الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويعبر عن الغارة بلفظة "تادم" في العربيات الجنوبية، وتطلق على كل حملة عسكرية أيضًا1.
ولا تقتصر الغارات على غارات قطعات الجيش على العصاة والثوار. بل قد تقوم بها قبيلة على قبيلة، وقد يقوم بها أفراد، لأسباب مختلفة. وقد يقوم بها اللصوص والصعاليك، يغيرون على أحياء العرب وعلى السابلة للحصول على مغنم. وكان بعض أصحاب الغارات يمعنون في الغارة فيبتعدون عن منازلهم. ويعدّون "بُعد الغارة" نوعًا من أنواع الشجاعة والفروسية، لما تكتنف المغير من أخطار ومهالك. وكان "مروان بن زنباع"، ويقال له:"مروان القرظ" من "مشهوري أهل الجاهلية في بُعد الغارة"2.
وكانت الغارات والغزوات من أهم وسائل الإعاشة والحصول على مغانم بالنسبة للقبائل النازلة على حدود الحضارة أو على مقربة منها، مثل: حدود العراق أو حدود بلاد الشأم. وتكثر الغارات في سني الجدب والقحط وانحباس المطر. فلا يبقى أمام تلك القبائل للبقاء على حياتها سوى النزوح إلى أماكن أخرى مخصبة معشبة، ويؤدي ذلك إلى التقاتل مع القبائل الأخرى النازلة في تلك الأرضين، أو مع قوات الحدود التي تحاول رد تلك القبائل خشية غزوها للحضر أو لمن يقيم وراء الحدود من أعراب. لذلك استعملت حكومات العراق وبلاد الشأم جملة وسائل لكبح جماح الأعراب الغزاة في جملتها حماية الحدود بـ"مسالح" بنيت في أطراف البوادي وفي نهايات الطرق التي توصل إلى الحضر، تضع بها قوات مقاتلة نظامية وغير نظامية من الأعراب أصحاب الإبل لمقاتلة الأعراب، وتقديم الأطعمة والميرة من المستودعات المقامة في "المسالح" و"القصور" إلى سادات القبائل لسد ما عندها من نقص في الطعام، وبإقامة إمارات عربية، تودع إليها أمور تأمين الأمن في البادية وحماية الحدود من غارات الأعراب.
1 South Arabian Inscriptions، P.449
2 الاشتقاق "2/ 169".
المحاربون:
والمحاربون على نوعين: أحرار وعبيد. ولذلك نجد بعض الكتابات العربية
الجنوبية تشير إلى هذين النوعين من المقاتلين، مما يدل على كثرة عدد العبيد الذين يؤمرون بالقتال في ذلك الزمن. جاء في نص "كرب إيل وتر"الموسوم بـGlaser Ioooa" وجيش عبدان من أحرار ورقيق". وورد هذا التعبير في نصوص أخرى تعبيرًا عن وجود عدد كبير وربما أفواج من المقاتلين العبيد في جيوش ذلك الزمن.
والسخرة هي الطريقة الغالبة في التجنيد، فإذا وقع خطر، طلب الملك من الأقيال والرؤساء تسخير من يتمكنون تسخيره للقتال. ويبقى المسخر في الخدمة التي تنتهي الحرب. ولما كان المسخرون قد أجبروا على القتال إجبارًا، وهم من الطبقات الدنيا في الغالب، وليس لهم ما يقتاتون به، لذلك، كثرت حوادث التهرب من الجيش، والفرار منه في أثناء القتال. ووضع مثل هذا يؤثر على مصير الحرب بالطبع.
ويتولى الحرب والجيش أناس مدربون على أسلوب القتال، لهم خبرة بالحروب، أو سادات قوم عليهم واجب قيادة قومهم عند ظهور غزو أو خطر أو حرب، ويعرف مثل هؤلاء بقادة، والواحد "قائد"1.
وكان بعض قادة الجيش عند العرب الجنوببين يحملون درجة "مقتوي"، وهي منزلة خاصة في درجات القيادة العسكرية، وورد "مقتوي ملكن"، أي "مقتوى الملك" بمعنى "قائد الملك"2. والظاهر أن هذه الدرجة كانت خاصة بمن يختارهم الملوك لقيادة الجيوش. فإذا اختار الملك شخصًا من الجيش أو من سادات القبائل أو من أصحاب الأرض لأمر يراه فيه، وعينه لقيادة الجيش، عبر عن مكانته هذه بـ"مقتوي" وبـ"مقتوى الملك". وقد عرف علماء اللغة هذه اللفظة، غير أنهم عبروا عنها بلفظة "مغالب". ولم يبينوا ما المراد من "مغالب"3.
ويقال للضابط الذي يقود الجيش، أو قطعة منه:"أسود"، وذلك في اللغة السبئية4.
وقد كان لطبقة قواد الجيش شأن كبير، وسلطان واسع، ويعرف القائد
1 اللسان "3/ 370"، تاج العروس "2/ 477".
2 Rep. Epigr. 4861، 4876، 4892، Cih 405، Grohmann، 131
3 اللسان "مادة قوي" تاج العروس "10/ 307".
4 Jamme 665
بـ"ق س د ن""قسدن"، أي:"القاسد" أيضًا1. وقد ظل هذا الاستعمال معروفًا في العهد الحبشي كذلك. لوروده في نص "أبرهة". ولكن هذا لا يعني أن "القاسد" كان عسكريًّا محترفًا، مختصًّا بقيادة الجيش، فقد كان القواد من رؤساء العشائر ومن الوجهاء والكبراء يقودون أتباعهم في أثناء الحروب. أما في أثناء السلم. فيعودون إلى أعمالهم الاعتيادية، كإدارة الأرض أو القبيلة. ولهذا ففي استطاعتنا أن نقول: إن من بين قواد الجيش أناسًا لم يكونوا من المتخصصين بالقيادة وبشئون الحرب، وإنما هم قواد متطوعون وسادات قبائل تضطرهم مراكزهم إلى قيادة أتباعهم في أمثال هذه المناسبات.
وقد فهم بعض الباحثين أنها تعني المحاربين من النوعين: الأشراف والقادة من أصحاب الدرجات الرفيعة العالية، والمحاربين المحترفين للحرب، حتى صارت الجندية حرفة لهم، يعيشون منها. فهم طبقة عسكرية خاصة محترفة على نحو ما كان عند "البطالمة" بمصر وعند غير البطالمة من جيوش ودول2. ولكن أكثر الباحثين يرون أن الـ"قسد" هم الطبقة الرفيعة من الأشراف وقادة الجيوش.
وعرف المكلف بإدارة موقع من المواقع العسكرية، والذي يتولى أمر إدارة حاميته بـ"امر"3. أي:"آمر""الآمر"، وربما الأمير. وعرف الضابط الذي يتولى قيادة جماعة من الجيش بـ"اسود"4. وأما "قدم"، فإنه المقدم الذي يقود قطعة من الجيش5. وربما قصد به من يتولى أمر قيادة مقدمة الجيش.
ويعبر بلفظة "قتدم" عن تأمير الـ"قدم" وتنصيبه في وظيفته6. أي: آمرًا على قطعة الجيش. ويعبر عن التقدم للهجوم على العدو، أي: على الهدف المقصود من الحملة، بلفظة "تقدم"7.
1 "القسود: كقتول: الغليظ الرقبة القوي" اللسان "4/ 352"، القاموس "1/ 327".
2 Grohmann، S. 122
3 South Arabian Inscriptions، P.427 النص 576.
4 South Arabian Inscriptions، P.427
5 South Arabian Inscriptions، P.446
6 المصدر نفسه "ص447".
7 المصدر نفسه "ص450".
وقد عرف القادة الذين قادوا ألف رجل فما فوق بـ"الجرّارين". ذكر "محمد بن حبيب السكري"، أن العرب لم تكن تسمى الرجل جرارًا، حتى يرأس ألفًا. ومن هؤلاء "المطلب بن عبد مناف بن قصي" قاد "بني عبد مناف" وأحلافها من الأحابيش يوم "ذات نكيف". و"بلعاء بن قيس الكناني" قاد "بني عبد مناة" يوم "ذات نكيف" ويوم المشلل ويوم الفجار. و"أبو سفيان: صخر بن حرب" قاد قريشًا وكنانة يوم أُحد ويوم الخندق. و"عامر بن الظرب العدواني" قاد ربيعة ومضر وقضاعة كلها يوم البيداء. و"مالك بن عوف النصري"، و"عوف بن عبد الله بن عامر بن جذيمة" و"ربيعة بن حذار الأسدي" و"زرارة بن عدس" التميمي، و"لقيط بن زرارة" و"الأقرع بن حابس"، و"النعمان بن مجاشع" الدارمي، و"النمر بن حمّان" السعدي، و"الأضبط بن قريع بن عوف" السعدي، و"محلم بن سويط الضبي"، وذكر أنه الرئيس الأول: أول من سار في أرض مضر برئاسته، وغزا العراق وبه كسرى، حتى بلغ العذيب1.
ومن بقية الجرارين في مضر: "قيس بن عاصم السعدي" و"زهير بن جذيمة العبسي" و"عمرو بن جؤية بن لوذان الفزاري" و"بدر بن عمرو" و"حذيفة بن بدر" و"عيينة بن حصن" و"خالد بن جعفر بن كلاب" و"الأحوص بن جعفر" العامري2.
والجرارون من ربيعة: "ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير التغلبي"، وابنه "كليب وائل" و"الهذيل بن هبيرة" و"الحوفزان" وهو "الحارث بن شريك" و"بسطام بن قيس" و"الحارث بن وعلة الذهلي" و"أبجر بن جابر العجلي" و"قيس بن حسان بن عمرو بن مرثد" و"قتادة بن مسلمة الحنفي" و"أثال بن حجر بن النعمان بن مسلمة الحنفي" و"الهذيل بن عمران التغلبي"3.
والجرارون من قضاعة: "ذياد بن هبولة"، "زياد بن هبولة"، و"داود اللثق بن هبالة"، و"زهير بن جناب"، و"رزاح بن ربيعة بن حرام"،
1 المحبر "246-248".
3 المحبر "248-249".
3 المحبر "249-250".
وهو أخو "قصيّ بن كلاب" لأمه، و"عميرة بن أوس بن ثعلبة بن عوف بن كعب بن ذهل"، وكان يدعي الملك، و"الأشل بن عمرو"، و"الثعيل"1.
والجرّارون من اليمن: "كرز بن عبد الله بن عامر" من بجيلة، و"عبد يغوث بن وقّاص بن صلاءة الحارثي" من مذحج، و"الأشعث بن قيس الكندي"، و"شراحيل بن أصهب الجعفي"، و"يزيد بن أنس بن الديان الحارثي"، و"ذو الغصة الحارثي"، و"مخرم بن حزن بن يزيد الحارثي"، و"العباب الحارثي" و"حجر بن يزيد بن سلمة الكندي" و"قيس بن سلمة الكندي" و"الزوير: علقمة بن سلمة بن مالك الكندي"، و"حسان بن عمرو بن الجون الكندي"، و"معاوية بن شرحبيل بن أخضر الكندي"، و"حُديج بن جفنة بن قتيرة السكوني" و"هبيرة بن المكشوح بن عبد يغوث المرادي" و"فروة بن مسيك المرادي"2.
وسار قادة الجيوش ومتولو إدارة المعارك على قاعدة "الحرب خدعة"3. ومعناها خدع العدو وإيهامه للتغلب عليه. كأن يشيع قائد الجيش أنه سيسلك الطريق الفلاني، فيرسل بالفعل قوة صغيرة، وهو يضمر خطة أخرى، بأن يأمر القوة الكبرى بسلوك طريق آخر، فيفاجئ العدو وهو غير متأهب، أو يؤخذ على غرة وهو لا يدري باحتمال قدوم الجيش من هذا المكان.
ولما كانت "المباغتة" من أهم وسائل كسب الحرب والحصول على الربح، كان من أهم أسباب نجاحها التكتم والتستر ومعرفة قوة العدو ومواضع ضعفه، عمد الجاهليون إلى استخدام العيون للتجسس على العدو، يرسلونهم في صور شتى. في صورة تجار أو مسافرين أو على هيأة سرايا صغيرة تقتص آثار العدو، وتسأل من يرون من المسافرين عن علمهم بأحوال العدو. أو تقبض ربايا العدو ليحققوا معهم وليحصلوا منهم عن معلومات تفيدهم في إعداد خطة الحرب أو الغزو.
وفي ضوء هذه المعلومات يرتب القادة طريقة مباغتة العدو ومحاربته لإنزال الضربة القاصمة به.
1 المحبر "250-251".
2 المحبر "251-252".
3 الدينوري، عيون "1/ 194"، "باب الحيل في الحروب وغيرها".
وإذا أحسن إنسان بوجود غارة، أو رأى قومًا يتقدمون لمفاجأة قومه بغارة، فعليه الإسراع لإبلاغ قومه بها قبل أن يفاجئهم العدو بغارته وهو على غير استعداد لها، وكان من عادتهم أن الرجل إذا رأى الغارة قد فاجأتهم وأراد إنذار قومه تجرد من ثيابه وأشار بها ليعلم أن قد فاجأهم أمر. ويقال لذلك الرجل:"النذير العريان"، ثم صار مثلًا لكل أمر يخاف من مفاجأته1.
ويقال للشخص الذي ينذر قومه بدنو عدو منهم، ويزحف مغيرًا عليهم:"الصريخ"2. يسرع "الصريخ" إلى قومه قدر إمكانه ليبلغهم بخبر ذلك العدو قبل مباغتته لهم. ونظرًا إلى ما للصريخ من أهمية بالنسبة إلى نتائج الغزو، يتخذ المغيرون كل وسائل الحذر والتكتم والبحث عن النذر والصريخين لكيلا يفلتوا منهم فيذهبوا إلى قومهم وهم هدف الغزو أو إلى غيرهم ممن قصدوا بالغزو فيحذرونهم منهم، ويكونوا عندئذ في حالة تأهب واستعداد لمقابلة المغيرين، أو لمباغتتهم بهجوم معاكس عليهم، أو بنصب كمائن لهم قد تلحق أذى بهم، وقد تؤدي إلى عكس ما قصد من ذلك الغزو.
