الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الملك الناصر صاحب حماة
603 -
656هـ - 1206 - 1258م داود بن عيسى بن محمد بن أيوب، السلطان الملك الناصر صلاح الدين، أبو المفاخر، وأبو المظفر بن السلطان الملك المعظم بن السلطان الملك العادل.
ولد بدمشق في جمادى الآخرة سنة ثلاث وستمائة. وتفقه على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه كما كان والده الملك المعظم. وبرع في الفقه، والعربية، والأدب، وصار معدوداً من الفضلاء. كل ذلك في أيام أبيه، وسمع ببغداد من القطيعي وغيره، وبالكرك من ابن اللتي. وأجاز له المؤيد
الطوسي، وأبو روح عبد العزيز. وحدث؛ سمع منه الحافظ شرف الدين عبد المؤمن الدمياطي، وذكره في معجمه، وكتب عنه قطعة من شعره. وتسلطن بعد موت والده وأخيه في سنة أربع وعشرين وستمائة، وأحبه أهل دمشق، ثم سار عمه الملك الكامل من الديار المصرية، ليأخذ دمشق منه فاستنجد بعمه الملك الأشرف موسى شاه أرمن فجاء لنصرته ونزل بالدهشة بدمشق، ثم تغير الأشرف عليه، ومال لأخيه الكامل، وأوهم الناصر هذا أنه يصلح قضيته؛ فاتفقا عليه، وحاصراه أربعة أشهر، وأخذا دمشق منه، وسار الملك الناصر إلى الكرك، وكانت لوالده، وأعطى معها الصلت، ونابلس، وعجلون، وأعمال القدس، وعقد نكاحه على بنت عمه الملك الكامل.
ثم إن الكامل تغير عليه؛ ففارق ابنته قبل الدخول.
ثم إن الملك الناصر هذا قصد الخليفة المستنصر بالله ببغداد، وقدم له تحفاً ونفائس، وسار إليه على البرية، ومعه فخر القضاة ابن بصاقة، وشمس الدين الخسر وشاهي، والخواص من مماليكه، وطلب الحضور بين يدي الخليفة كما فعل بصاحب إربل، فامتنع الخليفة؛ فنظم الناصر قصيدته التي أولها:
ودانٍ ألمت بالكثيب ذوائبه
…
وجنح الدجى وحف تجول غياهبه
وهي طويلة جداً.
فلما وقف الخليفة عليها أعجبته كثيراً، فاستدعاه سراً، بعد شطرٍ من الليل؛ فدخل من باب السر إلى إيوان فيه ستر مضروب؛ فقبَّل الأرض؛ فأُمر بالجلوس، وجعل الخليفة يحدثه ويؤنسه. ثم أمر الخدام فرفعوا الستر؛ فقبَّل الأرض، ثم قبل يده، ثم أمره بالجلوس؛ فجلس وجاراه في أنواع من العلوم وأساليب الشعر، ثم أخرجه ليلاً، وأخلع عليه خلعة سنية، وعمامة مذهبة سوداء وجبة سوداء مذهبة.
وخلع على أصحابه ومماليكه خلعاً جليلة، وأعطاه مالاً جزيلاً، وبعث في خدمته رسولاً مشربشاً من أكابر خواصه إلى الملك الكامل يشفع في الناصر المذكور، وفي إخلاص النية له، وإبقاء مملكته عليه.
وخرج الملك الكامل إلى تلقيهما إلى القصير، وأقبل على الناصر إقبالاً كبيراً وجعل الناصر رنكه أسوداً، انتماءً للخليفة.
وكان الخليفة زاد في ألقابه: الولي المهاجر، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.
واستمر الناصر على ذلك إلى أن وقع بين الملك الكامل محمد وبين الملك الأشرف موسى، وأراد كل منهما أن يكون الناصر هذا معه؛ فمال إلى الكامل
وجاءه في الرسلية القاضي الأشرف بن الفاضل، وسار الناصر هذا إلى عمه الملك الكامل في تعظيمه.
