الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكمة الشائعة الذائعة في ذلك الاهتمام، كما قال سيبويه في كتابه: كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم وهم ببيانه أعنى. اهـ.
قال: وهذه الحكمة إجمالية وأما تفاصيل
أسباب التقديم وأسراره
فقد ظهر لي منها في الكتاب العزيز عشرة أنواع: الأول: التبرك كتقديم اسم الله في الأمور ذوات الشأن، ومنه قوله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ .... } [آل عمران: 18]، وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ
…
} الآية [الأنفال: 41].
الثاني: التعظيم، كقوله تعالى: { .... وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
…
} [النساء: 69]، و {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ
…
} [الأحزاب: 56]، و {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ
…
} [التوبة: 62].
الثالث: التشريف، كتقديم الذكر على الأنثى نحو قوله تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ .... } الآية [الأحزاب: 35]. والحر في قوله تعالى: {
…
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى .... } [البقرة: 178]. والحي في قوله تعالى: {
…
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ .... } الآية [الأنعام: 95]. { .... وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ
…
} [فاطر: 22]. والخيل في قوله تعالى: {
…
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا
…
} [النحل: 8]. والسمع في قوله تعالى: {
…
وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ
…
} [البقرة: 7]، وقوله تعالى: {
…
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ
…
} [الإسراء: 36]، وقوله تعالى: {
…
إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ
…
} [الأنعام: 46].
حكى ابن عطية عن النقاش أنه استدل بها على تفضيل السمع.
ومن ذلك تقديمه صلى الله عليه وسلم على نوح ومن معه في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ
…
} الآية [الأحزاب: 7]. وتقديم الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: {
…
مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ
…
} [الحج: 52].
وتقديم المهاجرين في قوله تعالى: {
…
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
…
} [التوبة: 100].
وتقديم الإنس على الجن حيث ذُكرا في القرآن.
وتقديم النبيين ثم الصدِّيقين ثم الشهداء ثم الصالحين في آية النساء.
وتقديم إسماعيل على إسحاق لأنه أشرف بكون النبي صلى الله عليه وسلم من ولده. وتقديم موسى على هارون لاصطفائه بالكلام وقدم هارون عليه في سورة (طه) رعاية للفاصلة. وتقديم جبريل على ميكائيل في آية (البقرة) لأنه أفضل.
وتقديم العاقل على غيره في قوله تعالى: {
…
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
…
} [النازعات: 33]، {
…
يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ
…
} [النور: 41].
وأما تقديم (الأنعام) في قوله تعالى: {
…
تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ
…
} [السجدة: 27]، فلأنه تقدم ذكر الزرع فناسب تقديم (الأنعام) بخلاف الآية (عبس) فإنه تقديم فيها:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} فناسب تقديم لكم وتقديم المؤمنين على الكفار في كل موضع وأصحاب اليمين على
أصحاب الشمال والسماء على الأرض والشمس على القمر حيث وقع إلا في قوله تعالى: {خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)} [نوح]، فقيل: لمراعاة الفاصلة، وقيل: لأن انتفاع أهل السماوات العائد عليهن الضمير به أكثر.
قال ابن الأنباري: يقال: إن القمر وجهه يضيء لأهل السماوات وظهره لأهل الأرض ولهذا قال تعالى: {فِيهِنَّ} لما كان أكثر نوره يضيء لأهل السماء.
ومنه تقديم الغيب على الشهادة في قوله تعالى: {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الزمر: 46]، لأن علمه أشرف، وأما {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] فأخر رعاية للفاصلة.
الرابع: المناسبة: وهي إما مناسبة المتقدم لسياق الكلام كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)} [النحل: 6]، فإن الجمال بالجمال وإن كان ثابتًا حالي السراح والإراحة إلا أنها حالة إراحتها وهو مجيئها من الرعي آخر النهار يكون الجمال بها أفخر إذ هي فيه بطان وحالة سراحها إلى الرعي أول النهار يكون الجمال بها دون الأول إذ هي فيه خماص ونظيره في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] قدم نفي الإسراف على نفي التقتير لأن السرف في الإنفاق وقوله تعالى: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم: 24] لأن الصواعق تقع مع أول برقة ولا يحصل المطر إلا بعد توالي البرقات وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91]، قدمها على الابن لما كان السياق في ذكرها في قوله:{الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12]، لذلك قدم الابن في قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] وحسنه تقدم موسى في الآية التي قبله. ومنه قوله تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] قدم الحكم وإن كان العلم سابقًا عليه لأن السياق فيه لقوله في أول الآية: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78].