ويعبر عن المباغتة والمفاجأة وأخذ العدو على حين غرة بحيث لا يشعر إلا والعدو يهاجمه بلفظة "بحض" في السبئية3.
ويُقال لمن ينذر قومه بقرب وقوع غزو وبدنو عدوّ منهم: "القاصد". و"القاصد"، هو من يقصد أحدًا طلبًا لحاجة، أو تسهيلًا لأمر، أو لإجراء وساطة.
وكانوا إذا أرادوا حربًا، وتوقعوا جيشًا عظيمًا، وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلًا على جبل أو أي مرتفع من الأرض نارًا، ليبلغ الخبر أصحابهم. وإذا جدوا في جمع عشائرهم إليهم أوقدوا نارين. وقد عرفت هذه النار بنار الحرب4.
وقد استعانت الحكومات بحماية حدودها بوضع قوات عسكرية في المواضع العسكرية الخطيرة التي تكون لها أهمية كبيرة من الوجهة "السوقية" في تعبئة الجيش للحرب وعرفت مثل هذه المواضع بـ"المناظر". وهي مواضع تقيم بها حاميات تراقب
1 الفاخر "ص70"، تاج العروس "10/ 341"، "عرى".
2 اللسان "3/ 33 وما بعدها"، "صرخ"، نهاية الأرب "17/ 126".
3 Jamme 576، Mahram، P.428
4 الحيوان "4/ 474"، "هارون".
منها حركات الأعداء وتحركات الأعراب. وتكون الحاجز الأول الذي يمنع العدو من التقدم.
ونحن لا نكاد نعلم شيئًا عن أسس تنظيم الجيش في الحكومات الجاهلية، لعدم ورود نصوص واضحة في ذلك. ولصلة ملوك الحيرة بالفرس ولصلة ملوك الغساسنة بالروم، لا أستبعد تدريب الفرس لجيش الحيرة وتقسيمه وإعداده وَفْقَ نظم الجيوش الفارسية وأساليبها على القتال، وتدريب الروم لجيش الغساسنة، وَفْق أنظمتهم وقوانينهم العسكرية. وقد ذكر أهل الأخبار أن النعمان بن المنذر، ملك خمس كتائب، يحارب بها، هي:"الوضائع" وقوامها قوم من الفرس كان كسرى يضعهم عنده عُدة ومددًا، فيقيمون سنة عند الملك من ملوك لخم. فإذا كان في رأس الحول ردهم إلى أهلهم، وبعث بمثلهم. وكتيبة يقال لها:"الشهباء" وهي أهل بيت الملك، وكانوا بيض الوجوه، يسمون الأشاهب، وكتيبة ثالثة، يقال لها:"الصنائع"، وهم صنائع الملك، أكثرهم من بكر بن وائل. وكتيبة رابعة، يقال لها:"الرهائن"، وهم قوم كان يأخذها من كل قبيلة، فيكونون رهنًا عنده، ثم يوضع مكانهم مثلهم. والخامسة "دوسر"، وهي كتيبة ثقيلة تجمع فرسانًا وشجعانًا من كل قبيلة1.
ويظهر من بعض تفاسير علماء اللغة للفظة "الوضائع"، أن "الوضيعة" جماعة من الجند تجعل في كورة لا يغزون منها2، أي: حامية. وأما الصنائع، فطوائف من الناس يصطنعهم الملك، ويكونون عونًا له وجندًا يحارب بهم. فهم من المرتزقة. وقد تستعين القبائل بطوائف من قبائل أخرى للقتال معها3. وقد استعان "سلمة بن الحارث بن عمرو المقصور" بـ"بني تغلب" و"النمر بن قاسط" و"سعد بن زيد مناة" وبـ"الصنائع" على أخيه "شرحبيل" وذلك يوم "الكلاب" الأول4.
وقد أشار "الزبيدي" إلى كتيبة دعاها "الملحاء"، قال عنها:"والملحاء": كتيبة كانت لآل المنذر من ملوك الشأم، وهما كتيبتان، إحداهما هذه والثانية
1 الكامل، للمبرد "1/ 288".
2 تاج العروس "5/ 545"، "وضع".
3 العمدة "2/ 206".
4 العمدة "2/ 205".
الشهباء. قال عمرو بن شأس الأسدي:
يفلقن رأس الكوكب الضخم بعدما
…
تدور رحى الملحاء في الأمر ذي البزل1
وقد أخطأ "الزبيدي" في جعل "آل المنذر" من ملوك الشأم. وقصد بـ"الملحاء""الدوسر". بدليل قوله في موضع آخر: "والدوسر: اسم كتيبة للنعمان بن المنذر ملك العرب"2. وقد تعرض في مكان آخر من كتابه إلى كتيبة الشهباء فقال: "والأشاهب بنو المنذر لجمالهم. قال الأعشى:
وبنو المنذر الأشاهب بالحيـ
…
ـرة يمشون غدوة بالسيوف
قلت: وهم إحدى كتائب النعمان بن المنذر. وهم بنو عمه وإخوانه وأخواتهم.
سموا بذلك لبياض وجوههم"3.
ويظهر من شعر للمثقب العبدي، قاله يمدح عمر بن هند:
ضربت دوسر فيه ضربة
…
أثبتت أولاد ملك فاستقر4
إن هذه الكتيبة كانت موجودة في أيام الملك "عمرو بن هند". وذكر بعض علماء اللغة أن "دوسر: اسم كتيبة كانت للنعمان بن المنذر، وأنشد للمثقب العبدي يمدح عمرو بن هند. وكان نصرهم على كتيبة النعمان"5. ولا بد وأن يكون في هذه الكلمات خطأ أو نقص: إذ لا يعقل أن يكون "عمرو بن هند" قد حكم أيام "النعمان بن المنذر". وقد يكون قصد أحد ملوك الغساسنة، أو أن الأخباريين أقحموا اسم الملكين خطأ في هذا الشرح.
والكتيبة عشر "اللجيون" عند الرومان. ولذلك كان عددها يختلف حسب اختلاف عدد اللجيون. وعلى الأغلب كانت ما بين "400" إلى "600"
1 تاج العروس "2/ 230"، "ملح".
2 المصدر نفسه "3/ 206"، "دسر".
3 تاج العروس "1/ 327"، "شهب".
4 تاج العروس "3/ 206"، "دسر".
5 اللسان "4/ 285"، "دسر".
جندي1. وقد كان عدد اللجيون"6" آلاف جندي في أيام الإمبراطورية، من الفرسان وبقية الأصناف المساندة. ويقسم "اللجيون" المكوّن من الفرسان إلى عشر كتائب، عدد كل كتيبة من "600" فارس. تعرف بـCoforts وتقسم كل كتيبة Cohort إلى عشرة أقسام2. ويسير النظام العسكري عند الرومان وفقًا للطريقة العشرية في تكون الجيش. وقد يتألف "اللجيون" من "7000" جندي، "6200" منهم من المشاة و"730" من الفرسان ومن بقية التبع3.
وحكومات اليمن والحيرة والغساسنة، تكاد تكون الحكومات الوحيدة التي ملكت جيوشًا مدربة نظامية، أي: جيوشًا مستعدة في كل وقت للدخول في الحروب. فلكل حكومة من هذه الحكومات كتائب مدربة في استطاعتها القتال. وهي كتائب من الفرسان وكتائب من المشاة، ولها رؤساء يشرفون على تدريبها وتسييرها وقت القتال. وهي بإشراف ضباط يتولون قيادتها بأمر من الملوك.
أما أهل القرى والمدن، فكان لهم قوادهم وحملة رايتهم في الحرب، غير أننا لم نسمع بوجود جيش نظامي مدرب عندهم، ولم نسمع بوجود كتائب مقاتلة، مستعدة للقتال أو للدفاع حين صدور الأمر إليها. بل كلّ ما وجدناه في كتب أهل الأخبار أن أسرًا معروفة عهد إليها بحماية الراية، والمحافظة عليها، فإذا وقع خطر، أخرج حفظتها تلك الراية ليرفعوها في القتال فتكون عندئذ شعارًا لهم وروحًا معنوية ذات أهمية، فإذا سقط حاملها أخذها غيره وهكذا كانوا يتناوبون في حملها. وسقوط الراية له أثر كبير في معنوية المحاربين.
ويظهر من دراسة ما أورده علماء اللغة والأخبار عن تشكيلات الجيش عند بقية الجاهليين، أن الجاهليين لم يكونوا يسيرون على نظام معين في تكوين الجيش وفي عدد وحداته، بل كانوا يتركون أمر ذلك إلى الظروف وإلى رأي القادة الذين توكل إليهم أمور إدارة المعارك. وذلك لأنهم لم يكونوا يملكون جيوشًا نظامية ثابتة، فقد كانت القبائل تقاتل حين تدعى إلى القتال أو حين يقع غزو عليها، فيهب كل فرد منها للدفاع عن قبيلته، أو في المساهمة في الغزو، يشترك في ذلك النساء والصغار أيضًا، ولا سيما في حالات الدفاع عن النفس. حتى المدن
1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 253".
2 Hastings، P.540
3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 346".
والقرى لم يكن لها جيش ثابت، ولا قادة يدربون المقاتلين على أساليب القتال، ولا وحدات ثابتة تقيم في ثكنات ومعسكرات، بل كان شأنها شأن القبائل، إذا هوجمت، هب أفرادها رجالًا ونساء كهولًا وصغارًا في الدفاع عن مدينتهم، يقوم كل واحد منهم بدوره حسب طاقته وقدرته. وكذلك كان الحال في حالات الهجوم، أي: حين تهاجم المدينة عدوًّا لها، يشترك في هجومها كل متمكن من القتال، قيامًا بواجبه الأدبي المفروض عليه. وليس لهذا الجيش المحارب تدريب عسكري سابق، ولا وحدات معينة، إنما تكون إمرة سوقه وتسيره بأيدي الشجعان الأذكياء. ومن سبق له أن برز في قتال سابق، وأبرز مكانه فيه.
وحتى في أيام الرسول لم يكن للمسلمين جيش ثابت منظم، له وحدات على شكل فرق وكتائب وأفواج وسرايا، وثكنات ومعسكرات، وضباط، يعرف كل ضابط منهم وحدته وعدد جنوده. إنما كان المسلمون كلهم جنودًا، إذا دعاهم الرسول إلى القتال لبوا نداءه. وقد يكون فيهم الكهل والشاب والتاجر والمزارع ومن لا عمل له. الفارس بفرسه، والراكب على جمله، والراجل ماشيًا، كل يحارب في سبيل الله. والرسول هو القائد الأعلى، وهو الذي يعين الأهداف والخطط، وهو الذي يختار القادة ومسيري المعركة إذ لا قادة ثابتون. وكان يستشير ذوي الرأي والخبرة في المواضع التي يقصدها في إدارة الحرب مع العدو. وإذا كانت المعركة معركة مبارزة، نظر الرسول إلى من معه، واختار منهم من يصلح للمبارزة. وكان إذا أراد إرسال سراياه، اختار للسرية رجلًا من أصحابه فأمره عليها. وأرسل معه من يختارهم ليكونوا له جنودًا. ولم يكن عدد أفراد السرية ثابتًا، بل كان مختلفًا. ويتوقف العدد على حسب تقدير الرسول للموقف.
ويظهر من الشعر الجاهلي أن الأعراب كانوا يهابون من الالتحام بالجيوش النظامية، لعدم قدرتهم وكفاءتهم في مقابلتها، لما لها من تنظيم وتدريب وسلاح. وقد تركت "الدوسر" و"الشهباء" أثرًا في ذاكرتهم، نجده في شعرهم، مع أن الكتيبتين لم تكونا على مستوى عال من التدريب والتسليح. وقد كانوا يخشون من الالتحام بالجيوش الآشورية والبابلية والرومية، لتفوق تلك الجيوش عليهم، فإذا تعقبتهم هربوا إلى البادية، حيث يجدون لهم عندئذ المأوى الصالح الأمين المناسب لهم، للوقوف أمام الجيش النظامي. ويكون وقوفهم أمامه على هيئة كرّ
وفرّ، وهجوم من جوانب مختلفة، فإن وجدوا جلدًا من ذلك الجيش وقوة ضاربة، هربوا إلى قلب البادية.
ويظهر مما ذكره "سترابو" عن الجيوش العربية الجنوبية، أنها لم تكن مدربة على القتال، ولم تكن مجهزة بأسلحة حسنة حديثة بالنسبة إلى أسلحة الرومان في ذلك الوقت. ولم تكن منظمة ومقسمة إلى وحدات محاربة يسير أمورها ويوجهها في القتال ضباط لهم خبرة وعلم بأساليب القتال. ولهذا تقدم الجيش الروماني بكل سهولة نحو اليمن، دون أن يجد أمامه مقاومة تذكر، مع أن جيشهم لم يكن من الجيوش الحسنة التنظيم، المدربة تدريبًا حسنًا، لمقاومة الجيوش النظامية1.
ونجد في تغلُّب "الحبش" ودخولهم العربية الجنوبية وتحكمهم بها مرارًا، ما يؤيد أن العربية الجنوبية لم تكن تملك جيشًا منظمًا مدربًا على مقاتلة الجيوش النظامية، وإنما كانت تملك "عساكر" تعرف قتال الأعراب وأهل القرى، بأسلحة لم تحاول الحكومات تحسينها وتجديدها وفقًا لتطور السلاح في العالم، مع العلم أن الحبش أنفسهم لم يكونوا أصحاب جيوش منظمة ولا مدربة تدريبًا حسنًا، ولا مزودة بأسلحة جيدة حديثة على طراز أسلحة اليونان والرومان والفرس. وقد تحكموا مع ذلك في اليمن حتى جاءهم الفرس، فأخرجوهم منها قبيل الإسلام، مع أن الذين أخرجوهم كانوا من قطاع الطرق ومن المتصعلكة، وقد جاءوهم بسفن قديمة، ولم يكونوا من المحاربين النظاميين المدربين على القتال.
