الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"إن من ظلم بظلامة، فلا يحل له أن ينال ممن ظلمه أكثر مما نال الظالم منه"1. وأن الله يقول للمؤمنين: "وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظلمكم من العقوبة ". وقد نزلت بعد أُحد حيث قُتل حمزة ومُثِّل به، فلما "رأى المسلمون ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أُحد من تبقير البطون وقطع المذاكير والمثلة السيئة، قالوا: لئن أظفرنا الله بهم لنفعلن ولنفعلن، فأنزل الله فيهم: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} 2. ونزلت الآية الأخرى في "قوم من المشركين لقوا قومًا من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، وكان المسلمون يكرهون القتال يومئذ في الأشهر الحرم، فسأل المسلمون المشركين أن يكفوا عن قتالهم من أجل حرمة الشهر، فأبى المشركون ذلك وقاتلوهم، فبغوا عليهم وثبت المسلمون لهم، فنصروا عليهم، فأنزل الله هذه الآية"3.
ومن العقوبات التي جاءت بها الشريعة الجاهلية عقوبة: إقامة الحدود على الجناة، وذلك بالتعزير، وهو الجلد، جلد المخالف الذي لا تكون مخالفته جناية، بل مخالفة بسيطة في مثل مخالفة أوامر الوالدين أو الولي الشرعي وفي الاعتداء على الغير بالشتم والسباب والتحرش بالناس، وما شاكل ذلك من أمور. وعقوبة دفع الغرامات وتعويض الضرر. وعقوبة السجن على الجنايات المهمة، وعقوبة الطرد من البيت أو من المدينة أو من أرض القبيلة والخلع والتبري من الشخص، والحبس في البيت، وعقوبات القصاص.
والقصاص هو القود. والقَوَد قتل النفس بالنفس4. وقد عبر الفقهاء عن القصاص في القتل بـ"قصاص في النفس"، وعبّروا عن القصاص فيما هو دون القتل بـ"قصاص فيما دون النفس".
1 تفسير الطبري "14/ 131"، روح المعاني "14/ 134".
2 تفسير الطبري "14/ 131 وما بعدها".
3 تفسير الطبري "17/ 136"، روح المعاني "17/ 172".
4 تاج العروس "2/ 478"، "قود".
القتل:
القتل نوعان: القتل العمد، والقتل الخطأ. وقد فرق الجاهليون بين النوعين
فالقتل الخطأ لا يمكن أن يكون في درجة القتل العمد. وقد قسم الفقهاء في الإسلام القتل إلى خمسة أقسام: قتل العمد، وقتل شبيه العمد، وقتل الخطأ، وقتل قائم مقام الخطأ، وقتل بسبب1.
وقد نص على القصاص، أي: على وجوب قتل القاتل ومعاقبة الجاني بنوع جنايته، بمعاقبته بنفس الفعل الذي فعله بالمجني عليه في بعض الكتابات الجاهلية، ومن هذا القبيل وجوب قتل القاتل؛ لأنه أزهق نفسًا بشرية، وعقوبة من يزهق الناس ويقضي على حياة إنسان إزهاق روحه، أي: قتله قصاصًا لما جنته يده بحق إنسان مثله.
والقتل العمد، يقاص بالقتل، وهو أن يطلب أهل القتيل من أهل القاتل تسليمه إليهم لقتله: ويقال لذلك "القَوَد" وبذلك يغسل دم القتيل. والقاعدة القانونية عند الجاهليين أن "الدم لا يغسل إلا بالدم". فهو تطبيق قاعدة القصاص.
وإذا كان القاتل من بيت دون بيت القتيل، فإن أهل القتيل لا يكتفون في كثير من الأحايين بالقَوَد، أي: بقتل القاتل، ولكن يطلبون قتل شخص آخر مع القاتل، أي: قتل شخصين في مكان القتيل وقد لا يقبلون بهذا الحل أيضًا لاعتقادهم بأن الرجلين مع ذلك دون القتيل في المنزلة وفي الكفاءة، فيعمدون هم أنفسهم إلى الأخذ بثأر القتيل، وذلك باستعراضهم فيما بينهم رجال قبيلة القاتل، لاختيار رجل يقتلونه يرون أنه في منزلة القتيل، فإن اختاروه ووجدوه، والغالب أنهم يختارون جملة رجال، أرسلوا من يغتال ذلك الشخص المسكين الذي وقع اختيارهم عليه لقتله فيغتالونه ليكون كبش الفداء عن القتيل.
