الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلِهَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّهُ كَتَّانٌ فَبَانَ قُطْنًا (أَوْ عَكْسَهُ) فَالْأَصَحُّ فَسَادُ الْعِوَضِ لِمَا (ذَكَرْنَاهُ) فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَالَعَ عَلَى عَبْدٍ فَقَبَضَ أَمَةً قَالَ الرَّافِعِيُّ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: لَوْ بَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ كَتَّانٌ فَبَانَ قُطْنًا فَسَدَ الْبَيْعُ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْمُصَحِّحَ لِلْعِوَضِ يُصَحِّحُ صُورَةَ الْبَيْعِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ.
وَلَوْ رَدَّ الْعَقْدَ فِي الصَّرْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ، وَخَرَّجَ أَحَدُهُمَا نُحَاسًا بَطَلَ الْعَقْدُ، وَقِيلَ لَا تَغْلِيبًا لِلْإِشَارَةِ، وَيَحْتَاجُ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا (إذَا) اشْتَرَى زُجَاجَةً ظَنَّهَا جَوْهَرَةً يَصِحُّ وَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الْجِهَةِ فَلَا يَضُرُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ، فِيمَا إذَا قَالَ أَنْتَ أَعْتَقْت هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْكَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ وَذَكَرَ فِي بَابِ الْعَارِيَّةِ فِيمَا إذَا قَالَ الرَّاكِبُ أَعَرْتنِي هَذِهِ الدَّابَّةَ، وَقَالَ الْمَالِكُ (غَصَبْتهَا) خَرَّجَهُ الْبَغَوِيّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْجِهَةِ، وَقَالَ الْإِمَامُ لَا يُخَرَّجُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مُتَّحِدَةٌ، وَلَا أَثَرَ لِلِاخْتِلَافِ فِي الْجِهَةِ مَعَ اتِّحَادِ الْعَيْنِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ عَنْ ضَمَانٍ فَقَالَ الْمُقِرُّ لَهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لَزِمَهُ فِي الْأَصَحِّ وَاخْتِلَافُ الْجِهَةِ لَا يَمْنَعُ (الْأَخْذَ) ، لَكِنَّ الرَّافِعِيَّ صَحَّحَ فِيمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدٌ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، وَآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ عَنْ قَرْضٍ عَدَمَ اللُّزُومِ وَبَنَاهُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ، وَهُوَ بِنَاءٌ لَا يَصِحُّ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ فِي صُورَةِ الشَّهَادَةِ عَدَمُ تَوَارُدِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ.
[الْخِلَافُ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَبَاحِثُ]
ُ الْأَوَّلُ: يُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِاجْتِنَابِ مَا اُخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِهِ وَفِعْلِ مَا اُخْتُلِفَ فِي
وُجُوبِهِ، إنْ قُلْنَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُصِيبُ، وَكَذَا إنْ قُلْنَا إنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا كَانَ يُجَوِّزُ خِلَافَ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَنَظَرَ فِي مُتَمَسِّكِ مُخَالِفِهِ، فَرَأَى لَهُ مَوْقِعًا، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاعِيَهُ عَلَى وَجْهٍ، وَكَذَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُجْتَهِدَيْنِ، إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا إمَامًا لِمَا فِي الْمُخَالَفَةِ مِنْ الْخُرُوجِ (عَلَى) الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) أَنَّهُ عَابَ عَلَى عُثْمَانَ (رضي الله عنه) صَلَاتَهُ بِمِنًى أَرْبَعًا وَصَلَّى مَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الْخِلَافُ شَرٌّ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْقَوَاعِدِ أَطْلَقَ بَعْضُ أَكَابِرِ الْأَصْحَابِ، قِيلَ وَيَعْنِي بِهِ (ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلَافِ حَيْثُ وَقَعَ أَفْضَلُ مِنْ التَّوَرُّطِ فِيهِ، وَلَيْسَ كَمَا أَطْلَقَهُ، بَلْ الْخِلَافُ أَقْسَامٌ.
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فَالْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ (بِالِاجْتِنَابِ) أَفْضَلُ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَالْإِيجَابِ، فَالْفِعْلُ أَفْضَلُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي الشَّرْعِيَّةِ، كَقِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي الْفَاتِحَةِ، فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ (رحمه الله) وَاجِبَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (رحمه الله) ، (وَكَذَلِكَ صَلَاةُ
الْكُسُوفِ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَنْقُولَةِ فِي الْحَدِيثِ) ، فَإِنَّهَا سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (رحمه الله) وَأَنْكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ " رضي الله عنه "، " فَالْفِعْلُ أَفْضَلُ ".
