الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستحسان
[الاستحسان وتخصيص العلة، وموضع الاستحسان هل يقاس عليه، وما يقال إنه مخالف للقياس وليس كذلك]
مسألة: «الاستحسان» كان أبو حنيفة وأصحابه يقولون به، وأنكره الشافعي عليهم، وبسط أبو الخطاب القول فيه عقيب تخصيص العلة، قال القاضي عبد الوهاب المالكي: ليس بمنصوص عن مالك، إلا أن كتب أصحابنا مملوءة من ذكره والقول به، ونص عليه أبو القاسم وأشهب وغيرهما، وفسره الحلواني بأوجه. ويحتمل عندي أن يكون الاستحسان ترك القياس الجلي وغيره الدليل نص من خبر واحد أو غيره، أو ترك القياس لقول الصحابي فيما لا يجري فيه القياس كما تقدم. وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب في كتاب «الهداية» في مسألة العينة حيث قال: لا يجوز استحسانا فلينظر إن كان ذكر ذلك أحد. ثم إني رأيت الفخر إسماعيل في كتابه «الجدل» قد ذكر هذا الذي ذكرته بعينه في تفسير الاستحسان أعني ترك القياس للحديث المخالف للقياس، اللائق بتفسير الاستحسان ما ذكرته ثانيا من ترك القياس لمخالفة الصحابي له، أعني فيما لا يجري فيه القياس؛ فإن الحنفية وافقونا في أن الصحابي إذا قال قولا لا يهتدي إلى القياس حمل على أنه قاله توقيفا والشافعية خالفونا في ذلك، وكذا الحنفية وافقونا في الاستحسان، والشافعية خالفونا وهذا وجه حسن إن شاء الله.
[قال شيخنا] :
وقد أطلق أحمد القول بالاستحسان في مواضع، قال في رواية الميموني: استحسن أن يتيمم لكل صلاة، والقياس أنه
بمنزلة الماء يصلي به حتى يحدث أو يجد الماء. وقال في رواية بكر بن محمد فيمن غصب أرضا فزرعها: الزرع لرب الأرض، وعليه النفقة، وهذا شيء لا يوافق القياس، لكن أستحسن أن يدفع إليه النفقة. وقال في رواية المروذي: يجوز شراء أرض السواد ولا يجوز بيعها فقيل له: كيف يشتري ممن لا يملك؟ فقال: القياس كما تقول، ولكن هو استحسان. وقال في رواية صالح في المضارب إذا خالف فاشترى غير ما أمره به صاحب المال: فالربح لصاحب المال، ولهذا أجرة مثله، إلا أن يكون الربح يحيط بأجرة مثله فيذهب، وكنت أذهب إلى أن الربح لصاحب المال، ثم استحسنت.
وبه قال أصحاب أبي حنيفة، وذكر عن إياس بن معاوية، وكتب مالك مشحونة بالاستحسان، وكذلك قال الشافعي: أستحسن في المتعة قدر ثلاثين درهما.
وقد أنكر الشافعي وأصحابه القول بالاستحسان، وقال أحمد في رواية أبي طالب: أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلاف القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون ما يزعمون أنه الحق بالاستحسان، وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه. قال القاضي: هذا يدل على إبطال القول بالاستحسان.
قال أبو الخطاب: وعندي أنه أنكر عليهم القول بالاستحسان من غير دليل ولهذا قال: «يتركون القياس الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان» فلو كان الاستحسان عن دليل ذهبوا إليه لم ينكره؛ لأنه حق، وقال:«أنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه» معناه: أني أترك القياس بالخبر، وهذا هو الاستحسان بالدليل.
وفصله فصولا؛ أحدها: أن هذه التسمية صحيحة. الثاني في حده.
قال: والذي يقتضيه كلام أصحابنا أن يكون «حد الاستحسان» العدول عن موجب القياس إلى دليل هو أقوى منه؛ لأنه لم يرد لفظه إلا أنه ترك القياس للاستحسان، فأما في ترك دليل آخر فلم يرد. قال: وحده شيخنا بأنه ترك الحكم إلى حكم هو أولى منه. قال: وليس بشيء؛ لأن الأحكام لا يقال بعضها أولى من بعض ولا بعضها أقوى من بعض وإنما القوة للأدلة.