ويظهر أن حكام العربية الجنوبية، كانوا يعتنون بجمع العساكر وتكوين الجيوش للقضاء على خصومهم، ولكنهم لم يحفلوا بأمر تنظيم الجيش وتدريبه وتجديده وتحسين سلاحه. مع أن أمر التنظيم والتدريب والتسليح وكيفية استخدام الجندي لسلاحه، من أهم أمور التغلب في الحروب والانتصار على الأعداء. ولهذا كانوا يتغلبون على خصومهم في العربية الجنوبية وعلى القبائل؛ لأنهم دونهم بكثير في المستوى وفي الإمكانيات. ولما كانت حروبهم حروبًا داخلية، لم تتجاوز حدود جزيرة العرب، وإذا تجاوزتها، كان اتجاهها سواحل إفريقية، وهي بلاد غير متقدمة ولا تملك جيوشًا نظامية مدربة، لذلك لم يحفل أولئك الحكام بأمر الانفاق على الجيش لتنظيمه وتدريبه وتحسين سلاحه ومستواه ووضعه في ثكنات صحية وتجهيزه
1 راجع الصفحة "42 وما بعدها" من الجزء الثاني من هذا الكتاب.
بالعربات وبالخيل، لتعطي السرعة للجيش في القتال والحماية اللازمة للمشاة. وبقوا يسيرون على الطريقة التقليدية التي أملتها طبيعة أرضهم عليهم من الاعتماد على عساكر "أسد" الملك وعلى عساكر الإقطاعيين وعلى المرتزقة وعلى الحشور الذين يجمعون جمعًا عند وقوع حرب.
ولم يعتنِ العرب الجنوبيون بتحسين السفن وتجديدها وتحصينها للمحافظة بها على سواحلهم الطويلة. فلما ظهر الرومان والبيزنطيون في البحر الأحمر، ولم يتمكنوا من الوقوف أمامهم. فانتزعوا منهم السيادة على هذا البحر بسهولة، واتصلوا بالسواحل الإفريقية وبلغوا "سيلان" وسواحل الهند. وفقد العرب ما كان لهم من ممتلكات في السواحل الإفريقية المقابلة. بل صارت سواحلهم عرضة لهجمات سكان تلك السواحل، ولتدخل الحبش مرارًا في بلادهم. مع أن الحبش أنفسهم لم يكونوا أصحاب سفن جيدة كبيرة، ولا أسطول قوي، حتى إن الروم ساعدوهم بأسطولهم في نقل قواتهم لاحتلال اليمن. ولم يرد في روايات أهل الأخبار ولا في أخبار الموارد اليونانية ما يفيد بتصدي السفن العربية الجنوبية للمغيرين الأحباش، ولا بوقوع أية معركة بحرية بين العرب والحبش أو غيرهم في البحر. ويدل نزول الحبش على السواحل العربية بيسر وسهولة على عدم وجود تحصينات بحرية على السواحل، وعلى ضعف الجيش في ذلك العهد.
ولطبيعة بلاد العرب أثر كبير بالطبع في ظهور هذا التخلف الملحوظ في بناء القوة العسكرية. فمعظم أرض جزيرة العرب أرضون سهلة منبسطة لا يجد فيها أصحابها مواضع طبيعية يتحصنون بها في حالتي الدفاع والهجوم. لذلك صار القتال فيها وجهًا لوجه، والتغلب فيه للمحارب الذي يملك وسائل الحرب السريعة من إبل وخيل وعدة. ثم إن الفقر العام الذي ساد جزيرة العرب آنذاك وفقرها من ناحية الموارد الطبيعية وتغلُّب الجفاف والحرارة عليها، جعلت العرب كتلًا، أي: شعوبًا وقبائل، مشتتة مبعثرة، تعيش حول ما تجده من ماء ومن مورد رزق، وكأنها أمم متباينة، لضيق أفق المعيشة فيها، ولتقاتلها فيما بينها على الماء وموارد الرزق الشحيحة. وأوضاع مثل هذه لا تساعد على التجمع وعلى تكوين دولة قوية كبيرة، تجمع جيشًا قويًّا مدربًا ذا عدة وعدد، يستطيع الصمود أمام الجيوش النظامية المدربة التي تملكها الحكومات الغنية مثل: حكومات البيزنطيين والفرس، التي غذت جيوشها بالمال وبالجنود المحترفين المدربين على القتال وبالضبط
المتخصصين بشئون الحرب وبالعدد والعدة المتطورة وبالمال. ولهذا لم تتمكن "عساكر" الجاهليين من الوقوف أمام الجيوش النظامية، لتفوُّق هذه الجيوش عليها في التنظيم وفي التدريب وفي السلاح وفي كيفية استعمال الأسلحة، واستغلال المواقف وتطبيق العلم على الأرض التي يقع فيها القتال، وفي التغذية والعناية بأحوال الجندي. ولهذا تحاشت الاشتباك مع الجيوش النظامية في خارج حدود بلادها، وجمّدت قتالها وحصرته في الغزو وفي القتال الداخلي، أي: في قتال العرب بعضهم بعضًا، وهو قتال لم يستوجب تطوير الأسلحة وتحسينها، كما يستوجبه قتال الجيوش النظامية الكبيرة، وقد اعتمد على شجاعة الفرد، وعلى الحماس وعلى ذكاء السادة في الاستفادة من المواقف ومن توجيه فرسان الحرب.
أما المقاتلون فهم متطوعون، تطوعوا للقتال للدفاع عن مواطنهم، ومجبرون، عليهم الخروج للقتال؛ لأنهم تبع، وقد أمروا به أمرًا، ومن هؤلاء الرقيق. ولما كان القتال بسيطًا لذلك كان واجب المقاتل متوقفًا على قابليته العقلية والجسمية. ولا نجد في كتب أهل الأخبار ما يفيد بوجود تدريب للفريقين أثناء السلم ولا في أثناء الحرب. بل يدخل المحارب الحرب كما يدخل المتشاجرون أي شجار، وهناك يستعمل ذكاءه في اختيار الدور الذي يناسبه، فقد يظهر مهارة وحنكة وشجاعة فيرتفع اسمه بين قومه، وقد يقوم بدور المشجع بالكلام، وقد يقوم بأدوار بسيطة ساذجة. فإذا انتهى القتال عاد الناس إلى حياتهم الأولى، عادوا إلى بيوتهم وهي ثكناتهم الوحيدة التي جاءوا منها.
وترد لفظة "كتيبة" والجمع "كتائب" في الشعر الجاهلي، تعبيرًا عن تنظيم وتكتل في صفوف الجيش، فقد ورد أن "حجر بن أم قطام" قاد كتيبة "فارسية" على رواية، أو أنه كان نظم كتيبة مسلحة بأسلحة من دروع وبيض من صنع الفرس1. ووردت أخبار أخرى تتحدث عن وجود كتائب عند سادات قبائل قوية، دلالة على أخذ القبائل القوية بنظام تكتيل الجيش وتصنيفه وتقسيمه إلى كتائب في القتال لتلقي الرعب في نفوس الأعداء، ولا سيما في نفوس الأعراب الذين لم تساعدهم ظروفهم على إنشاء مثل هذه التنظيمات العسكرية.
ويعبر عن "الكتائب" بلفظ "المقانب" أيضًا2. وإذا كان الجيش ما بين
1 شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص165".
2 واحدها "مقنب".
الثلاثين إلى الأربعين أو قدر أربعين رجلًا أو خمسين، قيل له "المنسر"1.
ويذكر علماء اللغة أن الكتيبة إنما سميت كتيبة، لاجتماعها وانضمام بعضها إلى بعض2، فهي إذن كتلة كبيرة من الجيش. وعرفوها بأنها القطعة العظيمة من الجيش، والجمع: كتائب. وعرف بعض علماء اللغة الكتيبة بأنها جماعة الخيل إذا أغارت مكونة من المائة إلى الألف3.
وعرفت الكتيبة بـ"جأواء" كذلك. وقيل: الجأواء كتيبة كثيرة الدروع. وذكر بعض علماء اللغة أن المنسر ما بين ثلاثين فارسًا إلى أربعين4. بينما جعله بعض آخر، ما زاد على خمسمائة حتى يبلغ الثمانمائة، فيكون حبشيًّا5.
ويظهر من تفاسير علماء اللغة للفظة "المقنب"؛ أن المقنب تكون في الخيل خاصة. قالوا: "والمقنب من الخيل جماعة منه ومن الفرسان، وقيل: ما بين الثلاثين إلى الأربعين أو زهاء ثلاثمائة
…
وقيل: دون المائة". وورد: المقنب جماعة من الخيل تجتمع للغارة. قال لبيد:
وإذا تواكلت المقانب لم يزل
…
بالثغر منا منسر معلوم6
والسرية في تعريف علماء اللغة قطعة من الجيش، تسري في خفية ليلًا، لئلا ينذر بهم العدو فيحذروا. وهي من خمس أنفس إلى ثلاثمائة. أو يبلغ أقصاها أربعمائة. وقيل: هي من مائة إلى خمسمائة. فما زاد فمنسر. فإن زاد على ثمانمائة فجيش، فإن زاد على آربعة آلاف فجيش جرّار، وإن كانت من الخيل، فتكون نحوًا من أربعمائة. وقيل: سمّوا سريّة؛ لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء السري، وهو النفيس7.
وقد اختلف في عدد رجال "الحضيرة". فقيل: الحضيرة الأربعة والخمسة
1 شرح ديوان لبيد "ص137"، تاج العروس "3/ 564"، "نسر".
2 الكامل "1/ 57"، شرح ديوان لبيد "ص134".
3 اللسان "1/ 710"، تاج العروس "1/ 445"، "كتب".
4 تاج العروس "1/ 440"، "قنب".
5 تاج العروس "10/ 174"، "سرى".
6 تاج العروس "1/ 440"، "قنب".
7 تاج العروس "10/ 174"، "سرى".
يغزون. وقيل: السبعة والثمانية. وقيل: العشرة فمن دونهم1. وذكر أن "الحضيرة" مقدمة الجيش2.
وأما "النفيضة"، فالجماعة يبعثون ليكشفوا هل ثمَّ عدو أو خوف. وذكر أن "النفيضة" الذين يتقدمون الخيل، وهم الطلائع3.
وتؤدي لفظة "مصر" معنى القطعة من الجيش، والحملة وذلك في السبئية4.
ويقال لقائد الكتيبة: "كبش الكتيبة". وكبش القوم رئيسهم وسيدهم. فهو سيد الكتيبة وقائدها5.
ويعبر عن المحارب والمقاتل بلفظة "جندي" وبـ"اسد""أسد" في العربيات الجنوبية والجمع "اسدم" أي: جنود6. وقد يكون الجندي حرًّا وقد يكون عبدًا أي: رقيقًا ومولى، وقد وردت جملة "اسد املكن" أي "أسود الملوك" بمعنى "جنود الملك" و"عسكر الملوك"7، وذلك تمييزًا لهم عن الجنود الآخرين الذين كان يجندهم الأقيال والأذواء وسادات القبائل.
ويقصد بـ"اسد" أي: جندي، الجندي النظامي، أي: المحارب الذي اتخذ الجندية عملًا له. ولهذا نجد النصوص لا تستعملها إلا في هذا المعنى، وذلك للتمييز بينه وبين المحاربين الآخرين المتطوعين أو المكرهين على الدخول في القتال أو المؤجرين أو المحاربين من أهل القبائل أو من أهل المدن الذين يهبّون للقتال عند دنو خطر على أهلهم أو قراهم. وتكون إعاشة هؤلاء الجنود على من يأمرهم بالخدمة في جيشه بالطبع. من ملك أو مكرب أو مدينة أو قرية أو سيد أرض.
وأما إذا كان المحارب رقيقًا كائنًا ما كان جنسه أو لونه، وأشرك في القتال، فيعبر عنه بـ"ادومت""ادمت"، أي:"ادم" و"أوادم"، بمعنى الخدم
1 اللسان "4/ 199"، "حضر".
2 تاج العروس "3/ 147"، "حضر".
3 اللسان "4/ 199"، "حضر"، تاج العروس "3/ 147"، "حضر"، "5/ 92 وما بعدها"، "نفض".
4 Mahram، P.440.
5 اللسان "6/ 338".
6 راجع النص المرسوم بـ: Glaser 1571
7Kat، Texte، I، 73، Anm، 3، Rep. Epigr. 4624، J. Ryckmans، L’institution Monarchique، 147، Grohmann، S. 123
المملوكين. فلسيد القبيلة ولكبار أصحاب الأرض والملاكين والأغنياء "أدم" أي: خدم، يخدمونهم ويقاتلون عنهم في الغزو وفي الحرب وفي الدفاع عن النفس1.
ولم يكن هؤلاء "الأدم" من العسكريين المحترفين2.
وأما إذا كان المحارب أجيرًا يؤجر نفسه لمن هو فوقه لخدمته أو للقتال عنه، فإذا وقع قتال طلب منه الدخول فيه، للقتال في سبيل صاحبه قيل له:"اجر" أي: "أجير" والجمع "اجر" و"اجرم"، أي: أجراء3.
وليس لدينا أخبار عن معامل تعمل فيها "الشكة"، أي: السلاح كله للحكومات أو للقبائل في الجاهلية4. غير أني لا أستبعد وجودها في اليمن. فقد كانت حكومات اليمن. حكومات منظمة تُعْنَى بمثل هذه الأمور التي هي من ضرورات الدولة. أما القبائل، فقد كان المحاربون فيها هم الذين يجهزون أنفسهم بالسلاح. وقد يكون ذلك السلاح عصيًّا يقاتلون بها، وقد لا يكون لدى المحارب أي شيء منه سوى الحجارة التي يجدها أمامه، فيتراشق بها مع الأعداء. أما سادات القبائل والأغنياء، فقد كانوا يشترون أسلحتهم ويخزنونها إلى وقت الحاجة. فإذا ظهرت وزعوها في أولادهم وخدامهم ومواليهم للقتال.
وإذا عزمت قبيلة على غزو قبيلة أخرى وجب على كل بالغ سليم الغزو معها، كما أن على كل فرد من القبيلة المهاجمة أن يقوم بواجبه في الدفاع عنها، وهذا واجب كل رجل في القرى والمدن أيضًا. فقد كان على رجال كل قرية أو مدينة الدفاع عن أنفسهم، ورد غزوات الغازين. لاستقلال كل قرية أو مدينة في أمورها وشئونها، ووقوع كاهل الدفاع عن نفسها على عاتقها. وعلى كل مواطن لذلك، بدوي أو حضري أن يهيئ نفسه في أيام الحروب والغزوات للدفاع عن نفسه وعن مواطنيه، وأن يقوم بعمل الجندي في هذه الأيام.
