الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد العاشر
الفصل الرابع والخمسون:
الغزو
وأيام العرب
الغزو
…
الفصل الرابع والخمسون الغزو وأيام العرب
الغزو:
والغزو في تعريف علماء اللغة: الطلب. وهو مورد من أهم موارد الرزق عن الأعراب، لا سيما في سني انحباس السماء وانقطاع الغيث وغضب السماء على الأرض ونفورها منها، حيث تقطع غرامها بها، فتحبس عنها دموعها المعبرة عن شوق السماء إلى الأرض وعن مكانهم المنكوب إلى مكان آخر فيه ماء: بئر أو ماء جار، أو عين دائمة والاستيلاء عليه عنوةً وقهرًا، أو صلحًا بغير قتال، وذلك إذا وجد أصحاب الماء أن من غير الممكن لهم، مقاومة الغزاة، وأن خير ما يفعلونه للحفاظ على حياتهم، هو ترضية الغازين والتودد إليهم، وإرضائهم من غير حرب ولا قتال، وفي ذلك توفيق بين مصلحة الغازين والقارين.
وقد يقع الغزو لأسباب أخرى لا علاقة لها بانحباس المطر، بل بسبب طمع القبائل بعضها في بعض، ولا سيما القبائل التي ترتبط بروابط حلف مع قبائل أخرى. والعادة أن القبائل القوية تطمع في القبائل الضعيفة لتأخذ منها ما عندها من مال ورزق. فتغزوها لتستولي على ما طمعت به، وقد تنجح وقد تفشل وتخسر. والقبائل الضاربة على أطراف الحضارة، تطمع في الحضر لما عندهم من رزق حرمت منه، من رزق وافر ومن ماء ومن وسائل عيش رغيدة، فتغزوهم ولهذا صار من اللازم على الحضر تعزيز أنفسهم، بناء حصون وآطام ومناظر لمراقبة
الغزاة، وبشراء سلاح لا يتوفر عند الأعراب من سيوف ماضية صلبة حادة، ومن اتخاذ حرس من الرقيق والمرتزقة ليساعدهم في الدفاع عن حاضرهم، أضف إلى ذلك شراء سادات القبائل الضاربين حولهم بالمال وبالهدايا وبالألطاف، لمنع أعرابهم من التحرش بهم، ولمنع الأعراب الغرباء الذين قد يطمعون فيهم من الدنوّ منهم.
أضف إلى ما تقدم من أسباب وقوع الغزو: أثر العلاقات الشخصية بين سادات القبائل، من زواج وطلاق، ومن حسد وتنافس، ومن كلمة نابية قد تثير حربًا بين قلبي شخصين متنافرين، ومن عمل سفيه جاهل يثير غزوًا وحربًا بسبب عصبية قومه له، ودفاع الجانب الآخر عن صاحبهم حمية وغيرة. إلى غير ذلك من عوامل معقولة مفهومة وعوامل تافهة سخيفة تجد لها مع ذلك مكانة في القلوب؛ فتثير غزوًا وتسبب نكبة لأناس مساكين فقراء، لا دخل لهم في كل خصومة، وكل ما لهم أنهم من قوم غضب عليهم قوم آخرون، فزادوا في تعاسة إخوانهم المغزوين، والغازي والمغزو مع ذلك معدم محروم من النعم التي وهبتها الطبيعة لغيرهم من البشر، بأن جعلتهم في أرضين خصبة ذات ماء وخيرات وجو حسن، أما هؤلاء التعساء أبناء البادية، فلم يجدوا أمامهم من رزق متيسر سهل سوى الترزق عن طريق هذا الغزو.
