الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس والخمسون: في الفقه الجاهلي
مدخل
…
الفصل السادس والخمسون: في الفقه الجاهلي
عرفت "مدوّنة جوستنيان" Institutes De Justinien "الفقه" بأنه "معرفة الأمور الإلهية والأمور البشرية، والعلم بما هو حق شرعًا وبما هو غير حق"1.
و"الفقه" في اصطلاح المسلمين هو: استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، أو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، أو العلم بأحكام الشريعة2، وهو اصطلاح ظهر بالطبع في الإسلام. أما بالنسبة إلى الجاهليين فإننا لا نستطيع أن نأتي بتحديد علمي ثابت له، لعدم وصول شيء منهم في هذا المعنى إلينا. وقد وردت اللفظة لغة بمعنى العلم والتبحر في الشيء والإحاطة به. ووردت في سورة التوبة كلمة ليتفقهوا {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} 3. ومن هذا المعنى جاءت لفظة "الفقه" في الإسلام.
وأنا أقصد بمصطلح "الفقه" هنا الأحكام التي نظمت العلاقات بين الجاهليين، وبيّنت الحلال في عرفهم من الحرام. وأقصد بالحلال كل مباح أباحه أهل الجاهلية لأنفسهم، وبالحرام كل ما حرموه عليها. فللجاهليين شرائعهم الخاصة بهم. وأنا هنا أريد أن أبحث عن شرائعهم التي ثبتت الأحكام بحسب اجتهادهم
1 مدونة جوستينان في الفقه الروماني، تعريب عبد العزيز فهمي، دار الكاتب المصري القاهرة 1946 "ص5".
2 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص391".
3 التوبة، الآية 122.
وعرفهم وسنتهم، وأريد بالأحكام "قوانينهم" التي وضعوها وساروا عليها في تثبيت المحظور أو المباح، أي: الحرام والحلال.
وكلامنا في الفقه الجاهلي هو كلام لم نستنبطه من "قوانين" أو من مدونات قانونية Codex Juris أو من كتب في فقه الجاهليين، أو من تعليمات جاهلية مدونة، وإنما أخذناه في الغالب من الألفاظ الفقهية التي تعبر عن آراء قانونية وردت في كتب الفقه والحديث والتفسير، وما شاكل ذلك من موارد إسلامية، ومن أقوال وأحكام نسبها أهل الإسلام إلى رجال من أهل الجاهلية، فيها قواعد فقهية. ومن بعض أوامر وأحكام أصدرها ملوك العرب الجنوبيون قبل الإسلام في تنظيم التجارة وفي كيفية جباية الأموال. وسبب عدم أخذنا من موارد فقهية جاهلية هو عدم وصول مدوّنات قانونية إلينا حتى الآن، فليست لدينا ويا للأسف مدونات مثل:"قوانين حمورابي" أو "مدونة جوستنيان"، أو مثل ما كتبه "ديودورس" في الشريعة المصرية1. فما نكتبه في التشريع الجاهلي، مستمد مما ذكرته ومن أوامر وإرادات ملكية وأحكام وردت في المسند في نواحٍ خاصة من نواحي التشريع، مثل: كيفية جباية الضرائب عن الأرض أو التجارة، أو نواح معينة من البيوع والقتل وغير ذلك. فهي خاصة بحالة معينة من حالات التشريع، لا قوانين عامة على نحو ما نفهمه من القوانين.
ولما كانت القوانين وليدة الظروف والحاجات اختلف التشريع في أيام الجاهلية باختلاف القبائل والأماكن، وطبيعة البيئة. فأهل اليمن بنظام حكمهم المستقر، وبحكوماتهم التي كانت تهيمن على مناطق واسعة كانوا يختلفون في أصول تشريعهم عن أهل مكة أو أهل يثرب. وكل من هؤلاء هم قُطّان مدن، وحكمهم هو حكم مدن قائم على أساس آراء رؤساء الأحياء والشعاب، ثم إن حكم هؤلاء، يختلف أيضًا عن حكم القبيلة والعشيرة، أعني حكم الأعراب.
ولعدم وجود حكومات منظمة قوية في معظم أنحاء جزيرة العرب، لا يمكن تصور وجود هيئات قضائية ومؤسسات حكومية ذوات قوانين مدوّنة، للفصل في الخصومات، ولإنزال العقوبات الجزائية الرادعة في المخالفين، على نحو ما نراه في حكومات هذا اليوم، كما أننا في شك من وجود نصوص قانونية مدونة في
1 Grohmann، Arabien، S. 132
مثل هذه الأماكن على مثال قوانين "جوستنيان" مثلًا، أو القوانين التي سنَّها الأكاسرة. فمثل هذه القوانين والأنظمة الدقيقة المنظمة المبوبة لا يمكن أن تظهر إلا في المجتمعات السياسية المنظمة المعقدة التي تهيمن عليها حكومة ذات مجتمع منظم يشعر بحاجته إلى حكم منظم يعين حقوق الحكام وحقوق المواطنين.
