المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أيام العرب: عرفت الحروب والمناوشات التي وقعت بين القبائل بعضها مع - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٠

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد العاشر

- ‌الفصل الرابع والخمسون:‌‌ الغزووأيام العرب

- ‌ الغزو

- ‌الخيل:

- ‌الجمل:

- ‌أيام العرب:

- ‌الفروسية:

- ‌الخيل:

- ‌الفصل الخامس والخمسون: الحروب

- ‌مدخل

- ‌المحاربون:

- ‌التحصينات:

- ‌الفصل السادس والخمسون: في الفقه الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌العدل:

- ‌سقوط المسؤولية

- ‌إزالة الضرر:

- ‌الولاية:

- ‌الفصل السابع والخمسون: الاحوال الشخصية

- ‌مدخل

- ‌النكاح:

- ‌القاعدة العامة في الازدواج:

- ‌الصداق:

- ‌أنواع الزواج:

- ‌نكاح الضيزن:

- ‌نكاح المتعة:

- ‌نكاح البدل:

- ‌نكاح الشغار:

- ‌نكاح الاستبضاع:

- ‌نكاح الظعينة:

- ‌أمر الجاهلية في نكاح النساء:

- ‌تعدد الزوجات:

- ‌الطلاق:

- ‌الرجعة:

- ‌الحيض:

- ‌العدة:

- ‌النفقة:

- ‌النسب:

- ‌التبني:

- ‌الزنا:

- ‌كسب الزانية:

- ‌الوصية:

- ‌الإرث:

- ‌العصبة:

- ‌إرث النساء:

- ‌ميراث السائبة:

- ‌الفصل الثامن والخمسون: الملك والاعتداء عليه

- ‌الملكية:

- ‌الشفعة:

- ‌الرق:

- ‌زوال الرق:

- ‌الإباق:

- ‌الكتابة:

- ‌العتق:

- ‌الأموال الثابتة:

- ‌الجرائم:

- ‌القتل:

- ‌قتل القاتل:

- ‌القتل الخطأ:

- ‌السجن:

- ‌الجلد:

- ‌الخلع والطرد:

- ‌التغريب:

- ‌الدية:

- ‌العاقلة:

- ‌الذحل:

- ‌الشدخ:

- ‌التعقبة

- ‌الأشناق:

- ‌الحمالة:

- ‌السعاة:

- ‌القسامة:

- ‌الحيوان المؤذي:

- ‌السرقة:

- ‌قاطع الطريق:

- ‌الصلح:

- ‌المال:

- ‌التمليك:

- ‌العمري:

- ‌حرمة الأماكن المقدسة:

- ‌الحبوس:

- ‌اللقطة:

- ‌الركاز:

- ‌الفصل التاسع والخمسون: العقود والالتزامات

- ‌مدخل

- ‌البيوع:

- ‌الفصل الستون: حكم العرب

- ‌مدخل

- ‌القضاء بعكاظ:

- ‌فهرس: الجزء العاشر

الفصل: ‌ ‌أيام العرب: عرفت الحروب والمناوشات التي وقعت بين القبائل بعضها مع

‌أيام العرب:

عرفت الحروب والمناوشات التي وقعت بين القبائل بعضها مع بعض، أو بين ملوك اليمن والقبائل أو بين الفرس والعرب أو بين الملوك العرب والقبائل بـ"الأيام" وبـ"أيام العرب"1. وهذه الأيام تؤلف -في الواقع- القسط الأكبر من علم الأخباريين بتأريخ الجاهلية، ومادتها القصص الذي تناقله الناس عمن شهدوها، وحفظوه في صدورهم، إلى أن كان التدوين فدوِّن. وهو مادة محبوبة تناولها الناس في الجاهلية والإسلام بلذة وشوق، فكانت هي والشعر الجاهلي من أهم المجالس. "قيل لبعض أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قال: كنا نتناشد الشعر، ونتحدث بأخبار جاهليتنا"2، وأهم أخبار الجاهلية هي هذه الأيام.

ومادة هذه الأيام عربية خالصة، يتخللها شعر قيل بالمناسبة في تلك الأيام في الفخر والحماسة وفي هجاء الخصم والانتقاص منه. والفضل هو لهذا الشعر في حفظ أخبار تلك الأيام، وصيانتها من النسيان، لاضطرار الراوي والسامع إلى الاطلاع على المناسبة التي قيلت فيها تلك الأشعار. وعلى هذه المادة العربية اعتماد المؤرخ في تدوين تأريخ العرب في الجاهلية، وتتبع التطورات السياسية التي حدثت قبيل الإسلام.

وفي شعر المخضرمين وشعر الشعراء الإسلاميين الذين نبغوا في العهد الأموي مادة تفيدنا في الوقوف على خبر تلك الأيام، فقد حفظ تفاخر الشعراء بقبائلهم ومهاجاة بعضهم لبعض آثار تلك الأيام، فدونت في شعر الهجاء والتباهي والتفاخر، وزاد بذلك علمنا الذي أخذناه من أخبار الأيام ومن الشعر الجاهلي الذي أشير فيه إليها.

وموضوع كموضوع الأيام، لا بد أن يُقبل العلماء عليه إقبالًا كبيرًا، وهذا ما وقع، فألف فيه جماعة، منهم "أبو عبيدة" المتوفى سنة "210" أو "211" للهجرة، وأدخله قوم في مؤلفاتهم، فأفردوا له بابًا أو أبوابًا، ولكنا لا نملك حتى اليوم كتابًا قديمًا قائمًا بذاته في الأيام. وكل ما نملكه هو هذه الأبواب الداخلة

1 اللسان "16/ 139".

2 العقد الفريد "6/ 3 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 338".

Ency. I، P.218

ص: 13

في بطون كتب الأدب في الغالب وفي بعض كتب التأريخ والجغرافيا، سأشير إليها في أثناء حديثي عن الشهير من هذه الأيام1.

وقد أشار "ابن النديم" وغيره إلى أسماء مؤلفين ألفوا كتبًا في أيام العرب2. منهم من ألف عنها كلها، ومنهم من ألف عن بعضها. ومنهم من ألف في أيام قبائل معينة. لكنها لم تطبع، ولعل من بينها من قد يطبع في المستقبل. وقد ورد أن "أبا الفرج الأصبهاني" قد استقصى أيام العرب في كتاب أفرده لذلك، فكانت أيامه ألفًا وسبعمائة يوم3.

ولكن هذه الأيام غير منسقة ويا للأسف، ولا مبوبة على حسب ترتيب الوقوع، وتسلسل الزمن. ثم إن من الصعب استخراج مستند منها يمكن الاعتماد عليه في تصنيف هذه الأيام، وتنظيمها على أساس تأريخي، مع أنها مادة المؤرخ الذي يريد كتابة تأريخ جزيرة العرب قبل الإسلام ودراسة التطور السياسي فيها. وقد حاول المستشرقون تنسيقها وترتيبها على أساس تواريخ الوقوع، فلم يفلحوا إلى الآن في الوصول إلى نتيجة مرضية. ولو كانت لدينا معارف عن أحوال من أسهم فيها وأجج نارها ومن قال شعرًا فيها4، تنير لنا السبيل لتثبيت التأريخ وضبط السنين، لصار في إمكاننا ضبطها وتعيين تواريخها استنادًا إلى هذا المروي عن أولئك. ولكن ما نعرفه عن هؤلاء الرجال، وهم أبطالها وأصحابها، ولا يقل غموضًا وإبهامًا من حيث التواريخ والسنين عن غموض تواريخ تلك الأيام وإبهامها، ولذلك فكل ما يقال عن تواريخ الأيام وترتيبها والسنين التي وقعت فيها، هو حدس وتخمين. وسيبقى الحال على ذلك، حتى تتهيأ مادة جديدة كنصوص جاهلية مدونة أو موارد أخرى قد تتعرض لتلك الأيام بتأريخها أو بتأريخ من اشترك فيها على وجه مضبوط صحيح. وعندئذ يكون في الإمكان تدوينها على نحو علمي يشرح لنا تطور الحوادث عند العرب قبيل الإسلام.

ولوجود مجال واسع للعب العاطفة في أخبار الأيام، تجب دراسة الروايات على حذر، والتفتيش -على قدر الإمكان- عن روايات متعددة عن اليوم الواحد،

1 الفهرست "85"، العمدة "200/ 2 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 393".

2 الفهرست "148"، "أخبار هشام الكلبي".

3 بلوغ الأرب "2/ 68".

4 العمدة "2/ 300 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 393"، الفهرست "85".

ص: 14

للمقارنة والمقابلة والغربلة، وليس هذا بأمر ميسور؛ لأن الروايات والأخبار محدودة، وهي ترجع بأخرةٍ إلى نفر تستطيع حصرهم. فهذه الأبواب، وإن كانت متعددة منثورة بين مؤلفات، دونها مؤلفون مختلفون، إلا أنها أخذت من ذلك النفر، فهي لم تأت لهذا السبب في ثناياها بشيء جديد.

وفي هذا النفر المذكور، نفر منحاز متحزب، يشايع قومه، ويريد نسبة الغلب والتفوق لهم، والغض جهد إمكانه من خصوم قومه ومن الأطراف التي خاصمت قومه واشتبكت معها في قتال، وهو مكثر بالنسبة لجماعته، مبالغ يسند مبالغاته بكلام منثور ومنظوم، ليثبت صحة قوله. ولهذا وجب الانتباه لهذه الناحية والحذر من تصديق كل رواية وإن نسبت إلى خيرة من نثق بعلمهم من الرواة.

وهذه الأيام ليست حروبًا بالمعنى المفهوم من الحرب، فإن منها ما هو مجرد مناوشات أو مهاترات وغزوات لم يسقط فيها إلا بضعة أشخاص، ومنها أيام وقعت في عدة سنين كانت تثار فيها الحرب حينما تتجدد المناسبات، وتنتهي بتسوية يتفق فيها على دفع ديات القتلى وإنهاء المشكلات التي كانت السبب في إثارة تلك الحرب، فإذا ما انتهت، بقيت القبيلة المنتصرة تفتخر بيومها وبأيامها، وبأسماء أبطالها الذين رفعوا اسمها فيها، وطالما جرَّ التباهي والتفاخر القبائل إلى حرب جديدة، بسبب جواب قد يصدر من سفيه عابث لا يرضيه سماع ذلك الفخر، أو من قبيلة مغلوبة لم يكن من السهل عليها أو على أفرادها سماع هذا الكلام.

والنابه من هذه الأيام، معدود عند بعض العلماء محدود. وقد حصرها "أبو عبيدة" في الأيام الكبيرة العظيمة، التي ساهم فيها عدد كبيرمن الفرسان. وجعلها: يوم الكلاب، ويوم ربيعة، ويوم جبلة، ويوم ذي قار1.

وأكثر أسباب هذه الأيام، هو عسف حكام القبائل القوية في القبائل الضعيفة الخاضعة لهم، بسبب الإتاوة التي كانوا يلحون في جبايتها غير مفكرين في الظروف والأوقات، أو بسبب نزاع على ماء ومرعى، أو أخذ بثأر. أو محاولة للتخلص من حكم القبائل على القبيلة بظهور شخصية قوية فيها، وأمثال هذه من أسباب قد يكون بينها سبب تافه سخيف، يؤدي إلى إزعاج المتخاصمين بسبب النزعات العاطفية التي تتغلب عند القبائل في غالب الأحوال على العقول.

1 الأغاني "11/ 131".

ص: 15

والعادة أن يُعَنْون اليوم باسم الموضع الذي حدثت فيه المعركة، أو بالشيء البارز في تلك الحرب، أو باسم القبائل التي اشتركت فيه. ومن هذه الأيام ما وقع بين قبائل قحطانية، ومنها ما وقع بين قبائل عدنانية، ومنها ما وقع بين قبائل قحطانية وقبائل يرجع النسابون نسبها إلى مضر وربيعة، وإلى معد، وإلى عدنان، فهي أيام وقعت إذن بين جماعتين هما في عرف النسابين من جدَّين، هما: قحطان وعدنان. وهما جدَّا كل العرب الأحياء.

ومن الأيام التي وقعت بين القبائل القحطانية: يوم البردان، ويوم الكُلاب الأول وعين أباغ ويوم حليمة ويوم اليحاميم، وأيام الأوس والخزرج. وأما أيام القحطانيين والعدنانيين. فمنها: يوم البيضاء، ويوم طخفة، ويوم أوارة الأول، ويوم أوارة الثاني، ويوم السلان، ويوم خزار ويوم حجر، ويوم الكلاب الثاني، ويوم فيف الريح، ويوم ظهر الدهناء 1.

وأما الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية، فمنها ما وقع بين قبائل ربيعة فيما بينها، ومنها ما وقع بين ربيعة وتميم، ومنها ما وقع بين قبائل قيس فيما بينها، ومنها ما وقع بين قيس وكنانة، ومنها ما وقع بين قيس وتميم، ومنها أيام ضبة وغيرهم2.

وهناك أيام وقعت بين العرب والفرس مثل يوم الصفقة ويوم ذي قار.

وقد تحدثت عن الأيام التي وقعت بين القبائل القحطانية، وعن الأيام التي وقعت بين العرب والفرس في الأماكن المناسبة الخاصة بها. فلست أجد حاجة ها هنا إلى الكلام عليها مرة ثانية، وسأقتصر هنا على الأيام الأخرى3.

والأيام بين ما يسمى بالقبائل العدنانية أكثر بكثير من الأيام التي وقعت بين القبائل القحطانية، وسبب ذلك هو أنها أكثر بداوة وأعرابية من القبائل الثانية، وأن من طبع البداوة: الفردية والخصومة والتنازع والتحاسد، بسبب ضيق العيش وقلة المال وتحول القبائل من مكان إلى مكان وراء الماء والكلأ. لذلك قل اجتماع العدنانيين تحت رئاسة رئيس واحد، وتقاتلوا وتخاصموا، وفضلوا الخضوع لحكم

1 أيام العرب "ج وما بعدها".

2 أيام العرب "د وما بعدها".

3 المحبر "246".

ص: 16

رئيس بعيد عنهم على الخضوع لرئيس منهم؛ لأن النفسية الأعرابية ترى في خضوع أعرابي لأعرابي من جنسه استكانة ومذلة. أما خضوعها لحكم غريب عنها فليس فيه شيء من ذلك، ولهذا خضعت لملوك المناذرة أو الغساسنة أو لكندة أو للتبابعة، ونفرت من الخضوع لرئيس عدناني لعقدة التنافس والتناحر بين ذوي القربى.

والقبائل العدنانية، قبائل خشنة شديدة المراس، القتال عندها طبيعة، ولو اتحدت وجمعت كلمتها ووحدت أمرها، لكانت قوة لا تغلب، ولكنها، وهي على هذه الصفة من التخاذل والتنافر، صارت خاضعة لحكم القحطانيين، وأخصهم التبابعة على ما يذكره الرواة. فكانوا يعينون عليهم حكامًا وينصبون عليهم أمراء منهم، بل يذكر أهل الأخبار أن العدنانيين كانوا يذهبون هم أنفسهم إلى أولئك التبابعة أحيانًا يطلبون منهم تنصيب شخص منهم، أو تعيين أمير عليهم من أصحاب المنزلة والمكانة؛ لأنهم سئموا من التقاتل والتشاحن، بقوا على ذلك دهرًا حتى سئموا حكم التبابعة والقحطانيين لهم، فثاروا عليهم كما يذكر أهل الأخبار.

وسأقتصر في هذا الفصل على الأيام المهمة التي كان لها في شئون السياسة القبلية شأن وخطر. أما الأيام الصغيرة التي لم يكن لها شأن يذكر. فأدع الحديث عنها إلا بقدره. وأما الحامل منها، فسأترك أمره إلى كتب الأخبار والأدب، لعدم وجود مكان لها في حديثنا العام عن تأريخ العرب قبل الإسلام.

ومن أمهات الأيام التي وقعت بين القحطانيين والعدنانيين: يوم طخفة، ويوم أوراة الأول، ويوم أوراة الثاني، ويوم السلان، ويوم خزاز، ويوم حجر، ويوم الكلاب الثاني، ويوم فيف الريح، ويوم ظهر الدهناء. وقد تحدثت عن بعضها في أثناء كلامي على ملوك الحيرة أو الغساسنة، وسأتحدث عما لم أتناوله من قبل.

ومن الأيام التي وقعت بين قبائل قحطانية وقبائل عدنانية، يوم يسمى بـ"يوم البيضاء""البيداء"1 وكان سببه مجيء مذحج، وهي قبيلة قحطانية من اليمن، قاصدة متسعًا من الأرض وموطنًا جديدًا صالحًا، فاصطدمت بقبائل معد النازلة بتهامة، وتهامة هي موطن معد القديم في عرف أهل الأخبار، فبرزت لها قبيلة

1 المحبر "246".

