الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني في الإقرار بالمجمل
قوله: لكن الأصح هاهنا المنع يعني منع تفسير الشيء بالخمر الغير المحترمة وغيرها مما لا يقتني، ثم قال: لأنه ليس فيه حق واختصاص، فلا يلزم ردها. انتهى كلامه.
وهذا التعليل الذي ذكره لم يذكره في "الروضة"، وهو يرشد إلى أن صورة المسألة أن يكون المقر له مسلمًا.
أنها إذا كان ذميًا فيصح التفسير بغير المحترمة، فتفطن لذلك وسببه أنه لو غصبها منه لكان يجب عليه ردها على الصحيح، كما ذكروه في باب الغصب.
قوله: ولو فسره يعني الشيء بالعبادة ورد السلام لم يقبل، لأنه بعيد عن الفهم في معرض الإقرار، إذ لا مطالبة بهما، والإقرار في العادة يكون ما يطلبه المقر له ويدعيه.
قال في "التهذيب": ولو قال له: علىَّ حق، قبل التفسير بهما وظن أن الفرق بينهما عسير، وكيف لا، والحق أخص من الشيء فيبعد أن يقبل [الأخص بما لا يقبل](1) به تفسير الأعم، وبتقدير أن يكون الأمر كما ذكره فينتقض به التوجيه المذكور. انتهى كلامه.
تابعه في "الروضة" عليه، وما حاوله الرافعي من التسوية بينهما قد صرح به القاضي حسين في "تعليقه"، فقال كما نقله عنه في "الكفاية": الظاهر أنه لا يقبل تفسير الحق بهما.
ومقتضى كلام الرافعي أنه لم يقف عليه، ومع ذلك فما ذهب إليه
(1) سقط من أ.
البغوي هو المتجه، ولا عسر في الفرق، ولا انتقاض في التوجيه، وذلك لأن أهل العرف يطلقون لفظ الحق على هذه الأمور فيقولون: لفلان علىّ حق، ويريدون خدمته له، وسعيه إلى بابه وغير ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"حق المسلم على المسلم خمس. . . ."(1)، ثم ذكر من جملتها عيادة المرضى، ورد السلام، فصار المعنى المتقدم، وهو أن الإقرار لا يكون إلا بما يطلب معارضًا باستعمال الشرع والعرف في لفظ الحق بخلاف لفظ الشيء، فإنه لم يعارض المعنى فيه شيء لعدم استعماله في رد السلام والعبادة ونحوهما لا شرعًا ولا عرفًا.
قوله: وقال صاحب "التهذيب": ولو [أوصى](2) بمجمل فمات فبينه الوارث وزعم الموصى له أنه أكثر، يحلف الوارث على نفي العلم باستحقاق الزيادة، ولا يتعرض لإرادة المورث. انتهى كلامه.
وما نقله عن البغوي تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك، فإن البغوي نقله عن غيره فقال ما نصه: قال شيخنا الإمام رحمه الله: هذا بخلاف ما لو أوصى بشيء معلوم، وبينه الوارث فادعى الموصى له أكثر من ذلك، يحلف الوارث أني لا أعلم أنك مستحق غير هذا، ولا يحلف على إرادة المورث. هذا لفظه.
واعلم أن القاضي الحسين قد ذكر في "تعليقه" ما يشعر به كلام البغوي.
قوله: فرع:
لو مات قبل تفسير الشيء وامتنع الوارث منه فقولان:
أحدهما: أنه يوقف مما ترك أقل ما يتمول.
(1) أخرجه البخاري (1183) ومسلم (2162) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
سقط من أ.
وأظهرهما: أنه يوقف الكل، لأن الجميع وإن لم يدخل في التفسير فهو مرتهن بالدين. انتهى كلامه.
تابعه في "الروضة" عليه، وهو مشكل كما قاله ابن الرفعة في "المطلب"، وذلك لأن تفسير الشيء بالاختصاصات كالسرجين وغيره مقبول.
فلم يتيقن وجوب مال فضلًا عن كونه دينًا مقتضيًا للرهن، فلا يستقيم القول بالوقف في الكل، ولا في البعض.
قال: لا جرم أن الهروي في "الإشراف" حكاهما فيما إذا قال له: علىّ مال.
قوله: الضرب الثاني: قال: فإذا قال له: علىّ مال قبل تفسيره بأقل [متمول](1)، ولا يقبل بما ليس بمال كالكلب وجلد الميتة.
