الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما كانت القوانين والشرائع من نبات المحيط، ومحيط جزيرة العرب محيط قبائلي، مجتمعاته صغيرة متناثرة متباعدة ومشكلاته محصورة في ضمن إطار حياتهم، فإن المعضلات القانونية عندهم تكاد تكون محدودة نابعة من ظروف جزيرة العرب في الغالب، ومعالجاتها وأحكامها نابعة أيضًا من هذه الظروف نفسها، فهي وفق معيشة الجاهليين وأحوالهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية والزراعية، ولا يمكن أن نجد فيها ما نراه من قوانين اليونان والرومان من تصنيف وتبويب وتعقيد لاختلاف الحياة وتباين المحيط ونوع الحكم.
العدل:
الغاية من وضع الأحكام وأمر المجتمع بتطبيق ما جاء فيها، هي ضبط ذلك المجتمع ومنع أفراده من تجاوز بعضهم على حقوق بعض آخر، وسلبهم ما يملكون، وذلك لإشاعة "العدل" ورفع الاعتداء الذي هو "الظلم" وهو نقيض العدل. فمن أجل تحقيق "العدالة" سنّت الشرائع والأحكام. والعدالة هي المساواة وعدم الانحياز.
وقد نصت شرائع الجاهليين على وجوب تحقيق العدالة بإعطاء كل ذي حق حقه وإنصافه. غير أن فكرة "العدالة" تختلف بين البشر باختلاف الأوضاع والأزمنة. فقد يكون حكمٌ عدلًا عند قوم، ويكون باطلًا، أي: ظالمًا عند قوم آخرين. وقد يكون عدلًا في زمان ويكون باطلًا في زمان آخر؛ لأن الظروف التي استوجبت اعتبار الحق حقًّا والعدل عدلًا، تغيرت فتبدلت، فأبطلته أو صار ظلمًا في نظر الناس. ومن هنا أبطل الإسلام بعض أحكام الجاهلية، وهذّب بعضًا منها، وأقر بعضًا آخر، وذلك لتغير الظروف بمجيء الإسلام وتغير النظر إلى أصول العدالة.
لقد صيرت المعيشة القبلية التي عاش فيها أكثر العرب في الجاهلية مفهوم "العدل" أو "الحق" عندهم بصورة تختلف عن مفهومنا نحن للحق والعدل، فالعدالة عندهم لم تكن تتحقق وتؤخذ إلا بالقوة، لذلك أثرت "القوة" تأثيرًا كبيرًا في تحديد مفهوم "العدل" و"الحق" فلكي ينال الإنسان حقه كان عليه أن يجاهد بنفسه وبذوي قرابته وعشيرته للحصول على ما يدعيه من حق
ويثبته. وهو لا يحصل عليه في الغالب إلا بتهديد ووعيد وبوساطة أو باستعمال القوة.
وضخامة البيت أو العشيرة أو القبيلة، هي من جملة مسببات الحصول على الحق بفرضه فرضًا، لذلك صارت القوة هي معيار الحق والعدل، وصار القوي المنيع هو صاحب الحق في الغالب.
ولما كان الرجل أقوى من المرأة، وقد منح نفسه حقَّ سن الأحكام، صار الحق في الجاهلية في جانبه، فرفع نفسه عنها في أكثر الأحكام، وحرمها الميراث حتى لا يذهب الإرث إلى غريب، وقايضها بديونه أو بجناية تقع منه كما في "فصل الدم" وفي زواج البدل وفي منع المرأة من الزواج إلا من قريبها لوجود حق الدم عليها، وفي منع زواج زوجات الآباء إلا برضى أبناء الأب وذوي قرابته؛ لأنهم أحق بالزواج منها، وغير ذلك من أمور، جعل المرأة عرضًا وملكًا، حتى حرم الإسلام كثيرًا من هذه السنن الجاهلية التي لم يكن الجاهليون يرون أنها تنافي مبدأ العدالة؛ لأن ظروفهم الاجتماعية لم تكن توحي إليهم أن اعتبار المرأة دون الرجل في الحقوق شيئًا منافيًا للحق والعدل، فقد وجدوا أن الطبيعة خلقتها دونهم في القوة، فجعلوها من ثم دونهم في الحقوق، ولم يكن أمامها بالطبع غير الاستسلام.
