الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معنى القنوت
تأتي كلمة القنوت بمعان متعددة: فالقنوت لغة: الخضوع، والذل، والتعبد، والدعاء (1).
كالطاعة، والخشوع، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام، والسكوت، والذكر، ودوام الطاعة (2).
فيصرف كل واحد من هذه المعاني إلى ما يتحمله اللفظ، في السياق والسباق.
فالقانت هو: الداعي، والمداوم على الطاعة، والخاشع، و
…
وقد تأتي هذه المعاني مفردة، وقد تأتي مجتمعة، كما في قوله تعالى:{وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12].
لأن حقيقة القانت: أنه القائم بأمر الله (3).
قال ابن مسعود:
"القانت: المطيع لأوامر الله ورسوله"(4).
(1)(2) النهاية، اللسان، القاموس، الوسيط، مادة:(ق ن ت).
(3)
اللسان المادة نفسها.
(4)
ابن كثير (4 - 51).
وقال شيخ الإسلام:
"والقنوت في اللغة: دوام الطاعة"(1).
وعلى هذا فسر حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل: أي الصلاة أفضل قال: ((طول القنوت)) (2).
أي: طول القيام والركوع والسجود.
وقد ترمي لمعنى خاص: كما في قوله تعالى:
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . [البقرة: 238]. أي: ممسكين عن الكلام.
لحديث زيد بن أرقم: "كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمسكنا عن الكلام"(3).
ولا يمنع هذا أن يكون المعنى أعمّ، ليشمل الخشوع، والذلة والاستكانة، ولازمه الإمساك عن الكلام في الصلاة؛ كما ذهب إلى هذا جمهور المفسرين.
قال ابن كثير [1/ 302]:
(1) جامع الرسائل (1 - 5).
(2)
رواه مسلم (756).
(3)
البخاري (5/ 162) مسلم (539) وغيرهما.
"أي خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه، وهذا الأمر مستلزم ترك الكلام في الصلاة".
وفي قول الله تعالى:
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} . [الزمر: 9].
قال ابن كثير [4 - 51]:
"ذهب بعضهم إلى أن القنوت: هو الخشوع في الصلاة، ليس هو القيام وحده، كما ذهب إليه آخرون".
والذي يظهر من خلال استقراء كلمة "القنوت" في الكتاب والسنة ونصوص العربية، أن أصل معناها هو الخضوع، والخضوع هو: المعنى المشترك بين جميع معانيها، فالقائم: خاضع لأمر الله، والساكت: خاضع لأمر الله، والخاشع: خاضع لأمر الله، والكافر: خاضع لأمر الله، والكائنات كلها: خاضعة لأوامر الله.
{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54].
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 83].
فإذا كانت خطاباً للمؤمنين؛ فتتضمّن الخضوع مع الخشوع ودوام الطاعة، كما في قوله تعالى:
{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} [آل عمران: 43].
وقوله تعالى:
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} . [النحل: 120].
وإن كان الخطاب بها للناس جميعهم، كافرهم ومؤمنهم، فيكون معنى القنوت -والحال هذه- مجرد الخضوع لسنن الله الكونية.
كما في قوله تعالى:
{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] أي: خاضعون.
ولكن منهم الخاضع خضوعاً كونياً فحسب، وهم الكفار، ومنهم الخاضع خضوعاً كونياً وشرعياً، وهم المؤمنون.
والخضوع الشرعيّ هو: الاستسلام لأوامره، والابتعاد عن نواهيه، والالتزام بشرعه.
والمقصود بالخضوع الكوني:
الخضوع لسنن الله الكونية: من موت، وحياة، ورزق، ولون، ومرض، وغير ذلك، مما يخضع له الناس جميعاً، مؤمنهم وكافرهم. ومعنى كرهاً، أي: شاؤوا أم أبوا، رضوا أم سخطوا،
قال مجاهد: " {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} مطيعون، قال: كن إنساناً، فكان، وقال: كن حماراً، فكان"(1).
قلت: فهذه هي: الطاعة الكونية.
ومثالها: كن طويلاً فكان، كن جميلاً فكان، كن فقيراً فكان، كن مريضاً فكان، كن ميتاً فكان، كن مبعوثاً يوم القيامة فكان، فهذه الطاعة، يستوي فيها المؤمن والكافر، والحيوان والجماد، وتسمى عند العلماء الطاعة الكونية لله عز وجل.
قال تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87].
وقال سبحانه:
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].
قال شيخ الإسلام في جامع الرسائل (1 - 9):
"وفسرها -أي مجاهد-: بطاعة أمره الكوني".
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 83].