ويقال للقتيل "هرج""هرك" في اللهجة القتبانية، وقد وردت في القوانين القتبانية بصورة تعبر عن "القتل" عامة دون تعيين نوعه، كما في اللغة العبرانية، حيث تؤدي لفظة "هرك""هرج" فيها هذا المعنى2. والظاهر أن المشرع وضع تقدير "القتل" إذا كان قتلًا عمدًا أو قتلًا خطأ إلى اجتهاد "الملك" الذي هو "الحاكم" الأعلى وإلى من وُكِّل إليهم أمر القضاء بين الناس.
1 راجع كتب الحديث والفقه في باب القتل.
2 A. Grohmann، Arabien، S. 132
ولكن هذا لا يعني أن القتبانيين أو غيرهم من العرب الجنوبيين، لم يكونوا يفرقون بين القتل العمد والقتل الخطأ، أي: القتل الذي يقع دون عمد ولا تحضير سابق ولا تفكير فيه. فقد كانوا يفرقون بين أنواع القتل ويحاسبون القاتل على هذا الأساس. وقد كانت كل القوانين في ذلك العهد تفرق أيضًا في أنواع القتل، فتجعل القتل الخطأ دون القتل العمد في الدرجة وفي الحكم المترتب عليه.
ويعبر عن القتل في اللحيانية بلفظة "خلس""خليس" أيضًا. وقد ورد في بعض الكتابات اللحيانية أن فلانًا قتل فلان، وقد حددت بضع الكتابات الوقت الذي تم فيه القتل1. ويعبر عن القتل بلفظة "قتل" كذلك، وعن المقتول بلفظة "همقتل"، أي: القتيل2.
وعثر على نص قتباني، هو قانون في تحديد عقوبة القتل والقاتل جاء فيه: أي شخص يقتل شخصًا وكان من شعب قتبان أو من قبائل تابعة أو محالفة لها يعاقب بعقوبة القتل، إلا إذا قرر الملك عقوبة أخرى مستمدة من شريعة "تمنع، وعلان، وصيرم"3. ويقصد بشريعة "تمنع، وعلان، وصيرم" العرف المتبع عند أهل "تمنع"، أي: العاصمة، وعند جماعة "وعلان" وعند أهل "صيرم". فللملك أن يعاقب بالعقوبات المقررة عند هؤلاء، إذا لم يقرر الأخذ بمبدأ القصاص.
وقد استثنى القانون المذكور قتلة القتلة الفارين من تطبيق عقوبة القتل أو العقوبات التبعية الأخرى عليهم، إذا كان قتلهم في أثناء فرارهم وعصيانهم حكم الملك، أو حكم من خوله "الملك" تطبيق "العدالة" بين الناس. فإذا فرَّ قاتل، وأبى تطبيق ما صدر من حكم عليه، وقتل وهو في هذه الحالة، لم يحاسب القاتل على قتله له، ولا يعاقب بأية عقوبة من أجل ما قام به من قتله إنسانًا آخر. والظاهر أن المشرع القتباني قد أخذ بالظروف المحلية التي كانت سائدة إذ ذاك، من سهولة هرب القتلة وتهديدهم الأمن والنظام، فلم يعاقب قتلتهم بأية عقوبة، وذلك ليقضي على القتلة العصاة وليخيفهم وليخيف الطائشين من الإقدام
1 راجع النصوص رقم: 79 و80، و86 في كتاب: W. Caskel
2 راجع النص رقم 31 في كتاب: W. Caskel، S. 92
3 Glaser 1397، Se 80، Arabien، S. 132، Rep. Epigr، 3878، Iv، Ii، P.330، Rhodokanakis، Die Inschriften Kohlan، S. 14، Glaser 1394، 1401، 1416، 1400، 1606، 1607، 1608، Wzkm، 31، 1924، 22، Glaser 1397
على جرائم القتل. ولعله نظر إلى القاتل نظرته إلى إنسان مجرم لا قيمة له في الحياة؛ لأنه شرير مؤذ، لذلك لم يفكر في مؤاخذة قاتل شخص على هذا النحو على عقوبته هذه.
وجاء في القانون المذكور أن من يرتكب جرمًا أو يعمل عملًا مخلًّا بالأمن، أو يعرقل تنفيذ أوامر الملك لتعطيلها وإيقافها، سواء كانت معلنة أو غير معلنة، ثم فرَّ وقتل فلا يؤاخذ قاتله على قتله، ولا تؤخذ دية دمه منه1.
