الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة رقم (6):
صيغة الدعاء
لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء قنوت النازلة صيغة ملزمة، وإنما كان صلى الله عليه وسلم يدعو بما يناسب الحال، وكذلك المسلم يدعو في قنوته بما يناسب حال النازلة، وينبغي أن يكون الدعاء جامعاً، وألا يطيل الإمام فيه، ولا يشقّق، ولا يتكلف السجع، فليس من هديه صلى الله عليه وسلم ما يفعله كثير من أئمة مساجد زماننا من إطالة الدعاء، وتعمد السجع، والتشقّق فيه.
وإذا كان القانت منفرداً، فليدع ما شاء الله أن يدعو.
وإن للدعاء آداباً، ينبغي على الداعي الالتزام بها، وله محظورات، ينبغي على الداعي اجتنابها.
والعبرة في الدعاء بصدقه وقوته، وطهارة نفس صاحبه، وشدة إيمانه وإخلاصه، والخوف والرجاء والعبودية لله فيه، وليست العبرة بطول الدعاء، ورفع الصوت فيه، وتكلف السجع والتشقق فيه.
وقد مر في هذه الرسالة، ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من الأدعية في هذا المقام ومنها:
((اللهم نجّ الوليد بن الوليد، اللهم نج سلمة بن هشام، اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف)) سبق تخريجه.
قال الإمام مالك كما في المدونة (1 - 100):
"ليس في القنوت دعاء معروف، ولا وقوف مؤقت".
قال النووي في شرح مسلم (5 - 183): "والصحيح أنه لا يتعين فيه دعاء مخصوص بل يحصل بكل دعاء".
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (23/ 109):
"كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قنت أولاً على قبائل بني سليم الذين قتلوا القراء، دعا عليهم بالذي يناسب مقصوده، ثم لما قنت للمستضعفين من أصحابه، دعا بدعاء يناسب مقصوده، فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تدل على شيئين:
أحدهما: أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه، ليس سنة دائمة في الصلاة.
الثاني: أن الدعاء فيه ليس دعاء راتباً، بل يدعو في كل قنوت الذي يناسبه.
ويكره تكلف السجع؛ لأنه تكلف وقد نهينا عنه، ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه.
فقد أخرج البخاري (7 - 153) تحت باب: "ما يكره من السجع في الدعاء"
عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: حدّث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثر فثلاث مرات، حتى لا يمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم، فتقطع عليهم حديثهم، فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم، وهم يشهدونه، وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك، يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب".
والسجع: الكلام المقفّى المتشابه المخارج، وليس بشعر.
قال في اللسان مادة (س ج ع):
سجع: تكلم بكلام له فواصل كفواصل الشعر من غير وزن.
والنهي المذكور: إنما هو المتكلف منه، وإلا فإن كثيراً من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم كان مسجوعاً كقوله صلى الله عليه وسلم:
((اللهم رب الناس مذهب البأس)) (الحديث)(1).
((اللهم استر عورتي، وآمن روعتي
…
)) (الحديث)(2).
ولذلك قال الحافظ في الفتح (11/ 139):
"أي لا تقصد إليه، أي: إلى السجع، ولا تشغل فكرك به، لما فيه من التكلف، المانع للخشوع المطلوب في الدعاء" وقال ابن التين: "المراد بالنهي المستكره منه" وقال الراوي: "الاستكثار منه".
ولا يرد على ذلك ما وقع في الأحاديث الصحيحة؛ لأن ذلك كان يصدر من غير قصد إليه، ولأجل ذلك يجيء في غاية الانسجام، كقوله صلى الله عليه وسلم في الجهاد: ((اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب
…
)) (3) الحديث" انتهى كلام الحافظ.
(1) بخاري (10 - 175) وأبو داود (رقم - 3890) وغيرهما.
(2)
أبو داود (رقم - 5074) عن ابن عمر، وعزاه في المجمع (1 - 175) للبزار، وصححه شيخنا في صحيح الجامع.
(3)
البخاري (6 - 109) مسلم (رقم - 742) وغيرها.
وخلاصة هذا: أن لا يتكلف الداعي السجع تكلفاً يذهب صدق الدعاء، واللهج به، ويشغله عن قصده، ويصرفه عن مبتغاه.
وأما الإطالة فيه: ففضلاً على أن فيه مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم التشقق في الخطبة، والتشدق في الكلام، وهو التكلف في إخراج الكلام، وانتقاء العبارات؛ ليتفيهق فيه وليتشدق.
فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون -أي: المتوسعون في الكلام من غير احتياط واحتراز- والمتفيقهون، قالوا: يارسول الله! ما المتفيقهون؟ قال: المتكبرون)) حديث صحيح.