قَالَ وَالضَّابِطُ أَنَّ مَأْخَذَ الْخِلَافِ، إنْ كَانَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، فَلَا نَظَرَ إلَيْهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مِمَّا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ تَقَارَبَتْ الْأَدِلَّةُ، بِحَيْثُ لَا يَبْعُدُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ كُلَّ الْبُعْدِ، فَهَذَا مِمَّا يُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ مِنْهُ حَذَرًا مِنْ كَوْنِ الصَّوَابِ مَعَ الْخَصْمِ انْتَهَى.
قُلْت: لِمُرَاعَاتِهِ شُرُوطٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُ الْمُخَالِفِ قَوِيًّا، فَإِنْ كَانَ وَاهِيًا لَمْ " يُرَاعَ " - كَالرِّوَايَةِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ " رضي الله عنه " فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ أَنْكَرَهَا وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا لَا يَصِحُّ لَهَا مُسْتَنَدٌ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مُعَارِضَةٌ
لَهَا، وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ " عَطَاءٍ " مِنْ إبَاحَةِ وَطْءِ الْجَوَارِي بِالْعَارِيَّةِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الرَّافِعِيِّ: إنَّمَا وَجَبَ الْحَدُّ، "؛ لِأَنَّهُمْ " لَمْ يُصَحِّحُوا النَّقْلَ عَنْهُ " فَإِنَّا " نَقُولُ وَلَوْ صَحَّ فَشُبْهَتُهُ " ضَعِيفَةٌ، لَا أَثَرَ لَهَا "، فَإِنَّ الْأَبْضَاعَ لَا تُبَاحُ بِالْإِذْنِ، كَمَا فِي بِضْعِ الْحُرَّةِ فَصَارَ كَشُبْهَةِ الْحَنَفِيِّ فِي النَّبِيذِ، فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لَهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَذَاهِبِ السَّالِفَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا أَوْ فِي مَذْهَبِنَا كَخِلَافِ الْإِصْطَخْرِيِّ فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَقَوْلُهُ إنَّمَا حُرِّمَ لِقُرْبِ عَهْدِ النَّاسِ " بِالْأَصْنَامِ ".
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْقَفَّالِ مُرَاعَاةُ الْخِلَافِ، وَأَنَّ ضَعْفَ الْمَأْخَذِ إذَا كَانَ فِيهِ احْتِيَاطٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَتَاوِيهِ، إذَا نَقَصَ " مِنْ "" الْقُلَّتَانِ " شَيْءٌ يَسِيرٌ " وَوَقَعَ فِيهِمَا " نَجَاسَةٌ، قَالَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ يَقُولُ الْقُلَّتَيْنِ خَمْسُمِائَةِ " رَطْلٍ " تَحْدِيدًا، فَإِذَا نَقَصَ شَيْءٌ وَوَقَعَ فِيهَا نَجَسٌ تَأَثَّرَتْ وَحِينَئِذٍ يَتَيَمَّمُ ثُمَّ يَقْضِي بِنَاءً عَلَى الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَثَّرُ بِالنَّجَاسَةِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى اسْتِحْبَابَ الْإِعَادَةِ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ.
وَقَالَ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ يُسْتَحَبُّ " التَّحْجِيلُ " فِي
التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ " الْأَزْهَرِيِّ "، مَسْحَ جَمِيعِ " الْيَدِ " وَاجِبٌ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ عَنْ الْخِلَافِ، هَذَا مَعَ ثُبُوتِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِالِاقْتِصَادِ عَلَى الْكَفَّيْنِ.