ص: 17

عدوان ورئيسها يومئذ عامر بن الظرب العدواني. جمع عامر هذا من كان في تهامة من قبائل معد، وهاجم مذحجًا فغلبها في موضع "البيضاء" ويقول الأخباريون: إن هذا اليوم هو أول يوم اجتمعت فيه معد تحت راية واحدة، هي راية عامر بن الظرب. وقد اجتمعت بعدها مرتين تحت راية واحدة: مرة تحت راية ربيعة ابن الحارث في قضاعة، ومرة أخرى تحت راية كليب بن ربيعة1. فهذه المعركة هي من المعارك القديمة التي وقعت بين العدنانيين والقحطانيين على رأي الأخباريين.

وعامر بن الظرب هذا، رجل يعده الأخباريون من قدماء حكماء العرب وأئمتهم الذين تحاكم إليهم الناس، وصارت أحكامهم سنة يتبعونها. وقد ذكر أهل الأخبار أنه أول من قرعت له العصا. ويرون في تفسير ذلك أنه كان قد كبر وهرم، وكان الناس يأتون مع ذلك إليه ليحكموه فيما يقع بينهم من خلاف. فقال له أحد أولاده:"إنك ربما أخطأت في الحكم فيحمل عنك"، فقال عامر:"فاجعلوا لي أمارة أعرفها، فإذا زغت فسمعتها رجعت إلى الصواب": فجعلوا قرع العصا أمارة ينبهونه بها. فكان يجلس قدام بيته ويقعد ابنه في البيت ومعه العصا. فإذا زاغ أو هفا قرع له الجفنة فيرجع إلى الصواب2.

ولأهل الأخبار قصص عن عامر، فقد ذكروا أنه كان أول من جلس على منبر أو سرير وتكلم، ولجلوسه على منبر، سموه ذا الأعواد، ونسبوا إليه أحكامًا وحكمًا وأقوالًا وعمرًا طويلًا. وعدوه من الفصحاء البلغاء، وجعلوا أقواله مضربًا للأمثال 3.

وأخذ رؤساء معد على عاتقهم الخروج على طاعة حكام اليمن، أو من عينه هؤلاء الحكام عليهم، وذلك بعد ما تبين لهم من ضعف الحكم في اليمن ومن تقاتل المتنفذين فيها بعضهم مع بعض، ومن تدهور الأحوال هناك. وكانت اليمن قد ولت "زهير بن جناب" زعيم كلب على قبائل معد. وكلب من قبائل قضاعة، فوافقت معد على تعيينه وخضعت لحكمه، وأخذت تؤدي الإتاوة له. وكان يخرج في حاشية لجمع الإتاوة، فأصاب معدًا ضيق شديد، وأجدبت أرضهم، فتأخروا عن الدفع، فجاءهم زهير وألحَّ في مطالبتهم، فشكوا عجزهم، وطلبوا

1 ابن الأثير "1/ 295"، جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام "ص224".

2 ابن الأثير "1/ 227"، الأغاني "3/ 3 وما بعدها".

3 المحبر "237 وما بعدها".

ص: 18

إمهالهم والتخفيف عنهم. فما كان منه إلا أن منعهم النُّجْعَة والمرعى، فنقموا منه، وأصابهم من ذلك بلاء، فغضب عليه رجل منهم من بني "تيم الله"، اسمه زيابة، واندس إليه وهو نائم فطعنه، وظن أنه قتله، ورجع إلى قومه فأخبرهم بخبره، ولكن "زهيرًا" لم يصب بسوء، ونجا من الطعنة، وكان قد أخمد أنفاسه ولم يتحرك حتى يوهم "زيابة" أنه قتله ومات، ثم أوعز إلى حاشيته أن يعلنوا أنه مات، وشاع خبر موته بين الناس ولكنه كان قد فرَّ مع حاشيته إلى قومه، حيث جمع جمعهم، ثم هجم بهم على بكر وتغلب، وقاتلهم قتالًا شديدًا أدى إلى هزيمة بكر، ثم إلى هزيمة تغلب من بعدها، وأسر "كليبًا" و"مهلهلًا" ابني ربيعة، وجماعة من أشراف تغلب. فتأثرت قبائل ربيعة من هذه الهزيمة، وعينت "ربيعة بن مُرّة بن الحارث بن زهير التغلبي"، والد "كليب" و"مهلهل" رئيسًا عليها، فحمل ربيعة ومن انقاد إليه على زهير، واسترجع الأسرى، ولكن زهيرًا لم يلبث أن عاد إلى ما كان عليه من جمع الإتاوة من معد 1.

وإذا أخذنا برأي الأخباريين القائلين: إن تعيين زهير بن جناب على بكر وتغلب ابني وائل كان بأمر أبرهة الذي غزا نجدًا، وتوسع فيها، فجاءه زهير ليتقرب إليه، وليعينه على بعض القبائل، يكون حكم زهير على هذا القول في القرن السادس للميلاد2.

وفي عهد رئاسة "كليب بن ربيعة"، جددت قبائل ربيعة محاولاتها للتخلص من حكم اليمن. وكان "كليب" شخصية قوية، فاختارته قبائل معد رئيسًا عليها، واجتمعت تحت لوائه، والتقت باليمن في "يوم خزاز"، فانتصرت معد فيه، وعد من أيامها الكبرى قبل الإسلام3. ونظرت معد إلى كليب نظرة تجلة واحترام، وجعلت له قسم الملك وتاجه وطاعته؛ لأنه وحَّدهم وأنقذهم من

1 المحبر "249"، ابن الأثير "1/ 238".

2 ابن الأثير، الكامل "1/ 205".

3 "خزاز" ورد أيضًا "خزازي"، العقد الفريد "6/ 97""تحقيق العريان" ابن رشيق، العمدة "2/ 212"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، تحت "باب ذكر الوقائع والأيام".

ص: 19

تعسف اليمن بهم1.

وقد داخل "كليب بن ربيعة" زهو شديد بعد هذا النصر، وبعد سيادته بني معد، فبغى على قومه، وصار يتعسف في إحماء الحمى، فلا يرعى حماه أحد، ولا يصاد فيه ولا تَرِدُ إبل مع إبله، ولا توقد نار مع ناره، وبقي كذلك حتى قتله "جسّاس بن مرّة الوائلي"، فتوالت الحروب بين تغلب وبكر ووائل بسبب ذلك2.

وقد اختلف الأخباريون في هذا اليوم، واختلفوا في اسم قائد قبائل معد فيه، واختلفوا في اسم ملك اليمن الذي في عهده وقع، واختلفوا في زمن وقوعه، وفي سببه، فقالوا: إن رئيس معد فيه هو "كليب بن ربيعة"، وقالوا: بل هو زُرارة بن عدس، وقالوا: لا، وإنما هو ربيعة بن الأحوص بن جعفر. ويذكر بعضهم أنه وقع بعقب يوم السلان، وأنه كان لجموع ربيعة ومضر وقضاعة على مذحج وغيرهم من اليمن3.

وذكر جماعة من أهل الأخبار، أن "الأحوص بن جعفر بن كلاب"، كان على نِزار كلها يوم خزاز، ثم ذكرت ربيعة أخيرًا من الدهر أن كليبًا كان على نزار. وتوسطت جماعة بين الرأيين، فقالت: كان كليب على ربيعة، وكان الأحوص على مضر4.

وسبب اختلافهم في ذلك هو دور العصبيات القبلية، والنزعات العاطفية عند الرواة. ذكر أهل الأخبار أن جماعة من وجوه أهل البصرة، كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويتنازعون في الرياسة يوم خزاز، فتعصب كل قوم لرئيس من الرؤساء الذين ذكرت. وقد تحاكموا إلى "عمر بن العلاء" وكانوا في مجلسه، فقال: ما شهدها عامر بن صعصعة ولا دارم بن مالك، ولا جُشَم بن بكر، اليوم أقدم من ذلك، ولقد سألت عنه، فما وجدت أحدًا من القوم يعلم من رئيسهم ومَن الملك5. وقد أنكر بعضهم أن يكون لكليب بن ربيعة دور

1 ابن الأثير "1/ 238"، صبح الأعشى "1/ 39".

2 صبح الأعشى "1/ 391".

3 العمدة "2/ 212"، المحبر "ص249"، العقد الفريد "6/ 98""طبعة العريان".

4 البلدان "3/ 438 وما بعدها"، العمدة "2/ 212""محمد محيي الدين عبد الحميد".

5 العقد الفريد "6/ 97 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 420".

ص: 20

بارز فيه. والظاهر أن روايات الرواة عن هذا اليوم، وهي شفوية بالطبع، كانت متضاربة تضاربًا كبيرًا بسبب بعد عهد ذاكرتهم عنه، كما كانت متنافرة بسبب العواطف والنزعات القبلية، وتعصب كل راوٍ لقبيلته. فلما جاء مدوِّنو الأخبار لجميع ما في حافظة رواة القبائل عن هذا اليوم، وجدوا اختلافًا كبيرًا، حاولوا جهد إمكانهم التوفيق بينه، واستخراج قصة موحدة عنه، فجاءوا بهذا الذي جاءوا به.

وترجع رواية من روايات أخبار هذا اليوم، سبب وقوعه إلى جباية أهل اليمن لقبائل معد. "كان الرجل منهم يأتي، ومعه كاتب وطنفسة يقعد عليها، فيأخذ من أموال نزار ما شاء، كعمال صدقاتهم اليوم، وكان أول يوم امتنعت معد عن الملوك: ملوك حمير"1. فلما ضجرت نزار وبقية قبائل معد من هذه الجباية القاسية، ومن هذا التعسف، هاجت على اليمن، وأعلنت عصيانها على القحطانيين، فوقع هذا اليوم. أوقدت نارًا على خزاز ثلاث ليال، ودخنت ثلاثة أيام. فلما أحست مذحج باجتماع "معد"، سارت على نزار ومن انضم إليها من معد، فوقع يوم خزاز.

وجاء في رواية أخرى. أن سبب هذا اليوم هو احتباس ملك من ملوك اليمن أسرى من مضر وربيعة وقُضاعة، وامتناعه عن فك أسرهم، وذلك في عهد "كليب". فجاءه وفد من بني معد فيهم: سَدُوس بن شيبان بن ذُهْل، وعوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، وعوف بن عمرو بن جشم بن ربيعة بن زيد مناة، وجشم بن ذهل بن هلال. فلقبهم رجل من بهراء يسمى عبيد بن قُراد. وكان في الأسر وكان شاعرًا، فسألهم أن يدخلوه في عدة من يسألون. فكلموا الملك فيه وفي الأسرى، فوهبهم لهم، وأبقى الملك بعض أفراد الوفد رهائن حتى يأتي الباقون برؤساء قومهم ليأخذ عليهم مواثيق الطاعة. فرجع الباقي إلى قومهم وأخبروهم الخبر، فاجتمعت ربيعة ومعد تحت راية "كليب بن ربيعة""كليب وائل"، فسار ومعه "السفاح التغلبي" وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن تغلب، وقد جعله "كليب" على مقدمة معد، وأمر "كليب" أن توقد النار على خزاز، ليهتدوا

1 العقد الفريد "6/ 97 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 420 وما بعدها".

ص: 21

بها. فلما سمعت مذحج باجتماع ربيعة، استعدت هي ومن يليها من قبائل اليمن للقتال، وساروا إليهم، فلما سمع أهل تهامة بذلك انضموا إلى ربيعة، وساروا كلهم إلى خزاز. فلما التقى الطرفان، اقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزمت مذحج شر هزيمة فيه1.

ولياقوت الحموي رواية أخرى في سبب وقوع هذا اليوم، فهو يقول: إن مضر وربيعة اجتمعت على أن يجعلوا منهم ملكًا يقضي بينهم، فكلٌّ أراد أن يكون منهم، ثم تراضوا أن يكون من ربيعة ملك ومن مضر ملك، ثم أراد كل بطن من ربيعة ومن مضر أن يكون الملك منهم، ثم اتفقوا أن يتخذوا ملكًا من اليمن، فطلبوا ذلك إلى بني آكل المرار من كندة، فملكوا أولاد الحارث بن حجر الكندي عليهم، ثم ما لبثوا أن ثاروا عليهم وقتلوهم، فكان حديث يوم الكلاب.

ولم يبق من ولد الحارث غير سلمة، فجمع جموع اليمن وسار ليقتل نزارًا، وبلغ ذلك نزارًا فاجتمع بنو عامر وبنو وائل، وتغلب وبكر، وبلغ الخبر كليب وائل، فجمع ربيعة، وقدم على مقدمته السفاح التغلبي، فكان يوم خزاز، وقد انتصر بنو نزار فيه على القبائل اليمانية2. وهذه الرواية قريبة جدًا من رواية "اليعقوبي" عن هذا اليوم3.

وقد أشار "عمرو بن كلثوم التغلبي" إلى هذا اليوم، وافتخر به، كما افتخر بـ"كليب وائل"، وذكر أن قومه أعانوا نزارًا في محاربتهم اليمن في ذلك اليوم4. وذكر بعض أهل الأخبار أنه "لولا عمرو بن كلثوم ما عُرف يوم خزاز"5. وذلك لذكره له في شعره.

وقد ذكر هذا اليوم عدد أخر من الشعراء منهم "زهير"6.

1 ابن الأثير الكامل "1/ 243"، "1/ 312"، النقائض "1093""بيفان"، العقد الفريد "5/ 245"، ابن الأثير "1/ 310""المنيرية"، نقائض جرير والفرزدق "452"، الجمحي، الطبقات "31"، العقد الفريد "3/ 364"، أيام العرب "109".

2 البلدان "3/ 428 وما بعدها"، أيام العرب "109 وما بعدها".

3 اليعقوبي "1/ 184".

4 شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص130" ابن الأثير الكامل "1/ 312".

5 البكري، معجم ما استعجم "2/ 496""باب حرف الخاء" العقد الفريد "6/ 97 وما بعدها".

6

شهدت الوافدين على خزاز

وبالسلان جمع ذا ثواه

البكري ومعجم "2/ 496".

ص: 22

والسفاح التغلبي، وهو سلمة بن خالد بن الجرارين للجيوش، وقد قاد قومه يوم كاظمة، وقيل له السفاح؛ لأنه سفح المزاد أي صبَّها في ذلك اليوم حتى يقاتل قومه قتال المستميت، وكان من خطباء حرب بكر وتغلب1.

وذهب بعض أهل الأخبار إلى أن يوم خزاز هو "أعظم يوم التقت فيه العرب في الجاهلية"2. وهو رأي يعبر عن وجهة نظر العدنانيين بالطبع، ففي هذا اليوم انتصرت نزاز ومن انضم إليها من قبائل مذحج ومن انضاف إليها من قبائل اليمن ولم يسبق لقبائل نزار، وهي مضر وربيعة وبقية معد أن تغلبت على القبائل الكبرى المنظمة المنتمية إلى اليمن. فكان يوم نصرها هذا من أعظم الأيام عندها، بعث فيها روح المقاومة والاعتماد على النفس في مقاومة القبائل القوية التي تنسب نفسها إلى اليمن.

وإذا أخذنا برأي القائلين: إن يوم خزاز كان عقب يوم السلان، يكون هذا اليوم قد وقع أيام النعمان بن المنذر، أي في أواخر أيام المناذرة وفي النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، إذا يذكر الأخباريون أن سببب وقوع يوم السلان هو أن بني عامر بن صعصعة كانوا قومًا حمسًا، أي متشددين في دينهم، لقاحًا لا يدينون للملوك، وكان من عادة النعمان بن المنذر أن يجهز كل عام لطيمة لتباع بعكاظ، فتعرَّض لها بنو عامر، فغضب النعمان، وبعث عليهم وَبْرة الكلبي أخاه لأمه ومعه الصنائع والوضائع وجماعة من بني ضبة بن أد والرباب وتميم، وانضم إليهم ضرار بن عمرو وأولاده، وهم فرسان شجعان، وحبيش ابن دلف، وطلب منهم أن يذهبوا إلى عكاظ فإذا فرغوا من البيع، وانسلخت الأشهر الحرم، قصدوا بني عامر بنواحي السلان.

فلما فرغوا من عكاظ. علمت بخطتهم قريش، وأرسل عبد الله بن جُدعان قاصدًا أخبر بني عامر بغرض القوم، فحذروا وتهيئوا للحرب. وتحرزوا ووضعوا العيون، وسلموا قيادتهم لفارس شهير معروف هو عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة، فلما التقوا تغلبوا على قوة النعمان وهزموها، وأخذوا وبرة أسيرًا. ولم يفكوه من أسره إلا بألف بعير وفرس3.

1 الاشتقاق "ص203"، المحبر "ص300".

