المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: الإسلام بين دعوى التعصب والتسامح مع الكفار - الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية - جـ ٢

[محماس الجلعود]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث: الموالاة والمعاداة لأهل الأهواء والفرق

- ‌الفصل الأول: الموالاة والمعاداة لأهل الأهواء

- ‌المبحث الأول: موالاة أهل العصيان والفسوق ومعاداتهم

- ‌المبحث الثاني: موالاة المنافقين ومعاداتهم

- ‌المبحث الثالث: موالاة المرتدين ومعاداتهم

- ‌المبحث الرابع: موالاة الخارجين عن السلطة ومعاداتهم

- ‌المبحث الخامس: موالاة السلطة الحاكمة ومعاداتها

- ‌الفصل الثاني: الموالاة والمعاداة للفرق التي تنتسب إلى الإسلام

- ‌تقديم: حول افتراق هذه الأمة

- ‌المبحث الأول: موالاة ومعاداة الفرقة الزيدية

- ‌المبحث الثاني: موالاة ومعاداة الشيعة الاثنى عشرية

- ‌المبحث الثالث: موالاة ومعاداة الطائفة النصيرية

- ‌المبحث الرابع: موالاة ومعاداة الدروز

- ‌الباب الرابع: موالاة الكفارة ومعاداتهم

- ‌الفصل الأول: منهج التعامل مع الكفار

- ‌المبحث الأول: الإسلام بين دعوى التعصب والتسامح مع الكفار

- ‌المبحث الثاني: مفهوم الحرب والسلم في الإسلام

- ‌المبحث الثالث: تعامل المسلمين مع أهل الذمة والعهد في دار الإسلام

- ‌المبحث الرابع: تعامل المسلمين مع الكفار المحايدين

- ‌المبحث الخامس: تعامل المسلمين مع الكفار المحاربين

- ‌المحاربون من أهل الأوثان

- ‌المحاربون من اليهود

- ‌المحاربون من النصارى

- ‌الفصل الثاني: مظاهر الولاء للكفار

- ‌التمهيد لدراسة هذا الفصل

- ‌المبحث الأول: موالاة الكفار في الحقول العامة

- ‌المثال الأول: إطلاق حرية الدعوة إلى الكفر بين المسلمين

- ‌المثال الثاني: السماح بتعليم الكفر وتعليمه بين المسلمين

- ‌المثال الثالث: إباحة ظهور المحرمات بين المسلمين إرضاء للكفار وأشباههم

- ‌المثال الرابع: إطلاق يد الكفار في بناء المعابد لهم في بلاد المسلمين

- ‌المثال الخامس: منح الكفار حرية التنقل والإقامة بين المسلمين

- ‌المثال السادس: تمليك الكفار لما يتخذونه موضعًا لمعصية الله

- ‌المثال السابع: تأجير الأماكن والذوات لمن يتخذها هدفًا لمعصية الله

- ‌المبحث الثاني: موالاة الكفار في العلاقات الاجتماعية

- ‌الفرع الأول: السلام على الكفار والزيارة لهم

- ‌الفرع الثاني: تهنئة الكفار والثناء عليهم

- ‌الفرع الثالث: تشييع موتى الكفار وتعزيتهم في ذلك

- ‌الفرع الرابع: الزواج بالنساء الكافرات وتزويجهم المسلمات

- ‌المبحث الثالث: موالاة الكفار في الشئون الاقتصادية

- ‌المثال الأول: إباحة التعامل بالربا مع الكفار ومن أجلهم

- ‌المثال الثاني: إعطاء المساعدات المالية للكفار

- ‌المثال الثالث: تمكين الكفار من استغلال أموال المسلمين

- ‌المثال الرابع: تمكين الكفار من الوظائف الهامة في البلاد الإسلامية

- ‌المثال الخامس: توريث الكفار والنفقة عليهم من أهل الإسلام

- ‌المبحث الرابع: موالاة الكفار في الشؤون الحربية

- ‌الفرع الأول: الاستعانة بالكفار في القتال

- ‌الفرع الثاني: الدخول في حماية الكفار

- ‌الفرع الثالث: الاستعانة بسلاح الكفار

- ‌المبحث الخامس: موالاة الكفار في الحقوق الجنائية

- ‌الفرع الأول: قتل المسلم بالكافر

- ‌الفرع الثاني: إهانة المسلم بما دون القتل دفاعًا عن الكافر

- ‌الفرع الثالث: الستر على جواسيس الكفار وحمايتهم

- ‌المبحث السادس: موالاة المسلم للكفار في بلادهم

- ‌الفرع الأول: موالاة الكفار في السفر إليهم والإقامة بينهم

- ‌الفرع الثاني: موالاة الكفار في العمل لديهم وتحت ولايتهم

- ‌الفصل الثالث: العقوبات المترتبة على موالاة الكفار

- ‌المبحث الأول: العقوبة التعزيرية لمن يوالي الكفار

- ‌المبحث الثاني: العقوبة الإلهية التي تجري وفق السنة الربانية بحق من يوالون الكفار ويؤذون المؤمنين