الثَّانِي: أَنْ لَا تُؤَدِّيَ مُرَاعَاتُهُ إلَى خَرْقِ الْإِجْمَاعِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ أُذُنَيْهِ مَعَ الْوَجْهِ وَيَمْسَحُهُمَا مَعَ الرَّأْسِ وَيُفْرِدُهُمَا بِالْغَسْلِ مُرَاعَاةً لِمَنْ قَالَ إنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ أَوْ الرَّأْسِ أَوْ عُضْوَانِ مُسْتَقِلَّانِ فَوَقَعَ فِي خِلَافِ الْإِجْمَاعِ، " إذْ " لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِالْجَمْعِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ مَنْ غَلَّطَهُ فِي ذَلِكَ فَغَالَطَ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ " رحمه الله " وَالْأَصْحَابَ اسْتَحَبُّوا غَسْلَ " النَّزْعَتَيْنِ " مَعَ الْوَجْهِ مَعَ أَنَّهُمَا يُمْسَحَانِ فِي الرَّأْسِ أَيْ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ قَالَ هُمَا مِنْ الْوَجْهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ " بِوُجُوبِ " غَسْلِهِمَا وَمَسْحِهِمَا، وَمَعَ ذَلِكَ اسْتَحَبُّوهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ مُمْكِنًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلَا يُتْرَكُ الرَّاجِحُ
عِنْدَ مُعْتَقَدِهِ لِمُرَاعَاةِ الْمَرْجُوحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عُدُولٌ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ اتِّبَاعِ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ قَطْعًا.
وَمِثَالُهُ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ " رضي الله عنه " فِي اشْتِرَاطِ الْمِصْرِ الْجَامِعِ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ، لَا يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ أَهْلَ الْقُرَى إذَا بَلَغَتْ الْعَدَدَ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ لَزِمَتْهُمْ، وَلَا " يَجْزِيهِمْ " الظُّهْرُ فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَمِثْلُهَا أَيْضًا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا إنَّ مَنْ تَقَدَّمَ الْإِمَامَ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ إعَادَتُهَا، فَإِنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا الْوَجْهِ، لَا يُمْكِنُ مَعَهُ مُرَاعَاةُ الْقَائِلِ بِأَنَّ تَكْرَارَ الْفَاتِحَةِ مَرَّتَيْنِ مُبْطِلٌ، إلَّا أَنْ يَخُصَّ الْبُطْلَانَ بِغَيْرِ " الْعُذْرِ ".
" وَمِثْلُهَا " أَيْضًا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ " رضي الله عنه " أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ مَصِيرُ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ، وَقَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّ هَذَا آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ مُطْلَقًا وَيَصِيرُ بَعْدَهُ قَضَاءٌ، وَإِنْ كَانَ هَذَا وَجْهًا ضَعِيفًا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ مِنْ خِلَافِهِمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ الصُّبْحُ، فَإِنَّ عِنْدَ الْإِصْطَخْرِيِّ " أَنْ " يَخْرُجَ وَقْتُ الْجَوَازِ بِالْأَسْفَارِ وَذَلِكَ الْوَقْتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ " رضي الله عنه " هُوَ الْأَفْضَلُ قُلْت يُمْكِنُ " بِفِعْلِهَا " مَرَّتَيْنِ فِي الْوَقْتَيْنِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَضْعُفُ الْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ، إذَا أَدَّى " الْمَنْعَ " مِنْ الْعِبَادَةِ لِقَوْلِ الْمُخَالِفِ بِالْكَرَاهَةِ أَوْ الْمَنْعِ كَالْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِ
مَالِكٍ إنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَتَكَرَّرُ فِي السَّنَةِ، وَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ " رضي الله عنه " إنَّهَا تُكْرَهُ " لِلْمُقِيمِ بِمَكَّةَ " فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَيْسَ التَّمَتُّعُ مَشْرُوعًا لَهُ وَرُبَّمَا قَالُوا إنَّهَا تُحَرَّمُ فَلَا يَنْبَغِي لِلشَّافِعِيِّ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ، لِضَعْفِ مَأْخَذِ الْقَوْلَيْنِ، وَلِمَا يُفَوِّتُهُ مِنْ كَثْرَةِ الِاعْتِمَارِ، وَهُوَ مِنْ الْقُرُبَاتِ الْفَاضِلَةِ.
أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَيَنْبَغِي الْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ تَعَبُّدٍ كَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِنْشَاقُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ مِنْ وُلُوغِ كَلْبٍ ثَمَانِي مَرَّاتٍ وَالْغَسْلُ مِنْ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ ثَلَاثًا " لِخِلَافِ " أَبِي حَنِيفَةَ " رضي الله عنه " وَسَبْعًا لِخِلَافِ أَحْمَدَ، وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِخِلَافِ أَحْمَدَ فِي وُجُوبِهَا، وَالتَّبْيِيتُ فِي نِيَّةِ صَوْمِ النَّفْلِ فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ " رحمه الله " وُجُوبُهُ، وَإِتْيَانُ الْقَارِنِ بِطَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ مُرَاعَاةً لِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ " رحمه الله "، وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ؛ لِأَنَّ مَالِكًا (رحمه الله) يُوجِبُهَا وَكَذَلِكَ التَّنَزُّهُ عَنْ بَيْعِ الْعِينَةِ وَنَحْوُهُ " مِنْ " الْعُقُودِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا.
