الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالرسول صلى الله عليه وسلم يشبه ما جاء به من الوحي والعلم بالمطر، وعلى ضوء هذا التفسير النبوي يمكن دراسة المثل في الآية الكريمة.
د- هذا المثل في الآية مؤلف من أربعة عناصر هي:
1 -
قد جاءنا من الله علم وهدى مثله كمثل الغيث المبارك.
2 -
الذين جاءهم العلم كالأرض التي نزل عليها الغيث.
3 -
هذا الهدى يجري في أعماق قلوبهم كما يجري الغيث في أعماق الأرض وقلوب الناس تقبل من الهدى حسب طبيعتها بالضيق والسعة كما يقبل كل واد من الغيث حسب ضيقه وسعته.
4 -
لب العبرة في المثل: فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً [الرعد: 17] والزبد رغوة ذات فقاقيع تطفو على سطح الماء ثم لا تلبث أن تزول تاركة تحتها الماء النافع، فالباطل في تفاهته وسرعة زواله كالزبد والحق في أصالته وبقائه كالماء النافع الذي جعل منه الله تعالى كل شيء حي.
هـ- التوسع في توضيح هذا المثل:
-
العنصر الأول:
الإنسان مؤلف من جسم وروح فليس من المعقول والحكمة أن ينزل الله للأجسام ما تحتاجه وتتغذى به ويهمل الروح التي هي أهم شيء في هذا الكائن الحي وبذلك تتبدد شبهات الملاحدة الذين ينكرون النبوات ورسالة السماء.
وهذا الذي أنزله الله للقلوب والأرواح مقابل الماء الذي أنزله الله للأجسام والأبدان وهو الوحي: روح القلوب وسر حياتها فإذا سرى الوحي في الأرواح عاشت كما يعيش الجسم إذا سرى فيه الماء، قال تعالى:
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى: 52].
والعنصر الثاني:
إن حياة النفوس بهدى الله تعالى ولا حياة لها بغيره كما أن حياة الأرض بالماء ولا حياة لها بدونه فلا حياة لها بذهب أو فضة أو مال ولا غير ذلك، فبالماء وبالماء فقط تحيا الأرض فالذين يظنون أن تحيا نفوسهم بغير ما أنزل الله من مدنيات أو علوم خالية من الروح، أو يظنونها تحيا بكثرة ما يجمعون من عرض الدنيا إذ لا موت إلا فيما يطلبون ولا حياة إلا فيما يعرضون عنه ويدعون.
قال تعالى:
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 122].
فهؤلاء: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل: 21].
ما داموا بعيدين عن مصدر الحق كما تموت الأرض إذا بعدت عن الماء والله ينادينا فيقول: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد: 17].
وأرض القلوب والنفوس كهذه الأرض التي نعيش عليها. فقد قال قبل هذه الآية:
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الحديد: 16 - 17].
- إن للماء الذي يسري في الأرض شاهدا ملموسا نراه في الزرع والزهر والشجر والثمر فهل بحياة النفوس والقلوب بالوحي من آثار؟ نعم.
ومنها:
1 -
الشعور بالرضا والغبطة فليس للكم القليل أو الكثير حساب في غبطته ورضاه وإنما هو سر نبع في وجدانه من عالم غير عالم الكميات التي يحيط بها العد ويقدرها الكيل والميزان. فهو سعيد بغير سبب من أسبابنا المنظورة.
2 -
أن يشعر بيسر ما يلقى عليه من أعباء الحياة: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق: 4].
لأنه لا يعمل بطاقته الظاهرة فقط بل بمدد من الطاقة الروحية أيضا.
3 -
يحل في نفسه حب الفضيلة وبغض الرذيلة وتتلاشى في نظره الفوارق الاجتماعية.
4 -
يجعل حب الدنيا في يده فيضمها ويقبضها متى شاء ولا يجعلها بقلبه وبذلك يسيطر على الشهوات ولا تسيطر عليه الشهوات فيكون عبدا لها، فهو سيد على ماله لا عبدا له قال تعالى:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران: 14].
5 -
ليست الحياة في نظر من يؤمن بالوحي صراعا على حطام الدنيا، وليست شهوة حسية بل هي عبودية مطلقة لله تعالى، من خلق كريم وتضحية وجهاد وإيثار وشجاعة وعند ذلك يكون هذا الكائن الحي هو الزرع المبارك الكريم، الذي ينبت في أرض بشريتنا كما نبت قديما برعاية الرسول صلى الله عليه وسلم في بشرية الصحابة رضوان الله عليهم، حين سقيت وهي ميتة بوحي الله العظيم. فأصبحوا كما قال الله فيهم:
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ [الفتح: 29].