وقد يقعد بعض الرجال من الأغنياء، أو من المسنين عن المساهمة في الحرب أو الغزو، فيدفعون جعلًا في مقابل ذلك لرجال يحاربون عنهم، فيكون الجعل لهم، ويكون ما قد يقع في أيديهم من غنائم لهم أيضًا. وقد يتفق على ذلك
1 Grohmann، S.، 122، Rhodokanakis، Bodenwirtschaft، S. 183
2 Grohmann، S. 124
3 Jamme 577
4 الأغاني "20/ 132"، "الشكة: السلام"، كتاب المعاني "1/ 107".
بأن يجعل المقيم للغازي شيئًا. وقد كرهت الجعائل في الإسلام1. وفي الحديث أنها سحت. وهي ما تجعل للغازي إذا غزا عنك بجعائل. قال سليك بن شقيق الأسدي:
فأعطيتُ الجِعالة مستميتًا
…
خفيفَ الحاذِ من فِتْيانِ جَرْم2
وإذا قامت قبيلة بغزو قبيلة ما، قام رجالها من ذوي الرأي والمعرفة بالمعارك بإعداد خطط غزو العدو ومهاجمته ومباغتته وترؤسه، وعلى شجعانها قيادة الغازين المحاربين. أما القبيلة التي تتعرض للغزو. فيقوم ذوو الرأي والخبرة العسكرية فيها بإعداد الخطط للدفاع عن نفسها، ورد الاعتداء عنها. وفي حالة الأحلاف يعد ذوو الرأي والخبرة العسكرية في الحلف خطط الهجوم أو الدفاع، ويشترك الحلف في إعداد المحاربين وقيادتهم.
والغالب أن الذي يقوم بقيادة المحاربين وتوجيههم في المعارك هم من أسر توارثت ذلك، وصارت القيادة وكأنها حق لها. فإذا وقع غزو، أو أرادت قبيلة ما غزو قبيلة أخرى، نهض رجال الرأي في الحرب بإعداد الخطة والتشاور في الرأي لكسب المعركة. وقد كانت قريش قد وكلت أمر حربها وقيادة محاربيها إلى "آل حرب". ولكن ذلك لا يعني عدم تغيير القادة وإبدالهم، وتعيين قادة جدد من أسر أخرى، فقد كانوا يفعلون ذلك أيضًا عند الضرورات.
ولم تكن قوات القبائل في مستوى القوات النظامية من حيث التسليح والقابلية في القتال. فأسلحة رجال القبائل بسيطة وبدائية في الغالب لفقرها وعوزها، وهي غير منتظمة ولا مدربة على القتال تدريبًا فنيًّا، وإنما يقوم فنها على الإغارة والمباغتة، فإذا وجدت مقاومة ما فرت وولت؛ لأنها لا تتحمل المقاومة والوقوف في وجه العدو مدة طويلة، ولا تستطيع الصبر على ذلك. وهي من هذه الناحية قادرة على إلحاق الأذى بالقوات النظامية في حروب الصحارى، فتقوم بمباغتة العدو وأخذه بالمفاجأة، فإذا وجدت مقاومة منه أو أخذت ما كانت تصبو إليه من غنيمة، عادت مسرعة إلى معقلها، لتحتمي به، ولتوزع ما غنمته وفق العادة والعرف.
1 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص338".
2 اللسان "11/ 111"، "جعل"، تاج العروس "7/ 257"، "جعل".
والغزو مصدر مهم من مصادر الإعاشة بالنسبة إلى الأعراب، يلجئون إليه في أيام الشدة والمحنة لغناء أهل القرى والمدن بالنسبة إلى أهل البادية، صارت هذه المواضع هدفًا مقصودًا للأعراب، ومصدرًا من مصادر الرزق عندهم، ولا سيما المواضع الواقعة على حدود الأرضين الغنية الخصبة، كالعراق وبلاد الشأم، وقد أدركت الدول الحاكمة في العراق وفي بلاد الشأم هذه الحاجة، فاستغلتها، فأخذ الروم يشترون رؤساء القبائل، يدفعون لهم رشاوى وهدايا ومنحًا ومرتبات لحماية حدودهم من تحرش رجالهم بها، ولمهاجمة حدود أعدائهم الفرس، ولمقاومة القبائل التي يرسلها الساسانيون لمهاجمة بلاد الشأم.
وفعل الفرس مثل ذلك، فدفعوا المنح والمرتبات والهدايا لرؤساء قبائلهم، ودفعوهم على مهاجمة حدود بلاد الشأم. وقد اضطرت القرى والمدن في جزيرة العرب إلى مهادنة القبائل القوية النازلة بقربها، وإلى محالفتها بدفع إتاوات لها في مقابل عدم التحرش بها وحمايتها من تحرش القبائل الأخرى الطامعة بها، وفي مقابل مرور قوافلها في أرضها. وبذلك أمنت على سلامتها وعلى أموالها بعقد هذه العهود والمواثيق.
ولضرورة الدفاع عن النفس، وللوقوف أمام طمع القبائل القوية في القبائل الضعيفة، اضطرت أكثر القبائل إلى التحالف والتكتل لمنع الغزو فيما بينها، وإلى مقاومة أي غزو يقع عليها، وقد أطلق العرب على كل قبيلة تحارب وحدها دون محالفة قبيلة أخرى "الجمرة". وذكر أن "الجمرة"، هي القبيلة التي لا يقل عدد فرسانها عن ثلاثمائة فارس، وهو عدد يدل على قوة القبيلة وشدة البأس.
وذكر الأخباريون أن "جمرات العرب" ثلاث: بنو ضبة بن أد، وبنو نمير بن عامر، وبنو الحارث بن كعب. فطفئت جمرتان، وبقيت جمرة واحدة، طفئت بنو ضبة؛ لأنها حالفت الرباب، وطفئت بنو الحارث؛ لأنها حالفت مذحج، وبقيت نمرح لأنها لم تحالف1.
والغالب على أسلوب القتال عند الجاهليين: الكرّ والفرّ، وذلك بأن يهاجم المحاربون عدوهم ثم يتراجعون بسرعة وكأنهم قد فروا خوفًا منه، ثم يعودون
1 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص353"، الحصري، زهر الآداب، "1/ 20".
فيكرون عليه. يضعون مكانًا يكون مركز ثقلهم والملجأ لهم، يلتجئون إليه، ثم ينطلقون منه للكر على العدو، وقد اتبعوا أيضًا أسلوب القتال صفوفًا، بأن يقف المحاربون صفوفًا، يحاربون دون كر ولا فر1.
ولا بد للمحارب من أسلحة يحارب بها ويدافع بها عن نفسه. ويستعمل العرب لفظة سلاح وعدة المحارب في مقابل Arms = Armour في الإنجليزية و"ملديم" Malddim و"كليم" Kelim و"حليضه" Hallizah في العبرانية2. ويراد بها كل ما يستعمله ويحمله الجندي من وسائل الحرب من هجوم ودفاع.
والسيف هو السلاح الرئيسي في القتال. استعمل في الهجوم وفي الدفاع عن النفس. ويطلق العبرانيون عليه وعلى الخنجر لفظة "خ ر ب""خريب"3. وقد يكون السيف قصيرًا أيضًا. وهو ذو حد واحد وذو حدين. وقد يكون رأسه مدببًا حادًّا يستعمل للطعن، أما الضرب فيكون بحد السيف. والسيوف الجيدة هي السيوف المصنوعة من الفولاذ ومن الحديد النقي الجيد. وقد اشتهرت سيوف اليمن، وبعض السيوف المستوردة من الخارج. ويقال لحديدة السيف:"النصل"، وتقابل هذه اللفظة لفظة "لهب""لهيب" في العبرانية، من أصل "لهب"، وذلك للمعان السيف الذي يشبه اللهب عند عرضه في الشمس4.
وللسيف أسماء كثيرة ترد في كتب اللغة، بعضها أسماء وبعضها نعوت وصفات صارت في منزلة الأسماء للسيف. ومن أسماء السيف:"الجنثي" والجمع: "الجنثية"، يقال: إنها إنما سميت جنثية نسبة إلى الجنثي، وهو الحدّاد 5.
ويعرف الحداد بالقين عند الجاهليين. أما الذي يقوم بصقل السيف، فهو "الصيقل"6.
وقد اشتهرت أنواع من السيوف عند العرب، تفاخروا بها، لجودتها
1 بلوغ الأرب "2/ 56 وما بعدها"، اللسان "5/ 135"، تاج العروس "3/ 467، 519".
2 Hastings، Dictionary، I، P.154
3 لسان العرب "9/ 166"، تاج العروس "6/ 149"، المفضليات "ص98""أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون"، شرح المعلقات السبع، للزوزني "70 وما بعدها""الطبعة الثالثة".
4 Smith، Dictionary، Vol، I، P.110، The Bible Dictionary Vol. I، P.Iii.
5 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص362"، المعاني "2/ 1030".
6 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص362".
وشدة وقعها في العدو. ومن هذه السيوف المشهورة: "السيوف المشرفية". قيل: إنها سميت بذلك نسبة إلى "المشارف" جمع مشرف، ويراد بها قرى للعرب تدنو من الريف، وقيل: لأنها من مشارف الشأم. وقيل: نسبة إلى موضع من اليمن، وقيل: بل نسبة إلى "مشرف" رجل من ثقيف1.
وردّ "ابن رشيق القيرواني" قول من نسب السيوف المشرقية إلى مشارف الشأم أو مشارف الريف، وذهب إلى أنها نسبة إلى "مشرف"، من قرى اليمن2.
وعرفت سيوف "بصرى" بالجودة كذلك، ويقال: للسيف المنسوب إليها "بُصري"3. وقد مدحها "الحصين بن الحُمام المُرّي"، وأثنى على القيون الذين أخرجوا "صفائح بُصري"، أي: السيوف4.
واشتهرت السيوف المسماة بـ"السريجية" بجودتها كذلك، ويقال: إنها نسبة إلى "سُرَيج" رجل من بني أسد. وهو أحد بني معرّض بن عمرو بن أسد بن خزيمة وكانوا قيونًا5.
واشتهرت سيوف اليمن كذلك، فقيل للسيف "يمان" و"يماني"، إذا صنع باليمن. والظاهر أنها لمّاعة بيض، ولذلك قيل "بيض يمانية" يمدحون تلك السيوف.
واشتهرت بعض السيوف في الجاهلية، بقيت شهرتها خالدة في الإسلام. ومن هذه السيوف، سيف عرف بـ"الصمصامة"، وهو سيف عمرو بن معديكرب6، وسيف عرب بـ"ذي الفقار" ارتبط اسمه باسم علي بن أبي طالب، وكان قد استولى عليه في معركة "بدر"، أخذه من العاصي بن منبه7.
1 بلوغ الأرب "2/ 62 وما بعدها"، ديوان ابن مقبل "ص7"، اللسان "9/ 174".
2 العمدة "2/ 232".
3 المعاني الكبير "2/ 993".
4 المفضليات "ص19 وما بعدها"، "السندوبي".
5 بلوغ الأرب "2/ 63 وما بعدها"، العمدة "2/ 232".
6 العقد الفريد "1/ 209"، "3/ 370"، تاج العروس "8/ 370"، "صمم".
7 العقد الفريد "3/ 318"، "وذو الفقار بالفتح وبالكسر أيضًا سيف سليمان"، أهدته بلقيس مع ستة أسياف، ثم وصل إلى العاص بن منبه، تاج العروس "3/ 474"، "فقر".
وكان في أصحاب رسول الله صحابيّ اشتغل بعمل السيوف في الجاهلية هو "خباب بن الأرت"، وكان من المسلمين الأولين الذين أعلنوا إسلامهم، وعذبوا فيه1.
ويتبين من دراسة وتقصي مصادر السيوف عند العرب الجاهليين، أن العرب كانوا آنذاك يستوردونها من أماكن مختلفة، وأن استيرادها كان تجارة مربحة. وأن تجارها كانوا يفتشون في كل مكان من أسواق العالم المعروفة بصنع وبيع الأسلحة لشراء الأسلحة منها. فاستورد بعضهم أنواعًا من السيوف المصنوعة من الهند. وقد عرف السيف الجيد المصنوع بالهند بـ"المهند"2. واشتهر الروم بصنع السيوف الجيدة، وكذلك الفرس.
وقد تفنن في تزويق السيوف وفي إكسائها بماء الذهب أو الفضة، وقد اشتهرت الروم بإكساء السيوف ماء الذهب، ويقال لذلك:"الدجال"3.
والخنجر أقصر من السيف، ويستعمل في المباغتة في الغالب وفي الهجوم وفي الدفاع عن النفس. وهو مثل السيف أيضًا ذو حد وذو حدين، ويوضع في قراب يحمل في وسط الجسم. وهو لا يزال كثير الاستعمال لسهولة استعماله وإخفائه على حين قلّ استعمال السيوف، أو مات، لعدم ملاءمتها للقتال الحديث. ولرخص الخناجر، بالنسبة إلى السيوف، كانت كثيرة الاستعمال حملها معظم الناس حتى الفقراء لحماية أنفسهم من أذى الإنسان والحيوان. وقد استعملت في أثناء الالتحام بالحروب، حيث يشتبك المحاربون بعضهم ببعض، فيكون الخنجر من الأسلحة الملائمة للفتك بالعدو.
والرمح: سلاح يستعمل لطعن العدو، يستعمله الفارس في الغالب. له رأس منبل حاد، يطعن به. وقد يكون له رأس آخر. يثبت به في الأرض. وهو يختلف طولًا ووزنًا. وهو من الأسلحة القديمة، ولا يزال معروفًا، تستعمله بعض القبائل والشعوب البدائية. يصنع من حديد أو من معدن آخر، كما يكون من أعواد الأشجار القوية أو القصب القوي، وأجود الرماح عند العرب، "الرماح الآزنية"، أو "الرماح اليزنية"، يقال: إنها نسبت إلى
1 الإصابة "1/ 416".
2 المعاني الكبير "2/ 1103".
3 المعاني الكبير "2/ 1071".
"ذي يزن"1 الملك. وهو على رأي بعض الأخباريين أول من اتخذ أسنة الحديد، فنسبت إليه، وإنما كانت أسنة العرب قرون البقر2.