وَأَصْلُ هَذَا الِاحْتِيَاطِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " رضي الله عنه " فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ: فَأَمَّا أَنَا فَأُحِبُّ أَنْ لَا أَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ احْتِيَاطًا عَلَى نَفْسِي.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ أَفْتَى بِمَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عِنْدَهُ عَلَيْهِ أَيْ مِنْ مَرْحَلَتَيْنِ ثُمَّ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ اخْتِيَارًا لَهَا، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَرَادَ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ " رضي الله عنه " وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي
الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمَرِيضِ الْقَاعِدِ قَائِمًا الْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ صَحِيحًا يُصَلِّي بِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ وَكَقَوْلِهِ إذَا حَلَفَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُكَفِّرَ بِالْمَالِ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ وَقَدْ أُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ شَرَطَ لِلْقَصْرِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ فَكَانَ يَنْبَغِي اعْتِبَارُهُ وَالْجَوَابُ ضَعْفُ دَلِيلَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا وَقُوَّةُ دَلِيلِهَا.
وَمِنْ هُنَا كَانَ الصَّوْمُ أَفْضَلَ لِلْمُسَافِرِ إنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ " بِهِ " وَإِنْ كَانَتْ الظَّاهِرِيَّةُ لَا يَرَوْنَهُ جَائِزًا إذْ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُمْ فِيمَا ضَعُفَ مَأْخَذُهُ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ إنَّ الشَّافِعِيَّ " رضي الله عنه " اعْتَبَرَ خِلَافَ " دَاوُد " فِي الْكِتَابَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ فَقَدْ " غَلَّطَهُ " فِيهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ فَإِنَّ دَاوُد لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ الشَّافِعِيِّ " رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ".
قُلْت: إنَّمَا أَرَادَ دَاوُد بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارَ " " أَحَدَ أَشْيَاخِ " الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ " رحمه الله " سَمِعْت ذَلِكَ " عَنْ " بَعْضِ الْأَشْيَاخِ.
سُؤَالٌ: " لِمَ اعْتَبَرْتُمْ " الْخِلَافَ وَإِنْ وَهِيَ عَلَى رَأْيٍ ضَعِيفٍ فِي مَسْأَلَةِ عَطَاءٍ فِي
إبَاحَةِ الْجَوَارِي فَلَمْ تُوجِبُوا الْحَدَّ عَلَى وَجْهٍ وَلَمْ تَعْتَبِرُوا خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ " رضي الله عنه " فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ بَلْ أَوْجَبْتُمْ الْقِصَاصَ جَزْمًا فَهَلَّا أَجْرَيْتُمْ خِلَافًا كَمَا أَجْرَيْتُمْ فِي مَسْأَلَةِ عَطَاءٍ وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَأَجَابَ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ بِأَنَّ عَطَاءً أَجَلُّ مِنْ الْمُخَالِفِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُثْقَلِ فَمِنْ ثَمَّ اُعْتُبِرَ عَلَى رَأْيٍ وَإِنْ ضَعُفَ وَهَذَا جِوَابُ بِالْجَاهِ فَإِنَّا لَا نَنْظُرُ إلَى الْقَائِلِينَ وَإِنَّمَا نَنْظُرُ إلَى الْأَقْوَالِ وَمَآخِذِهَا.
" وَإِنَّمَا الْجَوَابُ " أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ " رحمه الله " لَمْ يَقُلْ بِحِلِّ قَتْلِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالْمُثْقَلِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُ عَظِيمٌ مِنْ الْوِزْرِ وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِهِ وَعَطَاءٌ أَبَاحَ الْجَوَارِي بِالْعَارِيَّةِ فَلَوْ أَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ " رحمه الله " فِي الْمُثْقَلِ مَا أَبَاحَهُ عَطَاءٌ فِي الْجَوَارِي لَرُوعِيَ خِلَافُهُ وَإِنَّمَا هُوَ مُوَافِقٌ لَنَا عَلَى التَّحْرِيمِ وَمَنْ عَلِمَ حُرْمَةَ شَيْءٍ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ لَمْ يَنْفَعْهُ جَهْلٌ بِالْحَدِّ بِخِلَافِ مَنْ جَهِلَ الْحُرْمَةَ أَوْ يُنَازِعُ فِيهَا.