وحده بعضهم بأنه ترك القياس إلى قياس أقوى منه، قال: وهذا باطل فإنهم إذا تركوا القياس لنص أو تنبيه كان استحسانا.
وحده بعضهم بأنه ترك طريقة الحكم على طريقة أخرى أولى منها لولاها لوجب البنيان على الأولى.
وحده الكرخي بأنه العدول عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم في نظائرها لوجه هو أقوى من الأول. قال: وهذا معنى الذي قبله، ويلزم عليه أن يكون العدول عن العموم إلى التخصيص استحسانا، والعدول عن العموم إلى الخصوص استحسانا (1) .
[شيخنا] :
…
...
…
فصل
قال أبو الخطاب: ومعنى الاستحسان أن بعض الأمارات تكون أقوى من القياس فيعدل إليها عن غير أن يفسد القياس، وهذا راجع إلى تخصيص العلة. قال: وشيخنا يمنع من تخصيص العلة وينصر القول بالاستحسان، ولا أعرف لقوله وجها. وقد أورد القاضي على نفسه هذا في مسألة تخصيص العلة، وفرق بين تخصيصها وبين ترك قياس الأصول للخبر، قال: ولأنهم قد يعدلون في الاستحسان عن قياس وعن غير قياس، فامتنع أن يكون معناه تخصيصا بدليل (2) .
(1) المسودة ص 451-453 ف 2/12.
(2)
المسودة ص 453 ف 2/12.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
فصل
في الاستحسان، وتخصيص العلة، وموضع الاستحسان هل يقاس عليه أم لا؟ وما يرد من الأحكام الثابتة بالنص والإجماع ويقال: إنها مخالفة للقياس. فإن هذه قواعد كثر اضطراب الناس فيها، والحاجة ماسة إلى تحقيقها في كثير من مسائل الشريعة أصولها وفروعها.
أما الاستحسان فالمشهور من معانيه أنه مخالفة القياس لدليل قد يراد به غير ذلك.
والعلماء في لفظه ومعناه المذكور على ثلاثة أقوال:
منهم من ينكر هذا اللفظ مطلقا، وهم نفاة القياس كداود وأصحابه وكثير من أهل الكلام من المعتزلة والشيعة وغيرهم، فليس عندهم في أدلة الشرع لا قياس ولا استحسان.
ومنهم: من يقر به بهذا المعنى ويجوز مخالفة القياس للاستحسان ويعمل بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان، وهذا هو الصواب عن أبي حنفية وأصحابه.
ومنهم: من ذم الاستحسان تارة وقال به تارة كالشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم.
وفي كتب مالك وأصحابه ذكر لفظ الاستحسان في مواضع.
والشافعي قال: من استحسن فقد شرع، وتكلم في إبطال الاستحسان وبسط القول في ذلك، وكان من أعظم الأئمة إنكارا له،
وهو الذي عليه أصحابه في أصول الفقه، ومع هذا فقد قال بلفظ الاستحسان، كما قال: أستحسن أن تكون المتعة ثلاثين درهما، ولهذا يحكي للشافعي من الاستحسان قولهم: قديم، وجديد.
وكذلك أحمد بن حنبل نقل عنه أبو طالب أنه قال: أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلاف القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون الذين يزعمون أنه الحق بالاستحسان، قال: وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه. قال القاضي أبو يعلى: ظاهر هذا يقتضي إبطال القول بالاستحسان، وكيف لا يصح قياس المنصوص عليه على المنصوص عليه.
قلت: مراد أحمد أني أستعمل النصوص كلها ولا أقيس على أحد النصين قياسا يعارض النص الآخر كما يفعل من ذكره حيث قاسوا على أحد النصين ثم يثبتون الاستحسان إما بالنص أو غيره، والقياس عندهم من جنس العلة الصحيحة، فينقضون العلة التي يدعون صحتها بمجمل أو قياس معارض.