قال الإمام: والوجه القبول بالثمرة الواحدة حيث يكثر الثمر، لأنه مال، وإن لم يتمول في ذلك الموضع، هكذا ذكره العراقيون.
وقالوا: كل متمول مال، ولا ينعكس، وتلتحق حبة الحنطة بالثمرة. انتهى كلامه.
وما ذكره في الحبة ونحوها أنها لا تعد مالًا، قد خالفه في كتاب البيوع في الركن الثاني في الكلام على اشتراط النفع، وقد سبق ذكر عبارته هناك فراجعها.
قوله: ولو قال له: على مال عظيم قبل أيضًا تفسيره بأقل ما يتمول، وذهب بعض الأصحاب فيما حكاه القاضي حسين وغيره إلى أنه يجب أن يزيد تفسير المال العظيم على تفسير مطلق المال ليكون لوصفه بالعظيم
(1) سقط من أ.
فائدة، واكتفي بعضهم بالعظم من حيث الجرم والجثة. انتهى كلامه.
وحاصله حكاية وجهين آخرين، ولم يذكر في "الروضة" منهما غير الأول، وحذف الثاني.
واعلم أن القاضي لم ينقل هذا الوجه عن أحد كما دل عليه كلام الرافعي، بل أبداه احتمالًا لنفسه، ثم أبطله فقال بعد نقله عن النص إنه يكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم ما نصه: ولو قيل يلزمه أدنى زيادة على أقل ما يتمول ليتوفر به على العظم فائدة، وأسقط به معظم أسألتهم في المسألة، لم يبعد غير أنه مخالف للنص. هذا كلام القاضي في "تعليقه".
والذي أوقع الرافعي في هذا هو الإمام، فإن عبارته موهمة.
قوله: في الكلام على ما إذا قال: لفلان علىّ أكثر مما في يد فلان، ولو كان في يده عشرة دراهم وقال المقر: لم أعلم وظننت أنها ثلاثة قبل قوله مع يمينه. انتهى كلامه.
تابعه في "الروضة" هنا عليه، وهو يوهم أنه لو اعترف بالعلم لم يقبل تفسيره بالثلاثة، وليس كذلك فاعلمه، بل يقبل تفسيره بأقل ما يتمول كما اقتضاه التعليل المذكور في أول المسألة، وصرح به في "الروضة" من "زياداته" هناك.
قوله في "الروضة": ولو قال: كذا وكذا درهمًا بالنصب لزمه درهمان على المذهب، وفي قول درهم، وفي آخر درهم وشيء، وقيل: أحد وعشرون درهمًا إن عرف العربية. انتهى.
وهذا الخلاف الذي ذكره هو حاصل طرق ذكرها الرافعي، وقد أهمل من جملتها [وجها وهو أنه إن أطلق لزمه درهمان، وإن نوى أن الدراهم تعبير لمجموع](1) ما أقر به لزمه درهم، وهذا الوجه مشهور ذكره أيضًا
(1) سقط من أ، ب.
الماوردي وغيره، ونص عليه في "الأم".
قوله: ولو قال: الدراهم التي أقررت بها ناقصة الوزن، وأوزان البلد كذلك فيقبل إن اتصل التفسير بالكلام، فإن انفصل فكذلك في الصحيح. انتهى.
فإن لم يفسر، وتعذرت مراجعته ففي "المهذب" و"تعليق القاضي الحسين" و"الحاوي": يلزمه التمام وهو الدرهم الإسلامي.
قوله: ويجري الخلاف فيما إذا أقر في بلد دراهمهم كبار مثل غزنة. انتهي.
وغزنة بالغين المعجمة والزاي الساكنة بعدها نون هي مدينة نحو الهند.
قوله: ولو قال له: علىّ مائة عدد من الدراهم، اعتبر العدد دون الوزن. انتهى.
ذكر مثله في "الروضة" لكن قد تقدم قبل هذا بأسطر أن العدد أقله اثنان حتى إذا قال: على أقل أعداد الدراهم فيلزمه درهمان.
وإذا كان كذلك فنعود إلى مسألتنا فنقول: إن كان لفظ عدد مجرور بالإضافة، وهو المتبادر إلى الفهم، فالقياس وجوب مائتي درهم، ولكن تكون ناقصة لأنه أوجب على نفسه مائة من العدد، وأقل العدد اثنان، وإن كان منصوبًا فكذلك لأنه تفسير للمائة كما لو قال: مائة يومًا بالتنوين.