فالغزو إذن هو: حاصل ظروف طبيعية واقتصادية واجتماعية، ألمت بالأعراب وأجبرتهم على ركوب هذا المركب الخشن. كارهين أما مختارين فليس للأعرابي للمحافظة على حياته ولتأمين رزقه غير هذا الغزو. وقد بقي يغزو حتى في الإسلام، مع منع الإسلام له لا يجد فيه مع ذلك غصاضة ولا بأسًا. وهو إن امتنع اليوم منه وطلقه. فإنه لم يتركه عن إرادة واختيار وطيب خاطر، وإنما امتنع منه؛ لأنه يعلم أنه إن قام به، فإن هنالك حكومات أقوى منه، لها أسلحة لا يملكها ولا يستطيع التغلب عليها، وعلى رأسها الطائرات، ستفتك به فتكًا ذريعًا، وتكرهه على الخضوع لأحكامها، وعلى الاستسلام لها، وعلى تجريده مما يملكه ومما يستولي عليه لذلك خنس وسكت عن الغزو.
ومن هذا الغزو، غزو وقع في الجاهلية بين قبائل صغيرة، لذلك لم ينل من أهل الأخبار حظًّا من الذكر والرعاية والعناية، ولم يجد له مكانًا بارزًا في صفحات كتب الأخبار، وغزو كبير خلد الشعر الجاهلي ذكره، فأخذ رواة الشعر يتسقطون
أخباره، ويجمعون ما وعته ذاكرة رواة الأخبار من أمره، فوجد له مكانًا فسيحًا رحبًا في شروح الشعر الجاهلي وفي كتب الأخبار والأدب، وقد عرف مثل هذا الغزو الخالد بـ"أيام العرب" وبـ"أيام القبائل". وقد ذكر صاحب كتاب "الفهرست" أسماء جماعة من علماء الأخبار ألَّفوا فيها، وشغلوا أنفسهم بجمع أخبارها، دوَّنوها في كتب وفي جملتها مدونات عن أخبار أيام وقعت بين بطون قبيلة واحدة.
وقد تداول الجاهليون أخبار الغزو، وصيرت القبائل المنتصرة الأيام التي انتصرت فيها ملاحم، تعيد قصها في مجالسها وأنديتها، وقد زخرفت قصصها بأخبار الشجعان الذين برزوا فيها، وبالغت في أخبار شجاعتهم حتى طغت على أخبار الغزو نفسه، وصار البطل رمزًا للقبيلة، تستمد منه الشجاعة والإقدام في النصر وفي الهزائم والخسائر. فالنصر كما نعلم لا يدوم لأحد. وربَّ قبيلة وكر عليها طير السعد فسعدها الحظ بالنصر، ثم طار عنها؛ لأن الأيام الحلوة لا تدوم أبدًا. وقد تصاب القبيلة المنتصرة بنكسة، فتعوض عن ذكرى خسارتها، بذكرها انتصارها في الماضي، فيكون الماضي خير مسل لها عن مرارة الهزيمة، وأحسن مشجع وباعث على النصر في غزو المستقبل.
وقد أمدتنا أخبار الغزو بأسماء عدد من أبطال الجاهلية عرفوا بالشجاعة، لا تزال أخبار بعضهم تروى وتقص على الناس، وتقرأ قصتهم في المجالس مثل: قصة "عنترة" التي حصلت على النصيب الأوفر من الشهرة والذكر من بين القصص المروي عن أبطال الجاهلية، وهو قصص، مهما قيل عنه، وعما ورد فيه من مبالغات، فإنه لا يصل إلى درجة القصص المروي عن أبطال الفرس القدماء أو اليونان أو الرومان أو العبرانيين في المبالغة بشجاعتهم وبقوة أجسامهم الخارقة.
لقد فرضت الطبيعة على العربي أن يكون محاربًا غازيًا، فقد حرمته من خيرات هذه الدنيا ومن طيبات ما تنبت الأرض. حرمته من وجود حكومة تحميه وتدافع عنه، وحرمته حتى من وسائل الدفاع عن النفس. فجعلته لا يملك شيئًا يكنّ إليه في البوادي ليحمي به نفسه من الرياح السموم ومن أشعة الشمس القاسية ومن الحيوانات الوحشية، وجعلته يقابل المرض بمفرده، إذا ليس في البادية طبيب حاذق دارس. فلم يكن أمامه والحالة هذه إلا أن يعلم نفسه الصبر، وأن يصير محاربًا غازيًا لا يبالي بالنصر أو بالخسارة، بالحياة أو بالموت. إن خسر هذه