وهذا من أحمد يبين أنه يوجب طرد العلة الصحيحة، وأن انتقاضها بمساويها من مخالف يوجب فسادها؛ ولهذا قال: لا أقيس على أحد النصين قياسا ينقضه النص الآخر، فإن ذلك يدل على فساد القياس. وهو يستعمل مثل هذا في مواضع مثل حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أراد أحدكم أن يضحي ودخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا من بشرته شيئا» مع حديث عائشة:«كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يبعث به وهو مقيم لا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم» . والناس في هذا على ثلاثة أقوال:
منهم: من سوى بين الهدي والأضحية في المنع ويقول: إذا أرسل المحرم هديا لم يحل حتى ينحر كما يروى عن ابن عباس وغيره.
ومنهم: من سوى بينهما في الإذن ويقول: بل المضحي لا يمنع عن شيء كما لا يمنع المهدي، فيقيسون على أحد النصين ما يعارض الآخر.
وفقهاء الحديث كيحيى بن سعيد والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم عملوا بالنصين ولم يقيسوا أحدهما على الآخر، كما أن الله لما أحل البيع وحرم الربا لم يقس المسلمون أحدهما على الآخر، وإنما هذا قياس المشركين، وكذلك لما أحل الله الذكي وحرم الميتة لم يقيسوا أحدهما على الآخر، بل هذا قياس المشركين، وكذلك لما جاء الكتاب والسنة بالقرعة وجاء بتحريم القمار لم يقيسوا أحدهما على الآخر، أجازوا القرعة وحرموا الميسر والاستقسام بالأزلام ولم يقل بها.
وكان أحمد أكثر الفقهاء عملا بالقرعة، لما كان عنده فيها من النصوص والآثار.
وكذلك عند أحمد وغيره من فقهاء الحديث لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس إذا صلى الإمام قاعدا أن يصلوا قعودا أجمعين، ثم لما افتتحوا الصلاة قياما أتمها بهم قياما عملا بالحديثين ولم يقس على أحدهما قياسا يناقض الآخر بجعله منسوخا كما فعل طائفة من الفقهاء كالشافعي والحميدي وغيره. واستدل هو وغيره بأن الصحابة بعده لما صلوا جلوسا أمروا من خلفهم بالجلوس وقال: شهدوا صلاته في آخر عمره مثل أسيد بن الحضير وهو من أفضل السابقين الأولين من الأنصار، وقد فعل ذلك في عهد أبي بكر فإنه قتل في قتال المرتدين من بني حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب.
وقد قال أحمد بالاستحسان في مواضع، كقوله في رواية صالح في المضارب إذا خالف فاشترى غير ما أمر به صاحب المال فالربح لصاحب المال، ولهذا أجرة مثله، إلا أن يكون الربح يحيط بأجرة مثله فيذهب.
قال: وكنت أذهب إلى أن الربح لصاحب المال ثم استحسنت. وقال في رواية الميموني: أستحسن أن يتيمم لكل صلاة ولكن القياس أنه بمنزلة الماء يصلي به حتى يحدث أو يجد الماء. وقال في رواية المروذي: يجوز شراء أرض السواد ولا يجوز بيعها. فقيل له: كيف يشتري ممن لا يملك؟ فقال: القياس كما تقول ولكن هو استحسان واضح؛ فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصوا في شراء المصاحف وكرهوا بيعها، وهذا شبه ذاك.
وقال في رواية بكر بن محمد فيمن غصب أرضا وزرعها: الزرع لرب الأرض وعليه النفقة، وليس هذا شيئا يوافق القياس. أستحسن أن يدفع إليه نفقته. اهـ.
وقد جعل القاضي أبو يعلى المسألة على روايتين، ونصر هو وأتباعه كأبي الخطاب وابن عقيل القول بالاستحسان كقول أصحاب أبي حنيفة. ونصر هؤلاء الاستحسان الذي يقولون به بأنه ترك الحكم إلى حكم هو أقل منه. وقيل: هو أولى القياسين.
قالوا -وهذا لفظ القاضي- وأما الحجة التي يرجع إليها في الاستحسان فهي الكتاب تارة، والسنة أخرى، والإجماع ثالثة. وبالاستدلال يترجح شبه بعض الأصول على بعض، كما قلنا بالاستحسان لأجل الكتاب في شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السفر إذا لم نجد مسلما.
قال: ومما قلنا فيه بالاستحسان للسنة فيمن غصب أرضا وزرعها فالزرع لذي الأرض وعلى صاحب الأرض النفقة لصاحب الزرع، لحديث رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من زرع في أرض قوم فالزرع لرب الأرض وله نفقته» وقال: كان القياس أن يكون الزرع لزارعه.