وأما مناسبة لفظ هو من التقديم والتأخير كقوله تعالى: {الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3]، {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر: 24]، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37]، {بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13]، {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} [الواقعة]، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ
قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، و {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [القصص: 70]، وأما قوله تعالى:{فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)} [النجم: 25] فلمراعاة الفاصلة، وكذا قوله تعالى:{جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات: 38].
الخامس: الحث عليه والحض على القيام به حذرًا من التهاون به كتقديم الوصية على الدَّين في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، مع أن الدين يقدم عليها شرعًا.
السادس: السبق، وهو إما في الزمان باعتبار الإيجاد كتقديم الليل على النهار والظلمات على النور وآدم على نوح ونوح على إبراهيم وإبراهيم على موسى وهارون على عيسى وداود على سليمان.
والملائكة على البشر في قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ
…
} [الحج: 75]، وعاد على ثمود والأزواج على الذرية في قوله تعالى: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ
…
} [الأحزاب: 59]، والسِّنَة على النوم في قوله تعالى:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، أو باعتبار الإنزال كقوله تعالى:{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19]، {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 3]، أو باعتبار الوجوب والتكليف في قوله تعالى:{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
…
} [البقرة: 158]. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: أبدأ بما بدأ الله به.
أو بالذات نحو: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ
…
} [النساء: 3]، {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] وكذا
جميع الأعداد كل مرتبة هي مقدمة على ما فوقها بالذات وأما قوله تعالى: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى
…
} [سبأ: 46] فالحث على الجماعة والاجتماع على الخير ناشئ عن العلم.
السابع: السببية كتقديم العزيز على الحكيم لأنه عزَّ فَحَكَم والعليم عليه لأن الإحكام والإتقان ناشئ عن العلم. وأما تقديم الحكيم عليه في سورة (الأنعام) فلأنه مقام تشريع الأحكام.
ومنه: تقديم العبادة على الاستعانة في سورة (الفاتحة) لأنها سبب حصول الإعانة وكذا تقديم: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، لأن التوبة سبب الطهارة، وكذا:{لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية: 7] لأن الإفك سبب الإثم، {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] لأن البصر داعية الفرج.
الثامن: الكثرة كقوله تعالى: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] لأن الكفار أكثر، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
…
} الآية [فاطر: 32] قدم الظلم لكثرته، ثم المقتصد ثم السابق قيل: ولهذا قدم السارق على
السارقة لأن السرقة في الذكور أكثر والزانية على الزاني لأن الزنا فيهن أكثر.
ومنه: تقديم الرحمة على العذاب حيث وقع في القرآن غالبًا ولهذا ورد: إن رحمتي غلبت غضبي.
وقوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن: 14] قال ابن الحاجب في أماليه إنما قدم الأزواج لأن المقصود الإخبار أن فيهم أعداء ووقوع ذلك في الأزواج أكثر منه في الأولاد فكان أعقد في
المعنى المراد فقدم ولذلك قدمت الأموال في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] لأن الأموال لا تكاد تفارقها الفتنة وقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق] وليست الأولاد في استلزام الفتنة مثلها فكان تقديمها أولى.
التاسع: الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا
…
} الآية [الأعراف: 195] بدأ بالأدنى لغرض الترقي لأن اليد أشرف من الرجل والعين أشرف من اليد والسمع أشرف من البصر ومن هذا النوع تأخير الأبلغ.
وقد خرج عنه تقديم الرحمن على الرحيم والرؤوف على الرحيم والرسول على النبي في قوله تعالى: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 51]، وذكر لذلك نكت أشهرها: مراعاة الفاصلة.
العاشر: التدلي من الأعلى إلى الأدنى وخرج عليه قوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} [الكهف: 49]، {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] هذا ما ذكره ابن الصائغ وزاد غيره أسبابًا أخر منها: كونه أدل على القدرة
وأعجب، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ
…
} الآية [النور: 45]، وقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ
…
} [الأنبياء: 79]، قال الزمخشري قدم الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق.
ومنها: رعاية الفواصل.
ومنها: إفادة الحصر والاختصاص. والله أعلم.