فَائِدَةٌ قَالُوا يَجِبُ الْحَدُّ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ إنْ صَحَّ رُجُوعُ " ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "
لِحُصُولِ الْإِجْمَاعِ وَاسْتَشْكَلَهُ الرَّافِعِيُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ " زُفَرَ "" رحمه الله " أَنَّهُ أَلْغَى التَّأْقِيتَ وَصَحَّحَ النِّكَاحَ مُؤَبَّدًا فَيَسْقُطُ الْحَدُّ لِذَلِكَ وَيُعَضِّدُهُ أَنَّهُ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ السَّلَفِ " رضي الله عنهم " وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ الرُّجُوعُ فَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْ رُجُوعَ ابْنِ عَبَّاسٍ " رضي الله عنهما " فَقَدْ أَجْمَعُوا بَعْدَهُ عَلَى بُطْلَانِهَا.
فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ اتَّفَقَ مَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ (وَجَبَ) الْحَدُّ وَإِلَّا فَلَا كَالْوَطْءِ فِي سَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَقَدْ يُقَالُ فِي الْجَزْمِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ مُحَقَّقٌ وَإِنْ ادَّعَى الْأَوَّلُ نَفْيَهُ.
وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ إذَا أَذِنَ " الرَّاهِنُ " لِلْمُرْتَهِنِ فِي وَطْءِ الْمَرْهُونَةِ فَوَطِئَهَا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ قِيلَ لَا يُحَدُّ لِخِلَافِ عَطَاءٍ.
وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ فَقِيلَ إنَّ هَذَا يَبْطُلُ " بِنِكَاحِ " الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالْوَطْءِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ قَائِلٌ الْيَوْمَ فَقَالَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِهِ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِ الْخِلَافِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالْأَخْبَارُ فِيهِ كَثِيرَةٌ بِخِلَافِ هَذَا.
قِيلَ لَهُ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَبَيْنَ شُرْبِ الْمُسْكِرِ حَيْثُ أُوجِبَ الْحَدُّ هُنَاكَ وَلَمْ يُوجَبْ هَا هُنَا فَقَالَ:؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ
هُنَاكَ وَقَعَ فِي الْحَدِّ، وَالْخِلَافُ فِي الْحَدِّ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ كَمَا أَنَّ الْخِلَافَ فِي الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ وَلَا نَظَرَ إلَى الْخِلَافِ كَذَا هَا هُنَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَقَعَ فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ الْوَطْءِ وَفِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ قِيلَ لَهُ وَكَذَلِكَ هَا هُنَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ شُرْبَهُ مُبَاحٌ أَمْ لَا فَعِنْدَنَا لَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ " رحمه الله " مُبَاحٌ، فَلَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ بِشَيْءٍ.
وَكَتَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ دُوَيْرٌ الْكَرْخِيُّ عَلَى الْحَاشِيَةِ جَوَابًا عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ فَقَالَ: حَدُّ الْخَمْرِ لِلْجِنَايَةِ عَلَى الْعَقْلِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمَفَاسِدِ وَالْقَلِيلُ يَدْعُو إلَى الْكَثْرَةِ الْمُفْسِدَةِ فَزُجِرَ عَنْهُ تَأْكِيدًا وَهُوَ أَمْرٌ حِسِّيٌّ كَمَا فِي الْخَمْرِ وَحَدُّ الزِّنَى لِإِفْسَادِ الْفَرْشِ فِي مَوْضِعِ " إتْيَانِ " الْأَمَةِ وَذَلِكَ حُكْمٌ لَمْ يَثْبُتْ هَا هُنَا مَعَ إجَازَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ بِالدَّلِيلِ فَلِذَلِكَ " سَقَطَ "" وَلِهَذَا " لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ.