قال: ومما قلنا فيه بذلك للإجماع: جواز سلم الدراهم والدنانير في الموزونات، وكان القياس ألا يجوز ذلك لوجود العلة وهي الوزن إلا أنهم استحسنوا فيه للإجماع.
قلت: من ذلك أن نفقة الصغير وأجرة مرضعته على أبيه أو أبي أمه بالنص والإجماع، والقياس عند من يجعل النفقة على كل وارث بفرض أو تعصيب، أو على كل ذي رحم محرم أو على عمودي النسب مطلقا -أي تكون على من لا يرث- وكذلك يقولون: جواز إجارة الظئر ثابتة بالنص والإجماع على خلاف القياس؛ بل قد يقولون بجواز الإجارة بل وجواز القرض والقراض وغير ذلك على خلاف القياس للإجماع؛ لكن إذا أبدوا معنى يقتضي التخصيص مثل الحاجة فمثل هذا يقول به جميع الأئمة؛ بل جميع علماء الملة، مثل إباحة الميتة للمضطر للنص وصلاة المريض قاعدا للحاجة ونحو ذلك، وإنما يتنازعون إذا لم يظهروا في إحدى الصورتين معنى يوجب الفرق.
ولهذا فسر غير واحد الاستحسان بتخصيص العلة، كما ذكر ذلك أبو الحسن البصري والرازي وغيرهما، وكذلك هو؛ فإن عامة الاستحسان الذي يقال فيه إنه يخالف القياس حقيقته تخصيص العلة.
والمشهور عن أصحاب الشافعي منع تخصيص العلة، وعن أصحاب أبي حنيفة القول بتخصيصها كالمشهور عنهما في منع الاستحسان وإجازته.
ولكن في مذهب الشافعي خلاف في جواز تخصيص العلة، كما في مذهب مالك وأحمد.
ومن الناس من يحكي ذلك روايتين عن أحمد.
والقاضي أبو يعلى وأكثر أتباعه كابن عقيل ينفون تخصيص العلة
مع قولهم بالاستحسان وكذلك أصحاب (1) .
وأما أبو الخطاب فيختار تخصيص العلة موافقة لأصحاب أبي حنيفة؛ فإن هذا هو الاستحسان كما تقدم. وهو لا يجوز أن يخصصها بمجرد دليل يدل على التخصيص وإن لم يبين اختصاص صورة النقض بفوات شرط أو وجود مانع. وهذا حقيقة ما ذكره القاضي، وهو لا ينفي الاستحسان كما ذكره من الأمثلة؛ لكن القاضي وغيره ممن يقول بالاستحسان ومنع تخصيص العلة فرقوا بينهما فقالوا: واللفظ للقاضي لا يجوز تخصيص العلة الشرعية، وتخصيصها نقضها. قال: ولذلك قال أحمد في رواية الحسن بن حيان: القياس كأن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فهذا خطأ. قال: وهذا الكلام يمنع من تخصيصها قال: وقد ذكر أبو إسحاق -يعني ابن شاقلا- في شرح الخرقي فقال: أصحابنا على وجهين؛ منهم: من يرى تخصيص العلة، ومنهم من لا يرى ذاك. وقال: وقد ذكرها أبو الحسن الجزري في جزء فيه مسائل الأصول: لا يجوز تخصيصها. قال: وقول أحمد: القياس كان يقتضي ألا يجوز شراء أرض السواد؛ لأنه لا يجوز بيعها. ليس موجبا لتخصيص العلة بأنها من حكم خاص. وما ذكره أحمد إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول من الحكم العام. وقد يترك قياس الأصول للخبر، ولذلك أجاب من احتج على جواز تخصيصها بالاستحسان، وقد قال: كيف يشتري ممن لا يملك؟ فقال أحمد: القياس كما تقول وإنما هو استحسان، واحتج بقول الصحابة في المصاحف وقال في الجواب بمثل تخصيص العلة كالمنع من جريها في حكم خاص. وما ذكره أحمد إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول، ولأنهم يعدلون في الاستحسان
(1) بياض في الأصل محل كلمة.