2 البلدان "3/ 428 وما بعدها".

3 البلدان "5/ 104"، "يوم السلان"، ابن الأثير، الكامل "1/ 268".

ص: 23

ويدخل يوم الكلاب الثاني في عداد هذه الأيام. وقد وقع عقب يوم الصفقة، وقع بين تميم وبني سعد والرباب وبين مذحج ومن التلف حولها من قبائل اليمن.

فلما بلغ مذحج ما حل بتميم بالمشقر وبهجر بعد الصفقة، وما سمعته من تخوفهم من انتقام كسرى مرة ثانية منهم ومن دوران العرب عليهم، مشى رجال مذحج بعضهم إلى بعض، وقالوا: اغتنموا بني تميم، ثم بعثوا الرسل في قبائل اليمن وأحلافها من قضاعة، ثم سألت مذحج كاهنها المأمور "الحارثي" في أمر هذا الهجوم فنهاها، ولكنها لم تأخذ برأيه، بل سارت طامعة في تميم، وقد جمعت اثنى عشر ألف مقاتل، من مذحج وهمدان وكندة: وهو أعظم جيش أخرجه العرب كما يقول علماء الأخبار1. وكان من رجالهم يزيد بن عبد المدان، ويزيد ابن المخرم، ويزيد بن الكيشم "الكيسم" "اليكسم" بن المأمور "المأموم"، ويزيد بن هوبر. وهم كلهم حارثيون، ومعهم عبد يغوث الحارثي، وأقبلت بنو سعد والرباب. ورئيس الرباب النعمان بن جساس ورئيس سعد بن قيس بن عاصم، والتقت في أوائل الناس بجموع مذحج وهمدان وكندة، واختلطوا واقتتلوا قتالًا شديدًا انتهى في آخر النهار بمقتل "النعمان بن جساس". وقد دفع مقتله بني تميم على الثبات والوقوف للأخذ بالثأر، حتى تمكنت من الانتقام لنفسها، بأن انتصرت على اليمن. فأسر "عبد يغوث بن وقاص الحارثي"، "عبد يغوث ابن صلأة الحارثي" سيد "بني الحارث"، وقتل خمسة من أشراف اليمن، وأخذت الرباب "عبد يغوث" وقتلته بقتل "النعمان بن جساس". وهكذا انتهى هذا اليوم بفوز بن تميم. وكان رئيسها في هذا القتال: قيس بن عاصم، ويسمى الكلاب الثاني: يوم جز الدوابر2. ودعاه "ابن رشيق القيرواني" بـ"يوم الشعيبة"3.

ونعت بعض أهل الأخبار اليزيديين الأربعة المذكورين وهم قادة القوم: يزيد بن هوبر، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المأموم، ويزيد بن المخرم،

1 "فلا يعلم جيش في الجاهلية كان أكبر منه"، العقد الفريد "6/ 78 وما بعدها".

2 النقائض "1/ 452 وما بعدها""بيفان" العقد الفريد "6/ 78 وما بعدها"، البكري، معجم ما استعجم "4/ 1132"، النقائض "2/ 1075"، ابن الأثير الكامل "1/ 379"، العقد الفريد "5/ 225"، نهاية الأرب "15/ 406 وما بعدها".

3 العمدة "2/ 206".

ص: 24

بـ"أربعة أملاك"1. ويدل ذلك على أنهم كانوا يلقبون بلقب ملك، وأن "بني الحارث" كانوا قد نصبوهم عليهم، وإن كان لقب "ملك" لا يتجاوز في الواقع لقب "شيخ" في عرف هذا اليوم.

وكان من أبرز رجال تميم في هذا اليوم سبعة من رؤسائهم، هم: أكثم بن صيفي، والأحيمر "الأعيمر" بن يزيد بن مُرة المازني، وقيس بن عاصم المنقري، وأبير بن عصمة التيمي، والنعمان بن جساس "الحسحاس" التيمي، وأَبين بن عمرو السعدي، والزبرقان بن بدر السعدي2. وبرز فيه اسم "مصاد بن ربيعة بن الحارث"، و"عصمة بن أبير التيمي" وهو الذي أسر "عبد يغوث" و"قبيصة بن ضرار الضبي"، وهو الذي شد على "ضمرة بن لبيد الحماسي الكاهن" فطعنه وخر صريعًا، فقال له قبيصة: ألا أنبأك تابعك بمصرعك اليوم3.

وأما "الكلاب الأول"، فكان لسلمة بن الحارث بن عمرو المقصور، ومعه: بنو تغلب والنمر بن قاسط، وسعد بن زيد مناة والصنائع، على أخيه "شرحبيل ابن الحارث بن عمرو"، ومعه بكر بن وائل بن حنظلة بن مالك، وبنو أسد، وطوائف من بني عمرو بن تميم، والرباب، فقتل "شرحبيل"، قتله "أبو حنش عاصم بن النعمان الجشمي" ويقال: بل قتله "ذو الثنيّة حبيب ابن عُتبة الجشمي"4.

ومن هذه الأيام يوم "فيف الريح"، وهو موضع بأعلى نجد، وقع بين مذحج وعامر، وسببه أن "بني عامر" كانوا يطلبون "بني الحارث بن كعب" بأوتار كثيرة، فجمع لهم الحصين بن يزيد الحارثي، وكان يغزو بمن تبعه من قبائل مذحج وأقبل في بني الحارث وجُعْفي، وزبيد، ومراد، وقبائل سعد العشيرة، ومراد، وصداء، ونهد، واستعانوا بقبائل خَثعم وعليهم أنس بن مدرك، فخرج شهران وناهس وأكلب عليهم أنس بن مدرك، وأقبلوا يريدون بني عامر، وهم منتجعون "فيف الريح"، ومع مذحج النساء والذراري، حتى لا يفروا، إما ظفروا وإما ماتوا جميعًا. فاجتمعت بنو عامر كلها إلى

1 نهاية الأرب "15/ 408".

2 نهاية الأرب "15/ 407"، أيام العرب "124".

3 نهاية الأرب "15/ 410".

4 العمدة "2/ 206""ط. محمد محيي الدين عبد الحميد".

ص: 25

عامر بن الطفيل "عامر بن مالك ملاعب الأسنة"، والتقى الجمعان في قتال لم يعط نصرًا بينًا لأحد الطرفين، إذ وقع القتل في الفريقين، ولم يستقل بعضهم عن بعض غنيمة، وكان الصبر والشرف لبني عامر. وممن قتل أو جرح فيه: الصُميل بن الأعور الكلابي، وحسيل بن عمرو الكلابي، وخليف بن عبد العزى النهدي، وكعب الفوارس بن معاوية بن عبادة بن البكاء، وعامر بن الطفيل1.

ومن أيام القحطانيين مع العدنانيين "يوم ظهر الدهناء". كان أوس بن حارثة بن لأم سيدًا في قومه طيء، مطاعًا فيهم، جوادًا معروفًا، حباه النعمان ابن المنذر حلة على العادة المتبعة عند ملوك الحيرة في تكريم الرؤساء الذين يفدون عليهم، وفضله على غيره، بأن طلبه وكان غائبًا دون قوم من السادة الأشراف، فاغتاظ حساده من ذلك وأوعزوا إلى بعض الشعراء بهجائه، فهجاه بشر بن أبي خازم وهو من بني أسد، وأسرف في هجائه، فاغتاظ أوس من ذلك، وجمع قومه من طيء، وأوقع ببني أسد بظهر الدهناء، وقتل منهم قتلًا ذريعًا، فانهزمت منه، وهرب بشر، فجعل لا يأتي حيًّا يطلب جوارهم إلا امتنع من إجارته على أوس إلى أن التجأ إلى أم أوس، فأجارته، وأجاره أوس عندئذ، وعفا عنه، ومن عليه وأعطاه وحباه، فانقلب مادحًا له2.

والأيام التي ذكرها الأخباريون عن حروب العدنانيين مع ملوك اليمن للحصول على استقلالهم، قليلة، ولا يعني حكم اليمن للعدنانيين أن تبابعة اليمن كانوا يحكمون تلك القبائل حكمًا مباشرًا، وإنما هو في الواقع وكما يظهر من غربلة هذه الروايات حكم كان يتسع ويتقلص تبعًا لقدرة الحكام وشخصياتهم، ولاتفاقاتهم مع سادات تلك القبائل؛ ولأن القبائل العدنانية هي قبائل بدوية في الغالب لا تستقر على حال، ومن طبع البداوة التنازع والتخاصم. ثم إن سادات القبائل كانوا كما هو شأنهم في كل وقت متنافسين متخاصمين، لذلك وجد ملوك اليمن، وهم ملوك

1 الميداني "2/ 308"، الأغاني "5/ 21"، البلدان "6/ 413"، النقائض "469"، العقد الفريد "3/ 359"، ذيل الأمالي "146"، أيام العرب "132"، نهاية الأرب "15/ 414 العمدة "2/ 413".

2 راجع ديوان بشر بن أبي خازم الأسدي، تحقيق الدكتور عزة حسن، دمشق 1960 ابن الأثير الكامل "1/ 262"، بلوغ الأرب "1/ 84"، ابن الأثير "1/ 382"، الشعر والشعراء "86"، أيام العرب "137 وما بعدها".

ص: 26

شعب أكثريته مستقرة، من السهل عليهم التدخل في شئون تلك القبائل بتأييد هذا الرئيس على منافسه، وبتعيين رئيس من رؤساء القبائل الكبيرة على قبيلة أو جملة قبائل أخرى ضعيفة أو متخاصمة، لتهيئة الحال وإقرار الأمن. فصار من العادة بين القبائل العدنانية، بل بين القبائل القحطانية كذلك، أو بين كبار سادات القبائل، أن يلجئوا إلى التبابعة للتدخل في الخصومات وإقرار الأمن بالحكم بين المتخاصمين، أو بتعيين رجل محترم كبير من اليمن أو من غير اليمن عليهم. ونجد بين روايات الأخباريين روايات تؤيد هذا الرأي.

ويدخل الأخباريون في أيام العدنانيين مع القحطانيين الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية وبين ملوك الحيرة لاعتدادهم من قحطان. وكذلك يدخل أهل الأخبار في أيام القحطانية مع العدنانية الأيام التي وقعت بين ملوك بني سليح والغساسنة من بعدهم وبين القبائل العدنانية، والأيام التي وقعت بين كندة وبين القبائل العدنانية.

وإذ أسلفت الكلام على أيام تلك الحكومات مع القبائل العدنانية في المواضع المناسبة، فإني أكتفي بالإشارة إليها، على أمل الرجوع إلى تلك الأماكن لمن يريد الوقوف عليها.

أما أشهر أيام القحطانيين، فالأيام التي وقعت بين المناذرة والغساسنة، والأيام التي وقعت بين هؤلاء الملوك وملوك كندة وأمرائها. ثم الأيام التي وقعت بين القبائل المنتسبة إلى اليمن، مثل الأيام التي وقعت بين الأوس والخزرج، والأيام التي وقعت بين قبائل طيء، وأمثال ذلك. ولما كنت قد تحدثت عن معظم هذه الأيام، فسأكتفي بما تحدثت عنها، وأتحدث عن النابه من بقية الأيام فقط مما لم أتحدث عنه سابقًا.

وتؤلف الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية الجزء الأكبر من أيام العرب، وهي أهمها وأغناها بالشعر والأمثال والقصص. وكان لتميم وبكر وتغلب أثر خطير فيها. وأشهر هذه الحروب، الحرب المسماة بحرب البسوس، وقعت بين بكر وتغلب ودامت أربعين عامًا على ما يذكره الأخباريون.

وتغلب وبكر هما من قبائل ربيعة، لذلك تكون حرب البسوس من الحروب التي وقعت بين قبائل ربيعة؛ لأن أيام العدنانيين هي أيام وقعت بين قبائل ربيعة وحدها، وأيام وقعت بين قبائل من ربيعة وقبائل من مضر، وأيام وقعت بين

ص: 27

قبائل مضر1.

وذكر بعض أهل الأخبار أن أشهر أيام بكر وتغلب، خمسة أيام مشاهير.

أولها يوم عنيزة وتكافئوا فيه، والثاني يوم واردات، وكان لتغلب على بكر. والثالث يوم الحنو، وكان لبكر على تغلب. والرابع يوم القصيبات، وكان لتغلب على بكر. والخامس يوم قضة، وهو آخر أيامهم، وكان لبكر. وفيه أسر مهلهل من ربيعة2.

وتولد من هذه الحرب قصص وشعر. نسب إلى أبطال الأيام التي وقعت فيها، وأمثلة ذُكر أنها قيلت في المناسبات، صارت على العادة أمثلة شائعة بين الناس3.

وليست حرب البسوس في الواقع حربًا واحدة، إنما هي حروب عدة وقعت في تلك المدة المذكورة، وفي أوقات متقطعة إلى أن انقطعت بوساطة المنذر بن ماء السماء وتدخله بين الفريقين.

والذي أثار نيران هذه الحرب هو جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان أخو "جليلة" امرأة كليب بن ربيعة سيد قبيلة تغلب، وذلك بقتله كليبًا؛ لأنه أدمى ضرع ناقة للبسوس خالة جساس، إذ كانت ترعى في أرض حماها كليب ومنع الرعي فيها إلا لإبله. وقد أثار عمل كليب هذا غضب جساس، فقتله، وثارت بذلك الحرب بين تغلب وبكر قوم جساس.

وكليب بن ربيعة، أو "كليب وائل" كما يعرف عند بعض أهل الأخبار، هو وائل بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو

1 المعارف "605 وما بعدها"، المختصر في أخبار البشر، لأبي الفداء "1/ 95 وما بعدها"، الشعر والشعراء "99 وما بعدها"، العقد الفريد "5/ 213 وما بعدها"، سبائك الذهب "105"، مقامات الحريري "260"، الأغاني "4/ 139 وما بعدها"، فرائد اللال في مجمع الأمثال، لإبراهيم بن السيد على الأحدب الطرابلسي، "1/ 319 وما بعدها"، "المطبعة الكاثوليكية، بيروت"، صبح الأعشى "1/ 391 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 312"، نهاية الأرب "15/ 396".

2 الشعر والشعراء "166".

3 الأغاني "4/ 140 وما بعدها"، أبو تمام، الحماسة "420 وما بعدها"، مجمع الأمثال "1/ 342"، النقائض "773"، شيخو: شعراء النصرانية "151، 160، 246، 270"، نهاية الأرب "15/ 396 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 241 وما بعدها" Ency. I، P.674

ص: 28

ابن غنم بن تغلب1. رجل صلب قوي، تمكن بمواهبه وبقدرته من السيطرة على قبائل ليست السيطرة عليها بأمر سهل يسير، ومن إقامة نفسه ملكًا عليها، ومن أخذ الإتاوة من القبائل، ومن الانتصار على قبائل اليمن في يوم خزاز. وبقي على ذلك دهرًا، حتى داخله: زهو شديد، فأخذ يبغي على القبائل ويشتط في أخذ الإتاوة منها وفي اتخاذ خيرة الأرضين المخصبة أحماء لا يجوز لإبل غيره الرعي فيها، ولا الاستيلاء على مواضع الماء، حتى ضجرت الناس منه، فكانت نتيجتة ما تقدم2.

وأخذ المهلهل "واسمه عدي بن ربيعة"، وهو أخو كليب على نفسه عهدًا بأن يترك النساء، والغزل، والقمار، والشراب، حتى يثأر بقتل أخيه، وجمع قومه، ووقعت حروب. ومهلهل هذا هو أول من هلهل الشعر، أي أرقه على حد رواية أهل الأخبار3.

وقد أقام أصحاب "كليب" قبة رفيعة على قبره، تكريمًا له4. شأن الجاهليين في ذلك الزمن من إقامة القباب على قبور الكبار.

وفي جملة الأيام التي يدخلها أهل الأخبار في حرب البسوس: يوم النهي، ويوم الذنائب، ويوم واردات، ويوم عنيزة، ويوم القصيبات، ويوم تحلاق اللمم5.

وكما كان كليب سيد تغلب، كذلك كان زهير بن جذيمة العبسي سيد قيس عَيْلان، وقيس عيلان قبائل كبرى عديدة. كان لها شأن بين القبائل وخطر، ترأس غطفان، وقادها كلها وساد على عبس وذبيان، ولمكانته هذه ولسؤدده تزوج إليه النعمان بن امرئ القيس ملك الحيرة، فتوسع بذلك نفوذه وعظمت منزلته عند القبائل، ولا سيما القبائل المتصلة به والقبائل الخاضعة لملوك الحيرة.

1 للأخباريين أقوال في سبب تسميته بكليب، راجع عن ذلك: الكامل، لابن الأثير "1/ 214"، الاشتقاق "ص204".