وغير أنَّ هذا لا يعني عدم وجود أحكام لردع المخالفين والزائغين، وعدم وجود أحكام لتنظيم العلاقات في المجتمع، وتعيين حقوق الحكام والمحكومين، وعدم وجود أناس لهم علم بعرف البلاد، فلكل مجتمع مهما كانت حالته من السذاجة قوانين وأناس لهم علم بتطبيق تلك القوانين على المخالفين. والقوانين في المجتمعات الصغيرة البسيطة، هي العرف والعادة المتوارثة عن الآباء والأجداد. وإذا كانت مثل هذه المجتمعات لا تملك محاكم دائمة ذات موظفين وسجلات وقوانين ثابتة مكتوبة على نمط المحاكم لهذا العهد، فإنها تملك في الواقع محاكم، وتملك حكامًا. ففي المدن مثل: مكة ويثرب، وهي مدن تحكم نفسها بنفسها، ونستطيع أن نسمي حكوماتها بحكومات مدن، يحكم الرؤساء والأشراف المدينة، ويفضون المنازعات وفق العرف والعادة. يجتمعون في مكان معين، مثل:"دار الندوة"، أو في المعبد، أو في بيوت الوجهاء، للنظر في الخصومات وفي المشكلات التي تقع في البلد. ويتولى رؤساء الشعب، أي: الحارة والمحلة فَضَّ المنازعات التي تنشأ بين أفراد الشعب في الغالب. أما إذا وقعت الخصومات بين أبناء شعاب مختلفة، فقد يتفق رؤساء المحلات عن فَضِّ الخصومة بينهم باللجوء إلى محكمين يختارونهم من غيرهم ممن يرضى عنهم المتخاصمون ويكونون في نظرهم محايدين لا علاقة لهم بهذا النزاع. وقد يحال النزاع على رؤساء البلد أو الحي للنظر فيه. ويشترط بالطبع على المتخاصمين كلهم الإذعان لقضاء الحكام، والتسليم بما يحكمونه من حكم.
ولسذاجة الحياة وعدم تعقدها في معظم أنحاء جزيرة العرب، كانت طبيعة التشريع عند الجاهليين ساذجة غير معقدة، والقوانين قليلة تتناسب مع طبيعة حياة ذلك العهد، تقتصر على المشكلات التي تحدث في مثل تلك البيئة وفي ظروف تشبه تلك الظروف، فلا نرى لذلك قوانين معقدة عديدة في معالجة مشكلات الأرض ومشكلات الصناعة والاقتصاد وتنظيمات المدن الكبيرة، وما يتكون ويتولد فيها من إجرام ومخالفات.
ولما كانت الطبيعة الأعرابية، هي الطبيعة التي تغلبت على حياة أكثر سكان
جزيرة العرب، نبع مفهوم الحق عند الأعراب، ومفهوم كيفية استحصاله وأخذه من المحيط الذي عاش الأعرابي فيه. فصار الحق في نظره القدرة أو القوة.
فالقوي القادر على حمل السلاح هو صاحب الحق؛ لأن في استطاعته انتزاع حقه والدفاع عن نفسه متى تعرّض للظلم. وهو بقوته لا يخشى ظلم ظالم. وعلى هذا المبدأ بنيت أكثر أحكام الجاهلية في تقويم الحق وتقديره في مثل: دفع الديات، وفي حقوق الإرث وفي مفهوم السرقة، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد، فالقدرة هي سبب من أهم أسباب تحقيق الحق، وأخذ الحق وانتزاعه من المغتصبين، ثم عامل آخر، هو العصبية بأنواعها، من أبسط درجة فيها إلى أعلاها، فإنها عامل آخر من عوامل الدفاع عن الحق وعن استحصاله، لعدم وجود حكومة نظامية تقوم بتحقيق الحق، فقامت العصبية مقامها في استحصال الحق وفي تأديب الخارج على العرف، الذي هو القانون.
وأما النواحي القانونية والتشريع في العربية الجنوبية وسائر الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، فلم ترد إلينا كتابات وبحوث فيها، فلتكوين رأي فيها إذن، لا بد لنا من اللجوء إلى الكتابات التي لها علاقة بهذه النواحي، مثل: الكتابات التي تحمل طابع الأوامر والنواهي وعقود التملك من بيع وشراء، والقبوريات، أي: الكتابات التي تخص تملك القبور، فتمنع الغرباء من الدفن فيها والتجاوز عليها والتطاول عليها بإحداث تغيير وتبديل في شكل القبر وفي هيئته، ومن كتابات مماثلة أخرى. فقد وردت في هذه مصطلحات وتعابير قانونية، يمكن أن نستنتج شيئًا منها، وأن نكوّن رأيًا قانونيًّا بدراستها ومقارنتها بالتشريعات الواردة عند الشعوب الأخرى أو عند القبائل الساكنة في مختلف أنحاء بلاد العرب، وبالتشريع الإسلامي.
