الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت". [متفق عليه، وسبق تخريجه].
وإن كانت النازلة مستمرة، استمر القنوت إلى أن تقلع، فإن أقلعت، أقلع عنه، فإن قنت بعد إقلاعها أياماً شكراً لله، ودعا ألا تعود، فليس ثمة مانع، فقد قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إقلاع نازلة بئر معونة شهراً، وقنت بعد نازلة أُحد أياماً، فإن كانت في حاجة المسلمين ومصالحهم، وتمت المصلحة، وقضيت الحاجة، ترك القنوت؛ لأن القنوت إنما شرع لسبب، فإذا زال السبب الموجب له، لم يعد للقنوت معنى.
فإن لم تتم المصلحة، ولم تقض الحاجة، وطالت المدة، كوجود أسرى للمسلمين، أو سجناء، أو طواغيت تسلطوا على المسلمين، استحب له أن يقنت بين الحين والحين، تذكرة للمسلمين، وطلباً لقضاء حاجاتهم من رب العالمين.
أدلة ذلك:
فأما قنوته شهراً بعد النازلة فبيّن، قد سبقت الأدلة بذلك.
وأما استمراره بالقنوت ما دامت النازلة نازلة، وتركه إذا أدبرت.
فلحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
"أن النبي قال: ((اللهم نجّ الوليد بن الوليد، اللهم نجِّ عياش بن أبي ربيعة، اللهم نجّ المستضعفين من المؤمنين)).
قال أبو هريرة رضي الله عنه:
"ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء بعدُ، فقلت: أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء لهم؟ قال: قيل: ((وما تراهم قد قَدِموا)).
[أخرجه البخاري رقم (4322) دون قول أبي هريرة، ومسلم (675) وغيرهما].
فهذه نازلة، وإن لم تكن صاعقة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قنت حتى فُرّج هم المسلمين، ونُفّست كربتهم، فلما قَدِمَ مَنْ قدم من مكة من هؤلاء المستضعفين، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء.
قال ابن حبان (5 - 325) عقب حديث رقم (1986):
"كان صلى الله عليه وسلم يقنت على المشركين، ويدعو للمسلمين بالنجاة، فلما أصبح يوماً من الأيام ترك القنوت، فذكر ذلك أبو هريرة
فقال صلى الله عليه وسلم: ((أما تراهم قدموا)) ففي هذا أبين البيان على صحة ما أصلناه".
قال في المغني (1 - 788 من الشرح):
"فإن نزل بالمسلمين نازلة، فللإمام أن يقنت في صلاة الصبح نص عليه أحمد، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سئل عن القنوت في الفجر فقال: إذا نزل بالمسلمين نازلة، قنت الإمام وأمّن من خلفه، ثم قال: مثل ما نزل بالمسلمين من هذا الكافر -يعني: بابك- قال أبو داود: سمعت أحمد يُسأل عن القنوت في الفجر فقال: لو قنت أياماً معلومة ثم يترك كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أو قنت على الخرمية، أو قنت على الدوام، والخرمية: هم أصحاب بابك
…
".
فإن قال قائل: قد قلتم بمشروعية القنوت لغير النازلة الصاعقة كذلك، كالدعاء للمجاهدين والأسرى، والدعاء على الظلمة والطواغيت، ولا يخفى عليكم، أن الحروب والفتوح والغزوات والظلمة .. كل ذلك كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يداوموا على القنوت، لمداومة الحروب، فمن أين لكم أن يُقنت بين الحين والحين؟
وقد ذهب بعضهم إلى هذا.
قال ابن العربي (
…
): "ورأي أحمد بن حنبل أن قنوت النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لسبب فيما كان ينزل بالمسلمين، والأحكام إذا كانت متعلقة بالأسباب زالت بزوالها، ورأي مالك والشافعي أن ذلك من كلب العدو، ومقارعته معنى دائم فدام القنوت بدوامه".
قلت: هذا كلام وجيه
…
لكن هذه الأمور التي ذكرت من أسباب مشروعية القنوت كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يداوم على القنوت إذا استدامت، ولذلك قلنا بعدم الديمومة عليه، وهذا هو المذهب الوسط الذي يجمع بين حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:"أنه كان لا يقنت إلا إذا أراد أن يدعو على قوم، أو يدعو لقوم"، وحديث أبي هريرة السابق:"لأقربن صلاة رسول الله، فقنت"، وغيرهما مما سبق ذكره، كل هذا يدل على أنه: كان يقنت أحياناً، ويترك أحياناً.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في قنوته بعد أحد يلعن فلاناً وفلاناً، وسيأتي تخريجه.
ودعا لنجاة المستضعفين في مكة، وكم في الأرض في زماننا من مستضعفين، وكم في عصرنا من مسجونين، فرج الله همهم،
ونفس كربهم، ومكنهم في الأرض لإصلاحها، إنه على ذلك قدير.
قال ابن القيم في الزاد (1 - 272):
"والإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف أنه صلى الله عليه وسلم جهر وأسر، وقنت وترك، وكان إسراره أكثر من جهره، وتركه القنوت أكثر من فعله، فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، وللدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم، وتخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم، وجاؤوا تائبين، فكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت
…
".
والحقيقة: أن هذه سنة متروكة، وطريقة مهجورة، وهي القنوت لحاجة المسلمين، كالدعاء لهم بالنصر والفرج، وما شابه ذلك.
وعلى أئمة المساجد الذين يحبون إحياء سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحيوا هذه السنة التي دثرت، وأن يعلموا أن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لهم من اتباع مذهب زيد، أو عمرو، وإرضاء من يصلي خلفهم، وعسى الله تعالى أن يقيض لهذه السنة من يحييها.