عن قياس وعن غير قياس، فامتنع أن يكون معناه تخصيص بدليل. وقد تابعه أبو الخطاب.
وهذا الذي ذكره القاضي فيه قد ذكره كثير من العلماء فيما إذا عارض النص قياس الأصول فقالوا: يقدم النص.
واختلفوا فيما إذا عارض خبر الواحد قياس الأصول كحديث المصراة ونحوه، وإنما الأول مثل حمل العاقلة؛ فإنهم يقولون: هو خلاف قياس الأصول، وهو ثابت بالنص والإجماع.
وهذا يذكره بعض الناس قولا ثالثا في تخصيص العلة، ويذكرون قولا رابعا وهو أنه يجوز المنصوصة دون المستنبطة. وأكثر المانعين من التخصيص من أصحاب الشافعي وأحمد كابن حامد وأبي الطيب والقاضي أبي يعلى وغيرهم يقولون: إن اختصت المنصوصة يقينا أنها بعض العلة وإلا فلا يجوز تخصيصها بحال. وهذا النزاع إنما هو في علة قام على صحتها دليل كالتأثير والمناسبة. وأما إذا اكتفى فيها بمجرد الطرد والسلامة من المفسدات فهذه تبطل بالتخصيص باتفاقهم. وأما الطرد المحض الذي يعلم خلوه عن المعاني المعتبرة فذاك لا يحتج به عند أحد من العلماء المعتبرين؛ وإنما النزاع في الطرد الشبهي كالمجوزات الشبهية التي يحتج بها كثير من الطوائف الأربعة، لا سيما قدماء أصحاب الشافعي فإنها كثيرة في حججهم أكثر من غيرهم.
والتحقيق في هذا الباب: أن العلة تقال على «العلة التامة» وهي المستلزمة لمعلولها. فهذه متى انتقضت بطلت بالاتفاق وتقال على «العلة البعضية» وتسمى الديرة، وتسمى السبب، ودليل العلة، ونحو ذلك فهذه إذا انتقضت لفرق مؤثر يفرق فيه بين صورة النقض وغيرها من الصور لم تفسد. ثم إذا كانت صورة الفرع التي هي صورة النزاع في
معنى صورة النقض ألحقت بها، وإن كانت في معنى صورة الأصل ألحقت بها.
فمن قال: إن العلة لا يجوز تخصيصها مطلقا لفوات شرط أو وجود مانع فهذا مخطئ قطعا، وقوله مخالف لإجماع السلف كلهم الأئمة الأربعة وغيرهم؛ فإنهم كلهم يقولون بتخصيص العلة لمعنى يوجب الفرق، وكلامهم في ذلك أكثر من أن يحصر. وهذا معنى قول من قال: تخصيصها مذهب الأئمة الأربعة. والقول بالاستحسان المخالف للقياس لا يكون إلا مع القول بتخصيص العلة. وما ذكروه من اعتراض النص على قياس الأصول فهو أحد أنواع تخصيص العلة، وهذا تسليم منهم لكون العلة تقتضي التخصيص في الجملة.
وأما من جوز تخصيص العلة بمجرد دليل لا يبين الفرق بين صورة التخصيص وغيرها فهذا مورد النزاع في الاستحسان المخالف للقياس وغيره.
ثم هذه العلة إن كانت مستنبطة وخصت بنص ولم يتبين الفرق المعنوي بين صورة التخصيص وغيرها فهذا أضعف ما يكون. وهذا هو الذي كان ينكره كثيرا الشافعي وأحمد وغيرهما على من يفعله من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم. وكلام أحمد فيما تقدم أراد به هذا؛ فإن العلة السببية لم تعلم صحتها إلا بالرأي، فإذا عارضها النص كان مبطلا لها. والنص إذا عارض العلة دل على فسادها، كما أنه إذا عارض الحكم الثابت بالقياس دل على فساده بالإجماع.