ومن هذه المصطلحات الحقوقية لفظة "احلى" و"احل" بمعنى "أحلّ" في عربيتنا، وهي تشير إلى لفظة "الحلال" التي هي ضد الحرام المعروفة في القوانين وفي الفقه. وقد وردت في النص الموسوم بـMe 36 هذه العبارة:"هن بخطات نكرح وود احلى ذ ينقل قبرن عمر خرقن وارخن"1، ومعناها: هذا بخطيئة نكرح وود لمن يحل وينقل أي يغير القبر. عمر السنين والأزمان، وتعني لفظة "عمر" الدوام والتأييد. وأما "خطأت""الخطيئة" فإنها بالمعنى
1 Me 36. Rhodokanakis، Stud. Lexi.، I، S. 66
المفهوم منها عند النصارى تقريبًا، فهي بمعنى التعدي على الشريعة. وعدم الامتثال لها، والإثم1، وبمعنى "اللعنة" في الإسلام. فيكون المعنى للجملة المتقدمة على هذه الصورة:"هذا بلعنة الإلهين نكرح وودّ لمن يحلّ، أي: يجوّز تغيير القبر، أبد السنين والأيام". وتعني لفظة "نقل" التغيير والتبديل.
وهناك لفظتان تردان في الكتابات القبورية والإعلانية في بعض الأحيان، هما "مسرس"2 و"سنكرس"3. وتعني اللفظة الأولى: يبعد وينقل. أما الثانية فتعني: يغيّر ويزيل معالم الشيء، وقد ترد بعد الكلمة هذه العبارة "يومي أرضم"4، أي: أيام الأرض، بمعنى ما دامت الأرض.
ووردت لفظة "خطات" في نص قتباني، وهو أمر ملكي أصدره الملك:"شهر هلل بن ذرأ كرب". وقد جاء في هذا الأمر أن الملك سينزل عقوبات بالمخالفين لهذا الأمر. واستخدمت هذه اللفظة في أداء هذا المعنى5.
وفي السبئية لفظة "حجك""حكك"، وتعني القانون6. وربما تؤدي معنى "حكّ"، أي: "حق". أي: ما كان ضد الباطل.
وقد فسَّر "رودوكناكس" لفظة "حلكم"، "حلك" الواردة في نص قتباني عرف بكتابة "كحلان" بـ"قانون" وبـ"نظام". وفسَّر لفظة أخرى وردت معها هي "سحر" بمعنى أمر به. وأما لفظة "حرج"، فقد فسَّرها بمعنى أصدره وأخرجه7. وقد وردت الألفاظ الثلاثة في ابتداء قانون أصدره "شهر هلال" ملك قتبان لتنظيم أمور الزراعة والملك في بلاده8.
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 413".
2 الحرف الثاني من الكلمة هو حرف لا مقابل له في أبجديتنا، وهو بين حرفي الزاي والسين.
2 راجع النص:
Glaser 1089، 1660، Halevy 208. Rhodohanakis، Stud. Lexi.، Ii، S. 26 Glasser 1150، Halevy 192، 199
4 السطر الأخير من النص: Glaser 1150
5 راجع الفقرة التاسعة من النص:
Glaser 1396، 1610، Se 83، Rhodokanakis، Stud. Lexi.، Ii، S. 4. Mahram، P.436.
6 Mahram، P.436
7 راجع النص الموسوم بـClaser 1396، 1610، Se 83
8 Rhodokanakis، Kataba. Texte، Ii، S. 5
ووردت لفظة "نتذر" بعد لفظة "تنخيو" في بعض الكتابات1. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن لفظة "تنخيو" التي تعني الإعلان والإشهار، ليكون ذلك معلومًا لدى الناس، إنما يراد بها التنبيه على شيء قد تتولد منه نتائج غير طيبة، فهي بمثابة إنذار وتخويف وتحذير. وبهذا المعنى أيضًا لفظة "تنذر" بمعنى إنذار ونذر2.
وقد اختتمت بعض الأوامر والإرادات الملكية القتبانية بهذه الجملة: "قدمن وتعلماي يد......"3، ومعناها:"أمام. وعلمته يد"، أي: ووقعته يد. ويراد بها أن الإرادة الملكية قد كتبت أمامه، وأن يد الملك قد وقعته، فهو أمر صدر بإرادته وأمره.
فنحن هنا أمام نص قانوني، صدر باسم ملك من الملوك، أمر هو بإصداره، ودوّن أمامه، وشهد هو بنفسه عليه، ووقعته يده، دلالة على شهادته بصحته وبأنه نص شرعي ملكي معترف به. فعلى أتباعه السير وفقًا لأحكامه ولما جاء فيه.