الثَّانِي: إذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ شَيْءٍ فَأَتَى بِهِ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ احْتِيَاطًا كَالْحَنَفِيِّ يَنْوِي فِي الْوُضُوءِ وَيُبَسْمِلُ فِي الصَّلَاةِ فَهَلْ يَخْرُجُ مِنْ الْخِلَافِ وَتَصِيرُ الْعِبَادَةُ مِنْهُ صَحِيحَةً بِالْإِجْمَاعِ؟ قَالَ " الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ " لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَأْتِ بِهِ عَلَى اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ، وَمَنْ اقْتَدَى بِهِ " مِمَّنْ يُخَالِفُهُ " لَا تَكُونُ صَلَاتُهُ صَحِيحَةً بِالْإِجْمَاعِ وَقَالَ الْجُمْهُورُ بَلْ يَخْرُجُ لِأَجَلِ وُجُودِ الْفِعْلِ وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ حَنَفِيٌّ هَذَا حَالُهُ وَآخَرُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الثَّانِي أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِالْأَوَّلِ عَنْ الْخِلَافِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَوْ قَلَّدَ فِيهِ " فَكَذَلِكَ " لِلْخِلَافِ فِي امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ.
فَإِنْ قِيلَ هَلْ مِنْ طَرِيقٍ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ. قُلْت قَدْ عَلِمْت أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ إيجَابِهِ لَا يَكْفِي عَلَى رَأْيٍ، وَتَقْلِيدُ مَنْ يَرَى الْوُجُوبَ " فِيهِ " وَاعْتِقَادَ " حَقِيقَتِهِ " لَا يَكْفِي أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَذَاهِبِ خِلَافٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّرَ فِعْلَ ذَلِكَ لِيَقَعَ وَاجِبًا وَلَوْ مَسَحَ الشَّافِعِيُّ جَمِيعَ رَأْسِهِ فِي الْوُضُوءِ وَصَلَّى خَلْفَهُ الْمَالِكِيُّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْخِلَافِ وَلَا يَجْرِي فِيهِ خِلَافُ أَبِي إِسْحَاقَ لِأَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا مَسَحَ الْجَمِيعَ يَقَعُ وَاجِبًا عَلَى رَأْيٍ عِنْدَنَا.
الثَّانِي: أَنَّ " الْإِمَامَ " الشَّافِعِيَّ " رضي الله عنه "" بَدَأَ " فِي " نِيَّةِ " الْوُضُوءِ بِإِجْمَاعٍ وَهَذِهِ النِّيَّةُ اقْتَضَتْ عِنْدَ مَالِكٍ " رحمه الله، " وُجُوبَ مَسْحِ الرَّأْسِ فَوَقَعَ مَسْحُ
الرَّأْسِ بِنِيَّةٍ وَاجِبَةٍ؛ لِأَنَّ تَفْصِيلَ النِّيَّةِ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ " غَيْرُ " وَاجِبٍ لِدُخُولِهِ فِي النِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ فَظَهَرَ أَنَّهُ إذَا مَسَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ خَرَجَ مِنْ خِلَافِ مَالِكٍ " رحمه الله " وَإِنْ اعْتَقَدَ النَّدْبَ فِي مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ.
" نَعَمْ " يَنْبَغِي أَنْ يَمْسَحَ الْجَمِيعَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، فَإِنْ مَسَحَ بِنِيَّةِ النَّدْبِ كَانَ صَارِفًا عَنْ وُقُوعِهِ عَنْ الْإِيجَابِ عِنْدَ مَالِكٍ " رحمه الله ".