فالحق هو القوة، والعدل هو القوة، ولن ينال امرؤ حقه إلا إذا كان مالكًا لذلك الحق، وهو القوة على تحصيل الحق. وبهذا الحكم للحق، حرم المرأة من ميراثها كما ذكرت، كما حرم من هو دون سن البلوغ، ومن لا يستطيع القتال من هذا الحق أيضًا. فلم يحرم القانون الجاهلي المرأة وحدها ودون غيرها من الإرث، لمجرد أنها امرأة، بل حرم الأولاد منه أيضًا ما داموا دون سن القتال. فقد وجد المشرع الجاهلي أن من الحيف إعطاء الطفل إرثًا، وهو طفل لا يستطيع الطعن بالرمح ولا الضرب بالسيف، لذلك حرمه منه ما دام طفلًا، وحرم الكبار منه ما داموا لا يستطيعون الطعن ولا الضرب بالسيف والذب عن الحق. ولا سيما عن حق الأهل والقبيلة، الذي هو الحق العام. لذلك حرم المعتوه أيضًا من حق الإرث؛ لأنه معتوه لا يستطيع حمل السيف والدفاع عن الحق.
ومن هذه النظرة أخذوا بمبدأ تفاوت الحقوق، بأن جعلوا تقدير الحق على أساس درجات الإنسان ومكانته، ومنزلة القبيلة ومكانتها، فدية الملك مثلًا أعلى من دية سيد القبيلة، ودية سيد القبيلة فوق ديات الآخرين، وهكذا على حسب
الدرجات. ودية سيد قبيلة قوية هي أكثر من دية سيد قبيلة ضعيفة، ودية رجل من سواد قبيلة قوية هي ضعف دية رجل من درجته ومنزلته في قبيلة ضعيفة.
وسبب هذا التباين في الحق هو أن مفهوم الحق عند الجاهليين كان يقوم على أساس الاعتبارين المذكورين: مكانة المرء ودرجة القبيلة.
ولا يقتصر أصل تفاوت الحق هذا على "الديات"، أي: على التعويض عن الضرر فقط، بل أقر التشريع الجاهلي رأي "التفاوت في الحق" في كل الحقوق الأخرى، مثل: حقوق الغنائم التي يحصل عليها المنتصرون من الغزو أو الحرب.
فأعطت الملك حقوقًا خاصة في الغنائم، ووضعت لسادات القبائل أنصبة معينة فيما يقع في أيدي أفراد القبيلة من غنائم، بأن جعلت لهم: النشيطة، وهي ما أصيب من الغنيمة قبل أن يصير إلى مجتمع الحي، والصفايا، وهي ما يصطفيه الرئيس، والفضول، وهو ما عجز أن يقسم لقلته فيخصص بسيد القبيلة، والمرباع، وهو حق سيد القبيلة في أخذ ربع الغنائم. وقد جمعت هذه الحقوق في هذا البيت:
لك المرباع منا والصفايا
…
وحكمك والنشيطة والفضول1
وأعطى التشريع الجاهلي الملوك وسادات القبائل والأشراف حق "الحمى"، لا يشاركهم فيه مشارك ولا يرعاه أحد غيرهم. بل يكون صاحب الحمى شريك القوم في سائر المراتع حوله2.
وأخذت شرائع الجاهليين بمبدأ أن الإنسان: إما حر وإما عبد، أي: رقيق مملوك، والرقيق هو ملك سيده، ولذلك، فإن ما يكون له أو ما يكون عليه يختلف في القوانين عما يكون للأحرار من حقوق وأحكام.
وهو مبدأ لم يكن خاصًّا بالجاهليين وحدهم، ولكن كان عامًّا في ذلك الزمن أخذت به جميع الأمم. وقد نُصَّ عليه في القوانين الرومانية واليونانية وفي الشريعة اليهودية. والعبد، هو كما قلت ملك صاحبه، وهو "ملك يمين"، إلا أن يمنّ عليه بالحرية، فيكون حرًّا. أما إذا بقي عبدًا في ملك صاحبه، فإن نسله يكونون عبيدًا بالولادة أيضًا. والعبدة، أي: المملوكة تكون ملكًا لسيدها، يتصرف
1 لسان العرب "9/ 457"، تاج العروس "5/ 232".
2 تاج العروس "10/ 99".
بها كما يشاء. ومن حقه الاتصال بها دون حاجة إلى عقد زواج؛ لأنها ملك، والمالك يتصرف بملكه على نحو ما يحب.
ويعبر عن "الحر" بـ"حرم"، أي:"حرٌّ" في اللهجات العربية الجنوبية، أما الرقيق، فقد عبر عنهم بـ"ادم"، أو "اوادم" بالمصطلح العراقي، وبـ"عبدم"، أي:"عبد". ويقال للعبدة "امت"، أي:"أمة". فالأمة هي الأنثى المملوكة في تلك اللهجات1.
وقد أشير إلى هذا التقسيم الطبقي في النصوص التشريعية التي أصدرها حكام العربية الجنوبية، وذلك بأن نص فيها على أن تلك الأحكام تطبق على الأحرار وعلى العبيد، أو على الأحرار دون العبيد، أو على العبيد دون الأحرار، والنص على ذلك فيها أمر ضروري لتوضيح الحقوق والالتزامات بالنسبة إلى مجتمع ذلك الوقت، ولتعرف بذلك الواجبات المفروضة على كل فرد من أفراده.