- ‌المبحث الثالث: العقوبة الأخروية لمن يوالون الكفار

- ‌الفصل الرابع: واقع المسلمين اليوم من موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين

- ‌أولاً: فلسطين:

- ‌ثانيًا: أفغانستان:

- ‌ثالثًا: الفلبين:

- ‌خامسًا: المسلمون في كمبوديا:

- ‌سابعًا: المسلمون في الهند:

- ‌ثامنًا: جزر القمر:

- ‌تاسعًا: المسلمون اليونانيون:

- ‌عاشرًا: المسلمون في تونس:

- ‌الحادي عشر: موزمبيق:

- ‌الثاني عشر: أوغندا:

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌المبحث الأول: الإسلام بين دعوى التعصب والتسامح مع الكفار

‌المبحث الأول: الإسلام بين دعوى التعصب والتسامح مع الكفار

قد يتبادر إلى ذهن البعض منا، من خلال ما تقدم عرضه في موضوع الموالاة والمعاداة في الإسلام، أن الإسلام يأمر بالانطواء والعزلة عن غير المسلمين، وأنه يربي أتباعه على إضمار الحقد والكراهية لغير المسلمين وأن أتباعه يتعصبون لأنفسهم وأهل عقيدتهم، دون أن يراعوا حقوق الطوائف الأخرى، ولا شك أن هذا الفهم الخاطئ مبعثه الجهل أو الحقد الدفين في النيل من الإسلام والمسلمين، وإلا فالحقيقة أنه لم يوجد مبدأ من المبادئ في الكون كله وعبر تاريخه الطويل تسامح مع أعدائه وعاملهم بالعدل مثل الدين الإسلامي، وهذا القول ليس مجرد ادعاء وإنما هو واقع يشهد له التاريخ وتبرهن عليه الأحداث فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما أقام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة كان فيها ثلاث قبائل من اليهود، هم بنو قريظة، وقنو قينقاع، وبنو النضير، فلو كان الرسول بغير هذه الصفة لما احتاج أن يوقع معهم معاهدة تعاون وحسن جوار، ولأمكنه أن يفعل بهم مثل ما يفعل الشيوعيون بالمعارضين لهم في روسيا وتشيكوسلفاكيا وغيرها من بلدان

ص: 593

العالم، وأن يضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التبعية المطلقة أو الموت ومن يطالع نصوص المعاهدة بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود يعلم علم اليقين أن الإسلام عادل مع أهل الكتاب فقد ورد في الوثيقة النبوية المبرمة بين المهاجرين والأنصار التي وادع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود ما نصه (لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم

وإن بينهم النصر على من حاربهم، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم،

وإن من خرج آمن ومن قعد آمن إلا من ظلم أو أِثَم) (1). وفي فتح مكة دليل واضح وبرهان ساطع على تسامح الإسلام ورحمته حتى بأعدائه، فهل عرف التاريخ أن جماعة غلبت على أمرها وطردت من بلدها، وأوذيت في نفسها ومالها، فلما استطاعت العودة إلى ديارها، وتمكنت من رءوس أعداءها، لم تمتد يدها إلى عدوها بسوء، ولم تأخذ منه بثأر؟ وهل عرف في التاريخ أن عدوين يلتقيان بعد طول صراع مرير مخضب بالدماء فلا يكون في لقائهما شحناء ولا بغضاء؟

إنما روح الإسلام الخالدة، التي لا تنتصر للنفس والذات بقدر ما تنتصر للإسلام، إنها القيادة الرحيمة، حتى بمن كانوا بالأمس أعداءها، لقد اجتمعت قريش حول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذهول واستسلام، وفي داخل كل نفس صراع من الخوف والرجاء، حتى هتف فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما تظنون أني فاعل بكم؟» . قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» .

هذا كل الحساب بين الجيش الزاحف المنتصر وبين أهل مكة المستسلمين (2).