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْقَفَّالِ يَقْتَضِي مُوَافَقَةَ الْأُسْتَاذِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَتَاوِيهِ اخْتِيَارِي أَنْ أُوتِرَ بِرَكْعَةٍ. فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ وَيَكُونَ احْتِيَاطًا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ " رحمه الله " فِي الْقَصْرِ فِي " ثَلَاثٍ " قُلْنَا: هَذَا لَا يُشْبِهُ ذَاكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ وَقَعَدَ فِي " الثَّانِيَةِ " لِلتَّشَهُّدِ كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ " رحمه الله " لَا يَكُونُ ذَلِكَ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْوِي بِهِ التَّطَوُّعَ وَإِنْ اتَّفَقَ الْفِعْلَانِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ " رحمه الله " يُؤَدِّي الْوِتْرَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَإِنْ نَوَى بِتِلْكَ الصَّلَاةِ الْوِتْرَ فَقَطْ لَا يَكُونُ أَيْضًا خُرُوجًا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ وَإِنْ نَوَى الْوِتْرَ لَا يَكُونُ (تَامًّا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْخِلَافِ لِتَضَادِّ الِاعْتِقَادِ وَفِيمَا دُونَ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ الْإِتْمَامُ) أَوْلَى مِنْ الْقَصْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ، وَإِذَا بَلَغَ ثَلَاثَ مَرَاحِلَ حِينَئِذٍ نَأْمُرُهُ بِالْقَصْرِ فَيَنْتَقِلُ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ بِيَقِينٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْكَارَ مِنْ الْمُنْكِرِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا " اُجْتُمِعَ " عَلَيْهِ فَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَا إنْكَارَ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَلَا نَعْلَمُهُ، وَلَمْ يَزَلْ " الْخِلَافُ " بَيْنَ السَّلَفِ فِي الْفُرُوعِ وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا خَالَفَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا قَطْعِيًّا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا وَهَذَا إذَا كَانَ الْفَاعِلُ لَا يَرَى تَحْرِيمَهُ فَإِنْ كَانَ يَرَاهُ فَالْأَصَحُّ الْإِنْكَارُ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْوَلِيمَةِ.
فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ شَرِبَ الْحَنَفِيُّ النَّبِيذَ حَدَدْنَاهُ وَأَيُّ إنْكَارٍ أَعْظَمُ مِنْ الْحَدِّ، قُلْنَا: لِأَنَّ الْحَدَّ إلَى الْإِمَامِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ عَقِيدَتُهُ وَالْإِنْكَارُ " يَعْتَمِدُهُ " عَقِيدَةُ الْفَاعِلِ وَلِهَذَا لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ.
الرَّابِعُ: قَدْ يُرْتَكَبُ فِي الْمُنَاظَرَةِ الْخِلَافُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ وَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ فَلَا يَنْبَغِي نَقْلُهُ إلَّا إذَا تَحَقَّقَ اسْتِقْرَارُهُ عَلَيْهِ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَحْسُنْ نَقْلُ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَجْهًا فِي صَوْمِ النَّفْلِ بَعْدَ الْأَكْلِ قَبْلَ الزَّوَالِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ فَإِنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ " الْمُرَافَعَةِ "، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ نَقْلُهُ عَنْ " أَبِي يَعْقُوبَ الْأبِيوَرْدِيِّ " جَوَازَ طَوَافِ الْوَدَاعِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، قَالَ الْإِمَامُ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا
مِنْ حَيْثُ " إنَّهُ " أَلْزَمُ وَقِيلَ لَهُ: لَوْ جَازَ جَبْرُ طَوَافِ " الْوَدَاعِ بِالدَّمِ " لَجَازَ جَبْرُ الطَّهَارَةِ " بِهِ " كَالدَّمِ فَارْتَكَبَهُ، وَقَالَ يُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ الْجَبْرَ لِلطَّوَافِ لَا لِلطَّهَارَةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الْأَصْحَابِ إنَّ الْمَنْصُورَ فِي الْخِلَافِ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ طَلَاقٌ.
الْخَامِسُ: ذَكَرَ " ابْنُ هُبَيْرَةَ " فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ " قَدْ " يَتَعَذَّرُ الْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ، كَمَا فِي الْبَسْمَلَةِ فَإِنَّ الْجَهْرَ بِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ " رحمه الله " هُوَ السُّنَّةُ (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ " رحمه الله " وَأَحْمَدَ " رحمه الله " الْإِسْرَارُ هُوَ السُّنَّةُ) ، وَعِنْدَ مَالِكٍ " رحمه الله " التَّرْكُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ يُقَالُ إذَا كَانَ الْمَنْعُ مَعَ الْأَكْثَرِ كَانَ هُوَ الْأَوْلَى، هَذَا فِي الْمُقَلِّدِ، فَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَمَعَ اجْتِهَادِهِ، قَالَ: عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْيَوْمَ لَا يُتَصَوَّرُ لِاجْتِهَادِهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَدْ تَحَرَّرَتْ فِي الْمَذَاهِبِ ثَمَرَةٌ؛ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ " رحمهم الله " الْمُتَقَدِّمِينَ قَدْ فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ وَأَتَوْا بِمَبَالِغِ الْأَقْسَامِ لَهَا فَلَا يُؤَدِّي اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ، إلَّا إلَى مِثْلِ مَذْهَبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ انْتَهَى.
