذلك:(الساق) في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] ومعناه: عن شدة وأمر عظيم، كما يقال: قامت الحرب على ساق.

وأخرج الحاكم في المستدرك من طريق عكرمة عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه سئل عن قوله جل شأنه: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} . قال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:

ص: 66

اصبر عناق أنه شرباق .... قد سن لي قومك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: هذا يوم كرب وشدة.

ومن ذلك: (الجنب) في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]، أي: في طاعته وحقه، لأن التفريط إنما يقع في ذلك، ولا يقع في

ص: 67

الجنب المعهود.

ومن ذلك صفة: (القرب) في قوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، أي: بالعلم.

ص: 68

ومن ذلك: (الفوقية) في قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]. والمراد بها: العلو من غير وجهة، وقد قال فرعون:{وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]، ولا شك أنه لم يرد العلو المكاني.

ص: 69

ومن ذلك صفة: (المجيء) في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، أي: أمره، لأن الملك إنما يجيء بأمره أو بتسليطه، كما قال تعالى:{وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]، فصار كما لو صرح به، وكذا قوله تعالى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} [المائدة: 24] أي: اذهب بربك، أي: بتوفيقه وقوته.

ومن ذلك صفة: (الحب) في قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]

وصفة: (الغضب) في قوله تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 6]،

وصفة: (الرضى) في قوله تعالى: {رضي الله عنهم} [المائدة: 119]

وصفة: (العجب) في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ} [الصافات: 12] بضم التاء، وقوله:{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5].

ص: 70

وصفة: (الرحمة) في آيات كثيرة.

وقد قال العلماء: كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تعالى تفسر بلازمها.

قال الإمام فخر الدين: جميع الأغراض النفسية، أعني: الرحمة، والفرح، والسرور، والغضب، والحياء، والمكر، والاستهزاء، لها أوائل وغايات.

مثاله: (الغضب) فإن أوله غليان دم، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه. فلفظ (الغضب) في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان الدم، بل على غرضه الذي هو إرادة الضرر.

وكذلك (الحياء) له أول وهو انكسار يحصل في النفس، وله غرض وهو ترك الفعل.

ص: 71

فلفظ (الحياء) في حق الله يحمل على ترك الفعل، لا على انكسار النفس. انتهى.

وقال الحسين بن الفضل: (العجب) من الله تعالى إنكار الشيء وتعظيمه.

وسئل الجنيد -رضي الله تعالى عنه- عن قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5]. هو كما تقول.

ومن ذلك لفظة: (عند) في قوله: {عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206]، {مِنْ

ص: 72

عِنْدِهِ} [المائدة: 52]، ومعناه: الإشارة إلى التمكين والزلفى، والرفعة.

ومن ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، أي: بعلمه. وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [الأنعام: 3].

قال البيهقي: الأصح أن معناه: أنه المعبود في السموات والأرض، مثل قوله:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84].

وقال الأشعري رحمه الله تعالى: الظرف متعلق بـ (يعلم)، أي عالم بـ {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .

ص: 73