فإنه يلزم به كما صرح به ابن الرفعة، وإن منع الجمهور التنوين والنصب وإن كان مرفوعًا فالقياس أن المائة مبهمة، ويلزمه تفسيرها بما لا تنقص قيمته عن درهمين عددًا لا وزنًا.
وقد جزم الرافعي في نظيره بمثله فقال: ولو قال له: علىّ ألف درهم، يرفعهما وينونهما من غير عطف فسر الألف بما لا ينقص قيمته عن درهم.
وإن كان ساكنًا أوجبنا الأقل، لأنه المتيقن، صرح به أيضًا الرافعي في هذا الباب في مثال آخر.
قوله: إذا قال له: علىّ من درهم إلى عشرة. . . . إلى آخره.
هذه المسألة سبق الكلام عليها، وعلى نظيرها في كتاب الضمان.
قوله: ولو قال: علىّ ما بين درهم إلى عشرة.
لزمه ثمانية على المشهور، وقيل: تسعة، وقيل: عشرة.
ولم يفرقوا بين أن يقول: ما بين واحد إلى عشرة وبين أن يقول: ما بين واحد وعشرة، وربما سووا بينهما.
ويجوز أن يفرق ويقطع بالثمانية في الصورة الأخيرة للاحتراز. انتهى كلامه.
وما ذكره الرافعي هنا غريب، فقد فرق هو في كتاب الضمان في الكلام على العلم، بالمقدار المضمون [يقطع بالثمانية في الصورة الثانية، وخصص الأوجه والصورة الأولى.
وقد] (1) قطع به أيضًا هنا القاضي أبو الطيب في "تعليقه" وكذلك الروياني في "البحر"، وقال في "الروضة" بعد حكاية هذا عن القاضي: إن القطع فيها بالثمانية هو الصواب، ولم ينقل غيره.
قوله: قال: علىّ درهم في عشرة، فإن أراد بقي مع لزمه أحد عشر درهمًا. انتهى كلامه.
وتجيء في بمعنى مع، مثلوه بقوله تعالى:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} (2) أي مع زينته.
(1) سقط من جـ.
(2)
سورة القصص (79).
إذا علمت ذلك ففيه أمران:
أحدهما: أن لزوم العشرة إذا أراد المعية تابعه عليه النووي، حتي ادعى في "تصحيح التنبيه" أنه لا خلاف فيه، وكيف يستقيم مع أنه لو قال له: علىّ درهم مع درهم، لم يلزمه إلا درهم؟ .
فإذا كان مع التصريح بالمعية لا يلزمه سوى الأول فمع بينهما أولى.
نعم إن نوى ما فيه تغليظ عليه بأن قال: أردت مع عشرة له فواضح، ولا كلام فيه، وهذا الاشكال يأتي أيضًا فيما إذا قال له: علىّ درهم في دينار، فإنهم أجابوا فيه بمثل ما أجابوا هاهنا.
الأمر الثاني: بتقدير أن يجب عليه أحد عشر فالحكم بكونها دراهم في المال الذي ذكره الرافعي لا يستقيم أيضًا، بل الواجب عليه ما تقتضيه قاعدة الباب درهم واحد، ويرجع في تفسير العشرة إليه، وقد جزم الرافعي بأنه إذا قال له: عليّ ألف ودرهم أن الألف مبهمة.
قوله: ولو قال له: عندى عبد على رأسه عمامة ونحوه، لم يكن مقرًا إلا بالعبد.
وقال صاحب "التلخيص": يكون أيضًا مقرًا بالعمامة، ثم قال: وذكر الإمام أنه قال ذلك في "التلخيص"، وفي "المفتاح" أجاب بما يوافق الجمهور، وهو وهم، بل جوابه في "المفتاح" كجوابه في "التلخيص". انتهى كلامه.
والذي رأيته في "المفتاح" هو عدم اللزوم كما نقله الإمام فقال: ولو قال له: عندى فرس عليه سرج، فإن السرج للمقر مع يمينه، هذا لفظه.
وهو لفظ "التلخيص" أيضًا، إلا أنه زاد فيه "له" في المسألة الثانية.
قوله: ولو قال: خاتم فيه فص، ففي كونه مقرًا بالفص وجهان:
أصحهما: على ما ذكره في "التهذيب" أنه ليس بمقر به. انتهى.
ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، والصحيح ما صححه البغوي، فقد نص عليه في "الأم" في باب الإقرار بالحكم الظاهر، ونقله عنه في "المطلب".
قوله في أصل "الروضة": ولو قال: هذه الجارية له إلا حملها، لم يدخل الحمل قطعًا. انتهى كلامه.
وما ادعاه من عدم الدخول قطعًا ليس كذلك، ولم يذكره الرافعي أيضًا، فقد حكي الإمام في "النهاية" وجهًا: أن هذا الاستثناء لا يصح، وأن الحمل يدخل.
قوله: إذا قال: لفلان [على](1) هذا العبد ألف، فإن قال: أردت [به جنى عليه جناية أرشها ألف قبل وتعلق الألف برقبته.
وإن قال: أردت] (2) أنه رهن عبده بألف على فوجهان: أظهرهما: القبول، ويطالب بألف. انتهى ملخصًا.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما قاله الرافعي رحمه الله في هذه المسألة -أى عند التقييد بقوله: (على) - صحيح، غير أن الغزالي في "الوجيز" لم يذكر هذه المسألة، بل ذكر ما إذا لم يقيد بعلى، فإنه عبر بقوله: وإن فسر بكون العبد مرهونًا فالأظهر أنه يقبل، هذا لفظه.
ولم يذكر غيره، وهذه مسألة أخرى، ولم يتعرض لها الرافعي، وحكمها تفريعًا على القبول: أن الألف لا يلزمه لاحتمال أن يكون قد أعاده لمن رهنه لكى يتعلق الألف بالعبد، وهو واضح.
وقد ذكر الرافعي بعد هذا بنحو ورقتين ما يوافقه فقال قبيل الفرع
(1) في جـ: في.
(2)
سقط من جـ.
السادس: ولو قال له: في هذا العبد ألف من غير كلمة علىّ، وفسره بأنه أوصى له بألف من ثمنه، فلم يبلغ ثمنه ألفًا فلا ينبغي أن يجب عليه قيمة الألف بحال.
وذكر المسألة في "الوسيط" كما ذكرها في "الوجيز" تمثيلًا وحكمًا.
نعم صرح في "البسيط" كما صرح به الرافعي في تصوير المسألة وجوابها، فذكر في "الوسيط" و"الوجيز" مسألة، وفي "البسيط" أخرى، والمسألتان سواء في قبول التفسير، وإن اختلفا في التفريع، وكان ينبغي للرافعي أن يتكلم على مسألة الكتاب الذي شرحه.
الأمر الثاني: أن ما ذكره الأصحاب في هذه المسألة لا ينتظم مع ما ذكروه فيما إذا قال: له في ميراث أبى ألف، فإنهم نقلوا عن النص أنه يكون إقرارًا منه على أبيه بدين، وتابعه الأصحاب عليه، ومقتضاه أنه لا يقبل تفسيره بجناية جناها العبد المورث في حياة أبيه، أو يرهن صدر من أبيه بدين على غيره، فالكلامان لا يجتمعان.
قوله: لو شهد شاهد على أنه أقر يوم السبت بألف أو بغصب، ثم شهد آخر بأنه أقر يوم الأحد لفقنا بين الشهادتين، وأثبتنا ذلك بخلاف الإنشاءات كالطلاق.
ومنهم من قال: فيها قولان بالتخريج، ثم قال في آخر المسألة: فلو ادعى ألفًا فشهد أحد الشاهدين على أنه ضمن ألفًا، والثاني على خمسمائة، ففي ثبوت الخمسمائة قولان عن ابن سريج، وهذا قريب من التخريج المذكور في الإنشاءات أو هو هو. انتهى كلامه.
وما ذكره مردود، فإن من ضمن ألفًا يصدق عليه أنه ضمن خمسمائة قطعًا، ويصدق أيضًا إطلاق لفظ ضمن ما دام الدين عليه، فيكون كما لو شهد شاهد بألف، وآخر بخمسمائة، فإن الخمسمائة تثبت.
قوله: ولو شهد أحدهما أنه أقر بألف من ثمن مبيع، وشهد الثاني على إقراره بألف من قرض، ففي ثبوت الألف وجهان: الظاهر أنه لا يثبت أيضًا، وربما بنوا الوجهين على الوجهين فيما إذا ادعى ألفًا من ثمن مبيع، فقال: المدعى عليه: لك على ألف ولكن عن قرض. انتهى.