(1) رواه ابن جرير (2 - 538) وابن أبي حاتم (1 - 349).
وعلى هذا يحمل قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15].
طوعاً: الطاعة الشرعية، كرهاً: الطاعة الكونية.
لأن السجود يأتي بمعنى الخضوع الكوني، كالقنوت الكوني، وكذا الاستسلام الكوني، كما في قوله تعالى:
{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]. والواو هنا بمعنى: أو، أي: منهم من يسجد ويسلم طوعاً، ومنهم من يسجد ويخضع لسنتنا الكونية كرهاً، كما في قوله تعالى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} . [الفتح: 27]: أي: منكم المحلق، ومنكم المقصر.
فالسجود، والاستسلام، والقنوت، -وحتى التسبيح- كل منها يأتي على المعنى الشرعي، وعلى معنى الخضوع الكوني.
فإذا فُهم هذا، فهمت كثيراً من الآيات التي أشكلت على كثير من الناس كقوله تعالى:
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرعد: 15].
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 1].
{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 83]
{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116].
فإذا وردت بلفظ العموم، فتحمل على المعنى الكوني، وإن وردت بلفظ الخصوص، فتحمل على المعنى الشرعي.
فالمؤمن خاضع لله وطائع له شرعاً ورغبة وحباً، وكذلك كونياً وكرهاً.
والكافر خاضع لله كونياً وكرهاً فحسب.
وأما قوله تعالى:
فالمقصود هاهنا بالسجود: السجود الطوعي؛ لأن الله عز وجل استثنى الكافرين منه.
وأما دخول السموات والأرض، والنجوم، والجبال، والشجر، والدواب؛ فلأنهم يسجدون سجوداً حقيقياً طوعياً، ولكنه مجهول الكيفية عندنا، كقوله تعالى:{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41].
وقوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6].
وقوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10].
فالتأويب والسجود والتسبيح حقائق لا مجاز فيها، فلا حاجة لليّ أعناق النصوص، وللتأويل المتكلّف، والله أعلم بحقيقته وكيفيته.
ويوضح هذا قوله تعالى:
أي: إما أن تعملا بالسنن والنواميس والأوامر طواعية ورغبة، وإما أن تُكرها على ذلك كرهاً، ولا بدّ لكما من ذلك، ولا مفرّ، فاختارا ما تريان، واتّبعا ما تشاءان.
فكانتا أعقل من كثير من البشر إذ اختارتا الطاعة رضاً.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير القنوت: بالطاعة، ولا يصحّ.
فعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة)) (1).
قال ابن كثير بعد أن أورد الحديث عند قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} : "في هذا الإسناد ضعف لا يعتمد عليه، ورفع هذا الحديث منكر، وقد يكون من كلام الصحابي، أومن دونه، والله أعلم"(2).
قلت: وهذا هو الصواب، فإن السلف تنوعت أقوالهم في تفسير كلمة القنوت، وكلها تصب في معنى واحد، ألا وهو: الطاعة والخضوع، ودوام العبادة، وقد وردت بذلك آثار كثيرة، ذكرها ابن جرير في تفسيره، فلتراجع.
ثم وقفت على ما ذكره الحافظ في الفتح (2 - 570) قال:
(1) قلت: الحديث رواه أحمد (3 - /75) وابن حبان (رقم 264) وأبو نعيم في الحلية (8/ 325) وابن جرير (2 - 569) وابن أبي حاتم (1 - 348) والطبراني في الأوسط (رقم 1829) ومسند أبي يعلى (رقم 1379).
كلهم من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفي رواية دراج عن أبي الهيثم ضعف معروف، قاله أحمد وغيره.
(2)
: تفسير ابن كثير (1/ 162).
"ذكر ابن العربي أن القنوت يرد لعشرة معانٍ، فنظمها شيخنا الحافظ زين الدين العراقي، فيما أنشدنا لنفسه إجازة غير مرة:
ولفظ القنوت اعدد معانيه تجد
…
مزيداً على عشر معاني مرضية
دعاء خشوع والعبادة طاعة
…
إقامتها إقراره بالعبودية
سكوت صلاة والقيام وطوله
…
كذاك دوام الطاعة الرابح القنية
ومن المعاني الخاصة التي ترمي إليها لفظة القنوت: الدعاء في الصلاة قائماً، وهو اصطلاح الفقهاء، كما في رواية البخاري وغيره عن أنس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهراً بعد الركوع" الحديث سيأتي تخريجه.
ومعناه: دعا قائماً في الصلاة.
وهذا هو بحثنا في هذا الكتاب: "أحكام القنوت في الصلوات" والله الموفق للصواب.