ثم اتفق موت الكامل والأشرف والناصر المذكور بدمشق في دار أسامة، فتشوق إلى السلطنة؛ ولم يكن يومئذٍ أميز منه، ولو بذل المال؛ لحلفوا له. فتسلطن الملك الجواد، فخرج الناصر عن دمشق إلى القابون، ثم حشد كل واحد منهما، ووقع المصاف بين نابلس وجينين، فكسر الناصر، وأخذ الجواد خزائنه، وكانت على سبعمائة جمل، فافتقر الناصر، وأخذ أمره في انحطاط إلى أن ملك الملك الصالح نجم الدين أيوب دمشق، وسار لقصد مصر، جاء عمه الصالح إسماعيل وملك دمشق، فسحب جيش نجم الدين عنه، فجهز الناصر عسكراً من الكرك، فأمسكوه وأحضروه إلى الكرك، فاعتقله مكرماً عنده، وأخذ الناصر هذا بعد موت الكامل القلعة التي عمرها الفرنج بالقدس وطرد من بها من الفرنج.
وفي ذلك يقول الصاحب جمال الدين بن مطروح:
المسجد الأقصى له عادة
…
سارت فصارت مثلاً سائرا
إذا غدا للكفر مستوطناً
…
أن يبعث الله له ناصرا
فناصر طهَّره أولاً
…
وناصر طهَّره آخرا
حكي أنه لما وقعت المباينة بين الملك الكامل وبين أخيه الملك الأشرف، وعزما على القتال، وانضم إلى الملك الأشرف جميع ملوك الشام؛ وسير الملك الأشرف إلى الملك الناصر هذا يدعوه إلى موافقته، على أن يحضر إليه ليزوجه بابنته، ويجعله ولي عهده، ويملِّكه البلاد بعده. ثم بعث الملك الكامل أيضاً إلى الناصر هذا يدعوه إلى موافقته وأنه يحدد عقده على ابنته، ويفعل معه كل ما يختار، وتوافى الرسولان عند الناصر المذكور بالكرك، فرجَّح الميل إلى الكامل، ورشح رسول الأشرف بجواب إقناعي. ويقال إنه إنما فعل ذلك؛ إلا ليُعَرِّفْ الكامل بما وقع، واستنشد الملك الناصر صاحب الترجمة في جواب الكامل بقول المتنبي:
وما شئت إلا أن أدلَّ عواذلي
…
على أن رأيي في هواك صوابُ
ويعلم قوم خالفوني وشرقوا
…
وغربت أني قد ظفرت وخابوا
واتفق أن الأشرف توفي عقيب ذلك، وندم الناصر هذا عن تخلفه عنه.
ثم مات الكامل، ولم يحصل للناصر أيضاً منه أرب.
قلت: كان الناصر غير مسعود في حركاته وأموره، وقضى عمره على أقبح حال، فإنه كان غالب أيامه في الغربة عن أوطانه والشتات عن بلاده.
وكان مذموم السيرة يحكى عنه أشياء من القبائح منها: أنه كان إذا دخل في الشراب، وأخذ السكر منه يقول: أشتهي أبصر فلاناً طائراً في الهواء، فيرمى به في المنجنيق، ويراه وهو في الهواء، فيضحك ويسر به، ويقول: أشتهي أشم روائح فلان وهو يُشوى، فيحضر ذلك المعتز، ويقطع لحم، ويشوى منه، وهو يضحك.
وكان له من هذه الأشياء القبيحة جملة مستكثرة.
قلت: ولهذا كانت مساوئه غطت محاسنه، وقاسى هو أيضاً محناً، ولا يظلم ربك أحداً.
ثم وقع له أمور مع أولاده، وفر إلى بغداد غير مرة، ولم يزل كذلك حتى قتل بيد التتار في سنة ست وخمسين وستمائة.
وكان أديباً شاعراً، فاضلاً، جواداً، ممدحاً.
وفيه يقول الصاحب جمال الدين بن مطروح:
ثلاثة ليس لهم رابع
…
عليهم معتمد الجود
الغيث والبحر وعززهما
…
بالملك الناصر داود
وكان له نظم رائق، من ذلك قوله:
بأبي أهيف إذا رمت منه
…
لثم ثغر يصدني عن مرامي
قد حمى خده بسور عذار
…
مقلتاه أصحت عليه مرامي