2 ابن الأثير "1/ 214 وما بعدها"، العقد الفريد "راجع فصل أيام العرب"، النقائض "905 وما بعدها"، الميداني "1/ 254"، خزانة الأدب "1/ 301 وما بعدها".

3 نهاية الأرب "15/ 398 وما بعدها".

4 أيام العرب "165".

5 ابن الأثير "1/ 183"، العقد الفريد "3/ 348"، البلدان "1/ 139"، الأغاني "5/ 132" مجمع الأمثال "1/ 342"، خزانة الأدب "1/ 425"، أيام العرب "142".

ص: 29

واتفق أن أحد أولاد زهير -واسمه شأس- كان عائدًا من زيارته للنعمان ومعه هدايا ثمينة وألطاف فاخرة حباه بها النعمان، فطمع به رجل من غني اسمه "رياح بن الأسك الغنوي" وقتله بموضع منعج. فلما علم بذلك أبوه، أخذ بقتل كل من وقعت عليه يده من غني. وغزت بنو عبس غنيًّا ومعها الحصين بن زهير أخو شأس، فطلبت غني من رياح ترك أرضها والارتحال عنها، وصار هذا القتل سببًا لإثارة البغضاء بين عبس وغني لما أوقعه زهير بغني من القتل1.

ويوم منعج ويسمى أيضًا بـ"يوم الردهة"2، من الأيام التي وقعت بين قبائل قيس. ومن هذه الأيام: يوم النفراوات "النفرات"، ويوم بطن عاقل وداحس والغبراء، والرقم، والنتاءة، وحوزة الأول، وحوزة الثاني، واللوى3.

وكان زهير يأخذ الإتاوة من هوازن كرهًا، تدفعها إليه كل عام بسوق عُكاظ وهي مكرهة. وكانت هوازن تعترف بسيادته عليها وتعتبره ربًا، وهي يومئذ لا خير فيها، وإنما هي رعاة الشاء في الجبال. فإذا كانت أيام عكاظ. أتاها زهير، ويأتيها الناس من كل وجه، فتأتيه هوازن بالإتاوة التي عليهم، فيأتونه بالسمن والأقط والغنم، ثم إذا تفرق الناس نزل بالنفراوات. فلما كان الدفع، ذهب زهير على عادته لأخذ الإتاوة، انتهز "خالد بن جعفر بن كلاب" هذه الفرصة، فذهب إلى هوازن، وحرضها على زهير. فلما بلغ زهير أطراف بلاد هوازن، باغته خالد بن جعفر ومعه جمع من هوازن، فقتل زهير، ورجع به أبناؤه إلى بلادهم ليدفنوه. وقد عرف اليوم الذي قتل فيه زهير بيوم النفراوات4.

وعزمت غطفان على الأخذ بثأر زهير من خالد، فخاف خالد على نفسه منها، وفرَّ إلى الحيرة ليستجير بالنعمان في رواية، أو بالأسود بن المنذر في رواية أخرى. عندئذ تعهد الحارث بن ظالم المري. وهو فاتك معروف. لبني زهير بقتل خالد إذا كفت غطفان عن هوازن. وقد برَّ بوعده، إذ اغتاله وهو في قبة كان

1 الأغاني "10/ 8"، مجمع الأمثال "2/ 268"، ابن الأثير، الكامل "1/ 337"، نهاية الأرب "15/ 344 وما بعدها".

2 نهاية الأرب "15/ 344 وما بعدها".

3 أيام العرب "229".

4 "النفرات""النفراوات"، نهاية الأرب "15/ 346"، الأغاني "11/ 84 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية"، العقد الفريد "6/ 5 وما بعدها".

ص: 30

النعمان قد أمر بنصبها له. وذلك ببطن عاقل، فعرف اليوم به1. فلما علم بذلك النعمان، أمر بطلبه ليقتله بجاره، وأخذت هوازن تطالب به لتقتله بسيدها خالد. ففر الحارث إلى بني دارم من تميم، واستجار بضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن، فأجاره ضمرة على النعمان وهوازن، فكان ذلك سببًا لتجهيز النعمان جيشًا على بني دارم انتقامًا منها لتجاسرها على إيواء من يطلب قتله.

وورد في رواية أخرى أن لجوء "الحارث بن ظالم" كان إلى "معبد بن زرارة"، وأن بني تميم استاءت من لجوئه إليه؛ لأنه أوى هذا المشئوم الأنكد، وأغرى بهم الأسود ملك الحيرة، وخذلوه غير بني ماوية وبني عبد الله بن دارم2.

وجاء في خبر أن "الحارث بن ظالم" كان عند "حاجب بن زرارة بن عدس بن عبد الله بن دارم". وقد وعده النصرة والمنعة، وبلغ الأحوص بن جعفر الكلابي أخو خالد بن جعفر، مكان الحارث بن ظالم، فسار على تميم، حتى أدركها بـ"حرحان"، فاقتتلوا اقتتالًا شديدًا، وانهزمت بنو تميم، وأسر معبد بن زرارة، أسره عامر والطفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب. فوفد لقيط بن زرارة في فدائه، وعرض عليهما مئتى بعير في فدائه، فامتنعا قائلين: أنت سيد الناس، وأخوك معبد سيد مضر، فلا تقبل فيه إلا دية ملك. فأبى أن يزيدهم، ورحل لقيط عن القوم ومنع بنو عامر معبدًا عن الماء وضاروه حتى مات هزالًا. وورد في رواية أنه أبي أن يطعم شيئًا أو يشرب حتى مات هزالًا3.

وأمر النعمان جيشه بالتوجه إلى بني دارم، وانضم إليه الأحوص بن جعفر أخو خالد، ومعه جمع بني عامر، للانتقام من الحارث قاتل خالد. فعلمت بنو دارم بمجيء الجيش، واستعدوا للقتال، فلما التقى الجمعان، قتلت بنو مالك ابن حنظلة "ابن الخمس التغلبي" رئيس جيش النعمان، وصبرت بنو دارم، وأقبل قيس بن زهير فيمن معه، فانهزمت بنو عامر، وانهزم جيش النعمان، وعادوا إلى ديارهم، وكان رئيس بني دارم زرارة بن عدس سيد بني تميم.

1 نهاية الأرب "15/ 348".

2 نهاية الأرب "15/ 349".

3 العقد الفريد "3/ 360"، الأغاني "10/ 30"، ابن الأثير "1/ 341"، النقائض "1/ 214"، نهاية الأرب "15/ 349" وما بعدها.

ص: 31

وهناك روايات أخرى عن هذا الحادث وعن الحارث ذكرتها في الفصول السابقة1.

وصارت الرئاسة إلى قيس بعد مقتل والده "زهير بن جذيمة العبسي"، ويصفة الأخباريون بجودة الرأي وبحسن التجارب، ويقولون: إنه لذلك عرف بـ"قيس الرأي"، ويذكرون له في ذلك أقوالًا وحكمًا ونصائح، ويروون طائفة من ذلك، ولا سيما مما قاله في مناسبات حرب داحس والغبراء.

ويذكر أهل الأخبار أن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي، كان قد سار إلى المدينة ليتجهز لقتال عامر، والأخذ بثأر أبيه، فأتى "أحيحة بن الجُلاح" ليشتري منه درعًا موضونة، فقال له: لا أبيعها، ولولا أن تذمني بنو عامر لوهبتها منك، ولكن خذها بابن لبون. ففعل ذلك، وأخذ الدرع، ووهبه أحيحة أدراعًا، وعاد قيس إلى قومه، فاجتاز بالربيع بن زياد العبسي، فدعاه إلى مساعدته على الأخذ بثأره، فأجابه إلى ذلك. فلما أراد فراقه، نظر إلى عيبته فقال: ما في حقيبتك؟ قال: متاع عجيب، لو أبصرته لراعك، وأناخ راحلته، وأخرج الدرع، فأخذها ومنعها من قيس، ولم يعطه إياها، وترددت الرسل بينهما. فلما طالت الأيام على ذلك، سيّر قيس أهله إلى مكة، فأغار قيس على نعم الربيع، واستاق منها أربعمائة بعير، وسار بها إلى مكة وباعها إلى عبد الله بن جدعان واشترى بها خيلًا، وتبعه الربيع فلم يلحقه، فكان فيما اشترى من الخيل داحس والغبراء2.

وقد اقترن اسم قيس بهذه الحرب الشهيرة التي يتناقل الناس قصصها الطريفة حتى اليوم، وهي حرب ثارت بين عبس وذبيان بسبب اختلاف على سباق خيل كان قد تراهن عليه حذيفة بن بدر بن فزارة سيد ذبيان وقيس بن زهير، اشتركت فيه خيار خيل قيس وحذيفة وفي مقدمتها داحس والغبراء والخطار والحنفاء. وقد ادعى كل واحد من المتنافسين أن فرسه كان السابق، وأنه هو الكاسب للرهان في قصص طويل يتخلله شعر وكلام وجواب. وانتهى النزاع إلى ما ينتهي إليه

1 ابن الأثير "1/ 229 وما بعدها"، الأغاني "8/ 10"، مجمع الأمثال "2/ 268"، العقد الفريد "6/ 7 وما بعدها".

2 ابن الأثير، الكامل "1/ 343 وما بعدها".

ص: 32

كل نزاع من هذا القبيل، وهي الحرب1.

وهي حرب استمرت سنتين، قتل فيها حذيفة بن بدر وعدة رؤساء، واشتركت فيها شيبان وضبّة وأسد وغطفان وقبائل أخرى، كما ساهم فيها ملك هجر، وامتدت إلى أن اتصلت بالإسلام. وللشاعر زهير بن أبي سلمى ذكر فيها. ولم تنته إلا بتوسط الرؤساء حيث سويت بدفع الديات، وبإنهاء تلك الحرب التي شغلت تلك القبائل وأقلقت الأمن لذلك السبب التافه على زعم قول الرواة2.

وفي جملة حروب داحس والغبراء، يوم العذق، وهو ماء، انهزمت فيه فزارة، وقتُلوا قتلًا ذريعًا، وأسر حذيفة، فاجتمعت غطفان وسعت للصلح. فاصطلحوا على أن يهدر دم بدر بن حذيفة بدم مالك أخي قيس، وتساووا فيما بقي، فأطلق حذيفة من أسره.

ثم وقعت حرب أخرى، مثل يوم "البوار"، وكان الفوز فيه لعبس على فزارة وأسد وغطفان، ويوم الهباءة، ويوم الجراجر، إلى غير ذلك من أيام3.

ولامتداد هذه الحرب سنين عديدة، وانتشارها خارج نطاق حدود قبيلتي عبس وذبيان، شملت أرضين واسعة، تخللتها جملة أيام لها أسماؤها. وهي بالطبع كلها من أيام هذا الحرب: حرب داحس والغبراء.

وإذا قرأت قصة داحس والغبراء، قرأت قصص شجاعة بطل مغوار أظهر

1 الأغاني "11/ 86 وما بعدها""دار الكتب""16/ 24 وما بعدها""17/ 123""دار الثقافة، بيروت"، العقد الفريد "5/ 151"، البلدان "1/ 205""بيروت" البكري معجم "3/ 1396"، المعارف "606"، ابن الأثير، الكامل "1/ 343""الطباعة المنيرية" الأغاني "17/ 123""دار الثقافة بيروت"، المختصر في أخبار البشر، لأبي العداء "1/ 97""دار الكتاب اللبناني" البداية والنهاية، لابن كثير، "3/ 155" ابن خلدون المجلد الثاني "632"، العقد الفريد "5/ 150""لجة التأليف"، اللسان "6/ 77""بيروت 1956م"، نهاية الأرب "15/ 356 وما بعدها".

2 ديوان عنترة بن شداد "ص151"، التبريزي، شرح ديوان الحماسة "1/ 297"، المعلقات السبع، للزوزني "89"، الأمثال "2/ 51"، العقد الفريد "3/ 313"، ابن هشام "1/ 182"، ابن الأثير "1/ 343 وما بعدها""الطباعة المنيرية"، نهاية الأرب "15/ 356"، شرح ديوان عنترة "83 وما بعدها""عبد المنعم" شرح القصائد العشر، للتبريزي "213""مطبعة السعادة 1964"، ديوان زهير ابن أبي سلمى، نهاية الأرب "15/ 356 وما بعدها، الأغاني "11/ 86 وما بعدها" النقائض "1/ 299".

3 ابن الأثير "1/ 258 وما بعدها".

ص: 33

شجاعة فائقة في هذه الحرب، وكان له فيها شعر، هو عنترة بن شداد العبسي، وقصص شجاعة عنترة معروفة حتى اليوم، مشهورة، يسمعها الناس بشوق ورغبة، وهي عندهم أشهر من قصص داحس والغبراء: هذه الحرب التي خلد اسمها هذا الشعر وأمثاله.

وفي يوم الرقم، غزت بنو عامر غطفان وعليهم عامر بن الطفيل شابًا لم يرأس بعد، فخرجت إليهم بنو مرّة بن عوف، وأشجع، وناس من فزارة، وكلهم من غطفان، فقاتلوا بني عامر، وتغلبوا عليهم. وفرّ عامر بن الطفيل، وشنق الحكم بن الطفيل نفسه، ليتخلص بذلك من الأسر. ويروي الأخباريون لعروة ابن الورد وللنابغة الذبياني ولعامر بن الطفيل شعرًا ذكروا أنهم قالوه في هذا اليوم1.

وقد منيت بنو عامر بهزيمة أخرى يوم النتاءة، وكانت قد خرجت إلى غطفان تريد الأخذ بثأرها من هزيمة يوم الرقم، فأغارت على نعم بني عبس وذبيان وأشجع فأخذوها، فتعقبتها عبس وأشجع وفزارة حينما عادوا بالغنائم، والتحموا بها، وأوقعوا بها هزيمة كبيرة، وقتلت كثيرًا منهم، ونجا عامر بن الطفيل بفرسه المشهور المسمى الورد2.

وقد منيت بنو عامر بهزيمة أخرى يوم شواحط الذي وقع بين بني عامر وبني محارب بن خصفة، وذلك حينما أغارت جماعة من بني عامر على بلاد غسان3.

ويعد عامر بن الطفيل من فرسان العرب المشاهير. وهو من المعاصرين للرسول، وقد تعرض لنفر من أصحاب رسول الله كان الرسول قد أرسلهم بناء على رغبة "أبي براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب" ملاعب الأسنة. وكان سيد بني عامر بن صعصعة، وذلك ليعلموا أهل نجد الإسلام ويفقهوهم في الدين. وقد تعهد للرسول بأن يحميهم، وأن يكونوا في جواره. فلما بلغ النفر "بئر معونة"

1 خزانة الأدب "3/ 70"، المفضليات "ص30"، العقد الفريد "6/ 25 "، "يوم الرقم"، سبائك الذهب "117"، نهاية الأرب "15/ 364".

2 ابن الأثير "1/ 395"، الأغاني "10/ 313"، العقد الفريد "6/ 26"، نهاية الأرب "15/ 364".

3 العقد الفريد "6/ 27"، نهاية الأرب "15/ 365".

ص: 34

عدا عليهم "عامر بن الطفيل" فقتلهم، واستاء من ذلك أبو براء1.

ووقعت بين سُليم وغطفان حرب بسبب مقتل معاوية بن عمرو بن الشريد السُلمي، يوم حَوْزة الأول. وكان سبب هذا اليوم تأثر معاوية من كلام امرأة من بني مُرّة كانت جميلة وسيمة دعاها لنفسه، وقد رآها بعكاظ، فامتنعت، فغزا لذلك بني مُرة. فلما علمت بنو مرة بقدومه عليهم، تجهزوا له وقتلوه2.

فقرر صخر بن عمرو الشريد السُلمي الانتقام من قتلة أخيه، فأغار على بني مرة في يوم حوزة الثاني، وقتل دريد بن حرملة أخا هاشم بن حرملة رئيس بني مرة. ثم قتل رجل من بني جشم هو عمرو بن قيس الجشمي هاشم بن حرملة، فاستراحت بذلك بنو سُليم، وسرّت الخنساء بمقتل هاشم، ولها شعر كثير في رثاء أخويها معاوية وصخر3.

وقد توفي صخر على أثر إصابته بجرحٍ ظل يفتك به مدة طويلة، أصيب به في غزوة غزا بها بني أسد بن خزيمة. فتعقبته بنو أسد لتخلص إبلها منه، وكان قد اكتسحها منهم في هذا الغزو، فلما كان في موضع ذات الأثل، لحقت به وجرحته فقضي هذا الجرح عليه4.