وعرفت الرماح ذوات السنان بالأسنة. وهي أيضًا أنواع، منها نوع يسمى "الأسنة القعضبية" نسبة إلى رجل اسمه "قعضب" من "قُشير". ونوع يسمى "الأسنة الشرعبية"، ينسب إلى "شرعب". وإلى هذه الأسنة أشار "الأعشى" في هذا البيت:
ولدن من الخطّيّ فيها أسنةُ
…
ذخائر مما سَنّ أبزى وشرعب3
ويذكر أهل الأخبار أن الرماح الشرعبية، منسوبة إلى بطن من بطون حمير، يقال لهم:"شرعب بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد قيس"4.
والرماح "الخطية"، من الرماح الجيدة المعروفة، وتنسب إلى "الخط"5.
والخط هو خط هجر، تحمل إليه الرماح من بلاد الهند، فتقوم به. فنسبت إليه6.
و"الرماح الردينية" وهي من الرماح الجيدة المشهورة أيضًا، يقال: إنها نسبة إلى "ردينة" امرأة كانت تعمل الرماح7.
ويقال للرمح: "المنجل" أيضًا8. واشتهر نوع آخر من الرماح عرف بـ"الرمح السمهري" والجمع: "الرماح السمهرية". ذكروا أنها منسوبة إلى "سمهر"، وكان صانعًا يصنع الرماح، وكانت امرأته "ردينة" تبيعها9.
1 بلوغ الأرب "2/ 64"، العقد الفريد "3/ 370"، اللسان "2/ 452"، تاج العروس "2/ 145"، الروض الأنف "1/ 9".
2 قال الشاعر:
يهزهز صعدة جرداء فيها
…
نقيع السم أو قرن محيق
3 بلوغ الأرب "2/ 64"، الاشتقاق "ص307"، العمدة "2/ 231".
4 العقد الفريد "3/ 369".
5 بلوغ الأرب "2/ 64".
6 "الخط: جزيرة بالبحرين تنسب إليها الرماح. قال الأصمعي: ليست تنبت الرماح لكن سفن الرماح ترفأ إلى هذا الموضع، فقيل للرماح: خطية"، العمدة "2/ 233".
7 بلوغ الأرب "2/ 64".
8 الاشتقاق "2/ 312".
9 الروض الأنف "2/ 212"، العمدة "2/ 231".
وتستعمل القنا في القتال أيضًا. ويظهر أنها نوع من أنواع القصب القوي الذي لا ينثني ولا ينكسر، يكسى رأس القناة برأس من معدن مدبب حاد ليطعن به. ويستعمل القناة الفارس والراجل.
ويقال للقنا: "قانه" Kanah في العبرانية و Kanna = Canna في اليونانية ويراد بها القصب، وهو ينبت في مواضع كثيرة من مصر، وفي الأرضين التي تكثر فيها الرطوبة والمياه1، وقد اشتهرت بعض أنواع القصب بالمتانة والقوة. ولهذا استخدمت سلاحًا من أسلحة الطعان.
واستعملت الحراب في الطعن وفي زرق العدو بها. وقد ذكر أهل الأخبار أن الحبشة كانت تحسن الطعن بها، وأن العبيد المجلوبين منها والذين كانوا بمكة، كانوا قد اشتهروا بالطعن في الحراب. ومنهم "وحشي" قاتل حمزة. وهو عبد حبشي زرق حربته ورمى بها حمزة فأصابه.
وكما تعتمد الجيوش الحديثة على أسلحة الرمي، اعتمد الجاهليون على أسلحة هي بمنزلة البنادق والرشاشات في أسلحة هذه الأيام، وهي القسي والسهام. والقوس هي الآلة التي تمسك باليد، ويشد وترها شدًّا قويًّا. ليرمي السهم إلى العدو المراد رميه. وكلما كان الشدّ قويًّا، صارت الرمية بعيدة مؤثرة. وقد يكون السهم من غصن أو من خشب. وقد يكون من معدن مثل: حديد أو نحاس2.
ويتخذ الوتر من مادة قابلة للتوتر وللشدّ، حتى يكون في قدرته رمي السهم إلى مسافة بعيدة وبقوة. أما السهم، فقد يكون من شجر، وقد يكون من معدن، ويكون له رأس مدبب ليصيب به الهدف. وقد يسم رأس السهم، فينفذ السم منه إلى الجرح، فيصيب به الجريح إصابة قاتلة.
وقد عدت الرماية من جملة الخصال العالية في الشخص المكملة للإنسان، وقد اشتهر في الجاهلية قوم بدقة رمايتهم، وبصحة إصابتهم الأهداف، إذا أرادوا رمي أحد أخرجو النبل، فرموه بها، وقلما يخطئون. وإذا أرادوا وصف رجل بدقة الرمي، قالوا فيه:"كان من أرمى الناس"3. وكانت الرماية دراسة
1 The Bible Dictionary، Ii، P.355
2 Hastings. I.P.313
3 الأغاني "2/ 18".
يتعلمها الرامي من رماة ماهرين. فكان أهل الحيرة والفرس يعلمون أولادهم الرمي بالنشاب، ليكونوا من الرماة المهرة. يستعملون فنهم هذا في قهر أعدائهم وفي الصيد وفي الحروب1. وقد كانت الجيوش تضم فرقًا من الرماة، تكون لهم أهمية كبيرة جدًّا في تقرير نهاية الحرب؛ لأنهم عنصر فعال قوي في التأثير في المحاربين.
وقد استعان الفرس والروم والرومان بالرماة الماهرين من العرب، فكوّنوا منهم فرقًا خاصة في جيوشهم، وظيفتها الهجوم على العدو ورميه بالسهام للفتك به. فكانت السهام تقوم مقام نار البنادق والرشاشات في أسلحة هذا اليوم. وقد أشار الكتبة "الكلاسيكيون" إلى كتائب الرماة العرب التي كوّنها الروم والرومان.
وقد عرف بعض الرماة بدقة إصابتهم الهدف، فكانوا يصيبون بسهامهم ونبلهم أدق الأهداف. وقد اشتهر هؤلاء بـ"رماة الحدق"، أي: المهرة في الرمي، فلا يخطئون الحدق. وفي كتب الأخبار قصص عن دقة إصابة هؤلاء الرماة2.
ولخطورة الرمي في القتال، ولأهمية هذا السلاح في مصير الحروب ونتائجها، أعطاه الإسلام أهمية كبيرة. وقد ورد في الحديث:"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"3. وورد أيضًا: أن الرسول كان يحث أصحابه على تعلم الرماية وإتقانها4. وقد كان في صفوف قريش والوثنيين جماعة من الرماة المهرة الذين يصيبون الأهداف.
واشتهرت أنواع من القسي، منها:"القسي الماسخية"، نسبة إلى رجل من بني نصر بن الأزد اسمه "ماسخة"5، وقيل:"نبيشة بن الحارث". ذكر أنه أول من عملها. وتنسب القسي أيضًا إلى "زارة" وهي امرأة "ماسخة"6.
وفي هذه القسي قال الشاعر:
شرعت قسي الماسخي رجالنا
…
بسهام يثرب أو سهام الوادي7
1 الأغاني "2/ 19".
2 العقد الفريد "1/ 218 وما بعدها".
3 العقد الفريد "1/ 222".
4 المصدر نفسه.
5 بلوغ الأرب "2/ 65"، العمدة"2/ 233".
6 الروض الأنف "2/ 212".
7 الاشتقاق "ص288".
وذكر أهل الأخبار نوعًا من الخشب سموه "الشِريان"5، ذكروا أنه خشب تتخذ منه القسي العربية1.
وأجود السهام التي وصفتها العرب، "سهام بلاد"، "سهام بلام"، و"سهام يثرب"، وهما قريتان من حجر اليمامة. وقد ذكرها الأعشى في شعره2.
ومن "النبل" الجيد نبل يقال له: "رقميات"، وقد نسبت إلى "الرقم"، وهو موضع دون المدينة، ويقال سهام مرقومة3.
وتريش النبال بريش الطيور، وتوضع عليها ريش نسر أحيانًا4.
وتحفظ السهام والنبال في محفظة، يقال لها:"الكنانة". وأشهرها الكنائن المعروفة بـ"الكنائن الزغرية"، وهي منسوبة إلى "زغر"، موضع بالشأم، تعمل كنائن حمر مذهبة. وقد ذكرها أبو دؤاد الإيادي في شعره:
ككنانة الزُغرى زينها
…
من الذهب الدلامص5
ومن مشاهير الرماة عمرو بن عبد المسيح الطائي، وكان أرمى العرب. وفد إلى النبي، وفيه يقول امرؤ القيس:
ربَّ رامٍ من بني ثعل
…
مخرج كفيه من ستره6
واشتهر "القارة" بالرمي، فقيل: إنهم أرمى حي في العرب، ولهم يقال:"قد أنصف القارة من راماها"7.
والقسي هي سلاح الصياد في الجاهلية، فهي بمثابة "البندقية" في هذا اليوم، يأخذها الصياد معه وفي كنائنه، ثم ينتظر، فإذا شاهد صيدًا رماه8. ولهذا نجد المولعين بالصيد يذكرونها في شعرهم وفي وصفهم لمطاردة الحيوانات.
1 الاشتقاق "2/ 295".
2 بلوغ الأرب "2/ 65"، "بلام" العمدة "2/ 232".
3 شرح ديوان لبيد "ص195".
4 شرح ديوان لبيد "ص195".
5 بلوغ الأرب "2/ 65".
6 المعارف "ص136"، وفي بعض الأصول "قتره"، العقد الفريد "3/ 400".
7 العقد الفريد "3/ 341".
8 بلوغ الأرب "2/ 65".
ومن القسي الجيدة التي تركت أثرًا في ذاكرة الشعراء "العتل" واحدها "عتلة" وقد عرفت بأنها القسي الفارسية1.
واستعمل الصعاليك واللصوص السهام سلاحًا فتاكًا في ابتزاز المال وسلب المسافرين. والرامي الجيد الرماية، متغلب على خصومه؛ لأنه يرمى وهو على بعد ممن يرميه، فلا يصيبه سيف أو رمح. وبذلك صعب على من لا يحسن الرماية التغلب على الرماة.
والرمي بالحجارة والحصى، سلاح مهم مؤثر في العدو في ذلك الزمان. فقد كان المحاربون يرمون عدوهم بآلة ما زال الأطفال والفلاحون يستعملونها، يطلقون عليها لفظة "معجان" في العراق. وهي عبارة عن قطعة من جلد أو قماش تشد من طرفيها بحبلين أو خيطين. فإذا أراد الرامي الرمي، وضع حجرًا صغيرًا أو حصاة في الجلد أو القماش، وأمسك بطرفي الحبلين غير المشدودين بالقاعدة، وأخذ يحركها تحريكًا دائريًّا بشدة، ثم يطلق أحد الحبلين بسرعة لينطلق الحجر إلى الهدف المراد، فيصيبه. ويطلق على هذه لفظة "قلع" في العبرانية، وهي أبسط أنواع آلات الرمي بالحجارة. ويستعملها الفلاحون والرعاة أيضًا لطرد الطيور والحيوانات. ويسمونها في بلاد الشأم "المقلاع".
وقد كان على المحارب التدرب على الرمي وعلى الطعن، ليكون محاربًا ناجحًا، ذا خبرة في القتال، فلا يتمكن منه عدو بسهولة. وفي جملة الوسائل التي كان يتدرب عليها:"الدريئة"، وهي حلقة يتعلم عليها الطعن والرمي. قال عمرو بن معديكرب:
ظللت كأني للرماح دريئة
…
أقاتل عن أبناء جرم وفرت3
ولا بد للمحاربين من أسلحة واقية، يتقون بها ضربات أعدائهم. وما يرمونهم به من حجارة وسهام. والترس من أقدم الأسلحة الواقية، يعلقه المحارب على ظهره أو على كتفه، فإذا احتاج إليه، أمسكه بإحدى يديه، ليتقي به ضربات
1 المعاني الكبير "2/ 1053".
2 Encyclopaedia Biblica I، P.249
3 تاج العروس "1/ 223""الكويت".
خصمه. ويصنع من الحديد في الغالب، ولارتفاع ثمنه، لم يستعمله إلا المحاربون الشجعان المعروفون والمحاربون الموسرون. واستعمل الترس المصنوع من الخشب ومن الجلود الثخينة، مثل جلود الجمال والبقر وبعض أنواع الأسماك والحيوانات الوحشية ذوات الجلود الغليظة.
وبعض الأتراس دائرية على هيئة قرص، ومعظم أنواع الأتراس عند الجاهليين وعند العرب الإسلاميين هي من هذا النوع، وبعضها على هيئة مستطيل أو مستطيل ذي رأس مدور أو ثابت أو غير ذلك، وفي ظهر الترس حلقة أو موضع يدخل المحارب يده فيه ليمسك به الترس، ويتصل به حبل أو سلسلة ليعلق المحارب به أو بها الترس على جسمه. ويعرف الترس بالدرقة وبالمجن كذلك1. وقد ذكر امرؤ القيس المجن فقال:
لها جبهة كسراة المِجَنِّ
…
حذقه الصانع المقتدر2
ويقال له: "العنبر" كذلك3.
ويقال للمجن: "ماكين""ماجن" Magen في العبرانية. وهو قرص دائري الشكل خفيف يحمله المحارب بيده ليدافع به عن نفسه وللاتقاء به من ضربات العدو. ويقال له: "كليبوس"Clypeus عند الرمان4.
والدروع هي من أسلحة الوقاية، يتدرع بها المحارب، ليقي بها نفسه من ضربات خصمه، وقد تكون للظهر وللصدر، فتحمي ظهر المحارب وصدره، وقد تكون للصدر فقط، فيقي المحارب بالدرع ضربات المحارب من رمح أو سيف. فلا ينال به صدره5. ويعرف أهل الأخبار الدرع بأنها القميص المتخذ من الزرد.
وتعرف الدروع عند العبرانيين بـ"شريون" Shiryon. ويلبس الدرع كالثوب فيقي الجسم من الضربات6.
1 اللسان "6/ 32"، تاج العروس "4/ 129".
2 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص58".
3 الاشتقاق "ص129".