(1) انظر تهذيب سيرة ابن هشام/ عبد السلام هارون ص140 - 143.

وانظر تاريخ الإسلام السياسي د/ حسن إبراهيم ج1 ص102.

وانظر البداية والنهاية لابن كثير ج3 ص224 - 225.

(2)

انظر موسوعة التاريخ الإٍسلامي/ أحمد شلبي ج1ص342.

وانظر فتح مكة/ محمد أحمد باشميل ص296.

ص: 594

إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الداعية الذي لا يجد الحقد على مقاوميه إلى نفسه سبيلا، فقد مَنَّ عليهم بعد كفاح دام بينه وبينهم إحدى وعشرين سنة، لم يتركوا فيها طريقًا للقضاء عليه وعلى أتباعه وعلى دعوته إلا سلكوه، فلما تم له النصر عليهم وفتح عاصمتهم، لم يزد أن استغفر لهم وأطلق حريتهم، إن هذا لا يصدر إلا عن رسول كريم لم يرد بدعوته ملكًا ولا سيطرة، وإنما أراد الله له أن يكون هاديًا وفاتحًا للعقول والقلوب (1).

وفي كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لأساقفة نجران قال فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي للأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير! جوار الله ورسوله لا يغير أسقف من أسقفته، ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم ولا ما كانوا عليه من ذلك. جوار الله ورسوله أبدًا ما أصلحوا ونصحوا عليهم غير مبتلين بظلم ولا ظالمين» (2).

وهذا الكتاب يبين مدى التسامح مع النصارى واحترام حقوقهم وأنهم لا يظلمون ولا يُظْلَمون، وقد سار على ذلك خلفاءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام فهذا عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما فتح المسلمون مصر كتب بيده أمانًا للبطريق بنيامين ورده إلى كرسيه بعد أن تغيب عنه زهاء ثلاثة عشرة سنة، وأمر عمرو باستقباله عندما قدم من الإسكندرية أحسن استقبال (3). وعندما تمكن القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي من دحر الصليبيين بعد تسعين سنة من مجازر الغدر والخيانة والفساد في الأرض لم يعاملهم بالمثل، إذ إنه لما أسلمت له الحامية النصرانية، أمنهم على حياتهم، وكانوا أكثر من مائة ألف نسمة وسمح لهم بالخروج في أمان

(1) انظر السيرة النبوية دروس وعبر د/ مصطفى السباعي ص230 - 131.

(2)

انظر البداية والنهاية لابن كثير ج5 ص55، وانظر حياة الصحابة ج1 ص123.

(3)

تاريخ الإسلام السياسي/ حسن إبراهيم ج1 ص240.

ص: 595

وسلام وأعطاهم مهلة أربعين يومًا للخروج وقام بمداواة جرحاهم وتمريض مرضاهم وسمح لهم بحمل ما يحملون من أموال منقولة (1).

وعندما هجم قائد التتر قطلوه شاه على دمشق وأسر عددًا من المسلمين والذميين من اليهود والنصارى، ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معه جمع من العلماء وطلبوا فك الأسرى فسمح لهم قائد التتر بأسرى المسلمين دون غيرهم فرفض الشيخ ومن معه وقالوا: لا بد من افتكاك جميع الأسرى هم أهل ذمتنا، ولا نرضى ببقاء أسير من أهل الملة ولا من أهل الذمة، فإن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فأطلق القائد التتري جميع الأسرى، وقد تكرر هذا الموقف من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما كتب رسالته إلى ملك قبرص سراجون لافتكاك أسرى المسلمين وأهل الذمة من رعايا الدولة الإسلامية (2).

ومن هذا العرض الموجز يتضح أن الإسلام يقف مع الكفار موقفًا معتدلاً، في السماحة من غير ذل وهوان، فأصحاب الإسلام لا تنطوي ضمائرهم على الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بالآخرين، فبسماحة الإسلام يتعامل المسلم مع الناس جميعًا على أساس العدل والاحترام المتبادل دون أن يكون ذلك على حساب الاستهانة بالعقيدة الإسلامية وشعائر الإسلام، فالمعاملة شيء، ومحبة القلب ومودته للكفار شيء آخر حيث إن الإنسان يتعامل في أغلب الأحوال مع من يحب ومن لا يحب في بيعه وشرائه ونحو ذلك، أما مودة القلب والنصرة والمساعدة، فلا يمنحها إلا لمن يحب، وهذه هي الموالاة المنهي عن بذلها للكفار قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا

(1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام د/ كامل سلامة الدقس ص334.