وهذه المسألة المبني عليها تعرف باختلاف الجهة، والراجح فيها أنه لا يمتنع الأخذ فتفطن لذلك، فقد قال في آخر العارية، وفي آخر الركن الثالث من الكتاب المتقدم: أنه الأصح، ولأجل المخالفة في التصحيح عبر بقوله: وربما بنو، ولم يذكر في "الروضة" هذا البناء.
قوله: فيما لو ادعى ألفَا فشهد له عدل بألف، وآخر بألفين. . . . إلى آخره.
هذه المسألة تأتى في كلام الرافعي في الشهادات في الكلام على المبادرة فلتحرر معها.
قوله: ولو قال على سبيل الإقرار: وأنت طالق، أولًا لم تطلق، وإن ذكره في مَعْرض الإنشاء طلقت كما لو قال: أنت طالق طلاقًا لا يقع عليك. انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أنه قد اختلف كلامهما في هذه المسألة اختلافًا عجيبًا، يأتي إيضاحه قريبًا فراجعه.
الأمر الثاني: أنهما قد سكتا عما إذا لم يعرف ذلك بموت أو غيره، وقد ذكره الهروي في "الإشراف" بعد أن ذكر هنا ما ذكره الرافعي حكمًا وتعليلًا، ومنه أخذ فقال: فإن أطلق هذه الكلمة، ولم يفسر لا بإقرار ولا بإنشاء فيمكن أن يقال: إنه يحمل على الإجبار حتى لا يقع لقرينة التشكيك والأصل بقاء النكاح، هذا كلامه من غير زيادة عليه.
وحاصله رجحان عدم الوقوع، وهو ظاهر منقاس.
والعجب من ترك الرافعي هذه الزيادة.
قوله: ولو أقر الأب بعين مال لابنه فيمكن أن يكون مستند إقراره ما يمنع الرجوع، ويمكن أن يكون مستنده ما لا يمنع الرجوع، وهو الهبة.
وهل له الرجوع؟ عن أقضى القضاة الماوردي، والقاضي أبى الطيب أنهما أفتيا بثبوت الرجوع تنزيلًا للإقرار على أضعف الملكين، وأدنى السببين كما ينزل على أقل المقدارين.
وعن الشيخ أبى الحسن العبادى: أنه لا رجوع، لأن الأصل بقاء الملك للمقر له، ويمكن أن يتوسط فيقال: إن أقر بانتقال الملك منه إلى الآخر، فالأمر كما قال القاضيان.
وإن أقر بالملك المطلق، فالأمر كما قال العبادي. انتهى.
تابعه في "الروضة" عليه، وفيه أمور:
أحدها: أن الأصح جواز الرجوع مطلقًا، كذا [صححه](1) النووي في "فتاويه"، فإنه نقل جواز الرجوع عن جماعة آخرين، ونقل ما قاله الرافعي من التفصيل، ثم قال: إن الأصح المختار قبول تفسيره بالهبة، ورجوعه مطلقًا، وجزم القاضي الحسين في باب الهبة من "تعليقه" بأن القول قول الولد.
وقال في "فتاويه": إنه الظاهر.
وتابعه عليه أبو عاصم العبادي والد أبى الحسن المتقدم كما قاله النووي في "الفتاوى" المذكورة، قال ابن الرفعة: وهو الذي يترجح في ظني، لأن أضعف السببين عارضه أن لأن الأصل بقاء الملك.
(1) في جـ: رجحه.
قال: ومما يؤيد ذلك أن الإقرار للوارث بالعين والدين معمول به على الصحيح.
وقياس تنزيل الإقرار على أضعف السببين تنزيله على الهبة، وهو إذا نزل على الهبة فأضعف الحالين فيها حالة المرض، فكان مقتضى ذلك أن يكون الصحيح رد الإقرار للوارث، وليس كذلك.
الأمر الثاني: أن غير الأب من الأصول كالجدة والأم حكمه حكم الأب فيما ذكرنا وكذلك ذكره النووي أيضًا في "فتاويه" أيضًا وقال ابن الرفعة بعد نقله عنه: وعندي في ذلك نظر، فإن الأب يقدر على النقل من غير واسطة، ولا كذلك الأم والجدة إذا لم تثبت لها الولاية.