وَمِنْ هَذَا " أَيْضًا " قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ قَدْ يَتَعَذَّرُ الْوَرَعُ عَلَى الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، كَمَا إذَا كَانَ لِيَتِيمٍ عَلَى يَتِيمٍ حَقٌّ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ، فَلَا " يُمْكِنُهُ " الصُّلْحُ هَا هُنَا " إذْ لَا " يَجُوزُ الْمُسَامَحَةُ بِمَالِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَى الْحَاكِمِ التَّوَرُّطُ فِي الْخِلَافِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ.
السَّادِسُ: إذَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي إيقَاعِ الْعِبَادَاتِ عَلَى أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ (رحمهم الله) مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ التَّرْجِيحِ بِاخْتِيَارِ " أَحَدِهِمَا "، وَهِيَ طَرِيقَةُ " الْإِمَامِ " الشَّافِعِيِّ " رحمه الله " غَالِبًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ الْجَمْعِ بِفِعْلِهَا فِي أَوْقَاتٍ وَيَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ مِنْ الْجِنْسِ الْمُبَاحِ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ: مِنْهَا " الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ "، وَرَجَّحَ الشَّافِعِيُّ " رحمه الله "" حَدِيثَ التَّوَجُّهِ " لِمُوَافَقَتِهِ لِلْقُرْآنِ.
وَمِنْهَا " أَحَادِيثُ التَّشَهُّدِ " وَرَجَّحَ " الْإِمَامُ " الشَّافِعِيُّ " رحمه الله " " أَحَادِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِمُوَافَقَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَحْدَثِ.
وَمِنْهَا كَيْفِيَّةُ قَبْضِ أَصَابِعِ الْيُمْنَى عَلَى الرُّكْبَةِ فِي التَّشَهُّدِ " فِيهِ أَوْجُهٌ " لِاخْتِلَافِ " الْأَحَادِيثِ "، " وَأَصَحُّهَا أَنَّهُ يَضَعُهَا تَحْتَ الْمِسْبَحَةِ، كَأَنَّهُ عَاقِدٌ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ: وَكَيْفَ مَا فَعَلَ مِنْ هَذِهِ الْهَيْئَاتِ،
فَقَدْ أَتَى بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ قَدْ وَرَدَتْ بِهَا جَمِيعًا وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصْنَعُ هَكَذَا مَرَّةً وَهَكَذَا مَرَّةً، كَذَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ وَنَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ.
وَمِنْهَا الْجَمْعُ فِي إجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ بَيْنَ الْحَيْعَلَةِ وَالْحَوْقَلَةِ عَمَلًا " بِحَدِيثِ التَّفْصِيلِ "" وَالْإِطْلَاقِ "، " لَكِنَّ " الْإِمَامَ " الشَّافِعِيَّ " رحمه الله " أَخَذَ بِحَدِيثِ التَّفْصِيلِ "؛ لِأَنَّهُ مُفَسِّرٌ مُبَيِّنٌ وَهُوَ قَاضٍ عَلَى " الْمُجْمَلِ "
وَمِنْهَا الْخِلَافُ فِي تَثْنِيَةِ الْأَذَانِ وَإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ نَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُبَاحِ، وَلَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ وَهَذَا قَوْلٌ " مُنْطَرِحٌ " بِإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَوْلَاهُ وَأَفْضَلِهِ وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ
ابْنِ خُزَيْمَةَ " نَحْوَ مَا قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ.
وَمِنْهَا الِاخْتِلَافُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ " وَبَعْدَهُ "، وَرَجَّحَ الشَّافِعِيُّ " رحمه الله " قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثُ الْأَمْرَيْنِ وَفِي مَوْضِعٍ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَحُمِلَ مَا قَبْلَهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِنَقْصٍ وَبَعْدَهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِزِيَادَةٍ وَحُمِلَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا صَلَاةُ الْخَوْفِ فِي الْأَنْوَاعِ الْمَشْهُورَةِ، وَنَزَّلَهَا الشَّافِعِيُّ " رحمه الله " عَلَى كَوْنِ الْعَدُوِّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ تَارَةً، وَعَلَى " مَا إذَا "" لَمْ يَكُنْ " أُخْرَى وَأَخَذَ فِي صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ " بِرِوَايَةِ سَهْلٍ " وَقَدَّمَهَا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ؛ لِأَنَّهَا أَحْوَطُ