4 Hasting، P.51، The Bible Dictionary، I، P. Iii
5 العقد الفريد "1/ 209""لجنة"، لسان العرب "8/ 81"، تاج العروس "مادة/ درع".
6 The Bible Dictionary، I، P. III
وقيل للدروع "الخرصان" كذلك، الواحد خرص، وقد سموا الدرع خرصًا؛ لأنه حَلق، كما سموا الحلقة التي في الأذن خرصًا. وقيل للدرع سابغة أيضًا1. وقيل للرماح الخرصان كذلك2.
ومن الدروع المعروفة: "الدروع الحطمية" نسبة إلى حطمة بن محارب بن عمرو بن وديعة. وقيل: نسبة إلى "حطم" أحد بني عمرو بن مرثد من بني قيس بن ثعلبة. و"الدروع السلوقية"، هي نوع آخر من الدروع المشهورة، يقال: إنها نسبة إلى "سلوق" وهي قرية باليمن عرفت بدروعها2. وقد ذكر النابغة الدروع السلوقية في شعره4. وأشار "ابن مقبل" إلى نوع من أنواع الدروع دعاه "المشرفية" من صنعة مشرف، ومشرف جاهلي، وهم يدعون إلى ثقيف5. كما عرف نوع آخر من الدروع اشتهر باسم "القردماني"، وذكر بأنه فارسي، وأن أصله بالفارسية "كرد ماند"6.
وقد نسبت الدروع الجيدة الممتازة إلى "داود" و"سليمان" فورد في شعر للحطيئة:
فيه الرماح وفيه كل سابغة
…
جدلاء مبهمة من نسج سلام7
وورد في شعر للنابغة:
وكل صموت نثلة تبعية
…
ونسج سُليم كل قضّاء ذائل8
ويلاحظ أن البيت المنسوب إلى "الحطيئة" ينتهي بلفظة "داود" بدلا من "سلام" وهو "سليمان" في بعض الروايات. والمعروف أن "داود" هو الذي
1 المعاني الكبير "2/ 1035 وما بعدها".
2 المعاني الكبير "2/ 1036".
3 بلوغ الأرب "2/ 66".
4
يقد السلوقي المضاعف نسجه
…
ويوقد في الصفاح نار الحباحب
العقد الفريد "1/ 215"، بلوغ الأرب "2/ 66".
5 المعاني الكبير "2/ 1035 وما بعدها".
6 المعاني الكبير "2/ 1030".
7 المعاني الكبير "2/ 1035".
8 المعاني الكبير "2/ 1036".
اشتهر بعمل "الدروع" لا "سليمان" على حد قول أهل الأخبار1. وقد أشير إلى صنع "داود" للدروع في بيت شعر "لبشامة بن عمرو"، وقد وصف دروعه بأنها "موضونة"، أي: مضاعفة ثخينة، تسمع للقواضب فيها صليلًا 2، كما أشير إلى ذلك في بيت شعر ينسب إلى "الحصين بن الحُمام المرّي"، حيث نسب نسج الدروع إلى "داود". والغالب عن الجاهليين نسبة الدروع إلى "داود"3.
وأما لفظة "سليم" الواردة في بيت "النابغة"، فتعني "سليمان" أيضًا 4.
ونحن لا يهمنا في هذا المكان أمر صانع هذه الدروع، إنما الذي يهمنا هنا هو أثر القصص اليهودي والدعاية الإسرائيلية في نفوس الجاهليين، مما يدل على أن اليهود المهاجرين إلى جزيرة العرب كانوا قد غرسوا بذور الدعاية اليهودية بين الجاهليين حتى تؤثر فيهم، فكان من أثره مثل هذا القصص الذي نجده في شعر الجاهليين وفي قصصهم المدون في الإسلام.
ولا يستبعد أن يكون في اتجار يهود الحجاز بالأسلحة واستيرادهم إياها من بلاد الشأم لبيعها للعرب أو للاحتفاظ بها لتهديد من يطمع فيهم ولمقاومته، أثر في ظهور مثل هذا القصص، وفي نسبة الأسلحة الجيدة إلى "داود" أو "سليمان".
وعرفت الدروع المصنوعة باليمن بالجودة كذلك. وقد نسبت بعضها إلى التبابعة، فقيل:"نثلة تبعية" يريدون بلفظة "نثلة" درع. وقيل: "مسفوحة تبعية" أي: "درع تبعية" منسوبة إلى "تبع"5.
و"التسبغة" هي: زرد مشبك الحلق متصل بالبيضة يطرح على الظهر ليستر العتق، فلا تؤثر فيه الضربات والطعن6.
ومن الأدوات التي استخدمها المحاربون "البيضة"، وهي غطاء يوضع على
1 المعاني الكبير "2/ 1035".
2 المفضليات، "إخراج حسن السندوبي"، القاهرة "1926"، "ص16".
3 المفضليات، "إخراج السندوبي""ص20".
4 المعاني الكبير "2/ 1032".
5 المعاني الكبير "2/ 1036"، المفضليات "ص35""حسن السندوبي"، العمدة "2/ 23 وما بعدها".
6 المفضليات "ص36""السندوبي".
الرأس لحمايته من السيوف والحجارة والعصى وما شابه ذلك1. وهي لا بد أن تكون مصنوعة من مواد واقية تحفظ الرأس من الأخطار، كأن تكون مصنوعة، من الحديد أو المواد المعدنية الأخرى أو من الجلود الثخينة.
وقد عرفت "البيضة" المستديرة بـ"تركة". وورد في شعر "مزرد بن ضرار الذبياني""تركة حميرية"، أي: منسوبة إلى حمير، مما يشير إلى اشتهار هذا النوع من آلة وقاية الرأس2.
والعمائم خوذ المحاربين عند الجاهليين. فإذا خاض المحارب معركة ما اعتم بعمامة، وقد يضع عليها ريشة، وقد يتحنك بذؤابتها، ولم تكن عمائم الحرب ذوات لون واحد، بل كانت ذوات ألوان، قد يدخل المحارب الحرب وعلى رأسه عمامة يختلف لونها عن لون العمامة التي لبسها قبلًا. وقد تحدث أهل الأخبار عن أنواع العمائم التي لبسها المحاربون في القتال.
ولكن هذا لا يعني أن الجاهليين كانوا لا يستعملون الخوذ في حروبهم. لقد كان عرب العراق وعرب بلاد الشأم واليمن يستعملونها أيضًا. وإذا كانت الخوذ قليلة الاستعمال في معظم أنحاء جزيرة العرب، فإنما يعود سبب ذلك إلى غلاء ثمنها؛ لأنها من المعدن في الغالب، ولعدم وجود حاجات ملحة إليها هناك. وقد لبس الرومان واليونان خوذًًا مصنوعة من النحاس ومن البرنز. واستعملت الخوذ المعمولة من الخشب ومن الجلود والكتان واللباد وبعض المواد الأخرى. وقد تفنن صانعوها في زخرفتها وفي أشكالها، وعلى هذه الزخرفة والمواد المصنوعة منها يتوقف سعر الخوذ بالطبع.
وأما "المجن" و"الترس" و"الدرقة"، فبمعنى واحد، وهي لوقاية الجسم من ضربات السيوف، ويصنعها العرب من الجلود في الغالب3.
ويقال للزرد الذي ينسج على قدر الرأس ويلبس تحت القلنسوة: "المغفر"4.
1 الطبري "2/ 379"، بلوغ الأرب "2/ 67"، "البيضة والبيض ما يحمي الرأس من سلاح"، المعاني "2/ 1032".
2
وتسبغة في تركة حميرية
…
دلامصة ترفض منها الجنادل
المفضليات "السندوبي""ص36".
3 بلوغ الأرب "2/ 27".
4 اللسان "5/ 26"، تاج العروس "3/ 450".
وقد لبس محاربو اليونان والساسانيون ألبسة واقية خاصة لتقي جسمهم من ضربات السيوف وطعن الرماح ومن تساقط السهام عليهم، كما حموا أرجلهم وأفراسهم أيضًا بأوقية خاصة. بعضها من جلد وبعضها من أقمشة أو من معدن. وقد استخدموا ملابس خاصة صنعت من الزرد، أي: من حلقات معدنية، وتدرعوا بألواح من معدن حموا بها أجسامهم، وبألواح من الجلود الثخينة المدبوغة دبغًا خاصًّا لتقاوم الضربات، وغطوا بها أجسام خيولهم في بعض الأحيان لئلا تصاب، فيسقط بسقوطها الفارس، ويعجز عن القتال.
وقد اشتهرت "ترسة الروم" بكبرها وبشدتها، وقد أشير إليها في شعر "ابن مقبل"1.
ومن عادات العرب في الحروب إنذار من يريدون محاربتهم، كأن يقولون لمن يريدون محاربته: إنا ننذرك بحرب. وهم يفتخرون بذلك، إذ يرون أن الإنذار بالحرب من سيماء القوة والشجاعة، ومن علامات عدم المبالاة بالعدو. وأن المباغتة من علامات الجبن والضعف. وقد ينذرون عدوهم ويتواعدون معه على الالتقاء في زمن معين وفي مكان معين للحرب. فإذا جاء الأجل التقوا في المكان المعين وتحاربوا فيه.
وتبدأ الحرب عادة بإعلان حالة النفير، أي: حالة التجمع والتهيؤ للقتال أو الذهاب إلى الحرب. ويكون ذلك بالتبويق. أي: بالنفخ ببوق من معدن أو قرن حيوان أو آلة من خشب، أو بدق الطبول والدفوف أو بضرب أعواد من خشب، أو بالصياح لإعلام الناس بدنو عدو أو ظهور خطر أو استعداد للقيام بغزو ما، فيتجمع عندئذ كل قادر على القتال متمكن منه، حاملًا معه كل ما يحتاج إليه من معدات للقتال، راكبًا أو راجلًا، لأخذ دوره فيه، والقيام بالعمل الذي يوكل به إليه. وقد يلحق النساء بالمقاتلين. فيقمن بإعداد الطعام لهم وما يحتاجونه إليه من خدمات وليس لهؤلاء المقاتلين من أجور ومرتبات غير الغنائم التي تصيبهم والأسلاب التي تقع في أيديهم، فتكون ملكًا لهم؛ لأن القتال واجب على كل مواطن متمكن محتم عليه، والامتناع منه جبن ومخالفة لقوانين المجتمع وأعرافه.
وللجيوش: ألوية، ورايات يحملها أشجع المقاتلين والمعروفون بصبرهم على القتال.
1 ديوان ابن مقبل "ص277""تحقيق الدكتور عزة حسن".
وإذا قتل حامل الراية، قام آخر من الشجعان بحملها. ويستميت المقاتلون في الدفاع عن رايتهم، فسقوط الراية على الأرض أو في يد العدو، معناه هزيمة أصحابها، وعجزهم عن القتال، وخور عزيمة المقاتلين عن القتال في النهاية، وتلك أمارات الهزيمة والفرار.
ولا يشترط في الأعلام والبيارق والرايات أن تكون قديمة متوارثة. فقد تعقد عند بدء الحرب، يعقدها الرؤساء، ويسلمونها إلى أشجع الناس لتكون سندًا للمحاربين ورمزًا يستمدون منه العون والقوة. وتسمى بأسماء قد يتصايحون بها عند احتدام القتال. وذلك لإثارة النفوس، وبعث الحمية فيها على القتال. أما أمر لون الراية وطولها وعرضها، فذلك من شأن الرؤساء والمشايخ وزعماء القوم.
ومما يدل على أهمية الراية عند العرب وعلى مكانتها عندهم، أنهم كانوا يسمون "لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها للجيش أمًّا"1. وكانوا يجتمعون لها في النزول والرحيل وعند لقاء العدو.
ولما تحدث "الحرث بن حلزة اليشكري" عن "يوم الشقيقة" وعن مجيء "معد" مع "قيس بن معديكرب"، ذكر أن أحياء "معد" التي اشتركت معه، كانت تحمل معها ألويتها، ولكل "حي" لواء2.
وكانت لقريش راية يحتفظون بها ويحاربون تحتها تسمى "العقاب" وهي راية قريش، وإذا كانت عند رجل أخرجها إذا حميت الحرب، فإذا اجتمعت قريش على أحد، أعطوه العقاب، وإن لم يجتمعوا على أحد أخذها صاحبها فقدموه3.
ولم تكن قريش بدعًا في ذلك، فقد كانت للقبائل وللحكومات رايات أخرى، يتوارثونها ويحافظون على تسميتها، وتحتفظ بها أسر خاصة أو سادات قبائل، تعتز بذلك، وتعدّها من أعظم درجات الفخر والتكريم.
ولأهمية القائد في المعارك، كانوا يحيطونه بحرس، ويجعلون أكثر ثقلهم حوله. ويكون موضعه في القلب في الغالب، ليشرف على القتال، تحميه المؤخرة من الخلف والمقدمة من الأمام، ويوضع اللواء عنده، ويحمل بين يديه. وكان
1 تفسيرالطبري "1/ 36 وما بعدها".
2 شرح المعلقات المسبح، للزوزني "ص164".
3 العقد الفريد "3/ 314".
المسلمون يحملون "العَنَزَة" بين يدي الرسول، وربما جعلوها قبلة1.
وقد كان القادة يستعينون قبل الدخول في القتال بمخبرين يرسلونهم إلى العدو للحصول على معلومات عن قواتهم وعن مواقعهم وعن مدى استعدادهم للحرب. وكذلك كان للقبائل ولأهل المدن مخبرون يرسلونهم لاستطلاع الأحوال ولتحذيرهم من احتمال وقوع غزو مفاجئ عليهم، أو لتقدير مقدار الغازين أو المحاربين للاستعداد والتهيؤ. فهم "جواسيس" إذن، يذهبون للتجسس ولاستراق الأخبار حتى يكون من أرسله على حذر وبينة من أمره، ويقال للواحد منهم:"منذر" في السبئية؛ لأنه ينذر قومه وينبههم بقرب وقوع حادث عليهم2.