وفي كتابة مثل هذه العبارات القانونية دلالة على وجود فهم للقانون وإدراك له عند العرب الجنوبيين.
وتطلق لفظة "بل" على المباح بلغة حمير4. وأما "البسل"، فهي من الألفاظ التي تدخل في باب الأضداد، فهي تعني الحرام كما تعني الحلال5.
وفي شريعة أهل الجاهلية حلال وحرام، مباح ومحظور، ويراد بالحلال كل ما أباحه العرف، مما لم يتعارض مع تقاليدهم ومألوفهم. أما ما تعارض منه معه، فهو حرام محظور، ويعاقب المخالف المرتكب للمحرمات ولما حرمته شريعتهم.
ومعنى الحلال والحرام الاصطلاحي هو المعنى الوارد في القرآن الكريم نفسه. غير أن الإسلام حدد الحرام والحلال وفق قواعد الشرع، أي: إن الإسلام ندب المصطلحين وحددهما وفق قواعده. أما الجاهلية، فحددتهما وفق عرفها.
1 راجع السطر الأول من النص: Halevy 149
2 Rhodokanakis، Stud. Lexi.، I، S. 59
3 الفقرة الأخيرة من النص: Glaser 1396، 1610، Se 83
4 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص120".
5 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص158".
ومن المصطلحات التي لها علاقة بالحياة الاجتماعية لفظة "ثوب"، أي:"ثواب"، و"أجر". ترد بهذا المعنى في الكتابات ذات الصبغة الدينية. ولفظة "تعمن" وتعني "النعم" و"نعمة"1.
وعثر في الكتابات الثمودية وفي اللحيانية على نصوص تتعلق بحق الملكية، فعثر على نص ثمودي يشير إلى ملكية بئر2. وعثر في اللحيانية على وثائق تتعلق بملكية أرض وعقار كما عثر على وثيقة، وجد أنها وصل، أي: اعتراف بتسلم مال. كما عثر على وثائق تتعلق بالقانون الجنائي. منها وثائق تتعلق بقتل، ووثائق تتعلق بعقوبات القتل وبالدية، ووثائق تتحدث عن ازدياد الجرائم والخروج على القوانين في "ديدان"3.
وتدل هذه الوثائق على وجود أصول القانون والمحافظة على الحقوق عند عرب أعالي الحجاز. وإن كُنَّا لا نستطيع في الوقت الحاضر تقديم أي رأي عن أصول التشريع عندهم أو التحدث عن وجود قوانين مثبتة مدوّنة في معالجة الحق العام والحق الخاص أو الجرائم أو أصول المرافعات على نحو ما نجده عند الأمم المعاصرة لهم، أو الشعوب التي عاشت قبلهم، فوضعت شرائع وصلت نصوص بعضها إلينا، مثل: شريعة حمورابي المعروفة.
وقد عثر الباحثون على نصوص تشريعية، أصدرها ملوك العربية الجنوبية، وأمروا بإعلانها على الملأ، للعمل بموجبها وهي حتى الآن قليلة العدد. ومع ذلك، فقد أعطتنا فكرة مجملة عن أصول التشريع عند العرب الجنوبيين. وقد صدرت هذه التشريعات باسم الملوك. فهم الذين أمروا بسنها وبتشريعها وبتنفيذ ما جاء فيها.
ويعبر عن القانون، أو سن القوانين بلفظة "سن" وتقابل كلمة Law أي: قانون في الإنكليزية4. و"السنة" في عربيتنا: الطريقة. وهي من القواعد الأساسية الأربع في الفقه الإسلامي5. فللفظة صلة إذن بلفظة "سن" في العربية الجنوبية.
1 راجع النص الموسوم بـ:
Halevy 147، Rhodokanakis، Stud. Lexi.، I، S. 57
2 Jaussen-Savignac، Mission، Ii، 427، 587، W. Caskel، 61، Arabien، S. 50
3 Arabien، S. 50
4 Jamme، Southern Arab. Inscriptions، P.449
5 اللسان "13/ 225 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 244"، "سنن".
ويظهر من الأوامر والأحكام الملكية المدونة بالمسند، أن الحكومات العربية الجنوبية كانت حكومات مشرِّعة، نظمت أعمالها وأعمال مواطنيها بتشريعات عيّنت بموجبها حقوق الحكومة على الناس وحقوق الناس مع بعضهم وواجباتهم تجاه حكومتهم، وذلك بحسب إمكانية المجتمع لذلك العهد1، وقد أدركت شأن نشر القوانين والأحكام ووجوب إبلاغها للناس، فأمرت بتدوينها على الحجر، أي: بحفرها فيها، ووضع الأحجار المدونة في مواضع بارزة ليقف عليها الناس ويفقهوا ما ورد فيها من أحكام وأوامر، فلا يقبل عندئذ عذر لمعتذر إذا خالفها، كذلك نجد الناس يعبرون عن حقهم في الشيء بتدوين ذلك الحق وإعلانه، فعند شراء رجل بيتًا أو أرضًا، أو عند بنائه بيتًا، كان يكتب ذلك على الحجر ويضع الحجر في محل بارز من جدار البيت الخارجي ليطلع الناس على تملك صاحب الملك له. ويدل هذا الإعلان على وجود فكرة التقنين والتشريع وإدراك الحق عند العرب الجنوبيين.