فإن كان ما قاله نقلًا وجب اتباعه، وإن كان تخريجًا ففيه ما ذكرناه. هذا كلام ابن الرفعة وهو ضعيف، فإن المسألة ليست خاصة بما إذا أقر لابنه الصغير، بل لو أقر الكبير كان الحكم كذلك كما يدل عليه كلام الرافعي وغيره سلمنا أنه خاص بالصغير، لكن عدم القدرة على النقل لا يدفع علة الرجوع، وهى التنزيل على الهبة.
نعم البحث المذكور أولا قوى، غير أنه وقع له قبيله غلط فاحش.
الأمر الثالث: أن النووي في "الروضة" لما نقل عن العبادى امتناع الرجوع عبر عنه بأبى عاصم عوضًا عن تعبير الرافعي بأبي الحسن، وكأنه لم يستحضر حالة اختصار "الروضة" أن لهم هذا وهذا.
وقد علمت مما تقدم من كلامه في "الفتاوى" أنه سهو، وأن كلًا منهما من أصحاب الشافعي، وقائل بالمنع.
قوله: ولو أقر بأنه لا دعوى له على فلان ولا طلب بوجه من الوجوه، ولا بسبب من الأسباب، ثم قال: إنما أردت من عمامته، وقميصه لا في داره.
قال القاضي أبو سعد: هذا موضع تردد، والقياس يقبل لأن غايته تخصيص عموم، وهو محتمل. انتهى كلامه.
قال في "الروضة": هذا ضعيف أو فاسد، والصواب أنه لا يقبل في ظاهر الحكم.
قال: لكن المختار أن له تحليف المقر له أنه لا يعلم أنه قصد ذلك.
قال: ولعل هذا مراد القاضي. هذا كلامه.
وقد اشتمل -أعني كلام النووي- على أمرين:
أحدهما: الخلاف في قبول تخصيص العموم.
الثاني: أنه صرف كلام الهروي عن قبوله في الظاهر إلى سماع دعواه، وتحليفه، وذلك لأجل إنكار الخلاف المشار إليه، وكلا الأمرين باطل غريب.
أما الأول فلأن في قبول تخصيص العموم ظاهرًا لقوله: نسائي طوالق أو كل امرأة لى طالق وجهين مشهورين حكاهما الرافعي في آخر الباب الأول من أبواب الطلاق، حتى أنه حكاهما في "المحرر" أيضًا، وأجرى الخلاف في تقييد الألفاظ الموضوعة للحقائق، كما لو قال: إن أكلت خبزًا أو تمرًا فأنت طالق، ثم فسر ذلك بنوع خاص منهما.
وأما الأمر الثاني: وهو تنزيل كلام الهروي على إرادة التحليف فباطل أيضًا، فإن الهروى قد صرح بخلافه فقال ما نصه: هذا موضع تردد.
والقياس أن المقر لا يلزم بحكم إقراره على العموم بل يؤخذ بالتخصيص ولا ينظر إلى أنه يراد به العموم في العرف، لأن الشافعي رحمه الله قال: أصل ما أبنى عليه الإقرار أن ألزم اليقين، وأطرح الشك، ولا استعمل الغلبة.
فإن قيل: المقر في العرف أراد التبرى عن جميع المطالبات.
قلنا: هذا ليس بشيء، لأن دليل العرب لا يعارض صريح دليل النطق، وهو قد نطق بالتخصيص فوجب أن يصدق في مقالته، هذا موضع الحاجة من كلامه، وهو صريح فيما ذكرناه من وجوه.
ولو راجع النووي أو غيره من المعترضين عند الإشكال أمثال هذه المواضع لم يذكروا ما ذكروه.
وقد وافق ابن الصلاح في "فتاويه" على القبول مع اليمين فيما إذا ادعى أنه نسيه، واستدل عليه بمسألة ذكرها الرافعي قبل هذا، وهى أنه لو قال: لا حق لي في شيء مما في يد فلان، ثم ادعى شيئًا، وقال: لم أعلم كونه في يده يوم الإقرار، فإنه يصدق بيمينه.
وذكر أيضًا في "فتاويه" مسألة أخرى، وهى أنه لو استأجر عينا وسلم الأجرة، وأقر أنه لا حق له على المؤجر، ثم بان فساد الإجارة، فلو طلب الأجرة ولا يدخل ذلك في الإشهاد، لأنه أشهد بناء على ظاهر الحال كما لو قال: هذه العين ملكى اشتريتها منه، ثم بان خلافه والله أعلم.