وأما إذا كانت العلة منصوصة وقد جاء نص بتخصيص بعض صور العلة فهذا مما لا ينكره أحمد بل ولا الشافعي ولا غيرهما، كما إذا جاء نص في صورة وجاء نص يخالفه في صورة أخرى لكن بينهما شبه لم يقم دليل على أنه مناط الحكم فهؤلاء يقرون النصوص ولا يقيسون
منصوصًا على منصوص خالف حكمه، بل هذا من جنس الذين قالوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [275/2] وهذا هو الذي قال أحمد فيه: أنا أذهب إلى كل حديث كما جاء ولا أقيس عليه. أي لا أقيس عليه صورة الحديث الآخر فأجعل الأحاديث متناقضة وأدفع بعضها ببعض بل أستعملها كلها.
والذين يدفعون بعض النصوص ببعض يقولون: الصورتان سواء لا فرق بينهما فيكون أحد النصين ناسخا للآخر.
ومثل هذا كثيرا ما يتنازع فيه فقهاء الحديث ومن ينازعهم ممن يقيس منصوصًا على منصوص ويجعل أحد النصين منسوخا لمخالفته قياس النص الآخر فيمضي هذا القياس ويبقى الأمر دائرا: هل دل الشرع على التسوية بين الصورتين حتى يجعل حكمهما سواء ويجعل الحكم الوارد في إحداهما منسوخا بالحكم المضاد له الوارد في الأخرى كما يقوله من يجعل القرعة منسوخة بآية الميسر، وأمر المأمومين بأن يتبعوا الإمام فإذا كبر كبروا وإذا ركع ركعوا وإذا صلى جالسا صلوا جلوسا أجمعين (1) قياسهم على الصلاة التي صلوا بعضها خلف إمام قائم وباقيها خلف إمام قاعد، ويجعل حديث الأضحية والهدي أحدهما منسوخا بالآخر ويجعلون قطع جاحد العارية منسوخًا بقوله:«ليس على المختلس ولا المنتهب ولا الخائن قطع» ويجعلون العقوبة المالية منسوخة بالنهي عن إضاعة المال، ويجعلون تضعيف الغرم على من درئ عنه القطع منسوخا بقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [40/42] ويجعل بعضهم ما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين المشركين من الهدنة منسوخا بقوله: «من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل»
(1) كلمة في الأصل غير واضحة ولعلها: فيطردون.
وكثيرا مما يدعونه من الناسخ لا يعلمون أنه بعد المنسوخ. فهذا ونحوه من دفع النصوص الصحيحة الصريحة بلفظ مجمل أو قياس هو مما ينكره أحمد وغيره.
وكان أحمد يقول: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس. وقال: ينبغي للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين: المجمل والقياس، ومراده أنه لا يعارض بهما ما يثبت بنص خاص، ولا يعمل بمجردهما قبل النظر في النصوص والأدلة الخاصة المفسرة. وكلامه وكلام غيره من الأئمة كالشافعي وغيره من المجمل لا يريدون بالمجمل ما لا يفهم معناه كما يظنه بعض الناس، ولا ما لا يستقل بالدلالة؛ فإن هذا لا يجوز الاحتجاج به.
قال: وأما إذا جاء نصان بحكمين مختلفين في صورتين وثم صور مسكوت عنها فهل يقال القياس هو مقتضى أحد النصين فما سكت عنه يلحق به وإن لم يعلم المعنى الفارق بينه وبين الآخر؟ فهذا هو الاستحسان الذي تنوزع فيه. فكثير من الفقهاء يقول به كأصحاب أبي حنيفة وكثير من أصحاب أحمد وغيره، وهذا هو الذي ذكره القاضي بقوله: اعتراض النص على قياس الأصول، وهو في الحقيقة قول بتخصيص العلة، كما تقدم.
ومن لم يجوز تخصيصها في صورة التخصيص وغيره إلا بفارق يقول: لا بد أن يعلم الجامع أو الفارق، فليس إلحاق المشكوك بأحد النصين بأولى من إلحاقه بالآخر، وإذا علم المعنى من أحد النصين ولم يعلم من الآخر وجاز أن يكون المشكك فيه من معنى هذا ومعنى هذا لم يلحق بواحد منهما إلا بدليل. وإذا علم المعنى من أحد النصين ووجوده مشكوك فيه ولم يعلم المعنى من الآخر فهذا أقوى من الذي قبله؛ فإنه هنا قد علم بعض القياس الصحيح وشموله لصورة المسكوت. وأما وجود الفارق فيه فمشكوك فيه.