ومن أيام هوازن وغطفان يوم اللوى، وقد قتل فيه عبد الله بن الصمة أخو دريد بن الصمة. وكان عبد الله قد غزا مع بني جشم وبني نصر أبناء معاوية بن بكر بن هوازن غطفان، فظفر بهم وساق أموالهم، وبينما كان عائدًا بغنائمه، فاجأته عبس وفزارة وأشجع في موضع اللوى، فقتلوه واستعادوا ما كان قد غنمه منهم، وجرح دريد أخوه، فلما شفي دريد من جرحه، أغار على غطفان لينتقم منها لمقتل أخيه، وقتل رجالًا منهم، واستاق جملة أسرى. وقد عرف هذا اليوم بيوم الغدير5.

1 الطبري "2/ 245 وما بعدها"، "خبر بئر معونة"، المحبر "234، 472"، الاشتقاق "180، 215".

2 العقد الفريد "6/ 28"، الأغاني "2/ 329"، "10/ 28"، "13/ 134"، شرح الحماسة للتبريزي "3/ 110"، نهاية الأرب "15/ 365".

3 العقد الفريد "6/ 29 وما بعدها"، الأغاني "13/ 140"، المبرد "2/ 281"، نهاية الأرب "15/ 367".

4 العقد الفريد "6/ 31"، نهاية الأرب "15/ 368".

5 الأغاني "10/ 6"، شرح التبريزي على الحماسة "ص305"، جمهرة أشعار العرب "ص226"، العقد الفريد "6/ 32 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 369".

ص: 35

ويذكر أهل الأخبار أنه قد كان بين "دريد بن الصمة" و"ربيعة بن مكدم" يومٌ عرف بـ"يوم الظعينة"، وكان دريد قد خرج في فوارس من "بني جُشَم" حتى إذا كان في وادٍ يقال له:"الأحزم" وهم يريدون الغارة على بني كنانة، رفع له رجل في ناحية الوادي ومعه ظعينة، فأرسل فرسانًا من فرسانه ليأتوا إليه بخبره، فلم يعودوا، فذهب "دريد" بنفسه إليه ليراه، فأخذ الرجل منه رمحه وخلى، ثم انصرف دريد إلى أصحابه، ثم لم تلبث "بنو كنانة" أن أغارت على بني جُشَم، فقتلوا وأسروا "دريد بن الصمة"، وكان الرجل الذي أخذ رمح دريد يوم الظعينة، هو "ربيعة بن مكدم"، فلما سأل "دريد" وهو في الأسر عنه، قيل له:"قتلته بنو سليم"، ثم أطلق، وجهز، ولحق بقومه. فلم يزل كافًا عن غزو بني فراس حتى هلك1.

ولدريد يوم مع غطفان عرف بـ"يوم الصلعاء" وقد انتصرت فيه هوازن على غطفان، وقتل فيه دريدٌ ذؤاب بن زيد بن قارب2.

ودريد بن الصمة من الفرسان المعروفين كذلك، وقد ترأس قومه في عدة غزوات. ويعده الأخباريون في جملة البرص الأشراف، وهو ممن أدرك الإسلام3.

و"ربيعة بن مكدم" فارس مشهور، وهو فارس بني كنانة، وبنو كنانة من أنجد العرب، عرفوا بالشجاعة حتى قيل: إن الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم. وصادف أن قتلت "بنو فراس" رجلين من بني سُلَيْم، فحقدت بنو سليم عليهم، فلما كان ظعن من بني كنانة بـ"الكديد"، وفيهم ربيعة بن مكدم، تلقاهم قوم من "بني سُليم"، فاقتتلوا معهم، وقتل ربيعة في ذلك اليوم. ولما دفن عقر على قبره، وكان "يعقر على قبره في الجاهلية، ولم يعقر على قبر أحد غيره"4.

ولما قتلت بنو سليم "ربيعة بن مكدم"، غزا "مالك بن خالد بن صخر بن الشريد" سيد "بني سُليم""بني كنانة". وكان بنو سُليم قد توجوا

1 نهاية الأرب "15/ 370 وما بعدها".

2 نهاية الأرب "15/ 373".

3 المحبر "298 وما بعدها"، الاشتقاق "177 وما بعدها".

4 الكديد، بفتح أوله وكسر ثانية بعده دال مهملة، موضع بين مكة والمدينة، وهو ماء عين جارية عليها نخل كثير، نهاية الأرب "15/ 373"، الأغاني "14/ 129"، الأمالي "2/ 271"، العقد الفريد "3/ 324".

ص: 36

مالكًا وأمروه عليهم، حتى عرف بـ"ذي التاج". فأغار "ذو التاج" على "بني فراس" وهم من "بني كنانة" بـ"بزرة". وكان رئيس بني فراس "عبد الله بن جدْل"، فدعا "عبد الله""ذا التاج" إلى البراز، فشدّ عليه وقتله1. وعرف هذا اليوم بـ"يوم فزارة" وبـ"يوم بزرة"2.

ثم إن بني الشريد حرّموا على أنفسهم النساء والدهن أو يدركوا ثأرهم من كنانة فأغار "عمرو بن خالد بن صخر بن الشريد" بقومه على بني فراس، فقتل منهم نفرًا، وسبى سبيًا فيهم ابنه مكدم أخت ربيعة بن مكدم3.

وتميم من القبائل التي يرد اسمها في الأيام. ومن هذه الأيام عدة أيام وقعت بينها وبين قبائل ربيعة، وأيام أخرى وقعت بينها وبين قيس. ومن أيامها مع قبائل ربيعة: يوم الوقيط ويوم ثَيتل "نَبتل"، ويوم جدود، ويوم زرود، ويوم ذي طلوح، ويوم الغبيط، ويوم قشاوة، ويوم زبالة، ويوم مبايض، ويوم الزورين، ويوم عاقل.

أما يوم الوقيط، فكان بين اللهازم من ربيعة وبين تميم4. وأما "ثيتل"5 "نبتل"6 فيذكر مع يوم النباج أيضًا، وهما يومان متقاربان وقعا في موضعين متقاربين.

وقد وقعا بسبب خروج قيس بن عاصم المنقري رئيس مقاعس بجماعته ومعه سلامة بن ظرب رئيس الأجارب لغزو بكر بن وائل. فلما وصلا إلى النباج وثيتل، وجدا اللهازم وبني ذهل بن ثعلبة وعجل بن لجيم وعنترة بن أسد بهذين الموضعين، فأغار قيس على أهل النباج واقتتل معهم، فانهزمت بكر، فعاد قيس بغنائم عديدة فوجد سلامة، وهو في موضعه لم يغر بعد على من بثيتل من ناس، فأغار قيس

1 نهاية الأرب "15/ 374".

2 "بزرة" نهاية الأرب "15/ 374"، "بزرة""بزر"، العقد الفريد "3/ 326"، أيام العرب "319".

3 نهاية الأرب "15/ 375".

4 العقد الفريد "6/ 44""5/ 182 وما بعدها""لجنة"، "3/ 330"، النقائض "ص305"، نهاية الأرب "15/ 379 وما بعدها"، "دار الكتب"، أيام العرب "172" ابن الأثير، الكامل "1/ 385"، الأمالي "1/ 6"، العمدة "2/ 251"، مراصد "1/ 295".

5 البلدان "3/ 30""مادة ثيتل"، ابن الأثير "1/ 397".

6 "نبتل" هكذا في طبعة "العريان" للعقد الفريد "6/ 47"، وصوابه "ثيتل"، وأما "نبتل"، فموضع آخر لا علاقة له بهذا المكان.

ص: 37

عليهم، وسلّم ما غنمه إلى سلامة1.

ووقع يوم جدود بسبب عزم الحارث بن شريك على غزو بني سليط بن يربوع. جمع الحارث بني شيبان وذهلًا واللهازم ثم سار بهم إلى أرض بني يربوع راجيًا مباغتتهم. ولكنه ما كاد يصل إلى بلادهم حتى شعروا به، وهاجوا عليه. فلم يتمكن من غزوهم، فتركهم وذهب نحو بني رُبَيْع بن الحارث بجدود، فأغار عليهم، وأصاب سبيًا ونعمًا. فبعث بنو ربيع صريخًا إلى بني كليب بن يربوع يطلب العون، فلم يجيبوهم، فذهب الصريخ إلى بني منقر بن عبيد، فركبوا في الطلب، ولحقوا بكر بن وائل واصطدموا بهم وانتصروا عليهم فرجعوا بأموال وغنائم وبما كانت بكر بن وائل سلبته من بني ربيع بن الحارث. وكان رئيس بني يربوع في هذا اليوم: قيس بن عاصم المنقري2.

ويعد الحارث بن شريك بن الجرارين في ربيعة، ويعرف بالحوفزان3. وفي يوم ذي طلوح وقع أسيرًا في أيدي بني يربوع. فلما غزا مع قومه بني يربوع في هذا اليوم، كانت يربوع يقظة عارفة بعزم بكر، فأخذوا بكرًا على غرة، وسقط الحوفزان أسيرًا فجزت ناصيته ودفع مئتين من الإبل حتى فدى نفسه من الأسر4.

وأما قيس بن عاصم المنقري، فهو من سادات "منقر" من تميم، ويعد من سادات أهل الوبر، ومن حلماء بني تميم، وممن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية5.

ولما أغار حزيمة "خزيمة" بن طارق التغلبي على بني يربوع، وهم بزرود، واستاق إبلهم، كانت نتيجة غزوته هذه أن تعقب بنو يربوع أثره وأسروه،

1 النقائض "1023"، العقد الفريد "6/ 47"، ابن الأثير "1/ 397"، البلدان "3/ 30"، "8/ 243"، البكري "4/ 1291"، "طبعة السقا"، مادة "النباج" و"ثيتل"، نهاية الأرب "15/ 381 وما بعدها"، أيام العرب "175 وما بعدها".

2 النقائض "124، 336"، ابن الأثير "1/ 372"، العقد "6/ 58"، البلدان "3/ 67"، سبائك الذهب "115"، نهاية الأرب "15/ 389" شرح المفضليات، لابن الأنباري "740".

3 المحبر "250، 304".

4 النقائض "47، 73، 481"، العقد الفريد "6/ 50"، ابن الأثير "1/ 389"، البكري "3/ 893"، "مادة ذي طلوح"، نهاية الأرب "15/ 383".

5 الاشتقاق "154".

ص: 38

واستنقذوا ما كان قد أخذ، ثم أسروه ولم ينج إلا بعد جز ناصيته ودفع مائة من الإبل1.

وكان يوم "ذي طُلوح" وهو موضع في حَزْن بني يربوع بين الكوفة وفَيْد، لبني يربوع من تميم على بكر من ربيعة. وقد أخذ "الحارث بن شريك" أسيرًا، أخذه حنظلة بن بشر، وكان نقيلًا في بني بشر، فاختصم عبد الله بن الحارث، وعبد عمرو بن سنان في الحارث، فحكم الحارث في أمر نفسه، فأعطى كل واحد منهما مائة من الإبل، وجعل ناصيته لحنظلة بن بشر2.

وانتصرت بنو يربوع على بكر في يوم الإياد كذلك، وكانت بكر قد أقبلت من عند عامل عين التمر قاصدة بني يربوع، ومعها من الرؤساء بسطام بن قيس فارس بكر وهانئ بن قبيصة ومفروق بن عمرو، فأحست بنو يربوع بمجيء بكر، وقاتلهم في موضع الإياد، وقتلت جماعة من فرسان بكر، وأسرت قومًا منهم: هانئ بن قبيصة الذي فدى نفسه، فنجا3.

وقد كان بسطام بن قيس مع الحارث بن شريك -الحوفزان- ومفروق بن عمرو في يوم الغبيط، وفيه غزت بنو شيبان بلاد تميم، غزوا بني ثعلبة بن يربوع وثعلبة بن سعد بن ضبّة، وثعلبة بن عدي بن فزارة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان، وكانوا متجاورين بصحراء فَلْج. فهزمت الثعالب، وأصابوا فيهم، واستاقوا إبلًا من نعمهم. ثم ساروا في أرض بني مالك بن زيد مناة من تميم، فاكتسحوا إبلهم، فركبت عليهم بنو مالك، وعليهم عتيبة بن الحارث اليربوعي، والأحيمر بن عبد الله، وأسيد بن حباءة، وأبو مرحب، وجزء بن سعد الرياحي، وربيع والحُليس وعمارة بنو عتيبة بن الحارث، ومالك بن نويرة وغيرهم، فأدركوهم بغبيط المَدَرة، فقاتلوهم حتى هزموهم، وأخذا ما كانوا استاقوا من آبالهم، وقتلت بنو شيبان أبا مرحب ثعلبة بن الحارث وألح عتيبة بن الحارث، وأسيد بن حباءة، والأحيمر بن عبد الله على بسطام بن قيس حتى وقع بسطام في أسر

1 المفضليات "3"، العقد الفريد "6/ 49"، خزانة الأدب "1/ 354"، "خزيمة"، نهاية الأرب "15/ 383". "فحكم بناصية خزيمة للأنيف، على أن لأسيد مائة من الإبل، قال: ففدى خزيمة نفسه بمائتي بعير وفرس"، نهاية الأرب "15/ 383".

2 ابن الأثير، الكامل، "1/ 389"، النقائض "47، 73، 481". العقد الفريد "3/ 433".

3 النقائض "850"، شعراء النصرانية "259 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 373".

ص: 39

عتيبة. وقد وافق بسطام على دفع دية هي ثلاث مائة بعير وأن تجز ناصيته وعلى أن يعاهد بعدم غزو بني شيبان، فأفرج عنه1.

وغزا بسطام بن قيس رئيس بني شيبان بني يربوع في يوم قُشاوة، "يوم نعف قشاوة" وقد انتصر فيه على جماعة من بني يربوع، وعاد مع بعض الغنائم2.

ويعد هذا اليوم من وقعات بسطام المعدودة. قال ابن الأنباري: "كان لبسطام أربع وقعات: أسر يوم الصحراء، وظفر يوم قشاوة، وانهزم يوم العظالى، وقتل يوم النقاء"3.

وقد استحر القتل في تغلب ومن كان معهم من تميم، وذلك في يوم بارق. وكان سببه أن بني تغلب والنمر بن قاسط وأناسًا من تميم اقتتلوا حتى نزلوا ناحية بارق من أرض السواد، وأرسلوا وفدًا منهم إلى بكر بن وائل يطلبون إليهم الصلح، فاجتمعت شيبان ومن معهم، وقرروا الاستفادة من هذه الفرصة، وعزموا على مباغتة القوم، فقال: زيد بن شريك الشيباني إني أجرت أخوالي وهم النمر بن قاسط، فأمضوا جواره، وساروا وأوقعوا ببني تغلب وتميم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، لم تصب تغلب بمثلها، واقتسموا الأسرى والأموال، وكان من أعظم الأيام عليهم4.

وقد اصطدمت بنو شيبان ببعض بطون تميم في يوم زبالة كذلك. وقد حضر هذا اليوم الأقرع بن حابس، وأخوه فراس، وهما من تميم، وكانت تميم هي البادئة بغزو بكر بن وائل. اصطدمت بهم في موضع زبالة، فنزلت الهزيمة بتميم، وأسر الأقرع وفراس أخو الأقرع، أسرهما بنو تيم الله وهي من بكر، ثم لقي بنو تيم الله بني شيبان وهم من بكر أيضًا ومعهم بنو رباب، فانتزع بسطام بن قيس رئيس بني شيبان الأقرع وأخاه منهم، وصاروا أسيرين لبسطام، ثم افتدى الأقرع وأخوه أنفسهما من بسطام، وعاهداه على إرسال الفداء، فأطلقهما

1 النقائض "75، 1132"، ويقال لهذا اليوم: يوم الغبيط ويوم الثعالب، والثعالب أسماء قبائل اجتمعت فيه. ويقال له: يوم صحراء فلح، العقد الفريد "6/ 55"، ابن الأثير "1/ 365"، سبائك الذهب "114"، نهاية الأرب "15/ 388".

2 النقائض "ص19"، ابن الأثير "1/ 364"، البكري "3/ 1075""طبعة السقا"، مادة "قشاوة"، البلدان "7/ 92""مادة قشاوة" العمدة "2/ 191".

3 البكري "3/ 1075".

4 الكامل "1/ 299""المطبعة الأزهرية".

ص: 40

ولكنهما لم يرسلا له الفداء1.

والأقرع بن حابس، فارس مشهور من فرسان تميم. ويعد من حكام العرب. وقد اتصل حكمه في عكاظ إلى الإسلام. ويعد أيضًا من السادة الجرارين، ومن المؤلفة قلوبهم من تميم2.