وقد افتتح النص ونشر باسم الملك الذي أصدره، وهو الملك "يدع أب ذبيان بن شهر" ملك قتبان. وباسم "مزود" قتبان، أي: ملأ قتبان، أصحاب الرأي والمشورة، وباسم "فقضت" و"بتل" قتبان وباسم "ردمان" و"املك""أملوك""الأملوك"، و"مضحيم""مضحي" و"يحر" و"بكلم""بكيل"، وباسم القبائل الأخرى الخاضعة لحكم الملك2. واختتم بجملة:"وتعلماي وشهد وتعلماي أيدي". وهي جملة تعني: ووقع الملك على الوثيقة بيده وأمر بإعلانها، وشهد على ذلك ووقع عليها المذكورون من الملأ أعضاء المزود، ومن السادات أصحاب المشورة والرأي وقد ذكرت أسماؤهم بعد اسم الملك؛ لأنهم وافقوا عليها وصادقوا على تشريعها، وبتصديق الملك وأشراف مملكته وأعضاء "المزود" على القوانين تكتسب صفة قانونية، ويجب تطبيقها عندئذ3.
وتدخل جريمة الانتفاضة على السلطان، أي: الثورة في جملة الجرائم التي يعاقب القائم بها بعقوبة القتل. إلا إذا عفا السلطان عن فاعلها. وقد جاء في نص سبئي أن أحد سادات القبائل ثار على الملك، ثم عفا الملك عنه. فذهب إلى المعبد وتوسل إلى إله "سبأ" أن يغفر له ذنبه. فأمر عندئذ بتقديم جارية إلى معبد "المقه" إله سبأ، تكفيرًا عما قام به من ذنب تجاه سيده، وأن يتوب عما فعل من إثم4. وهناك أمثلة أخرى من هذا القبيل5
1 الفقرة السادسة وما بعدها من النص.
2 راجع الفقرة الأولى وما بعدها من النص.
3 راجع الفقرة "13 وما بعدها" من النص.
4 G. Ryckmans، Inscriptions Sud-Arabes، Iii، Le Museon، 48، 1935، 164، Ff
5 Glaser 891، Cih 398، Arabien، S. 134
وقد أخذت أعراف وعادات الأعراب بمبدأ حق "ولي الدم" في أخذ حق "الدم"، وذلك بالقود أو بأخذ الثأر أو بأخذ الدية. وبهذا المبدأ عمل أهل المدر أيضًا. ولكن نظرًا لوجود اختلاف في طبيعة الحياة الاجتماعية عند العرب المستقرين، فقد تساهل هؤلاء بعض التساهل في موضوع حق "الأخذ بالثأر"، بينما تشدد الأعراب فيه، واعتبروا القعود عنه ضعة وخسة، وقبول الدية سبّة تنتقل من جيل إلى الجيل الذي يليه، وهي لا تمحى إلا بغسلها بالأخذ بالثأر، فإن الدم لا يغسل إلا بالدم. وبذلك نجد مبدأ حق معاقبة القاتل في أيدي أصحاب القتيل في قانون الأعراب، أي: أهل الوبر.
أما بالنسبة إلى العرب الجنوبيين، فإننا لا نستطيع أن نتحدث عن آرائهم القانونية عن "حق ولي الدم"، وعن الأخذ بـ"حق الدم" بصورة عامة شاملة، وذلك لعدم ورود نصوص فقهية عديدة في هذا الموضوع. ولكننا إذا أخذنا بنظرية القياس، وقسنا حكم المعينيين والسبئيين والحضارمة على حكم القتبانيين بالنسبة إلى "حق ولي الدم"، فإننا لا نستطيع أن نقول إن وجهة نظر العرب الجنوبيين بالنسبة إلى هذا الحق تختلف عن وجهة نظر العرب الشماليين بالنسبة إليه.
فقد أخذ القانون القتباني بمبدأ حصر هذا الحق بالملك إذ جعله هو وحده الذي يقرر نوع العقوبة التي يمكن إنزالها في القاتل. فهو الذي يأمر بالقصاص، أي: بقتل القاتل، أو بفرض الدية. ويقابل "الملك" ما يقال له:"السلطان" في الفقه الإسلامي، أي: الرئيس الأعلى للدولة أو من يقوم مقامه من المخولين بالنظر في تنفيذ القوانين والأحكام. فالدولة إذن هي المسئولة وحدها عن أخذ حق القتيل من القاتل، لا "ولي الدم". وليس لولي أمر القتيل أن يتصرف من عنده لأخذ حق الدم من سافكه. وتتفق وجهة نظر الحكومة القتبانية هذه مع وجهة نظر "القوانين الرومانية" التي دونت في أوائل القرن السادس للميلاد، ومع التشريع المدني الحديث الذي يجعل أمر تنفيذ القوانين وتطبيقها وتشريعها حق من حقوق الدولة ومن الأمور التي تخص سيادتها وكيانها1.
1 A. Grohmann، Arabien، S. 133