وهذا نظير أخذ أحمد بالنصوص الواردة في سجود السهو، فما كان منها قبل السلام أخذ به، وما كان بعد السلام أخذ به، وما لم يجيء فيه نص ألحقه بما قبل السلام لأنه القياس عنده.
وتحقيق هذا كما مر: أنه إما أن يعلم استواء الصورتين في الصفات المؤثرة في الشرع. وإما أن يعلم افتراقهما وإما أن لا يعلم واحد منهما.
فالأول متى ثبت الحكم في بعض الصور دون بعض علم أن العلة باطلة. وهذا مثل دعوى من يدعي أن الواجب النفقة بين الإيلاد أو بين الرحم المحرمة، أو مطلق الإرث بفرض أو تعصيب؛ ويقول: إذا اجتمع الجد والجدة كانت النفقة عليهما؛ فإنه لما ثبت بالنص والإجماع أنه إذا اجتمع الأبوان كانت النفقة على الأب علم أن العصبة في ذلك يقدم على غيره إذا كان وارثا بفرض وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وعلم أن قوله:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [233/2] هو الوارث المطلق، وهو العاصب إن كان موجودا؛ لأن عمر جبر بني عم منغوس على نفقته. وهذه الآية صريحة في إلحاق نفقة الصغير على الوارث العاصب، وقال بها جمهور السلف، وليس فيما خالفها حجة أصلا؛ ولكن ادعى بعضهم أنها منسوخة، ونقل ذلك عن مالك. وبعضهم قال: عليه أن لا يضار فتركها بدون نسخ أو تأويل هو من نوع تحريف الكلم عن مواضعه لغير معارض لها أصلا مما يعلم بطلانه كل من تدبر ذلك.
وإذا كانت الأم أقرب الناس إليه لا نفقة عليها مع الأب وهي تحوز الثلث معه فأن لا يجب على الجدة مع الجد وهي تحوز السدس أولى وأحرى. والقائلون بذلك يقولون: القياس يقتضي وجوب ثلثها على الأم؛ لكن ترك ذلك للنص. فيقال: أي قياس معكم إنما يكون قياسا لو كان معهم نص يتناول هذه الصورة بلفظه أو معناه، وليس معهم ذلك،
ولو كان ذلك لكان مجيء هذا النص بهذا يوجب إلحاق نظائره به فيقاس على الأب مع الأم.
وكذلك إسلام النقدين في الموزونات يقدح في كون العلة الوزن، ولم يثبت ذلك بنص بين؛ بل بعلة مستنبطة قد عارضها ما هو أقوى منها؛ فانتقاض العلة يوجب بطلانها إذا لم تختص صورة النقض بفرق معنوي قطعا؛ فإن الشارع حكيم عادل لا يفرق بين المتماثلين، فلا تكون الصورتان متماثلتين ثم يخالف بين حكميهما؛ بل اختلاف الحكمين دليل على اختلاف الصورتين في نفس الأمر، فإن علم أنه فرق بينهما كان ذلك دليلا على عدم استوائهما في نفس الأمر، وإن لم يعلم مجيء الفرق لم يجز أن يجمع ويسوى إلا بدليل يقتضي ذلك. وهذا معنى قول إياس بن معاوية من القضاة: قيسوا للقضاة ما صلح الناس فإذا فسدوا فاستحسنوا. فأقر مخالفة القياس إذا تغير الأمر بحصول معاند يمنع القياس.
وأحمد قال بالاستحسان لأجل الفارق بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا من باب تخصيص العلة للفارق المؤثر، وهذا حق، وأنكر الاستحسان إذا خصت العلة من غير فارق مؤثر؛ ولهذا قال: يدعون القياس الذي هو حق عندهم للاستحسان.
وهذا أيضا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وغيره، وهو منكر كما أنكروه؛ فإن هذا الاستحسان وما عدل عنه من القياس المخالف له يقتضي فرقا وجمعا بين الصورتين بلا دليل شرعي؛ بل بالرأي الذي لا يستند إلى بيان الله ورسوله وأمر الله ورسوله، فهو عندهم وضع شرع ابتداء وقد قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [21/42] وذلك أنه إذا كان القياس لم ينص الشارع على علته ولا دل لفظ الشارع على عموم المعنى فيه ولكن رأي الرائي