(2)

انظر الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام/ علي علي منصور ص358.

ص: 596

لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (1) فالآيات تأمر المسلم أن لا يتخذ بطانة من الكفار وأن لا يحبهم وهم لا يزالون متلبسين بصبغة الكفر، وأن لا يناصرهم أو يؤيدهم بقول أو فعل ما لم يسلموا، إن تلك الآيات تنوير وتبصير للمسلمين في كل زمان ومكان، بأن لا ينخدعوا في معاملة أعدائهم وبهرج ألسنتهم فيندفعوا بسذاجة وغباء إلى اتخاذهم بطانة وأصحابًا وأصدقاء وأصفياء، فإن عداوة الكفار للمسلمين عداوة متأصلة، لا تغسلها سماحة أو مودة من المسلمين للكفار أو حسن صحبة لهم، والتحذير في هذه الآيات المتقدمة ليس مقصورًا على فترة تاريخية معينة، وإنما هو حقيقة دائمة تواجه واقعًا دائمًا، كما نرى مصداق ذلك في ماضينا المعهود وحاضرنا المشهود، وقد بين الله ذلك في آيات متعددة قال تعالى:(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)(2)، وقال تعالى:(وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)(3). وقد عبرت الآيات عن قوة الإصرار والاستمرار في العداوة من قبل الكفار وذلك بالتعبير بالفعل المضارع (لا يزالون) و (ولن ترضى) و (وما تخفي صدورهم أكبر) ونسوق بعض النماذج الواقعية عبر فترات تاريخية متباعدة لنبرهن على تسامح الإسلام وتعصب أعدائه ضده، عندما تكون للأعداء الغلبة والنصر على المسلمين، ونستدل على تعصبهم من أقوالهم وشهادة بعض المنصفين منهم يقول:(جيبون) «إن الصليبيين خدام الرب يوم استولوا على بيت المقدس في 15/ 7/1099م رأوا أن يكرموا الرب

(1) سورة آل عمران من آية (118) إلى آية (121).

(2)

سورة البقرة آية (109).

(3)

سورة البقرة آية (120).

ص: 597

بذبح سبعين ألف مسلم، ولم يرحموا الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء، في مذبحة استمرت ثلاثة أيام بلياليها، ولم تنته إلا لما أعياهم الإجهاد من القتل فقد حطموا رءوس الصبيان على الجدران وألقوا بالأطفال الرضع من سطوح المنازل، وشووا الرجال والنساء بالنار، وبقروا البطون ليروا هل ابتلع أهلها الذهب،

ثم يقول: كيف ساغ لهؤلاء بعد هذا كله أن يضرعوا إلى الله طالبين البركة والغفران» (1).

وقد سبق أن ذكرنا موقف صلاح الدين الأيوبي عندما تغلب على هؤلاء وحاصر مائة ألف صليبي ومع ذلك تركهم يرتحلون بسلام فمن المتعصب يا ترى؟؟

ومثال آخر، ما فعله الصليبيون في الأندلس عندما تغلبوا على المسلمين، فقد قال أحد كتاب الغرب أنفسهم وهو المدعو (جوستاف لوبون) قال: لما أُجْلِيَ العرب (2) سنة (1610م) اتخذت جميع الذارئع للفتك بهم فقتل أكثرهم، وكان مجموع من قتل إلى ميعاد الجلاء ثلاثة ملايين من الناس في حين أن العرب لما فتحوا أسبانيا، تركوا السكان يتمتعون بحريتهم الدينية محتفظين بمعاهدهم ورئاساتهم غير مكلفين إلا بدفع الجزية وهي بمقدار ما كنوا يبذلونه لملوك الْقوط، وقد بلغ من تسامح العرب طول حكمهم في أسبانيا مبلغًا قلما يصادف الناس مثله هذه الأيام (3).

ولو انتقلنا من مواقف الصليبين إلى مواقف اليهود لرأينا العجب العجاب، فإن نظرة اليهود الدينية إلى غير اليهود تشبه نظرة الإنسان إلى الحيوان، فقد جاء في الوثيقة الرابعة من وثائق اليهود التاريخية فيما نشره

(1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام د/ كامل سلامة الدقس ص333.

(2)

المراد بالعرب في هذا الكلام هم المسلمون ولكن أعداء الإسلام يحاولون تغيير المفاهيم الإسلامية إلى مفاهيم قومية عرقية ضيقة سخيفة.

(3)

انظر حضارة العرب/ جوستاف لوبون ص 279 ترجمة عادل زعيتر.