وإذا أبرمت الحكومات العربية الجنوبية قانونًا، وإذا أصدرت أمرًا أو نظامًا، أمرت بتدوين نسخ من القانون أو الأمر أو النظام، لحفظها في ديوان الوثائق، لتكون مرجعًا يرجع إليه. وتُعلَن نسخٌ منها على الناس. ليقف الجمهور على ما جاء فيها2.
وتعد الساحات المنشأة أمام أبواب المدن المكان المختار لنشر الأوامر والقوانين على الناس، نظرًا إلى كونها محلات عامة يتجمع فيها أهل المدينة في الغالب، وقد تعقد فيها المحاكمات والاجتماعات العامة. فإذا صدر أمر حكومي أو قانوني كتب على الحجر، ثم يبنى على جدار المدينة عند الباب ليقف عليه الناس. وقد عثر المنقبون على قانونين قتبانيين في تحديد عقوبة القتل، وقد بنيا في الجهة اليسرى من باب مدينة "تمنع" العاصمة ليقف عليها من يحضر هذا المكان من سكان العاصمة أو القادمين إليها3، كما عثر المنقبون على أسماء جماعة من رجال مدينة "مريمت""مريمة" وقد دوّنت على حجر بني على جدار باب المدينة ليقف عليها الناس4؛
1 Grohmann، Arabien، S. 132، Rhodokanakis، Etud. Lexi.، I، S. 67
2 Grohmann، Arabien، S. 137
3 Grohmann، Arabien، S. 132
4 المصدر نفسه.
لأنهم قاموا بغزو رجعوا منه بغنائم كثيرة، أعطوا منها نصيبًا كبيرًا، فلكي يقف أهل المدينة على كيفية توزيع الغنائم، وكمياتها دوّنت تلك الكتابة.
وتلعب أبواب المدن دورًا خطيرًا في أصول التشريع عند الساميين. فقد كانت موضع إعلان القوانين، ومحل إبلاغها للناس، فهي بمثابة "الجرائد الرسمية" المخصصة بنشر القوانين في عرف هذا اليوم. وهي مواضع المحاكمة أيضًا، حيث يجلس الحكام للنظر في خصومات المتخاصمين. وهي مواضع عقد العقود أيضًا، من بيع وشراء. ويصف الإصحاح الرابع من سفر "راعوت" لنا، كيف أن "بوعز" جلس عند باب المدينة وأمر عشرة من شيوخ المدينة ليكونوا شهودًا لإجراء عملية بيع وشراء1.
ومما يلاحظ على القانوني القتباني أنه أخذ بمبدأ أن تنفيذ القوانين هو حق من حقوق "الملك"، أو من يخوله حق التنفيذ. ويراد بـ"الملك" الدولة، أو ما يسمى بـ"السلطان" في الفقه الإسلامي، فلا يجوز لأي أحد غير مخوّل تخويلًا قانونيًّا من الملك، أي: الدولة تنفيذ قانون أو أخذ أي حق مدعٍ بدون إذن رسمي من مرجع قضائي وسلطة مخولة، فالدولة وحدها هي التي تنظر في أمر الخصومات وفيما يقع بين الناس من خلاف. وهي وجهة نظر كل حكومة متحضرة، تريد إشاعة العدل والأمن في حدودها والقضاء على الفوضى والفتن التي قد تقع فيما لو قام كل إنسان بأخذ ما يدعيه من حق لنفسه بنفسه، وبدون مراجعة حكومة وسلطان.
وأنا إذ أستعمل لفظة الفقه الجاهلي، فلا أعني أن الجاهليين عامة، كانوا كلهم يسيرون وفق فقه واحد وأحكام واحدة تطبق على جميعهم، تطبيق الأحكام العامة في الدولة الواحدة. فكلام مثل هذا لا يمكن أن يقال بالنسبة إلى الجاهلية.
فقد كان الجاهليون قبائل في الغالب، وهم أهل الوبر. وللقبائل أعراف وأحكام تتباين بتباين الأمكنة، من انعزال في البادية أو قرب من الحضر أو اتصال بالأعاجم. وأما أهل المدر. فمنهم من كان يعيش في قرية والحكم فيها لا يتجاوز حدود القرية، ومنهم من عاش في ممالك أو إمارات، والحكم فيها لم يبلغ كل جزيرة العرب بأي حال من الأحوال. وقد انحصرت أحكامها لذلك في الحدود
1 راعوت، الإصحاح الرابع، الآية الأولى وما بعدها.