أخرجه الترمذي (1 - 363) وأخرجه أحمد (4 - 193) عن أبي ثعلبة رضي الله عنه وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:
"خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة خفيفة فلما فرغ من خطبته قال: يا أبا بكر قم فاخطب، فقصر دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من خطبته قال: يا عمر قم فاخطب، فقام فخطب، فقصر دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ودون أبي بكر، فلما فرغ من خطبته قال: يا فلان قم فاخطب، فشقّ القول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اسكت واجلس، فإن التشقيق من الشيطان، وإن من البيان لسحرا)) وقال: يا ابن أم عبد قم فاخطب، فقال ابن أم عبد: فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إن الله عز وجل ربنا، وإن الإسلام ديننا، وإن القرآن إمامنا، وإن البيت قبلتنا، وإن هذا نبينا، وأومأ بيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم رضينا ما رضي الله تعالى لنا ورسوله، وكرهنا ما كره الله تعالى لنا ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((أصاب ابن أم عبد، أصاب ابن أم عبد، وصدق، رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد)).
أخرجه الحاكم (3 - 217) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي وشيخنا الألباني، وأخرجه البزار في مسنده (1/ 303) وابن أبي شيبة (14 - 114) كلهم دون سبب الورود، وعزا سبب الورود الهيثمي في المجمع (9 - 290) للطبراني وقال:"ورجاله ثقات، إلا أن عبد الله بن عثمان بن خثيم لم يسمع من أبي الدرداء".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك".
أخرجه أبو داود (1482) وأحمد (6/ 148) وغيرهما، عن الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل، عن عائشة به.
قلت: وهذا سند صحيح كلاهما ثقة، والأسود من رجال مسلم، وأبو نوفل من رجالهما.
وعنهما رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها وهي تصلي:((عليك بالجوامع الكوامل)) فما انصرفت سألته عن ذلك، فقال لها صلى الله عليه وسلم: ((قولي: اللهم إني أسألك من الخير
كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم
…
))
أخرجه أحمد (6/ 147) واللفظ له، وأخرجه ابن ماجة (3846) وابن حبان (2413) والحاكم (1/ 521) وغيرهم دون قوله صلى الله عليه وسلم:((عليك بالجوامع الكوامل)) من طريق جبر بن حبيب عن أم كلثوم بنت أبي بكر عن عائشة رضي الله عنهم به.
وهذا سند صحيح.
جبر: ثقة.
وأم كلثوم بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، روى عنها جابر رضي الله عنه، وهي زوجة طلحة بن عبيد الله، أحد العشرة المبشرين بالجنة فلا يلتفت إلى من جهلها، راجع ترجمتها في التهذيب وفي الطبقات لابن سعد.
ويفسر لنا معنى الجوامع:
ما رواه ابن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعني أبي وأنا أقول:
"اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها، وبهجتها، وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، وكذا وكذا، فقال لي:
يا بنيّ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيكون قوم يعتدون في الدعاء)) فإياك أن تكون منهم، إنك إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن أعذت من النار أعذت منها، وما فيها من الشر".
[أخرجه أبو داود (1480) وغيره، وسنده حسن].
وبهذا يُعلم خطأ كثير من الأئمة، الذين يُفصلّون في دعائهم، ويشقّقون فيه، ويطيلون، وربما يصرخون ويحطحطون، فيُخشى أن تكون هذه الأفعال من الاعتداء في الدعاء، الذي يكون سبباً في تأخر الاستجابة، أو منعها، والله المستعان.
قال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55].
ثم إن في الإطالة والتشقيق مفاسد غير ما ذكرنا.
منها: إدخال الملل والمشقة على كثير من المأمومين، ولقد شكا كثير منهم ذلك.
ومنها: أن يسقط الداعي في ألفاظ وأدعية خاطئة، وهناك أمثلة كثيرة ليس هاهنا محل ذكرها.
قال النووي في المجموع (3 - 499):
"قال البغوي: يكره إطالة القنوت".
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إطالة الصلاة، وجعل ذلك فتنة، كما في حديث معاذ المشهور حين أطال الصلاة قال له:
((أتريد أن تكون فتاناً يا معاذ، إذا أممت الناس فاقرأ بـ {الشمس وضحاها} و {سبح اسم ربك الأعلى} فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف، وذو الحاجة)) (1).
فإذا كان هذا في قراءة القرآن، فماذا يكون في الدعاء؟ !
وأما آداب الدعاء ومحظوراته فتراجع في مظانها (2).
(1) البخاري ومسلم
(2)
من الكتب الماتعة في الدعاء كتاب (الدعاء) للشيخ حسين العوايشة.