ص: 598

السيد – جواد رفعت في كتابه الوثائقي (الإسلام وبنو إسرائيل) حيث ورد من ضمن ما تضمنته هذه الوثيقة قولهم ما يلي:

«يا أبناء إسرائيل، اسعدوا واستبشروا خيرًا، لقد اقتربت الساعة التي سنحشر فيها هذه الكتل الحيوانية في اصطبلاتها، وسنخضعها لإرادتنا ونسخرها لخدمتنا» (1).

ولو نظرنا إلى ما فعله ويفعله اليهود في فلسطين من قتل وتشريد وظلم وبطش وعدوان، وما يفعله صنائع اليهود وعملاؤهم حول فلسطين لوجدنا أن ذلك أعظم برهان على تعصب اليهود وأذنابهم ضد المسلمين.

ولو تجاوزنا اليهود والنصارى إلى الملحدين من أهل الأوثان لرأينا ما تقشعر لهوله الأبدان، وتتفطر له الأكباد، فقد روى ابن كثير فيما رواه من أحداث عام 656هـ عندما تغلب مشركو التتار على المسلمين في بغداد شنوا حملة حقد وتعصب وظلم وطغيان فأبادوا الرجال والنساء صغارًا وكهولاً، وفر من فر من الناس إلى المقابر، وأغلق البعض منهم على نفسه في الحانات ودخل البعض منهم في قنى الأوساخ، ولكن القلوب المسعورة في حب الإجرام وإراقة الدماء، والمملوءة بالحقد والكراهية على أهل الإسلام، طاردت كل هؤلاء، وبواسطة بعض أهل الذمة من اليهود والنصارى، الذين تنكروا للمسلمين ولما قدموه لهم من حسن المعاملة واحترام الحقوق، ولم يمض على بغداد أربعين يومًا حتى أصبحت خاوية على عروشها، وتراكمت الجثث كالأطواد في الطرقات، ثم سقط عليها المطر فانتفخت وتغير الهواء وحصل الوباء، وسار الهواء إلى الشام فمات بسبب ذلك خلق كثير، هذه صورة من صور التعصب قام بها أعداء الإسلام والمسلمين في حق أهل الإسلام، وهي حقيقة تاريخية وقصة واقعية ليست من نسج الخيال، وقد اختلف المؤرخون في عدد القتلى في بغداد، إلا أن

(1) انظر مكايد يهودية عبر التاريخ/ عبد الرحمن حسن الميداني ص446، 447.

ص: 599

تقديراتهم تقول أن عدد القتلى ما بين الثمانمائة ألف إلى المليون نفس (1)، ولو مررنا بروسيا وما فعلته الثورة الشيوعية بالمسلمين في بخارى وسمرقند وغيرها من الولايات الإسلامية لرأينا ما لم يحصل له مثيل في التاريخ حيث أقدم الشيوعيون على قتل كل من يتفوه بكلمة لا إله إلا الله فقد نشروا في عام (1923م) أنه يوجد داخل الاتحاد السوفيتي ثلاثون مليونًا من المسلمين يحافظون على عقائد باطلة وخرافات من العصور الوسطى وإننا قد اتخذنا الخطط والتدابير اللازمة لإزالتها (2).

وفعلاً فقد باشر الشيوعيون تنفيذ مخططاتهم في مصادرة الحريات وكبت المعتقدات، وحاولوا بقوة الحديد والنار إلزام الناس بالأوهام الماركسية والخرفات اللينينية فقد أغلقت حكومة روسيا الشوعية في مقاطعة تركستان (14) أربعة عشر ألف مسجد، وفي منطقة الأورال (7) سبعة آلاف مسجد وفي منطقة القوقاز (4) أربعة آلاف مسجد، فبلغ مجموع المساجد التي منع المسلمون من الصلاة فيها (25) خمسة وعشرين ألف مسجد، وقد حولت هذه المساجد إلى دور للبغاء ومباءات للخمر، ونوادي للمجون - واسطبلات للخيول وحظائر للبهائم، وقد حول جامع سمرقند الفخم الجميل إلى ناد لكبار الملحدين (3). وهل تظن أن الأمر توقف عند ذلك الحد، بل لقد تجاوز ذلك إلى التصفية الجسدية للمسلمين، ولو أردنا استعراض تلك المآسي الدامية لما وسعتها المجلدات والأضابير، ولكن حسبنا أن نقول أن الروس قبلة الأقزام في الشرق المنكوب قد قتلوا في ربع قرن ستة وعشرين مليونًا من المسلمين بمعدل مليون كل سنة، وقد تفننوا في طريقة التعذيب والقتل حتى وصل بهم الأمر إلى أن يأتوا بأحد زعماء المسلمين فيحفروا له حفرة في الطريق العام ثم يكلفون المسلمين وجميع

(1) انظر البداية والنهاية لابن كثير ج13 ص202.