وكان يوم مبايض من الأيام المهمة التي وقعت بين بني شيبان من بكر، وبين بني تميم. وقد دارت الدائرة فيه على تميم. وألحقت بها خسائر فادحة. وسبب هذا اليوم أن فارسًا من فرسان تميم يدعى طريف بن تميم العنبري كان قد وافى عكاظ في الشهر الحرام، وكان قد قتل رجلًا من بني شيبان، فتعقبه ابن ذلك الرجل، ليأخذ بثأر أبيه منه. وصادف أن وقع نزاع بين بني مرة بن ذهل بن شيبان وبين بني ربيعة بن ذهل بن شيبان كاد يؤدي بينهما إلى حرب، فقرر هانئ بن مسعود رئيس بن ربيعة -حقنًا للدماء- الارتحال بقومه، والنزول على ماء مبايض. فلما سمع طريف العنبري بنزول ربيعة على هذا الماء. نادى قومه للإغارة على ربيعة، ما دامت منفردة، وليس لها في هذا الموضع نصير، لإضعاف بكر بن وائل وللانتقام منها. فعلمت ربيعة بذلك، فاستعدت للقتال. فلما هاجمت تميم ربيعة، كان بنو شيبان على استعداد، فألحقوا بتميم خسارة لم تصب بمثلها، فلم يفلت منهم إلا القليل. وانهزم طريف فتعقبه ابن الشيباني الذي قتله طريف، فقتله. فكان هذا اليوم من أهم الأيام التي وقعت بين بني شيبان وتميم3. واسم قاتل "طريف"، هو "حصيصة الشيباني"، "حصيصة بن شراحيل"4.

وكان سادة تميم الذين قادوهم في هذا اليوم ثلاثة رؤساء، هم: أبو الجدعاء الطُّهَوي علي بني حنظلة، وابن فدكي المِنقري على بني سعد، وطريف بن عمرو على بني عمرو بن تميم5.

وكان يوم الزورين من أيام بكر على تميم كذلك. وكانت بكر تنتجع أرض

1 النقائض "680"، ابن الأثير "1/ 366"، شعراء النصرانية "298"، أيام العرب "206".

2 الاشتقاق "146"، المحبر "134، 182 وما بعدها، 247، 347".

3 ابن الأثير "1/ 368"، العقد الفريد "6/ 65"، معاهد التنصيص "1/ 71". نهاية الأرب "15/ 394"، أيام العرب "208 وما بعدها".

4 الاشتقاق "131"، أيام العرب "208".

5 أيام العرب "209".

ص: 41

تميم، ترعى بها إذا أجدبوا. فإذا أرادوا الرجوع، أخذوا كل ما وجدوه أمامهم واستاقوه معهم. فلما كثر اعتداء بكر على تميم، تفاقم الشر بينهما وعظم حتى صار لا يلقى بكري تميميًّا إلا قتله، ولا يلقي تميمي بكريًّا إلا قتله.

ثم عزمت تميم على التخلص من أذى بكر ومنعها من الرعي في أرضها، فحشدت واستعدت لقتال بكر، واستعدت بكر لقتال تميم. فلما اصطدم الجمعان تغلبت بكر على تميم، وقتلت منهم مقتلة عظيمة1.

ويذكر أهل الأخبار أن سبب تسمية يوم الزورين بهذه التسمية، هو أن بني تميم كانوا قد وضعوا بكرَيْن مجللين مقيدين، بين الصفين، وقالوا: هذان زَوْرانا، أي إلهانا، فلا نفرّ حتى يفرَّا، وجعلوا عندهما من يحفظهما. فلما أبصر البكريون الزورين هجموا على حراسهما وأخذوا البعيرين وذبحوهما، أو ذبحوا أحدهما وتركوا الآخر يضرب في شولهم. فارتبكت تميم وانهزمت شر هزيمة2.

وكان المقدم على بكر "عمرو بن قيس بن مسعود الشيباني"، المشهور بـ"أبي مفروق"، قدمته "بكر" عليهم، فحسده سائر ربيعة، وأرادوا إزاحته عن الرئاسة، إذ كانوا يريدون أن يجعلوا على كل حي رجلًا منهم، وأن يكون كل حي على حياله، فأصر ابنه "مفروق" عليه بمخالفتهم، وبقي رئيسًا عليهم كلهم: فلما كان القتال، برك بين الصفين، وقال أنا زَوْرُكم، فقاتلوا عني، ولا تفرُّوا حتى أفرَّ. ولم يكن الحوفزان بن شريك يومئذ في القتال، فقد كان في أناس من بني ذهل بن شيبان غازيًا في بني دارهم. وممن اشترك فيه: حنظلة بن سيّار العجلي، وحمدان بن عبد عمرو العبسي، وأبو عمرو بن ربيعة بن ذهل بن شيبان. وقتل فيه من بني تميم أبو الرئيس النهشلي، وهو من ساداتهم3.

وقد أكثر الشعراء في ذكر هذا اليوم لا سيما الأغلب العجلي، وذكره الأعشى أيضًا4.

1 نهاية الأرب "15/ 391 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 368 وما بعدها"، اللسان "4/ 337"، العقد الفريد "6/ 65 وما بعدها".

2 اللسان "4/ 337 وما بعدها""صادر"، العقد الفريد "5/ 205 وما بعدها". أيام العرب "212".

3 العقد الفريد "5/ 205 وما بعدها"، الكامل "1/ 368 وما بعدها".

4 الكامل "1/ 368 وما بعدها".

ص: 42

وكان سبب يوم عاقل أن "الصِّمَة بن الحارث الجُشَمي" أغار على بني حنظلة بعاقل، فأسره الجعدين الشّمّاخ أحد بني عدي بن مالك بن حنظلة، وهزم جيشه، وأبطأ الصِّمة في فدائه فجزّ الجعد ناصيته وأغلظ في الكلام عليه، فضرب الصِّمة عنقه. فمكث الصمة زمانًا. ثم غزا بن حنظلة، فأسره الحارث بن بيبة المجاشعي "الحارث بن نبيه المجاشعي" وهزم جيشه ثم أجاره الحارث من إساره ذلك، وخرج الحارث بالصِّمة إلى بني يربوع من بني حنظلة ليشترى الصِّمة أسراء قومه. فلما رأى "أبو مرحب" وهو ثعلبة بن الحارث، الصمة، وكان يعرف أن غدر بالجعد، خنس عنه، وأخذ سيفه ثم جاء فضرب به بطن الصِّمة فأثقله1.

وأما أشهر الأيام التي وقعت بين قيس وتميم، فيوم الرحرحان، ويوم شعب جبلة، ويوم ذي نجب، ويوم الصرائم، ويوم الرغام، ويوم جزع ظلال، ويوم المروت.

أما يوم رحرحان، فقد أشرت إليه سابقًا، وهو يوم وقع في أعقاب قتل الحارث بن ظالم المُري خالد بن جعفر الكلابي، وكان سببه أن قوم الحارث بن ظالم أنكروا عليه فعله، ولاموه على عمله فتجنبهم وهرب منهم، ولحق بتميم فأجاروه، فاستاءت بنو عامر من ذلك، وطلبت من بني تميم تسليم الحارث إليهم. فلما أبوا، جاءت بنو عامر تريد مباغتة تميم، وكانت تميم قد علمت بمسيرها إليهم، فأرسلوا بما عندهم من أثقال وأهل إلى بلاد بني بغيض. ولما كانوا في موضع رحرحان، التقوا ببني عامر ورئيسهم الأحوص، فدارت الدائرة على بني تميم، وأسر منهم معبد بن زرارة: أسره عامر والطفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب2. وشاركهما في أسره رجل من غنيّ يقال له: أبو عميرة عصمة بن وهب، وكان أخا طُفيل من الرضاعة، وفي أسرهم مات معبد. شدُّوا عليه القِدَّ وبعثوا به إلى الطائف خوفًا من بني تميم أن يستنقذوه3.

1 النقائض "1019"، أيام العرب "217 وما بعدها"، العمدة "2/ 207".

2 العقد الفريد "6/ 8 وما بعدها"، النقائض "1/ 214"، الأغاني "10/ 30"، ابن الأثير "1/ 341". الميداني "2/ 398"، "الباب التاسع والعشرون: في أسماء أيام العرب" العمدة "2/ 198 وما بعدها".

3 العمدة "2/ 209"، "محمد محيي الدين عبد الحميد".

ص: 43

وأخذ لقيط بن زرارة يستعد ويجمع العدة، لينتقم من بني عامر، وليأخذ منهم بثأر أخيه معبد الذي أسر في يوم رحرحان، ثم هلك لمنع بني عامر الماء عنه1. فذهب إلى النعمان بن المنذر وأطعمه في الغنائم، فأجابه. ثم ذهب إلى الجون الكلبي ملك هجر2. فأجابه أيضًا. ثم توجه إلى كل من عرف بعدائه لبني عامر وعبس، فأوغر صدره عليهم، ومنّاه بالغنيمة والنصر، فانضمت إليه بنو ذبيان لعدائها لعبس بسبب حرب داحس والغبراء، وبنو أسد للحلف الذي كان بينهم وبين بني ذبيان. فلما مضى الحول على يوم رحرحان. انهالت الجيوش على لقيط، فوصل جيش الجون الكلبي وعليه عمرو ومعاوية ابناه. ووصل جيش النعمان وعليه أخوه لأمه حَسّان بن وبرة الكلبي، وأقبل الحليفان: أسد وذبيان وعليهم حصن بن حذيفة، وأقبل شرحبيل بن أخضر بن الجون بن آكل المرار في جمع من بني كندة.

وسار سادات تميم: حاجب بن زرارة، ولقيط بن زرارة، وعمرو بن عمرو، والحارث بن شهاب، ومعهم أحلافهم ومن انضم إليهم، يقصدون بني عامر، فنتج عن ذلك جمع لم يكن في الجاهلية أكثر منه.

وعرفت بنو عامر بمجيء الجمع، فاستعدت له وتحصنت في شعب جبلة، أخبرها بذلك كرب بن صفوان السعدي، وكان شريفًا من أشراف قومه لم يخرج مع الجمع، فخافوا من تخلفه عنهم، وعرفوا أنه دبّر في ذلك أمرًا، وأنه يقصد إخبار بني عامر. فأخذا عليه العهد بألا يفشي من سر مسيرهم هذا لبني عامر. وقد سار كرب بن صفوان إلى بني عامر، وأظهر لهم علائم هجوم بني تميم عليهم، دون أن يقول لهم شيئًا عنه لئلا يخلف وعده. فعرفوا به. واستعدوا له. وبينما كان القوم على وشك الوصول إلى ديار بني عامر، عادت بنو أسد فغيرت رأيها من الاشتراك في هذا الهجوم، ورجعت عنهم، ولم يسر مع لقيط منهم إلا نفر يسير.

ولما وصل بنو تميم وأحلافهم إلى شعب جبلة، كان بنو عامر على أتم استعداد للقاء. وقد احتموا في مواضع منيعة حصينة من الشعب. ولما دخلوه يريدون

1 الاشتقاق "ص145".

2 "الكندي"، نهاية الأرب "15/ 351".

ص: 44

الفتك ببني عامر وعبس، باغتهم هؤلاء بهجوم مفاجئ أفسد عليهم خطط قتالهم فارتدوا مذعورين تتعقبهم سيوف بني عامر. فكانت هزيمة فادحة نزلت بتميم وممن كان معهم من الأحلاف كلفت لقيطًا حياته، وأوقعت حاجبًا في الأسر، وأوقعت غيره في الأسر كذلك1.

وقد وقع هذا اليوم في عام مولد النبي على بعض الروايات، أي سنة 570 للميلاد، وبعد عام من يوم الرحرحان2. وقد أشار بعض الرواة إلى اشتراك عمرو بن الجون ومعاوية بن الجون في هذا اليوم، وإلى عقد معاوية بن الجون الألوية، فكان بنو أسد وبنو فزارة بلواء مع معاوية بن الجون، وكان بنو عمرو بن تميم مع لواء حاجب بن زرارة، وكان لواء الرباب مع حسان بن همام، وعقد لجماعة من بطون تميم مع لقيط بن زرارة، وكان عمرو بن الجون أول من قتل في هذا اليوم. وأسر أخوه معاوية بن الجون، كما أسر عمرو بن عمرو بن عدس وحاجب بن زرارة. وقد حمل عنترة على لقيط، فضربه بسيفه. ثم فدى حاجب بن زرارة بخمس مائة من الإبل، وفدى عمرو بن عمرو بمئتين3.

وقد كان يوم جبلة في عام واحد مع يوم رحرحان على رواية، ويقصدون بهذا اليوم يوم رحرحان الثاني تمييزًا له عن يوم رحرحان الأول الذي غزا فيه يثربي بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن عامر بن صعصعة. وفي يوم رحرحان الثاني على هذه الرواية، كان أسر معبد بن زرارة: وقد نقل إلى الطائف خوفًا من بني تميم أن يستنقذوه4.

وبعد مرور عام على يوم جَبَلَة طمعت بنو عامر في غزو بني تميم والإيقاع بها، فذهبت إلى حسان بن كبشة الكندي، وعلى رأسها ملاعب الأسنة عامر بن مالك بن جعفر وطفيل بن مالك بن جعفر وعمرو بن الأحوص بن جعفر

1 الأغاني "10/ 33"، العقد الفريد "6/ 9 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 355"، النقائض "2/ 115"، الميداني "2/ 398"، "الباب التاسع والعشرون: في أسماء أيام العرب"، البكري "2/ 365" "جبلة"، سبائك الذهب "110 وما بعدها"، أيام العرب "149 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 350"، الأغاني "11/ 131، 161"، البلدان "3/ 4".

2 البكري "2/ 365 وما بعدها"، "جبلة"، العقد الفريد "6/ 9 وما بعدها".

3 ابن الأثير "1/ 243"، ولابن إسحاق رواية أخرى عن هذا اليوم.

4 العمدة "2/ 198 وما بعدها".

ص: 45

ويزيد بن الصعق وقدامة بن سلمة بن قشير وعامر بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، تطمعه في الغنيمة وفي الأموال الوافرة والسبي إن انضم إليها وساعدها في الغزو، فغلبه طمعه ووافق على السير معهم إلى بني حنظلة بن مالك بن تميم.

وبلغ الخبر بن حنظلة، فتركوا ديارهم برأي عمرو بن عمرو بن عدس، وكانت في أعلى ذو نجب. وأما في أسفله، فكان بنو يربوع، وهم من تميم كذلك. فلما بلغ حسان ومن معه من الجيش الموضع، اقتتلوا مع بني يربوع، فشدّ "حشيش بن نمران الرياحي" على حسان وضرب بالسيف على رأسه فقتل، وانهزم أصحابه، وأسر يزيد بن الصعق، وانهزمت بنو عامر وصنائع ابن كبشة، فكان النصر فيه لبني تميم1.

وفي رواية أن بني عامر استنجدت بمعاوية بن الجون الكندي، فأنجدهم بابنيه عمرو وحسان وبجيشه، فقتل في ذلك اليوم عمرو بن معاوية الكندي، وأسر حسان بن معاوية الكندي، وقتل عامة الكنديين2.

وفي رواية أخرى أن حسان بن معاوية آكل المرار، هو الذي اشترك في هذا اليوم، وقد قتل فيه: قتله حشيش بن نمران من بني رياح بن يربوع. وفي رواية أخرى أنه كان في جملة من وقع في الأسر. وأن المقتول رجل آخر هو عمرو بن معاوية. وقد قتل في هذا اليوم عمرو بن الأحوص رئيس بني عامر يومئذ. قتله خالد بن مالك النهشلي3.

وفي يوم الصرائم، وهو يوم يسمى أيضًا بيوم بني جذيمة وبيوم ذات الجرف، أغارت فيه بنو عبس على ربيعة بن مالك بن حنظلة، فأتى "الصريخ" بني يربوع، فركبوا في طلب بني عبس، فأدركوهم بذات الجرف، فقتلوا منهم جملة قتلى، وأسروا بعض الرؤساء4.

وكان لبني تميم يوم آخر على بني عبس وعامر، وهو يوم مأزق "ملزق" ويسمى أيضًا بيوم السوبان. وذلك بعد أن قاتلت تميم جميع من أتى بلادها من القبائل، وهم إياد وبلحارث بن كعب، وكلب، وطيء، وبكر، وتغلب

1 ابن الأثير "1/ 363"، النقائض "302، 587، 932، 1079"، البكري "4/ 1297""ذو نجب"، العمدة "2/ 201".

2 البكري "4/ 1297""ذو نجب"، الأغاني "11/ 136".

3 العمدة "2/ 201". أيام العرب "366".

4 النقائض "248، 336"، العمدة "2/ 200".

ص: 46

وأسد، وآخر من أتاهم بنو عبس وبنو عامر1. ويظهر أن تميمًا حاربت هذه القبائل للتخلص منها، وكانت تنزل في ديارها للانتجاع في أرضها، وهي أرضون خصبة واسعة، فكلفها ذلك عدة حروب.

