الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عباس رضي الله عنهما أن رجلًا قال له حدثني ما هؤلاء الآيات: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5]، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج: 47]، فقال: يوم القيامة حساب خمسين ألف سنة والسموات في ستة أيام كل يوم يكون ألف سنة ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة قال وذلك مقدار السير.
وذهب بعضهم إلى أن المراد به يوم القيامة وأنه باعتبار حال المؤمنين والكافرين بدليل قوله تعالى: {يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} [المدثر].
فصل: قال الزركشي في البرهان للاختلاف أسباب:
أحدهما: وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى كقوله تعالى في خلق آدم مرة: {مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59] ومرة {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26، 28، 33]، ومرة {مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} [الصافات: 11]، ومرة من {صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14]، فهذه ألفاظ مختلفة ومعانيها في أحوال مختلفة لأن الصلصال غير الحمأ والحمأ غير اللازب إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر هو التراب ومن التراب اندرجت هذه الأحوال وكقوله تعالى:{فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ} [الشعراء: 32]، وفي موضع {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ}
[القصص: 31]، والجان الصغير من الحيات، والثعبان الكبير منها وذلك لأن خلقها خلق الثعبان العظيم واهتزازها وحركتها وخفتها كاهتزاز الجان وخفته.
الثاني: لاختلاف الموضوع كقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، وقوله:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] مع قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]، قال الحليمي فتحمل الآية الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل والثانية على ما يستلزمه الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه وحمله غيره على اختلاف الأماكن لأن في القيامة مواقف كثيرة فموضع يسألون وفي آخر لا يسألون.
وقيل إن السؤال المثبت سؤال تبكيت وتوبيخ والمنفي سؤال المعذرة وبيان الحجة ومن ذلك قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] مع قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] حمل الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى الأولى على التوحيد بدليل قوله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] والثانية على الأعمال وقيل بل
الثانية ناسخة للأولى.
ومن ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] مع قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129].
فالأولى تفهم إمكان العدل والثانية تنفيه والجواب أن الأولى في توفية الحقوق والثانية في الميل الطبيعي وليس هو في قدرة الإنسان.
ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28] مع قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16] فالأولى في الأمر الشرعي والثانية في الأمر الكوني بمعنى القضاء والتقدير.
الثالث: ومن ذلك الاختلاف في جهتي الفعل كقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] أضيف الرمي إليه صلى الله عليه وسلم على جهة الكسب والمباشرة ونفاه عنه باعتبار التأثير كقوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] نفاه عنهم وأثبته جل وعلا لنفسه من حيث التأثير الحقيقي.
الرابع: ومن ذلك قوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج: 2] أي سكارى من هول الموقف وما هم بسكارى من الشراب المسكر المغير.
الخامس: ومنه قوله تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] مع قوله تعالى:
{خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] قال قطرب فبصرك اليوم أي علمك ومعرفتك بها قوية من قولهم بصر بكذا أي علم وليس المراد به العين.
وقال الفارسي ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [ق: 22].
ومن ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28] مع قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، فقد يظن أن الوجل خلاف الطمأنينة وجوابه إن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتوجل القلوب لذلك وقد جمع بينهما في آية واحدة في قوله تعالى:{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].
ومما استشكلوه قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف: 55]، فإنه يدل على انحصار المانع من الإيمان في أحد هذين الشيئين.
وقال تعالى في آية أخرى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الكهف: 55] فهذا حصر آخر في غيرهما.
وأجاب ابن عبد السلام بأن معنى الآية: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا} ، {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} من الخسف أو غيره، {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} في الآخرة، فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين ولا شك أن إرادة الله تعالى مانعة من وقوع ما ينافي المراد فهذا حصر في السبب الحقيقي لأن الله هو المانع في الحقيقة ومعنى الآية الثانية {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا} إلا استغراب بعثه بشرًا رسولًا لأن قولهم ليس مانعًا من الإيمان لأنه لا يصلح لذلك وهو يدل على الاستغراب بالالتزام وهو المناسب للمانعية واستغرابهم ليس مانعًا حقيقيًا بل عاديًا لجواز وجود الإيمان معه بخلاف إرادة الله فهذا حصر في المانع العادي والأول حصر في المانع الحقيقي فلا تنافي. انتهى.
أقول: ويحتمل الجمع بين الآيتين بوجه آخر وهو أن يحمل الناس
على الجنس الصادق على بعض الأفراد يعني وما منع كثير من الناس عن الإيمان إلا أن تأتيهم سنة الأولين وما منع كثير من الناس عن الإيمان إلا أن قالوا أبعث الله بشرًا رسولًا فيكون مفهوم الآيتين أن الخلق أقسام في الامتناع بعضهم سبب امتناعه طلب ظهور الآيات كما كانت تكون للأولين وبعضهم المانع له التباعد أن يكون الدين والوحي من عند الله يأتي به بشر وقد جاء هذا المعنى في كثير من الآيات: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 24]، {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6]. ومما يشابه الآية الأولى قولهم: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} [الأنفال: 32].
ومن المشكل أيضًا قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21]،
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [الزمر: 32]، وقوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 57]، وقوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] إلى غير ذلك من الآيات.
ووجهه أن المراد بالاستفهام النفي والمعنى لا أحد أظلم ممن كذب على الله أو افترى فيكون خبرًا فتتعارض الآيات فإن كل آية تفيد أنه لا أحد أظلم ممن اتصف بتلك الصفة المذكورة في تلك الآية.
وأجيب بأوجه منها تخصيص كل موضع بمعنى صلته أي لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبًا وإذا تخصص بصلته زال الإشكال.
وقيل: إن التخصيص نسبة إلى السبق لما لم يسبق أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكًا طريقهم وهذا يؤول معناه إلى ما قبله لأن المراد بالسبق هنا السبق إلى المانعية والافترائية.
ومنها أن نفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية لأن نفي المقيد لا يدل على نقي المطلق وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يلزم التناقض لأن فيها إثبات المساواة في الأظلمية ثم إذا ثبتت التسوية فيها لم يكن لأحدهم زيادة على الآخر لأنهم يتساوون في الأظلمية وصار المعنى لا أحد أظلم ممن افترى ولا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ونحوها ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر كما إذا قلت لا أحد أفقه منهم. انتهى.
وقال بعض المتأخرين هذا استفهام قصد به التهويل والتفظيع من غير قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة ولا نفيها عن غيره أقول: الظاهر في أفعل التفضيل إذا كان في الإثبات أن يكون معناه إثبات الزيادة في الفضل لـ زيد، ونفي أن يساويه في الفضل أحد إذا قلت: ما أحد أفضل من زيد وزيد أفضل أهل بلده أو أفضل الناس أو أفقه الناي وإذا أتيت به بصيغة النفي فقلت ما أحد أفضل من زيد ولا أحد أفقه من زيد إنما يفهم من جوهر اللفظ نفي أن أحدًا يزيد عليه فيما ذكر