الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدلة من يرى ديمومة القنوت في الفجر:
استدل القائلون بديمومة القنوت في الفجر بأدلة، إما صحيحة غير صريحة، وإما صريحة غير صحيحة.
منها: حديث أنس رضي الله عنه قال: "مازال رسول الله صلى الله عليه وسلم? يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا". [أخرجه أحمد (3 - 162) والبيهقي (2/ 201) والدارقطني (2/ 39) والطحّاوي (1354) وعبدالرزاق (4964)].
وفي رواية عند الدارقطني:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم? قنت شهراً يدعو على قاتلي أصحابه ببئر معونة ثم ترك، فأما الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الحياة".
وقد أخرجه كلّهم من طريق أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس به.
وأبو جعفر الرازي هو: عيسى بن ماهان.
قال أحمد والنسائي فيه: ليس بالقوي.
وقال أبو زرعة: يهِم كثيراً.
وقال ابن حبان: يحدث بالمناكير عن المشاهير.
وقال الحافظ: صدوق سيء الحفظ.
والربيع بن أنس: صدوق له أوهام.
قلت: فهذا الحديث فيه ثلاث علل:
الأولى: سوء حفظ أبي جعفر، وكان قد اختلط أيضا.
الثانية: أوهام الربيع.
الثالثة: نكارته، لمخالفته لما صحّ عن أنس وغيره في الصحيحين وغيرهما، من أن النبي صلى الله عليه وسلم: "لم يكن يقنت إلا إذا أراد أن يدعو
…
". ويصلح هذا الحديث لأن يكون مثالاً للمنكر.
وأخشى أن يكون قوله: "فأما الصّبح
…
" مدرجاً من قول أبي جعفر؛ لتفرده بذلك عن الثقات، الذين رووا هذا الحديث دون هذه الرواية.
والحديث المنكر هو: مخالفة الضعيف للثقات، وعلى هذا، فزيادة هذه الرواية من قبل ضعيف، تعتبر منكرة، ويكون فيها علة رابعة، وهي نكارة قوله: "فأما الصبح
…
".
وقد أسهب ابن القيم رحمه الله في الزاد (1 - 275) في بيان ضعف هذا الحديث ونكارته، ثم قال:"ولو صح لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة، فإن القنوت يطلق على القيام، وتطويل هذا الركن: قنوت، وتطويل القراءة: قنوت، وهذا الدعاء المعين: قنوت، فمن أين لكم أن أنساً إنما أراد هذا الدعاء المعين دون سائر أقسام القنوت؟ ".
قلت: هذا التوجيه يصلح في الرواية الأولى، ولا يصلح في الرواية الثانية؛ لأنه قرنها بقنوت النازلة، مما أفاد مقصده، وهو القنوت بمعنى الدعاء.
وأحسن منه ما قاله الحافظ في (الدراية رقم 246:
"ويجمع بين هذا، وبين حديث أنس الماضي: "ما كان يقنت إلا إذا دعا لقوم أو على قوم" بأن مراده إثبات قنوت النوازل، ولهذا أنكر على من أطلق قوله: "ثم تركه" على أنه إذا حمل قوله: ثم تركه -أي ترك الدعاء- على أولئك النفر بعينهم، فلم يبق بين الأحاديث تعارض، والله أعلم".
قلت: يعني بعبارة أوضح: أن أنساً رضي الله عنه خشي حين أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهراً ثم تركه، خشي أن يفهموا أن
الترك كان البتة، وأنه لم يقنت بعد ذلك أبداً! فأخبرهم أن الترك كان لتلك الحادثة، وأن القنوت ما زال قائماً لم ينسخ، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر عند النوازل إلى أن فارق، والله أعلم.
ويؤيد هذا التوفيق -الذي لا يردّه متأمّل- ما ورد في رواية الطحاوي (1458) والدارقطني (2 - 39)، أن قول أنس رضي الله عنه: "مازال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" كان جواباً لمن أنكر استمرار القنوت في النوازل، إذ قال السائل لأنس: "إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً
…
" أي فحسب، وانتهى الأمر، فأجابه أنس: "مازال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت
…
" أي: للنوازل، ولم ينسخ بتركه مرة، فبهذا يتضح مقصود أنس رضي الله عنه والحمد لله.
قلت: كل هذا التوفيق بين الأحاديث عن ابن القيم، والحافظ، وما ذكرته، على فرض صحة الحديث، أما وقد بان ضعفه، فلا حاجة للتوفيق، فإن التوفيق فرع التصحيح، كما هو معلوم.
ثم لو فرضنا صحة سنده، لكان متنه شاذاً؛ لمخالفته لمن هم أكثر عدداً، وأوثق رواية، وهم الذين نفوا قنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدوام، إلا إذا أراد أن يدعو على قوم، أو يدعو لقوم.
وقد روى الخطيب من طريق قيس بن الربيع عن عاصم بن سليمان، قلنا لأنس:"إن قوماً يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت في الفجر فقال: كذبوا، وإنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً واحداً يدعو على حي من أحياء المشركين"(1).
قلت: وهذه قاصمة الظهر لمن يحتج برواية أنس في دوام القنوت في الفجر.
وقيس بن الربيع، وإن كان فيه كلام، فهو أحسن حالاً من أبي جعفر الرازي.
وأصل حديث أنس رضي الله عنه هذا في الصحيحين وغيرهما بلفظ: "إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم? شهراً يدعو على ناس قتلوا ناساً".
(1) عزاه الشوكاني للخطيب (2/ 346).
قال ابن القيم في الزاد (1 - 279):
"فهذا يدل على أنه لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم القنوت دائماً، وقول أنس رضي الله عنه: فذلك بدء القنوت مع قوله: قنت شهراً، ثم تركه" دليل على أنه أراد بما أثبته من قنوت النوازل.
وأما احتجاجهم بما اتُّفق عليه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "والله أنا أقربكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبو هريرة رضي الله عنه يقنت في الركعة من صلاة الصبح
…
".
فقد أجاب ابن القيم رحمه الله (1 - 234) فقال: "ولا ريب أن رسول الله سنه، وهذا رد على أهل الكوفة، الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقاً عند النوازل، وغيرها، ويقولون: هو منسوخ، وفعله بدعة، فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء، وبين من استحبه على الدوام، وهم أسعد بالحديث من الطائفتين".
قلت: وهكذا تجد أهل الحديث في كل مسألة، هم فيها وسطاً، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم مسلكاً.
ومما يؤيد ما ذهب إليه ابن القيم، الروايةُ الأخرى لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
"لأقربنّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم? فكان أبو هريرة رضي الله عنه يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر، وصلاة العشاء، وصلاة الصبح، بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكافرين". [أخرجه البخاري ومسلم وقد سبق تخريجه].