وقد انتصرت تميم على عامر في يوم المروت. وكان سببه نزاع بسيط وقع بين "قعنب بن الحارث بن عمرو بن همام اليربوعي" وبين "بجير بن عبد الله العامري" بسبب نسب فرس، أدى إلى غزو بجير لبني العنبر من تميم، ثم إلى ملاحقة بني يربوع لبجير وجماعته من بني عامر، وإلى سقوط عدد من القتلى من بني عامر واسترداد، ما كان بنو عامر قد غنموه. وقد ضرب "قعنب بن عتاب" رأس "بجير" فأطاره2.

وانتصرت بنو يربوع على بني كلاب من قيس في يوم الرُّغام3. وذلك أن "عتيبة بن الحارث بن شهاب" أغار في بني ثعلبة بن يربوع على طوائف من بني كلاب. وكان أنس بن عبّاس الأصم أخو بني رعْل مجاورًا في بني كلاب وكان بين بني ثعلبة بن يربوع، وبين بني رعل عهدٌ ألا يسفك دم، ولا يؤكل مال. فجاء الكلابيون إلى أنس بن عباس الأصم راجين منه أن يذهب إلى بني "ثعلبة" ليحبسهم عنهم حتى يتدبروا أمرهم ويستعدوا للقتال. فذهب أنس إليهم وقابل حنظلة بن الحارث شقيق عتيبة بن الحارث. وكلَّمه في أمر ما بينه وبين بني ثعلبة من عهد، فأجيب إلى طلبه، وتباطأ في أخذ ما سلبه منه بنو ثعلبة من إبل حتى جاءت فوارس بني كلاب، فحمل "الحوثرة بن قيس" وهو من فرسان بني كلاب على "حنظلة بن الحارث" فقتله، فحمل فرسان من بني ثعلبة بن يربوع على الحوثرة، فأسروه، ودفعوه إلى عتيبة فقتله، وهُزم الكلابيون. ومضى بنو ثعلبة بالإبل والغنائم، واتبعهم "أنس بن عباس" رجاء أن يصيب منهم غرةً، فيأخذ منهم ما يريد. ولما مرّ بالطريق، تغفله "عتيبة" وأسره، وأتى به أصحابه، وأراد أصحاب عتيبة قتله، ولكنه أبى أن يفعل بل قبل من

1 العمدة "2/ 202"، "ملزق"، العمدة "2/ 212""محمد محيي الدين عبد الحميد".

2 النقائض "70"، ابن الأثير "1/ 386". العمدة "2/ 192"، سبائك الذهب "112". أيام العرب "375".

3 النقائض "410"، العمدة "2/ 204".

ص: 47

أنس الفداء ففدى نفسه بمئتي بعير1.

وأما يوم جِزْع ظلال "طلال"، فكان النصر فيه لفزارة، وهم من قيس كذلك على بني تميم. وكان عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري قد أغار بقومه فَزارة، ومعه مالك بن حِمار الشمخي من بني شمخ بن فزارة، على التيم وعدي وثور أطحل من بني عبد مناة، فأصاب غنائم كثيرة، ورجع بأسرى عديدين أطلقهم فيما بعد. فلما مضت مدة، بلغه أن النعمان بن جساس التيمي وعوف بن عطية وسبيع بن الخطيم، وهم سادة تميم، وابن المخيط وهو سيد بني عدي تيم، انطلقوا إلى بني سعد بن زيد مناة وضبّة يستمدونهم ويسألونهم النصر، فركب عيينة بن حصن مع قومه، وأغار على التيم، فقتلوا منهم قتلًا شديدًا وأخذوا سبيًا كثيرًا، واحتفلوا بانتصارهم هذا بشرب الخمر. وكان نساء تيم ومن كان معهن من رجالهم ينقلون زقاق الخمر إليهم. ولم يسقوا تيمًا محقرة لهم. ثم مضى زمن فردّ بنو فَزارة السبي إلى تيم، وأطلقوا الرجال بغير فداء2.

ومن أيام ضبة وغيرهم: يوم النسار، ويوم الشقيقة، ويوم بزاخة، ودارة مأسل، والنقيعة.

وكان سبب يوم النسار جدب حلّ بأرض مضر. وخصب أصاب بلاد بني سعد والرباب، مع غيث غامر. فلما وقع ذلك الغيث. أقبلت عامر بن صعصعة ومن معهم من هوازن إلى بني سعد، وكانوا يواصلونهم بالنسب، فسألوهم أن يُرعوهم ومن معهم من هوازن ففعلوا.

فلما اجتمعت بنو سعد والرباب وهوازن ومن معها، قال بعضهم لبعض: أنه ما اجتمع مثل عدتنا قط إلا كانت بينهم أحداث، فليضمن كل حي ضامن، فكان الضامن لما كان في سعد والرباب الأهتم، وهو سنان بن سميّ بن خالد، وكان الضامن على هوازن قرة بن هبيرة بن عامر بن صعصعة. فرعوا ذلك الغيث حينًا، حتى وقع شر، سببه أن "الحتف" وهو رجل من بني ضبة قتل رجلًا من بني قشير، فوقع الشر ووقعت الحرب، واجتمع بنو سعد مع بني عامر، واستمدوا بني أسد فأمدوهم، والتقوا مع "بني ضبة" بالنسار فاقتتلوا، فصبرت

1 أيام العرب "370 وما بعدها".

2 النقائض "302، 106"، "جزع طلال"، العمدة "2/ 204"، أيام العرب "373 وما بعدها".

ص: 48

عامر، واستحر بهم القتل، وانفضت بنو سعد وهربت، ثم هرب بنو عامر. وقتل في هذا اليوم: شريح بن مالك القشيري، رأس بني عامر، ووقع سبي منهم في أيدي خصومهم1.

وقد وقع يوم النسار بعد يوم جبلة، وذلك؛ لأن الأحاليف، وهم غطفان وبنو أسد وطيء شهدوا يوم النسار بعدما تحالفت الأحاليف، وحضره حصن بن حذيفة، وكان حصن رئيس الأحاليف، كما جاء ذلك في شعر لزهير بن أبي سُلمى2. هذا ما يراه الرواة وأهل الأخبار من علماء قيس وبني أسد، ويؤيده أبو عبيدة3. أما الرباب ورواة ضبة، فترى أن يوم النسار كان قبل يوم جبلة ويفند أبو عبيدة رأي الرباب4. ويقول أبو عبيدة: كان حاجب بن زرارة على بني تميم يوم النسار ويوم الجفار. وأن "لقيطًا قتل يوم جبلة، ولو كان حيًّا ما تقدمه فيه حاجب بن زرارة. وإنما نبّه أبو عكرمة بعد أبي نهشل، وكانا قبل مبعث النبي بسبع وعشرين سنة. وكان عام جبلة مولد النبي"5.

وذكر "المسعودي" أن "بني عامر بن صعصعة" كانوا يؤرخون بيوم شعب جبلة. وكان قبل الإسلام بنيف وأربعين سنة6.

وقد كان يوم شعب جبلة بين بني عامر وأحلافها من عبس وبين من سار إليهم من تميم، وعليهم حاجب ولَقيط ابنا زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارِم، ومن عاضدهما من اليمن مع ابنيّ الجون الكنديين7.

وما في رواية أبي عبيدة أو غيره من أن مولد النبي كان في عام جبلة، وهم. فالرجال الذين أسهموا في ذلك اليوم، كانوا قد هلكوا قبل ذلك بأمد، ولم يدركوا أيام الرسول. وقد ذكر أن يوم جبلة كان قبل الإسلام بسبع وخمسين سنة8.

1 النقائض "238، 790، 1064"، العقد الفريد "6/ 99"، ابن الأثير "1/ 376"، الميداني "2/ 396"، العمدة "5/ 199"، شرح المفضليات "363"، أيام العرب "378 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 421".

2 نقائض جرير والفرزدق "1/ 238 وما بعدها"، المفضليات "363 وما بعدها".

3 المفضليات "363 وما بعدها".

4 المفضليات "363 وما بعدها".

5 ديوان جرير والفرزدق "2/ 790"، العمدة "2/ 200".

6 التنبيه "175".

7 التنبيه "175".

8 بلوغ الأرب "2/ 71".

ص: 49

وقد غضبت بنو تميم وخجلت مما نزل ببني عامر من عار بسبب هذا اليوم، وحلف "ضمرة بن ضمرة النهشلي"، وهو من سادات بني تميم على أن يترك الخمر ويحرمه عليه حتى يأخذ بثأره من بني أسد، فهيأ نفسه وعبأ قومه لقتالهم، والتقى بهم في يوم ذات الشقوق، وانتصر فيه عليهم، وفرح بهذه النتيجة، وأباح لنفسه عندئذ شرب الخمر1.

ولما كان على رأس الحول من يوم النسار اجتمع من العرب من كان شهد النسار. وكان رؤساؤهم بالجفار، الرؤساء الذين كانوا يوم النسار، إلا أن بني عامر تقول: كان ريئسهم بالجفار "عبد الله بن جعدة بن كعب بن ربيعة"، فالتقوا بالجفار، واقتتلوا، وصبرت تميم، فعظم فيها القتل وخاصة في بني عمرو بن تميم. وكان يوم الجفار يسمى "الصيلم" لكثرة من قتل به2.

وفي ويم الجفار التقت بكر بتميم على رواية3، والتقى الأحاليف في ضبة وإخوتها الرباب وأسد وطيء على بني عمرو بن تميم في رواية أخرى، واستحر القتل يومئذ في بني عمرو بن تميم على هذه الرواية، فكان النصر فيها للأحاليف4.

وفي يوم السِّتار، وهو يوم كان بين بكر بن وائل وبني تميم، قتل قيس بن عاصم وقتادة بن سلمة "مسلمة" الحنفي فارس بكر5، وكان قتادة من الجرارين في ربيعة6.

ولضبّة نصر آخر، كان في يوم الشقيقة على بني شيبان. وقد قتل فيه بسطام بن قيس سيد بني شيبان. وكان ذلك بسبب قيام بسطام بغارة على بني ضبة وطمعه في إبل مالك بن المنتفق الضبّي. فلما رأت ضبّة بسطامًا، وهو يغير على

1 البكري، معجم "4/ 1306"، ابن الأثير، الكامل "1/ 376"، ابن سلام، طبقات "179"، مراصد الاطلاع "3/ 209 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 564"، العقد الفريد "3/ 375"، المفضليات "363 وما بعدها"، البلدان "4/ 778"، العمدة، لابن رشيق "2/ 99 وما بعدها". النقائض "238 وما بعدها""2/ 1064"، نهاية الأرب للنويري "15/ 421". اللسان "5/ 205""صادر" تاج العروس "3/ 569".

2 ابن الأثير، الكامل "1/ 376"، العقد الفريد "3/ 375".

3 الميداني "396".

4 العمدة "2/ 208".

5 الميداني "2/ 396".

6 المحبر "250".

ص: 50

الإبل، هاجمته فوقع قتيلًا، فولت بنو شيبان مهزومة تاركة ما استولت عليه وعددًا من رجالها بين قتيل وأسير1. ويعرف هذا اليوم باسم آخر هو:"نقا الحسن"2.

وانتصرت ضبّة على إياد في يوم يسمى بيوم بُزاخة. وقد كان بسبب إغارة مُحرق الغساني وأخوه في إياد وطوائف من العرب من تغلب وغيرهم على بني ضبّة بـ"بزاخة" فاقتتلوا قتالًا شديدًا حمل فيه "زيد الفوارس" على محرق فأسره، وأسرت بنو ضبّة أخا حُبيش بن دلف السيدي، فقتلتهما وهزم من كان معهما، وأصيب ناس منهم فيه3.

وفي بعض الروايات أن يوم بزاخة هو يوم إصم. وهو يوم كان لبني عائذة بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة على الحارث بن مزيقيا الملك الغساني، وهو عمرو بن عامر، وفيه قتل ابن مزيقيا، فانهزم أصحابه هزيمة منكرة. وفي رواية أخرى أن هذا اليوم كان مع عبد الحارث من ولد مزيقيا4.

وأما يوم "دارة مأسل"، فكان لضبّة على بني عامر، غزا "عتبة بن شُتير بن خالد الكلابي" بني ضبّة، فاستاق نعمهم. وقتل "زيد الفوارس""حصن بن ضرار الضبي"، وكان يومئذ حدثًا لم يذكر. فجمع أبوه ضرار قومه، وخرج ثائرًا على بني عمرو بن كلاب، فأفلت منه "عتبة بن شُتير" وأسر أباه "شُتير بن خالد" فأمر ضرار ابنه "أدهم" أن يقتله5.

وانتصرت ضبّة على بني عبس في يوم النقيعة، ويسمى أيضًا يوم أعيار. وقد كان بنو عبس قد أغاروا فيه برئاسة عمارة بن العبسي على إبل لبني ضبَّة، ومعه جيش من بني عبس، فأطردوا إبلهم، وركبت عليهم بنو ضبَّة، فأدركوهم في المرعى، فحمل "شرحاف بن المثلم بن المشخرة العائذي الضبي" على عمارة فقتله، واستنقذت بنو ضبة فيه إبلها من "بني عبس". ويعرف عمارة بـ"عمارة

1 النقائض "190، 233"، ابن الأثير "1/ 376"، التبريزي، شرح ديوان الحماسة "3/ 52"، سبائك الذهب "112"، أيام العرب "382 وما بعدها".

2 العمدة "2/ 198".

3 العمدة "2/ 197"، النقائض "195"، أيام العرب "388".

4 العمدة "2/ 198".

5 العقد الفريد "6/ 43"، أيام العرب "390"، نهاية الأرب "15/ 378".

ص: 51

الوهاب"1.

ومن الأيام التي وقعت بين "قيس" و"كنانة": يوم الكديد، ويوم برزة وحروب الفجار، أما يوم الكديد ويوم برزة، فقد تحدثت عنهما قبل قليل. وأما حروب الفجار فإليك ما جاء عنها.

العادة في الجاهلية ألا قتال في الأشهر الحرم لقدسيتها ومكانتها، فهي أشهر حرم يستريح فيها الأفراد والقبائل من القتال، ويكون الإنسان فيها آمنًا على نفسه وماله، فيظهر فيها الفرسان المعروفون بسفكهم الدماء دون خوف وإن كانوا يتقنعون بقناع حين حضورهم الأسواق مثل عكاظ خوفًا من وقوف طلاب الثأر على حقيقتهم، فيتعقبون خطاهم، فيفتكون بهم بعد انتهاء الأشهر الحرم. ويذهب في هذه الأشهر الناس إلى الأسواق للامتياز. وإلى الكعبة للحج إلى الأصنام، ثم يعودون إلى منازلهم مع انتهاء الأيام الحرم خشية حلول الأشهر الأخرى فيتعرضون لطمع الطامعين وغزو الغازين.

ومع ما لهذه الأشهر من الحرمة، فقد وقعت فيها حروب عرفت بحروب الفجار وبأيام الفجار؛ لأن من اشترك فيها كان قد فجر فيها بانتهاكه قدسية هذه الأشهر الحرم2. ولكنها على ما يظهر من وصف الأخباريين لها لم تكن حروبًا كبيرة واسعة، إنما كانت مناوشات ومهاترات وقعت لأسباب تافهة بسيطة. ففي الفجار الأول لم يرق فيه دم، وإنما محاورات وخصومة كلامية بين كنانة وهوازن بسبب حادث بسيط لا يستوجب في الواقع خصومة ولا اشتباكات. فقد تطاول "بدر بن معشر الغفاري""بدر بن معسر الغفاري" على الناس، بأن جلس بعكاظ في الموسم والعرب مجتمعة فيه، ثم مدّ رجله وقال: أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف. فوثب رجل من "بني نصر بن معاوية" اسمه "الأحمر بن هوازن" فضربه بالسيف على ركبته فقطعها، فتحاور الحيّان: أهل المضروب مع أهل الضارب عند ذلك. حتى كاد أن يكون بينهما الدماء، ثم

1 النقائض "193"، ابن الأثير "1/ 394"، العمدة "2/ 198"، أيام العرب "391 وما بعدها".

2 العقد الفريد "6/ 101 وما بعدها"، مروج الذهب "2/ 275"، اللسان "5/ 48"، "فجر"، تاج العروس "3/ 465"، "فجر".

ص: 52

تراجعوا ورأوا أن الخطب يسير1.

وفي الفجار الثانية وقعت بينهم دماء يسيرة. وكان سببه عبث شباب من قريش وكنانة بامرأة من بني عامر بن صعصعة وكانت وضيئة حسانة رأوها بسوق عكاظ، فأرادوا منها أن تكشف لهم عن برقعها، فثارت ونادت:"يا آل عامر"، ونادى الشباب قومهم، فالتحموا في قتال لم يكن هذا الحادث ليوجبه. ثم انتهى بتوسط "حرب بن أمية""الحارث بن أمية" باحتمال دماء القوم2.