والعبودية حسب القوانين وراثية، فابن العبد عبد، وابنة العبدة عبدة، وهكذا تنتقل العبودية بالوراثة في الأجيال دون انقطاع، ولن يقطعها ويقضي عليها إلا تنازل مالك العبد عن عبده وعمن يتبعه من نسله تنازلًا شرعيًّا بإعلان يعلن عن ذلك، وبكتاب يكتب في بعض الأحيان. وسبب ذلك أن العبد ملك يمين، وملك اليمين مثل كل ملك. والملك حق مقدس للفرد لا يجوز الاعتداء عليه.
والحر قد يصير عبدًا، ولو ولد حر الرقبة. فإذا أفلس رجل، ولم يتمكن من الوفاء بما عليه من دين عليه تأديته لدائنيه، وإذا وقع في سباء أو أسر، صار عبدًا. إلا إذا قبل الدائن إعفاءه من ديونه، أو منَّ آسره عليه، فردّه إلى أهله أو دفع فدية عن نفسه، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد.
وأخذ التشريع الجاهلي بمبدأ أن ما يطبق على أفراد القبيلة من قوانين وأحكام يكون خاصًّا بالقبيلة. أما ما يطبق على الأشخاص الذين يكونون من قبيلتين مختلفتين أو من قبائل عديدة فإنه يكون خاضعًا للعرف المقرر بين القبائل، فهو قريب مما يسمى بالقوانين الدولية في الزمن الحاضر. أما القوانين التي تطبق في القبيلة، فإنها تشبه قوانين الدولة الواحدة. فالشخص إذا ما ارتكب عملًا مخالفًا داخل حدود قبيلته، أي: مع أفراد القبيلة، عومل وفق أحكام القبيلة. أما إذا ارتكبها مع شخص من قبيلة أخرى، عومل وفق العرف القبلي، لا وفق عرف القبيلة.
1 Jamme، Southern. P.427
المسئولية "التبعة": الأصل في المسئولية وفي الحق هو: كل امرئ وما عمله، أي: إن الفاعل الذي يقع منه فعل يكون هو المسئول عن فعله. هذا هو الأصل في المسئولية، إلا أن التشريع الجاهلي أخذ أيضًا بمبدأ انتقال المسئولية من الفاعل إلى ذوي قرابته الأدنين، ثم الأبعدين، فالعشيرة أو القبيلة في حالة عدم التمكن من القصاص، أي: من أخذ الحق من الفاعل. وذلك بقانون العصبية. فالجماعة التي هي "القبيلة" تكون مسئولة بعرف العصبية في النهاية عن كل عمل يقوم به أحد أفرادها لارتباطها بـ"العصبية" وعلى كل أفرادها تحمل مسئولية أي فرد من أفرادها وضمان أداء ما يقع عليه من حق في حالة امتناعه، أو عدم تمكنه هو أو ذوي قرابته من تنفيذ أداء الحق.
فالقائل مثلًا إذا لم يسلم للاقتصاص منه بقتله، أو لم يتمكن أهل القتيل من قتله، انتقل حق أهل القتيل إلى قتل أقرب الناس إليه ثم الأبعد وهكذا، أخذًا بثأر القتيل. ويؤدي ذلك إلى التوسع في القتل في الغالب، مع عدم سقوط حق ذوي القتيل في البحث عن القاتل لقتله؛ لأن الأصل في كل جريمة هو الفاعل الأصل. وفي الديات، تؤخذ من أهل القاتل في الأصل، فإن لم يتمكنوا فمن ذوي قرابتهم الأدنين ثم الأقرباء الأبعدين على العصبات حتى تصل إلى حدود العشيرة أو القبيلة بقانون العصبية، فيوزع مقدار الدية على أفراد القبيلة كلٌ على حسب مركزه، وهي تعقل بذلك عن أبنائها، ويحمل أفرادها بقدر ما يطيقون. ويقال لذلك:"المعاقلة"1.
وقد ذكر أن العقل: الدية، سميت عقلًا؛ لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلًا؛ لأنها كانت أموالهم، فسميت الدية عقلًا، لأن القاتل كان يكلف أن يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول، فيعقلها بالعقل، ويسلمها إلى أوليائه.
وقد جرت عادة الجاهليين أن أهل القرية لا يعقلون عن أهل البادية ولا أهل البادية عن أهل القرية، فكل طبقة ملزمة بالعقل عن طبقتها2.
وقد ورد في نص قانوني مدون بالمسند أن الجماعة تكون مسئولة عن أية جريمة تقع في حماها إذا لم يعرف الجاني، أو إذا لم يسلم إلى الحاكم، ومعنى هذا لزوم
1 لسان العرب "11/ 460"، "عقل".
2 لسان العرب "11/ 461 وما بعدها".