ويقال للشخص الذي يتسقط أخبار العدو ويبحث عن مواضع ضعفه وعن حركاته وسكناته: "العين" و"الربيئ" و"الجاسوس". وقد كانوا يتنكرون ويتسترون كي يخفوا هويتهم ويحصلوا على ما يحتاجون الحصول إليه من معلومات ليرتبوا بموجبها خططهم الحربية. روي أن "عمرو بن سفيان الكلابي"، جاء بني خزاعة في زي رجل من بني هلال، وأظهر أنه جاء يريد جيرتهم، وكانوا قد غزوا قومه وساقوا إبلهم، فقبلوا إيواءه، وبقي عندهم أمدًا، حتى جمع كل ما احتاج إليه من معلومات عنهم، ثم خرج منهم وعاد إلى قومه فاستفادوا بما كان قد جمعه عن بني خزاعة، وغزوهم وانتصروا عليهم 3.
وذكر أن كان لكليب وائل عينًا في تغلب، كان يتجسس له ويرسل له الأخبار عن هذه القبيلة4. وأن "عمرو بن ربيعة". أرسل سدوس بن شيبان وصليع بن عبد غنم إلى معسكر "زياد" ملك الشام، ليتجسسا عليه ويأتيا له بالأخبار5. وهناك أمثلة كثيرة من هذا النوع تتحدث عن عيون كانت القبائل ترسلهم إلى القبائل المعادية لها لتأتي لها بالأخبار عنها وبنَواياها العدوانية وعن خططها في الغزو.
وقد يكون الرجل بين قوم، فيسمع بخبر عزمهم على غزو قومه، فيرسل
1 البيان والتبيين "3/ 95".
2 Jamme 643، Mahram، P.440
3 الأغاني "9/ 7".
4 ابن الأثير، الكامل "1/ 302"، "3/ 313 وما بعدها".
5 الأغاني "10/ 36 وما بعدها"، الدينوري، عيون "1/ 195".
رسالة رمزية في الغالب أو شفوية ليحذر قومه منه. وقد يكون المنذر أسيرًا في أيد القوم، فلا يستطيع الهروب من آسريه ليخبر أهله بعزم آسريه على غزوهم فيعمد إلى "الشيفرة" وإلى الرموز والكنايات والتعابير التي تفهم القوم بمراده من الرسالة، فيحتاطوا للأمر ويستعدوا للقتال.
وفي يوم "شعب جبلة" كان "كرب بن كعب بن زيد مناة"، وهو من بني تميم، قد علم بخطط أعداء قومه، وكانوا قد أخذوا عليه عهدًا وميثاقًا بألا يتكلم ولا يخبر قومه عن عزمهم فعمد إلى الرمز والإشارة، بأن وضع ترابًا في صرة، وشوكًا قد كسرت رؤسه، وحنظلة موضوعة ووطب معلق فيه لبن، فلما رأى القوم ذلك، علموا أنه يقول لهم: إن القوم كالتراب عددًا لكن شوكتهم قليلة، وإنهم قريبون منهم، فعليهم أن يحتاطوا للأمر، فاحتاطوا منه، واستعدوا للأمر.
وكان الأعور، وهو ناشب بن بشامة العنبري أسيرًا في قيس بن ثعلبة، فلما سمع بأن اللهازم تجمعت وهم: قيس وتيم اللآت ومعها عجل بن لجيم وعنترة بن أسد، تريد غزو بني تميم، قال لآسريه: أعطوني رجلًا أرسله إلى أهلي أوصيهم ببعض حاجتي. فقالوا له: ترسله ونحن حضور. قال: نعم. فأتوه بغلام مولد. فقال اتيتموني بأحمق. فقال الغلام: والله ما أنا بأحمق. فقال: إني أراك مجنونًا. قال: والله ما أنا بمجنون. ثم صار يكلمه ويسأله، ثم أوصاه بأمور لا يفهم منها أن فيها إشارات ورموز، ووافق القوم على ذهاب الغلام إلى قوم ناشب، فلما كلمهم بما قاله ناشب للغلام لم يدروا ما أراد: فأحضروا "الحارث"، فقص عليه الغلام قصة ما جرى له مع ناشب، ففهم المراد. ثم قال للغلام: أبلغه التحية، وأبلغه أنا سنوصي بما أوصى به. ثم قال لبني العنبر: إنه يحذركم من غزو قريب فاستعدوا وارتحلوا عن ديارهم وبذلك نجوا من خطر الغزو1.
وهناك أمثلة عديدة من هذا القبيل، حذر بها أناس من رجال ونساء قومهم من غزو سمعوا به، فخلصوا قومهم منه. أو جعلهم يستعدون له، وقد استعمل المحذرون التراب أو الرمل، للدلالة على كثرة العدو. واستعملوا الشَوْكَ للدلالة على القوة وعلى شوكة العدو، وعبّروا بالشوك الذي تكسر رءوسه، بشوكة
1 ابن الأثير، الكامل "1/ 283 وما بعدها".
العدو، إلا أنه عدو لا يخشى جانبه؛ لأنه غير متحد ولا متفق، وقد استمدت القبائل هذه الرموز من محيطها الذي عاشت فيه، فاتخذتها أدوات للتحذير والإنذار.
ويستعين القادة بأدلاء ليقدموا لهم المعلومات عن الطرق الموصلة إلى المواضع التي يريدون مقاتلة أصحابها بها، أو للسير في مقدمة قافلة الجيش للوصول إلى المكان المطلوب. وللدليل أهمية كبيرة في القتال ولذلك استعان بهم المحاربون. ويقال للدليل:"دلل" في العربية الجنوبية، والأغلب أنهم كانوا ينطقونها على نحو ما ننطقها بها في عربيتنا. وأما الجمع فـ"دلول"، أي: أدلاء1.
وكان لا بد لكل قائد من الاستعانة بدليل إذا ما أراد التفويز، فقد يهلك الجيش من العطش والجوع ويخطئ هدفه أو يصير فريسة في مخالب من يقصده، إن لم يستعن بدليل خرّيت مجرب، له علم بالبادية علمه ببيته. وكان للقبائل أدلاء عركوا المفاوز وخبروها وعرفوا معالمها ومواضع الماء فيها، وكان لهؤلاء فضل على قبائلهم، لا يقل عن فضل الفرسان عليها؛ لأنهم من أسباب النصر. ولما كتب "أبو بكر" إلى "خالد بن الوليد" يأمره بالمسير إلى بلاد الشأم، دلّ على "رافع بن عميرة الطائي" وكان دليلًا خرّيتًا، وبفضل علمه بالطريق وبنصحه القيم لخالد في كيفية عبور المفازة، وصل الجيش سالمًا إلى بلاد الشأم2.
وقد فعل الجاهليون ما تفعله القوى المتحاربة في كل وقت من اللجوء إلى التأثير في خصومهم باستخدام "الحرب النفسية". أي: التأثير في نفوس الخصوم حتى يشعر أنه دون خصمه، كأن يتظاهر بأن عدده أقوى وأكثر عددًا من عدد خصمه، بتوسيع رقعة معسكره، وإيقاد النيران الكثيرة وإحداث أصوات مرتفعة، تشعر المتلصص للأخبار أن الجيش جرار، وأن عدده كبير. وبذلك يخافه خصمه وترتعب نفسه. ولما نزل المسلمون "حمراء الأسد"، "كانوا يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه، فكبتَ الله تعالى عدوهم"3.
ويعمد الجيش أو القسم منه إلى التستر والتخفي لمباغتة العدو ومفاجأته، كأن
1 Jamme 575، Mahram، P.430
2 الدينوري، عيون الأخبار "1/ 142"، "التفويز".
3 نهاية الأرب "17/ 127"، "ذكر حمراء الأسد".
يختفي في موضع حصين لا يرى على طرف أو طرفي وادٍ أو ممر جبل، فإذا مرَّ الجيش من ذلك الوادي انقض المختفون عليه ويعبر عن المخبأ بـ"مغون" في السبئية1.
ويقال للعين الذي يذهب يربأ أهله "الربيئة" و"الطليعة". وهو الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم العدو، وذكر علماء اللغة أن الربيئة لا تكون إلا على مربأ من الأرض، أي: على جبل أو شرف ينظر منه2.
ويبذل القائد كل ذكائه وفنه في خداع خصمه في الحرب، للتغلب به عليه.
وفي الحديث: "الحرب خدعة"3. وذلك بأن يتظاهر القائد بعمل شيء، بينما هو ينوي شيئًا آخر. وقد كان الجاهليون يتفننون في خداع أعدائهم للتغلب عليهم. كما كانوا يستشيرون الناس في إدارة الحرب، يستشيرون الشجعان المتمرسون بالحرب، كما كانوا يستشيرون من عرف بالجبن، ثم يخلصون بين الرأيين. وذلك لما للرأيين من أهمية في إدارة الحرب4.
ولقريش عادات في الحرب. فلها "القُبّة"، وكانت تضربها، وتجمع إليها ما يجهزون به الجيش. ولها "الأعنة"، ويكون صاحبها على خيل قريش في الحرب. ولها "السفارة" وذلك أنهم كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب بعثوا سفيرًا عنهم ليتفاوض5. وكان "خالد بن الوليد" متولي "القبة" و"الأعنة" و"السفارة" عند ظهور الإسلام. وكان لها ما يسمى بـ"حلوان النفر"، فإن العرب لم تكن تملك عليها في الجاهلية أحدًا. فإن كانت حرب، أقرعوا بين أهل الرياسة، فمن خرجت عليه القرعة، أحضروه صغيرًا كان أو كبيرًا. فلما كان يوم الفجار، أقرعوا بين بني هاشم، فخرج سهم العباس، وهو صغير، فأجلسوه على المجن6.
ويتصايح المحاربون بشعاراتهم، إذ كان لكل قبيلة شعار ينادون به، ويحافظون
1 Jamme 577، Mahram، P.440.
2 اللسان "1/ 82"، تاج العروس "1/ 236 وما بعدها"، "طبعة الكويت".
3 العقد الفريد "1/ 122"، صحيح مسلم "5/ 143"، "باب جواز الخداع في الحرب".
4 العقد الفريد "1/ 95".
5 العقد الفريد "3/ 314".
6 العقد الفريد "3/ 315".
عليه. فإذا وقعت حرب، أو حدث غزو، نادوا بذلك الشعار لإيقاظ الهمم، وإذكاء النيران في القلوب. وقد كان شعار "بني عامر" في الحرب شعارًا واحدًا، هو "يا جعد الوبر"1. ويعدّ هز الراية إشارة للهجوم2. فيهجم المحاربون، ويقع الاشتباك.
وأكثر ما يغزو العرب عند الصباح، ويسمون يوم الغارة يوم الصباح. وسبب ذلك أن الناس يكونون مستغرقين في هذا الوقت في نوم لذيذ، لذلك تكون الغارة فيه مفاجأة مفزعة لهم. والعرب تقول إذا نذرت بغارة من الخيل تفجؤ صباحًا: يا صباحاه! ينذرون الحي أجمع بالنداء العالي. ويقولون: صبحتهم الخيل: بمعنى جاءتهم صبحًا. وفتى الصباح، أي: فتى الغارة، تعبيرًا عن شجاعته وبطولته3.
ويثير سادات القبائل وقادتها في الحرب همم المحاربين بخطب حماسية يلقونها عليهم، يحرضونهم فيها على القتال وعلى التعاون فيما بينهم وعلى إطاعة أوامر قادتهم وعدم مخالفتها بتاتًا وعلى إظهار الشجاعة؛ لأنها من سجايا الرجال وعلى عدم المبالاة بالموت والصبر؛ لأن من صبر ظفر. إلى غير ذلك من خطب في الحث على الاستماتة، نجد بعضها مدونًا في كتب أهل الأخبار4.
وكانت العرب إذا تواقفت للحرب تفاخرت قبل الوقعة فترفع أيديها وتشير بها فتقول: فعل أبي كذا وكذا، وقام بأمر كذا وكذا. ويفعل الطرف الثاني مثل ذلك ويبدأ القتال5.
وتبدأ المعركة في الغالب بالمبارزة، بأن يخرج من كل جانب محارب أو أكثر، يتبخترون تباهيًا بأنفسهم، وقد يتحلقون ويتعطرون، وينشدون شعرًا يفاخرون فيه بأنفسهم وبأهليهم، وبقبائلهم وبأحسابهم وأنسابهم، وقد يسأل المبارز مبارزه فإذا وجد أنه غير كفء له انتقصه ورفض مبارزته. أما إذا وجد أنه كفؤ له، بارزه وضاربه، فيكر أحدهما على الآخر، وهكذا تستمر المعركة مبارزة بين محاربين أو أكثر، حتى تنتهي بالتحام قد يؤدي إلى هزيمة أحد الطرفين، أو لا يؤدي
1 شرح ديوان لبيد "ص7".
2 العقد الفريد "1/ 114""لجنة".
3 اللسان "2/ 7 وما بعدها".
4 الأغاني "16/ 71"، الأمالي "1/ 167"، ابن الأثير، الكامل "1/ 380".
5 اللسان "11/ 625".
إلى أية هزيمة بالمعنى المفهوم، إنما ينسحب أحد الطرفين ويتراجع إلى مكانه فتنتهي بذلك تلك الحرب.
وإذا برز المبارز، فيعلم على رأسه في الغالب، بأن يلبس سامة خاصة أو عصابة أو يضع ريشة يتباهى بها، وقد يستعملون الخوذ، إلا أنها كانت قليلة الاستعمال لدى الأعراب، لغلاء ثمنها عندهم. وقد كان "أبو دجانة" يختال عند الحرب إذا كانت، وكان إذا أعلم رأسه بعصابة له حمراء، علم الناس أنه سيقاتل1.
ويقسم المحاربون قواتهم إلى مجنبة وقلب: مجنبة يمنى تهاجم أو تحمي الجانب الأيمن، ومجنبة يسرى تحارب وتدافع عن الجانب الأيسر من المحاربين. أما القلب، فيكون واجبه الهجوم أو الدفاع من الوسط، أي: وسط الجيش. وقد تقوم المجنبتان بالهجوم لتطويق العدو وحصره في دائرة، تضيق عليه. وفي معركة "يوم نخلة" من أيام الفجار، كان حرب بن أمية في القلب، وعبد الله بن جدعان وهشام بن المغيرة في المجنبتين2.
وتوضع أمام الجيش أو المحاربين مقدمة، تتقدم المقاتلين، يكون واجبها حماية القسم الأكبر من الجيش الذي يكون وراءها، وإرسال المعلومات عن العدو وإشغاله بالقتال إن وقع حتى يأتي المحاربون. ويقال للمقدمة:"مقدمت"، أي:"مقدمة" في السبئية3. وللذي يتولى أمرها ويقودها: "قدم"4.