أما الفجار الثالث، فكان بسبب دين كان لرجل من بني جشم بن بكر بن هوازن على رجل من كنانة، فلواه به، ولم يعطه شيئًا منه. فلما أعياه، وافاه في سوق عكاظ بقرد، وجعل ينادي:"من يبيعني مثل هذا الربّاح بمالي على فلان بن فلان الكناني، من يعطيني مثل هذا بمالي على فلان بن فلان الكناني! رافعًا صوته بذلك، فلما أكثر من ندائه، مرّ به رجل من بني كنانة، فقتل القرد، فهتف الجُشمي: "يا آل هوازن"، وهتف الكناني: "يا آل كنانة" وتجمع الحيّان حتى تحاجزوا، ولم يكن بينهم قتلى، ثم كفوا وقالوا: "أفي ربّاح تريقون دماءكم وتقتلون أنفسكم؟ " وأصلح عبد الله بن جُدعان بينهما3.

ووقع الفجار الآخر بسبب رجل خليع سكير فاسق، أتعب قومه فخلعوه وتبرأوا منه فخرج منهم، وصار يتنقل من قبيلة إلى قبيلة ومن سيد إلى سيد يطلب الحماية والجوار. فلما لفظه الجميع، وتعبوا منه، ذهب إلى مكة مستجيرًا بحرب بن أمية، فحالفه، وأحسن جواره. ثم شرب بمكة، وعاد إلى سيرته الأولى، فهمّ حرب بخلعه، فخرج من مكة، وذهب عنه إلى الحيرة. فلما كان هناك،

1 العقد الفريد "6/ 101"، الأغاني "3/ 368"، ابن الأثير "1/ 359"، العمدة "2/ 207"، سرح العيون "58"، أيام العرب "322"، العمدة "2/ 218""محمد محيي الدين عبد الحميد"، الأغاني "19/ 73"، "مطبعة التقدم 1932م"، تأريخ الخميس، للديار بكري "1/ 255".

2 العمدة "2/ 219"، "محمد محيي الدين عبد الحميد"، الأغاني "19/ 74"، الكامل، لابن الأثير "1/ 359"، تأريخ الخميس "1/ 255"، السيرة الحلبية "1/ 141".

3 العمدة "2/ 207"، أيام العرب "325"، "كان بسبب دين بني نصر على أحد بني كنانة" العمدة "2/ 219"، "محمد محيي الدين عبد الحميد"، الأغاني "19/ 74"، السيرة الحلبية "1/ 141"، الكامل في التأريخ "1/ 358 وما بعدها"، تأريخ الخميس "1/ 255".

ص: 53

عرض على النعمان بن المنذر أن يتولى له حماية لطيمته، ويجيزها له على أهل الحجاز. وسمع بذلك عروة الرحال، وهو يومئذ رجل هوازن، فاحتقر أمر هذا الخليع:"البراض بن قيس الكناني"، فقال للملك: أكلب خليع يجيزها لك؟ أبيت اللعن، أنا أجيزها لك على أهل الشيح والقيصوم في أهل نجد وتهامة. فدفعها النعمان إليه، وخرج عروة بها، والبراض بن قيس يتعقبه. فلما كان بأوارة غافله البراض، فقتله، واستاق اللطيمة إلى خيبر. ولما بلغ خبر مقتل عروة كنانة وهوازن، هاج الطرفان، واشتبكا في قتال وقع بموضع نخلة، فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم، وجنّ عليهم الليل فكفّوا.

وجرّ عمل هذا الخليع إلى وقوع جملة أيام أخرى، أدت إلى اضطراب الأمن في مواسم أمن ما كان يحدث فيها قتال. فبعد عام من يوم نخلة، تجمعت قريش وكنانة بأسرها والأحابيش ومن لحق بهم من بني أسد بن خزيمة. لملاقاة سليم وهوازن، ووزع عبد الله بن جُدعان السلاح على الشجعان الفرسان المعروفين بالشجاعة والصبر. وسلَّح يومئذ مائة كميّ بأداة كاملة، سوى من سلَّح من قومه واجتمعوا بموضع شمطة من عكاظ في الأيام التي تواعدوا فيها على قرن الحول1.

وترأس المتقاتلين المتواعدين سادات ذلك الوقت المعروفون. وعلى كنانة كلها حرب بن أمية، ومعه عبد الله بن جُدعان وهشام بن المغيرة وهما على الميمنة والميسرة، وعلى هوازن وسُليم كلها مسعود بن معتب الثقفي. وفي بني عامر ملاعب الأسنة أبو براء، وفي بني نصر وسعد وثقيف سُبيع بن ربيع، وفي بني جشم الصِّمة والد دريد وفي غطفان عوف بن أبي حارثة، وفي بني سُلَيم عباس بن زغل، وفي فهم وعدوان كدام بن عمرو.

وكانت الدائرة في أول النهار لكنانة على هوازن، حتى إذا كان آخر النهار تداعت هوازن وصابرت، وانكشفت كنانة فاستحر القتل فيهم، فقتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، ولم يقتل من قريش أحد يذكر، فكان هذا اليوم لهوازن على كنانة وقريش2.

1 "شمظة"، نهاية الأرب "15/ 427"، الأغاني "19/ 75"، سيرة ابن هشام "1/ 196"، السيرة الحلبية "1/ 142"، العقد الفريد "5/ 252".

2 نهاية الأرب "15/ 427 وما بعدها"، العقد الفريد "6/ 106 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 246 وما بعدها".

ص: 54

وقد وقع الفجار الثاني بعد الفيل بعشرين سنة، وبعد موت عبد المطلب باثنتي عشرة سنة على رواية. ويعد من أيام العرب المشهورة، وهو أشهر من يوم جبلة الذي وقع قبله في بعض الروايات1.

وعادت هوازن وكنانة إلى الحرب، والتقوا على قرن الحول في اليوم الثالث من أيام عكاظ، واقتتلوا وكانت الهزيمة على كنانة. وقد عرف هذا اليوم بيوم العبلاء2.

وقد تأثرت كنانة من الهزيمة التي لحقتها في يومي شمطة والعبلاء، وأخذت تستعد للانتقام من هوازن، فتكتل رؤساؤها واشتروا الأسلحة، وحمل عبد الله بن جدعان مثري قريش وغنيها يومئذ ألف رجل من بني كنانة على ألف بعير، وتولى قيادة كل بطن رئيسه ثم سارت على رأس الحول من اليوم الرابع من أيام عكاظ قاصدة هوازن، فالتقت بها واشتبكت معها في قتال كاد يهرب فيه بنو كنانة، لولا صبر بني مخزوم وبلاؤها بلاءً حسنًا. وخشيت قريش أن يجري عليها ما جرى يوم العبلاء. فقيّد حرب وسفيان وأبو سفيان بنو أمية بن عبد شمس أنفسهم وقالوا: لا نبرح حتى نموت مكاننا أو نظفر واقتتل الناس قتالًا شديدًا، وحملت قريش وكنانة على قيس من كل وجه حتى انهزمت، وانتصرت بذلك كنانة وقريش على بني هوازن. وعرف هذا اليوم بيوم عكاظ3.

ولما انهزمت قيس، دخلوا خباء "سبيعة بنت عبد شمس" امرأة "مسعود بن مُعتب الثقفي" مستجيرين بها، فأجار "حرب بن أمية" جيرانها، واستدارت قيس بخبائها حتى كثروا، فلم يبق أحد لا نجاة عنده إلا دار بخبائها، فقيل لذلك الموضع: مدار قيس، وكان يضرب به المثل، فتغضب قيس4.

وقد التقت كنانة وقريش بقيس في يوم آخر يسمى يوم الحُريرة، وكان على بني بكر بن عبد مناة، رئيسهم جثامة بن قيس أخو بلعاء بن قيس وذلك لوفاة بلعاء. أما الرؤساء الآخرون، فبقوا كما كانوا في اليوم الماضي. وبعد قتال اتفقوا

1 ابن الأثير "1/ 246".

2 العبلاء: علم على صخرة بيضاء إلى جنب عكاظ، العقد الفريد "6/ 107".

3 أيام العرب "334 وما بعدها".

4 أيام العرب "335".

ص: 55

على الصلح وتسوية الديات، وانصرف الناس من الحرب1.

هذه أيام من أيام عديدة أخرى ترد أسماؤها في كتب الأخبار والتواريخ2، نرى أن أسبابها: طبيعة البداوة، وفقر البادية، وحاجة الناس إلى الماء والمرعى والاعتبارات الاجتماعية، وما شاكل ذلك من أسباب أدت إلى وقوع تلك الأيام. وقد علقت ذكراها بأذهان الرواة؛ لأنها وقعت في عهد لم يكن بعيدًا جدًّا عن الإسلام، وقد وقعت بالطبع مئات من هذه الأيام، محيت أخبارها من ذاكرة حفظة الأخبار ورواتها؛ لأنها وقعت في عهد بعيد عن الإسلام أو في أمكنة بعيدة لم يصل مداها إلى جُمّاع الأخبار في الإسلام، فلم يضبطوها في جملة هذا الذي ضبطوه.

والذي نجده من قراءة أسماء الأيام المذكورة ومن أخبارها، أن معظمها مما كان قد وقع في الحجاز أو في نجد أو العراق والبادية وبلاد الشأم والبحرين. أما الأيام التي وقعت في العربية الجنوبية فقلما نجد لها ذكرًا عند الأخباريين، خاصة أيام حضرموت وعُمان، مما يدل على عدم وصول أخبار هذه الأرضين إلى علم الأخباريين. والواقع أن علم أهل الأخبار والتأريخ بهذه البلاد ضعيف جدًّا، حتى في باب علمهم عنها في الإسلام، وهو أمر يؤسف عليه.

وتتخلل هذه الأيام أسماء الرجال المشهورين ممن كان لهم أثر خطير فيها، وهم قادتها ومساعير نيرانها ومكوِّنو تأريخ الجزيرة قبل الإسلام. وشأن هؤلاء الرجال من حيث بعدهم وقربهم عن الإسلام، شأن أيامهم، فأكثرهم من أهل القرن السادس للميلاد، وممن ماتوا في عهد لمن يكن بعيدًا عن الإسلام، أي في النصف الثاني من هذا القرن، لقد صنع القصاصون ومحبو المبالغات من رواة القبائل، على عادتهم، هالة من الأقاصيص والأساطير لأولئك الرجال، حملت بعض المستشرقين على الشك في حقيقة بعضهم. ولكن وجود القصص الخرافي لا يمنع من الاعتراف بوجود شخص كان قد عاش ومات، وكان له أثر ظاهر في قومه وأعمال أثرت

1 أيام العرب "337"، الأغاني "19/ 79 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "/ 363"، السيرة الحلبية "1/ 143"، البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 289"، "1932م"، "مطبعة السعادة".

2 هناك أسماء أيام أخرى ذكرها أهل الأخبار، لا يمكننا التوسع فيها إذ يقتضي ذلك جملة مجلدات، راجع العمدة "2/ 200 وما بعدها".

ص: 56

في مواطنيه، وجعلتهم يوسعونها ويكبرونها إلى أن صنعوها بقصصهم بهذا الشكل الذي وصل إلى الأخباريين، بنقلهم الرجال من عالم الحقيقة إلى عالم الخرافة والخيال.

لقد خلدت تلك الأيام أسماء رجال أثروا تأثيرًا مهمًّا في الحياة السياسية البدوية، لقد أنجز بعضهم أعمالًا لم تنجزها قبائلهم، فتمكنوا من بسط نفوذهم على كثير من القبائل ومن جمعها تحت رئاسته بفضل زعامته وشخصيته. فهذا زهير بن جناب الكلبي تجتمع عليه قضاعة وتنضوي تحت لوائه، ويفرض الإتاوة على قبائل أخرى من غير قضاعة، ويحارب غطفان وبكرًا وتغلب وبني القين بن جسر، وهي من القبائل الكبيرة المعدودة، ثم ينتصر عليها1. وهذا كليب بن وائل وهو من معاصري زهير بن جناب ومن المنافسين له، ومن رجال النصف الأول من القرن السادس للميلاد، يجمع شمل قبائل ربيعة -وهي قبائل متنافرة متخاصمة- تحت رايته، ثم يجمع شمل معد ويضمها كلها إليه، فتكون له الرئاسة على كل قبائلها، وهو بذلك أحد النفر الذين اجتمعت عليهم معد2.

ومن النفر الذين اجتمعت معدّ عليهم: عامر بن الظرب بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث -وهو عدوان بن قيس عيلان- وربيعة بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن كلب، وكان قائد معدّ يوم السلان بين أهل اليمامة واليمن3.

ولمع في هذه الأيام اسم حذيفة بن بدر، واسم حمل أخيه، وكان سيّدي بني فزارة. وقد عرف حذيفة بـ"رب" معد4، وقاد قومه بني فزارة في عدة أيام، هي: يوم النسار، ويوم الجفار، وحرب داحس والغبراء حيث قُتل فيها في يوم الهباءة5.

وقد رأينا عدة رجال آخرين يتزعمون قومهم في هذه الأيام، مثل بسطام بن قيس رئيس بني شيبان، وهو من مشاهير الفرسان، وأحد الفرسان الثلاثة المعدودين، وهم: عامر بن الطفيل، وعتيبة بن الحارث وبسطام، وربيعة بن مُرة بن

1 ابن الأثير "1/ 205 وما بعدها"، الأغاني "21/ 93 وما بعدها"، المفضليات "117"، Ency.، Iv، P.1237

2 ابن الأثير "1/ 213".

3 ابن الأثير "1/ 214".

4 العمدة "2/ 192""باب ذكر الوقائع والأيام"، المحبر "461".

5 المحبر "249".

ص: 57

الحارث التغلبي، والهذيل بن هبيرة الثعلبي من ثعلبة بن بكر، والحوفزان، وهو الحارث بن شريك بن عمرو بن الشيباني، والحارث بن وعلة الذُّهلي، وأبجر بن جابر العِجلي، وقيس بن حسان بن عمرو بن مرثد أخو بني قيس بن ثعلبة، وقتادة بن مسلمة الحنفي، وأثال بن حجرين النعمان بن مسلمة الحنفي، والهذيل ابن عمران التغلبي.

وقد دوّنت الأيام أسماء جماعة من سادات تميم ممن ترأسوا قومهم. ولقبائل تميم مكان في هذه الأيام. ويظهر أنها كانت من القبائل البارزة في القرن السادس للميلاد. ومن هؤلاء: زرارة بن عدس من بني دارم. وقد قاد تميمًا وغيرها في يوم شويحط إلى عذرة بن سعد هذيم، ولقيط بن زرارة، وقد قاد تميمًا كلها إلا بني سعد بن زيد مناة إلى بني عامر بن صعصعة يوم جبلة، والأقرع بن حابس، وقد قاد حنظلة كلها يوم الكلاب الأول، عدا أسماء آخرين تجدهم مذكورين في أخبار الأيام.

وطبيعي أن يكون للفرسان وللفتّاك وللشعراء المقام الأول بين أسماء الرجال الذين ترد أسماؤهم في هذه الأيام. وإن لم يكونوا من بيوتات شهيرة معروفة، لها في الرئاسة ذكر ومقام، فأعمال المرء كافية لتخليد اسمه بين المشاهير. وإذا كان للشاعر عمل التشجيع والحث على الإقدام، وإلهاب نار الحماسة في النفوس، فإن للفارس والفاتك واجبًا مهمًّا في هذه الأيام، فإنهم يقررون في الغالب مصير الحروب ولا سيما الفرسان الفتاك الذي يختارون كباش القوم، فيقضون عليهم ويفتكون بهم، وبعملهم هذا تنتهي الحرب في الغالب بهزيمة تحل في الجبهة التي تتضعضع بسقوط الرئيس. فإن لسقوط الرئيس صريعًا شأنًا كبيرًا عند القبائل. فالرئيس هو الرمز المعنوي للقبيلة. فمتى سقط الرئيس انهارت معنوياتها وخارت قواها، ولا تستطيع عندئذ الثبات في الميدان، فيهرب أفرادها في غالب الأحوال، ويكون النصر للجانب الذي أسعده الحظ بوجود فارس عنده قتل رئيس خصمه.

وإن كان للخيل أثر في حروب تلك الأيام، في الهجوم والدفاع وفي الكر والفر، فإن القبيلة التي كانت تملك فرسانًا وعددًا وافرًا من الخيل، هي القبيلة المنتصرة الرابحة التي يخشى بأسها، فلا يطمع فيها الطامعون. ولا يهاجمها مهاجم بسهولة، ولها يكون الفخر على القبائل بكثرة ما لديها من خيل ومن فرسان،

ص: 58