التي بلغتها قوتهم ووصل إليها سلطانهم الفعلي لا غير.
وإذا أردنا أن نتحدث بلغة هذا العصر عن أصول التشريع الجاهلي، أي: عن المنابع التي أمدت فقه الجاهلية بالأحكام، فإننا نرى أنها استمدت من العرف، ومن الدين، ومن أوامر أولي الأمر ومن أحكام ذوي الرأي.
أما "العرف"، فهو ما استقر في النفوس وتلقاه المحيط بالرضى والقبول، وسلم به وسار عليه في بعض الأحيان1. وذلك لأخذه طابع القانون من حيث لزوم التنفيذ والإطاعة. وهو معروف عند أكثر الشعوب، وقد اكتسبت بعض الأعراف درجة القوانين عند كثير من الأمم لمرور زمن طويل على استعمالها، ولتعارف الناس عليها، ولكونها معقولة منطقية لا تتعارض مع روح الزمن وعدالة التشريع.
وقد أشير إلى العرف في القرآن الكريم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 2. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد من "العرف" هنا: الإحسان3. وقد ألغى الإسلام بعض العرف الجاهلي، وأقرّ بعضًا منه، لعدم تعارضه مع قواعد الدين.
ولا تزال القبائل تطبق "العرف العشائري" حتى اليوم في فَضِّ ما يقع بين أفرادها وبينها من خلاف وخصومات. وهي تتجنب جهد إمكانها مراجعة الحكومات؛ لأنها تنفر من تطبيق القوانين عليها، بالرغم من إلغاء "العرف العشائري" أو "القضاء العشائري" كما يعرف في بعض البلاد العربية، وعدم اعتراف تلك الحكومات به. وذلك لرسوخ هذا العرف في نفوسها، وظهوره من تربتها، ولكونه موروثًا من الآباء والأجداد، فهو أقرب إليهم وإلى نفوسهم من القوانين الحديثة، وإن كانت أقرب إلى الحق والعقل من العرف.
ولا تزال بعض مصطلحات العرف الجاهلي باقية حيَّة تستعملها القبائل حتى اليوم في الأغراض والمعاني التي كانت عند الجاهليين. وحبذا لو عني علماء القانون عندنا بضبط العرف المستعمل في بلاد العرب في الزمن الحاضر ودراسته دراسة
1 التعريفات، للجرجاني "ص154""طبعة فلوكل".
2 سورة الأعراف، الآية 199.
3 المفردات، الراغب الأصفهاني "ص425""طبعة البابي".
علمية تحليلية، فإن لهذه الدراسة شأنًا كبيرًا في دراسة التشريع العربي في الجاهلية.
وللسنة أهمية كبيرة في الفقه الجاهلي. والمراد بها: الطريقة، وترد في القرآن {سُنَّةُ الْأَوَّلِين} 1 و {سُنَّةَ اللَّه} 2.
وترد لفظة "السنن" في الموارد الإسلامية. وكذلك "السنة" التي هي المورد الثاني في الفقه الإسلامي تستنبط منه الأحكام بعد القرآن. ولا بد أن تكون لها نفس المكانة عند الجاهليين3. وقد ورد في القرآن الكريم: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} 4، دلالة على مكانة سنة الآباء في عقلية الجاهليين. فما ورد في سنتهم هو قانون يعمل به. وورودها بهذا المعنى يدل على أنها كانت تؤدي معنًا خاصًّا عند الجاهليين. ولعلها كانت مصطلحًا من مصطلحات الفقه عندهم.
وسنة الجاهليين هي طريقتهم في الحياة وما ورثوه عن آبائهم من عرف وأحكام، وما قرروا السير عليه من قوانين القبيلة في تنظيم حقوق القبيلة والأفراد، وما يقرره عقلاؤهم من قرارات لا تغير ولا تبدل إلا للضرورة وبقرار يصدره أصحاب العقل والبصيرة والرأي والسَّنِّ فيها. ولا يزال العمل بها حتى اليوم. ويقال لها:"السانية" في اصطلاح قبائل العراق.
وأقصد بـ"الدين" ما كان يدين به أكثر الجاهليين من شريعة التعبد للأوثان والتقرب للأصنام، فقد وضع سدنة المعابد والكهان أحكامًا لأتباعهم على أنها أحكام ملزمة يكون مخالفها في حكم المخالف للعرف. وهي بالطبع أقوى وأظهر عند أهل الحضر، لمساعدة محيطهم على ظهور الشعور الديني الجماعي فيه، عكس محيط البداوة الذي تباعد فيه أهله، وتبعثرت بيوته، فلم يساعد على ظهور هذا الشعور الديني الجماعي فيه.