ويقال لطليعة الجيش، وهي التي تتقدم الجيش، للقاء العدو وللوقوف على أمره وخبره "نذيرة الجيش"5.
ولما ندب رسول الله المسلمين لفتح مكة، قسم الجيش إلى مجنبتين، وهما: الميمنة والميسرة، والقلب بينهما. وكان ترتيب الجيش إذ ذاك على خمس فرق: المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساقة. ولهذا كان يسمى خميسًا. وجعل رسول
1 الأغاني "14/ 16".
2 الأغاني "19/ 74 ومابعدها"، قال عمرو بن كلثوم:
وكنا الأيمنين إذا التقينا
…
وكان الأيسرون بنو أبينا
المعلقة
3 Jamme 576، 665، Mahram، P.440.
4 Jamme 681، 816، Mahram، P.447.
5 اللسان "5/ 201".
الله على "الحسر"، وهم الذين لا دروع عليهم "أبا عبيدة". ويقال لهم:"البياذقة"، وهم الرجالة، واللفظة فارسية معربة، سمّوا بذلك لخفة حركتهم وأنهم ليس معهم ما يثقلهم. وقد كانت اللفظة معروفة في أيام الرسول. وهم رجالة لا دروع عليهم، أي: حسرًا1.
وقد استخدمت هذه التعبئة الخماسية في اللقاءات الكبيرة، أي: في الاشتباكات الضخمة، التي يمكن أن نسميها "حروبًا"، أما في الغارات وفي الغزو فكانوا يتبعون طريقة المباغتة والهجوم من كل جانب يمكن الهجوم منه.
ويقال للقطعة من الجيش تمرّ قدّام الجيش الكبير "منسرت""منسرة" في السبئية، ويراد بها "المنسر" في عربيتنا، ورد في النص Jamme 631 "ومنسرت خمسن"، أي:"ومنسرة الجيش"، أو "ومنسر الجيش" بتعبير أفصح2.
ويذكر علماء اللغة أن "الكردوس" القطعة من الخيل العظيمة. والكراديس الفرق منها3. فالكردوس إذن حسب هذا التعريف القطعة من القوات الراكبة المحاربة.
وقد كان النظام العشري في تنظيم الجيش، هو النظام المتبع في الأرضين التابعة للإمبراطورية اليونانية وفي الأرضين المتأثرة بثقافتها، فلا يستبعد أن يكون تأليف الجيش في اليمن في أيام احتلال الحبش لها على هذا الأساس أيضًا. وأصغر وحدة عسكرية وفق هذا التقسيم، هي الوحدة المكونة من خمسة جنود، تليها وحدة مؤلفة من عشرة ثم من مضاعفات العشرة. ويحكم كل وحدة ضابط يدير شئونها ويقوم بتدريبها وبالإشراف على سيرها وإدارتها في أثناء السلم وفي أثناء القتال.
وقد يكون القتال صفوفًا، بأن يتقدم المحاربون فيحاربون صفًّا صفًّا، وذلك إذا كان المحاربون كثيرين. وإلى هذا النظام أشير في القرآن الكريم:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} . وقد اتبع علي بن أبي طالب هذه الطريقة في يوم صِفّين. وأشار إليها في خطبته في أصحابه
1 صحيح مسلم "5/ 170 وما بعدها"، "باب فتح مكة"، تاج العروس "6/ 284""الباذق".
2 Jamme 631، Mahram، P.132
3 اللسان "6/ 195"، الروض الأنف "1/ 69".
يعلمهم كيفية القتال1.
أما في حروب القبائل وغزو بعضها بعضًا، فتكون المباغتة هي الأساس في الحرب، وتقوم على مهاجمة العدو بغتة ومفاجأة وهو في عقر داره أو في الموضع المتجمع فيه. وتتوقف المباغتة على حساب القائد وعلى حنكته في تقديره موقف عدوه. ويكون للماء الفضل الأكبر في النصر وكسب الحرب. لما له من شأن خاص في البوادي. لذلك كان يحسب له سادات القبائل الذين يقودون قبائلهم في القتال والغزو حسابًا كبيرًا، فيحملون معهم مقادير كبيرة منه تكفيهم المدة التي يقدرونها للقتال، أو يحاولون استباق عدوهم إلى مواضع الماء للسيطرة عليها، فإذا جاء العدو حرم الماء واضطر إلى استهلاك ما يحمله منه. وقد يؤدي نفاده إلى هزيمته وفراره. ويقال للمباغتة ولأخذ العدو بصورة مفاجئة:"بحض" في لغة المسند2.
ويعبر عن الحملة، أي: عن الجماعة من الجيش تزحف على عدو بـ"برث" في المسند3.
وقد عرف قادة الجيوش أهمية طبيعة الأرض في كسب النصر وفي الدفاع.
لذلك كانوا إذا تحاربوا تسابقوا إلى مواضع الماء لتكون في مؤخرتهم حتى يستقوا منها ويمنعوا العدو من الشرب منها، كما كانوا يضعون الشمس عند ظهورهم حتى لا تؤثر على أعينهم، ويرتقون المرتفعات حتى يصعب على العدو الارتقاء إليهم بفعل الحجارة أو النبال التي ترمى عليه. فلما كان يوم شعب جبلة صعدت بنو عامر إلى الشعب، ووضعت نساءها وما معها من الإبل والمؤن عليه. وكانت قد أعطشت إبلها وعقلتها، وصارت هي دونه. فلما وقع القتال واشتد عمدت بنو عامر إلى الحيلة وإلى تنفيذ خطة كانت قد وضعتها فأخذت تتراجع وتزحف نحو أعلى الشعب، وصار العدو يتعقبها حتى بلغوا وسط الجبل. فقال الأحوص قائد بني عامر: حلوا عقل الإبل ثم احدروها، واتبعوا آثارها، وليتبع كل رجل منكم بعيره حجرين أو ثلاثة ففعلوا، ثم صاحوا بها فلم يفجأ الناس إلا الإبل تريد الماء والرعي، وجعلوا يرمونهم بالحجارة والنبل وأقبلت الإبل تحطم كل
1 بلوغ الأرب "2/ 61".
2 South Arabian Inscriptions، P ، 428
3 South Arabian Inscriptions، P ، 430
شيء مرت به. فانحط العدو منهزمًا، فلما بلغ السهل لم يكن لأحد منه همة إلا أن يذهب على وجهه، فجعلت بنو عامر تقتلهم وتصرعهم بالسيف فانهزم عدوهم شر هزيمة1.
ولتقوية معنويات المحاربين في أوقات العسر والخطر، ولبعث الحمية في نفوسهم يقيد الرؤساء أنفسهم بقيود، مجتمعين أو فرادى، ثم يعلنون أنهم لا يبرحون مكانهم هذا حتى يهلكوا أو يربحوا2. وقد كان العجم، يضعون السلاسل في أرجل المحاربين لمنعهم من الفرار، ولإجبارهم على الاستماتة في القتال.
وقد كان كثير من المحاربين يأخذون زوجاتهم وذراريهم معهم في المعارك، ينقلونهم معهم وكأنهم ذاهبون إلى سفر أو رحيل إلى بلاد جديدة. وحكمتهم من ذلك أن الرجل منهم إذا رأى خلفه أهله وماله، قاتل عنهم3. ولعلهم كانوا يستعينون بهم في جمع الغنائم والأسلاب وحراسة ما يقع في يد المحارب من أسرى.
وكانوا يضعون أُسَرَهم وإبلهم ومؤنهم وظعائنهم في مؤخرة الجيش، وذلك حتى تكون في مأمن من العدو بعيدة عنه، وتكون بذلك مدعاة للنصر4.
وقد استعانوا بالنساء في حروبهم، وأوكلوا إليهن أعمال الإسعاف وضرب العدو ومقاتلته في أوقات الشدّة. فلما قاتلت "بكر بن وائل""بني تغلب"، قال "الحارث بن عباد" للحارث بن همام بن مرة، وكان على "بكر بن وائل": "إن القوم مستقلون قومك، وذلك زادهم جراءة عليكم فقاتلهم بالنساء! قال له الحارث بن همام: وكيف قتال النساء؟ قال: قلد كل امرأة إداوة من ماء وأعطها هراوة واجعل جمعهن من ورائكم فإن ذلكم يزيدكم اجتهادًا وعلموا بعلامات يعرفنها، فإذا مرت امرأة على صريع منكم عرفته بعلامته فسقته من الماء ونعشته وإذا مرّت على رجل من غيركم ضربته بالهراوة فقتلته وأتت عليه فأطاعوه. وحلقت بنو بكر يومئذ رءوسها استبسالًا للموت وجعلوا ذلك علامة بينهم وبين نسائهم، واقتتل الفرسان قتالًا شديدًا، وانهزمت بنو تغلب ولحقت بالظعن بقية
1 الأغاني "10/ 37".
2 الأغاني "19/ 78 وما بعدها".
3 العقد الفريد "1/ 157".
4 مقدمة ابن خلدون "ص271 وما بعدها".
يومها وليلتها واتبعهم سرعان بكر بن وائل1.
وقد أشركوا أصنامهم معهم في الحروب، أشركوها معهم لتمنّ عليهم بالنصر والتأييد. وقد سقطت أصنام القبائل العربية أسيرة بأيدي الآشورين، وكانوا قد حملوها معهم للتبرك بها ولاكتساب النصر، فأسرها الآشوريون. واضطر الأعراب على مراجعتهم لإعادتها إليهم. وفي يوم "الزورين"، وهو لبكر على تميم، أخذت تميم بعيرين مجللين، فعقلوهما، وقالوا: هذان زورانا، أي: إلهانا لن نفر حتى يفرا، وهزمت تميم ذلك اليوم، وأخذ البكران، فنحر أحدهما وترك الآخر يضرب في شولهم2. وذكر أن "الزور" كل ما يعبد من دون الله، كالزون. والزون الصنم3.
والفرسان هم آلة الحرب الحاسمة للحروب، وعليهم يقع معظم ثقل المعارك. وقد كانت معظم معارك الجاهلية معارك فرسان، يكون المحاربون الآخرون فيها وكأنهم متفرجون، يساهمون في المعركة بأصوات التشجيع والحث على الاستماتة في القتال. وقد يدخل القائد نفسه المعركة ليقاتل خصمه. وللفارس بالطبع منزلة كبيرة في نفوس قومه؛ لأنه هو المدافع والمهاجم والآخذ بالثأر.
وقد حفظت كتب الأخبار أسماء جماعة من فرسان الجاهلية وشجعانها ممن كان لهم شأن يذكر في الشجاعة في تلك الأيام، من هؤلاء: ربيعة بن مكدّم من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، وكان كما يقول أهل الأخبار: يعقر على قبره في الجاهلية، ولم يعقر على قبر أحد غيره4. فعلوا ذلك تكريمًا لشأنه وتعظيمًا له. وقد ذكر قبره وعقر الناس عليه في شعر بعض الشعراء5.
ومن بقية فرسان العرب في الجاهلية: عنترة الفوارس، وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وزيد الخيل، وبسطام بن قيس، وأحيمر السعدي، وعامر بن الطفيل، وعمرو بن عبد ود، وعمرو
1 بلوغ الأرب "2/ 148".
2 تاج العروس "3/ 245"، "زاد"، "بكرين مجللين".
3 المصدر نفسه، "9/ 229"، "زون".
4 العقد الفريد "1/ 136".
5 المصدر نفسه، بلوغ الأرب "2/ 125".
ابن معديكرب1، وبسطام بن مسعود الشيباني سيد شيبان، قتله عاصم بن خليفة الضبي يوم الشقيقة2.
ويقال للفارس، أي: لراكب الفرس: "فرس" في العربية الجنوبية، ولمّا كانت الكتابة العربية الجنوبية لا تشكل الحروف ولا تضبط كيفية النطق بها، لذلك فمن الجائز أن العرب الجنوبيين كانوا ينطقون بها على نحو ما تنطق بها في عربيتنا، أي:"فارس". وأما الجمع في تلك اللهجة، فهو "افرس""أفرس"، أي:"فرسان"3.
وقد كانت لسرعة الفرسان أهمية كبيرة في نتائج القتال. إذ كانوا ينقضون على المحاربين المشاة وعلى المدن أو القبائل انقضاض الصواعق، ويربكوا الخصم فيمهدوا بذلك لمشاتهم من التغلب على العدو. ويظهر من الكتابات التي يعود عهدها إلى ما قبل الميلاد أن عدد الفرسان في الجيوش العربية الجنوبية المحاربة لم يكن كبيرًا، وأن أكبر عدد منها لم يتجاوز عن بضع مئات. وسبب ذلك على ما يظهر قلة وجود الخيل إذ ذاك. ولا يستبعد أن يكون استيراد الخيل إلى هناك من عهد غير بعيد بعدًا كبيرًا عن الميلاد.
أما الذين يقاتلون وهم على ظهور حيوانات أخرى، كالجمل وهو في الغالب، فيقال لهم:"ركبم""ركب"، أي:"راكب"4. وقد عرف العرب بقتالهم وهم على ظهور الجمال، وفي الكتابات الآشورية وكتابات المسند صور عرب وهم يحاربون من على ظهور جِمالهم، وذلك لقلة وجود الخيل عندهم في ذلك الوقت.
وللجاهليين آراء في كيفية الاستفادة من الخيل في القتال، فكان خالد بن الوليد لا يقاتل إلا على أُنثى؛ لأنها أقل صهيلًا من الفحل، وكانوا يستحبون إناث الخيل في الغارات وفي "البيات" أي: الإغارة على العدو ليلًا، ولما خفي من أمور الحرب. وكانوا يستحبون فحول الخيل في الصفوف والحصون والسير والعسكر ولما ظهر من أمور الحرب، وكانوا يستحبون خصيان الخيل في الكمين والطلائع؛
1 العقد الفريد "1/ 137".
2 البيان "1/ 21""لجنة".
3 "وافرسهمو" الفقرة "15" من النص:
Jamme 576، Mamb 212، Mahram، P.67، 446، Jamme 577، 584، 635، 644
4 Jamme 560، 576، 644، 649، 665، Mahram، P.448