وبين الجاهليين يهود ونصارى، مهما قيل في يهوديتهم أو نصرانيتهم من العمق أو الضحالة، فإنه لا بد أن يكون لدياناتهم دخل في تنظيم حياتهم وفي أحكام مجتمعاتهم ولا سيما فيما يخص قوانين الأحوال الشخصية المقررة في الديانتين.
1 الأنفال 38، الحجر 12، فاطر 43، الكهف 55.
2 الأحزاب، 38، 62، فاطر 43.
3 Law In The Middle East، P.35.
4 الكهف 55.
وأقصد بأوامر أولي الأمر، أوامر أصحاب الحلّ والعقد من ملوك وسادات قبائل ورؤساء "الملأ" و"الندوة". فقد كانت أوامرهم أحكامًا تتبع في زمني السلم والحرب. وهم مشرعون ومنفذون، وقد صارت قوانين متبعة، وأشير إلى بعض منها في الموارد الإسلامية.
وقد وصلت إلينا أوامر ملكية قتبانية في تنظيم الجباية والتجارة، كما وصلت كتابات فيها تشريعات تخص النواحي القانونية سأتحدث عنها في المواضع المناسبة.
وأما أحكام ذوي الرأي فأريد بها أحكام فقهاء الجاهلية الذين عرفوا بالأصالة في الرأي وبالمقدرة في استنباط الأحكام المناسبة في فضِّ المنازعات والخصومات. ولا أريد بتعبير "فقهاء الجاهلية"، طبقة خاصة من علماء الفقه، أي: القانون، على نمط علماء الفقه عند الرومان أو اليونان أو فقهاء الإسلام، تخصصت بالفقه وبشرائع الجاهليين، وإنما أقصد بهم أولئك الذين طلب إليهم أن يكونوا حكمًا بين الناس، لوجود صفات خاصة بهم جعلتهم أهلًا للقضاء والحكم فيما يشجر بينهم من خلاف وهم سادات القبائل وأشرافها والكهّان.
وفي فقه الجاهلية أحكام كثيرة، وضعها مشرعون محترمون عند قومهم، وجرت عندهم مجرى القوانين. وقد نص أهل الأخبار عليها، كما نصوا على أسماء قائليها. وقد ذكروا بين تلك الأحكام أحكامًا أقرها وثبتها الإسلام. من ذلك حكمهم في "الخنثى"، وهو حكم حكم به "عامر بن الظرب العدواني" و"ذرب بن حوط بن عبد الله بن أبي حارثة بن حي الطائي"، وقد أقر الإسلام حكمهما1، ومثل حكم "ذي المجاسد" وهو "عامر بن جشم بن غنم بن حبيب" في توريث البنات. فقد كانت العرب مصفقة على توريث البنين دون البنات، فورث ذو المجاسد، وهو الذي قرر أن للذكر مثل حظ الأنثيين. وقد وافق حكمه حكم الإسلام2.
إننا لم نسمع حتى الآن بوجود مفتين، أي: فقهاء كلفوا إبداء آراء في معضلات تفع فتعرض عليهم لإيجاد حلول ومخارج قانونية لها. ولم نسمع أيضًا بوجود حكام كلفوا رسميًّا من الدولة القضاء بين الناس، ولا أستبعد العثور في المستقبل على
1 المحبر "ص236".
2 المحبر "ص236".
كتابات في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية قد تكشف النقاب عن وجود مثل هذه الوظائف هناك؛ وذلك لأن الحكومات التي ظهرت فيها كانت حكومات منظمة، لها شرائع، ولها صلات مع العالم الخارجي، فلا يستبعد تعيينها أناسًا عرفوا بالكياسة وبالرأي السديد وبالعلم في الفقه للحكم بين الناس ولوضع القوانين التي تحتاج إليها الحكومة.
إن عدم تدوين الجاهليين لفقههم، أو عدم وصول شيء مدون منه إلينا، لا يكون دليلًا على عدم وجود فقه لديهم أو على عدم وجود منطق فقهي لديهم أو يكون دليلًا على سذاجة فقههم وبداءته، فإن انعدام التدوين لا يكون دليلًا على عدم وجود رأي فقهي عند قوم، فقد كان أهل "لقدمونيا" مثلًا وهم من اليونان "يميلون إلى الاعتماد على ذاكرتهم يستحفظونها من الأنظمة ما يعتدونه قوانين واجبة المراعاة"1، عكس أهل "أثينة" الذين كانوا ضدهم، فإنهم كانوا يدوّنون القوانين ويكتبونها للرجوع إليها2. وقد أخذت أحكام "لقدمونيا" الشفوية في التشريع بنظر الاعتبار واعتبرت في المدونات القانونية.
ولا بد أن يكون بين الجاهليين "تعامل" و"عرف" متبع في أمور عديدة من أمور الحياة التي عاشوا فيها في مثل حقوق مرور القوافل من مناطق نفوذ القبائل، وحقوق الجباية عن الأموال المستوردة أو المصدرة وفي موضع العقوبات وما شاكل ذلك.
وقد ذكرت بأن العلماء قد عثروا على بعض كتابات هي أوامر ملكية في الجباية، فلا يستبعد عثورهم في المستقبل على ألواح ومدونات في الفقه.
ومكان مثل مكة اشتهر أهله بالحذق في التجارة وبثراء بعضهم ثراء كبيرًا، وبتعاملهم مع الشرق والغرب، ومع الساسانيين ومع البيزنطيين ومع اليمن، وباكتنازهم الذهب والفضة، وبعقدهم العقود وبوجود الكتّاب بينهم، وبوجود الرقيق الأبيض عندهم، من ذلك النوع الذي يقرأ ويكتب والذي له وقوف على كتب الأولين، إن مكانًا مثل هذا لا يمكن أن يكون بلا فقه وبلا قوانين ومحاكم يتحاكمون بها. وكيف يكون ذلك وقد خاطب الله رسوله بقوله:
1 مدونة جوستنيان "ص10".
2 المصدر نفسه.
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} 1، و {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} 2، و {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} 3، وغير ذلك في مواضع فيها معنى الإفتاء. وقد ذكر العلماء أن "الكلالة" اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة، وأن رسول الله سئل عن الكلالة فقال: من مات وليس له ولد ولا والد. وأن بعض العلماء فسَّر الكلالة بأنها مصدر يجمع الوارث والموروث جميعًا4. وقوم يستفتون في المواريث ويستفتون في النساء هل يعقل ألا يكون لهم فقه وقوانين؟
وفي القرآن آيات مثل: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 5، و {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} 6، و {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} 7، و {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 8، وآيات أخرى تشير إلى وجود فكرة القضاء بين الناس، وإلى الحكم بينهم بالقسط، فهل كان الله يخاطب قومًا بهذه الآيات لو كان المخاطبون قومًا يجهلون العدل، ولا يفقهون شيئًا عن القضاء؟ اللهم لا.
وفي القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ
1 النساء، الآية 127.
2 النساء، الآية 176.
3 الكهف، الآية 22.
4 المفردات "ص452".
5 الزمر، الآية 69.
6 طه، الآية، 72.
7 الشورى، الآية 21.
8 يونس، الآية 47.
تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} 1. وهي في تنظيم الدين والتداين وفي الشهادة على الدَّين وفي شهادات الشهود.
في الرهان وهي كلها من صميم عمل قريش. ولا بد وأن يكون لقريش أحكام في تنظيم الأعمال التجارية من بيوع وشراء وعقود مشاركات وأمثال ذلك ولو بمقياس يناسب تجارة مكة في ذلك العهد.
ولا أستبعد أن تكون لأهل يثرب أحكام وقوانين في تنظيم الزراعة وفي كيفية التعامل فيما بينهم وفي الربا وبينهم قوم من يهود. وقد كانوا يتاجرون ويشتغلون بالحرف وبالربا؛ لأن مجتمعها مجتمع منظم لا بد أن تكون له قوانين وفقه ضابط للمعاملات.
وقد ذهب المستشرق "كولدتزيهر" إلى أن الإسلام قد أقرّ بعض فقه الجاهليين وأحكامهم، مما لم يتعارض مع مبادئ الإسلام. فأخذ -على رأيه- من قوانين أهل مكة أحكامها وأخذ من فقه أهل المدينة، وهو في نظره أقل تطورًا من فقه أهل مكة، ولذلك فإن فقه أهل الحجاز كان من جملة المنابع التي عرف منها الفقه الإسلامي.
وأنا لا أتوقع احتمال عثور العلماء على شريعة أو شرائع في القانون عمَّ تطبيقها بلاد العرب كلها، ولا أؤمل عثورهم على مدوّنة تشبه "مدونة جوستنيان" في القوانين، وضعت لتطبق على كل الجاهليين؛ وذلك لأن ظهور قوانين عامة منظمة ومركزة ومبوبة، يستدعي وجود حكومة منظمة ذات سلطان مطاع، يشمل سلطانها كل بلاد العرب، ووجود شعب واحد يشعر بتبعيته تجاه حكومته، أو وجود شعور بخوف تجاه تلك السلطة يضطر الناس إلى العمل وفق أحكامها وما تصدره من أوامر، وذلك على نحو ما نراه في الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية البيزنطية ونحوهما. وإذ كان ما تحدثنا عنه غير موجود ولا معروف في بلاد العرب، لم تظهر قوانين عامة تشمل أحكامها كل العرب، وكل ما ظهر إنما هو قوانين خاصة طبقت في حدود مناطق الدولة أو القبيلة أو القرية أو الحلف.
1 البقرة، الآية 282 وما بعدها.