(2)

انظر الإسلام والمبادئ المستوردة ص22، 23.

(3)

انظر التضليل الاشتراكي د/ صلاح الدين المنجد ص84.

ص: 600

السكان في تلك المدينة تحت وطأة التعذيب والإرهاب أن يأتوا بفضلاتهم الآدمية التي تتسلمها الدولة من الأهالي كل يوم لتستخدمها في السماد فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته

وقد ظلت هذه العملية ثلاثة أيام والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات بصورة لا مثيل لها في التاريخ، وكان قصدهم تنفير الناس عن كل ما له صلة بالإسلام.

وقد سارت يوغسلافيا على طريقة روسيا بعد تحولها إلى الشيوعية فقد أباد (تيتو) ما يقارب المليون من المسلمين (1). ولكن الغريب ولا غرابة في هذا العصر أن السفاكين في روسيا ويوغسلافيا يستقبلون بكل حفاوة وتكريم في بعض الأقطار الإٍسلامية، وكأن شيئًا لم يكن، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولو ألقينا نظرة على ما حصل ويحصل للمسلمين من الوثنيين الهنود لوجدناه لا يقل شناعة عما حصل من غيرهم، فعندما أعلن انفصال باكستان عن الهند، فر ثمانية ملايين من المسلمين مهاجرين إلى الباكستان ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة، من عباد البقر ولكنهم لم يتركوهم يذهبون بسلام، بل طوقت مسيرتهم الحكومة الهندية المجرمة فذبحتهم وأفنت الكثير منهم، ولم يصل إلى الباكستان سوى ثلاثة ملايين أما الخمسة الباقية، فقد قضي عليها، ثم أعلنت الحكومة عن خدعة جديدة حيث زعمت أنها ستنقل الموظفين المسلمين الذين يرغبون التحول إلى باكستان عبر قطارات النقل وقد شحنت أول دفعة منهم وكان عددهم خمسين ألفًا، وعندما اقترب القطار بين الحدود الهندية والباكستانية ودخل في أحد الأنفاق خرج من الناحية الثانية وليس فيه إلا أشلاء ممزقة من عوامل التخريب التي دبرت وخططت لهذا الغرض (2).

فيا ترى من المتعصب ومن المتسامح؟؟ إن ما ذكرناه عن مواقف

(1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام د/ كامل سلامه الدقس ص163 – 165.

(2)

المصدر السابق ص163.

ص: 601

أعداء الإسلام والمسلمين، عند تمكنهم من أهل الإسلام، غيض من فيض، وقطرة من بحر، وهذا كله مصداق لقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(1).

إن من تسامح المسلمين مع أهل الذمة والمستأمنين أن يقروا في بلاد الإسلام على تعاطي بعض المحرمات في الدين الإسلامي إذا كان ذلك على جهة التخفي والإسرار وقصروه على أنفسهم مثل شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ويطبق عليهم في المحاكم قانون الأحوال الشخصية المنبثق عن عقيدتهم في قضايا الزواج والطلاق والمهر والأولاد والنفقة وما إلى ذلك.

بينما نجد أن المسلمين الذين يقيمون في بلاد الغرب والشرق الكافر لا يطبق بحقهم قانون الأحوال الشخصية للمسلمين وإنما يطبق بحقهم القانون المحلي لتلك الدولة وتلك البلاد فلو تزوج المسلم بأكثر من زوجة واحدة، فزواجه باطل بمقتضى قوانينهم الوضعية، وقد يحاكم كمجرم، أما لو زنيا برضاهما فلا شيء عليهما، ولو طلبت الزوجة من زوجها المسلم تأمين النفقة والسكن، أو الطلاق، فلا يمكن للمحاكم الوضعية الكافرة أن تحقق لها ذلك (2).

وفي أمريكا لو أرادت المسلمة أن تتزوج بنصراني وهي لا تزال في عصمة زوجها المسلم، فإن القوانين الأمريكية تبيح ذلك ولا تسمح للزوج الأول المسلم حتى في إبداء حق المطالبة بزوجته أو الاعتراض على عقد الزواج الثاني (3).

(1) سورة آل عمران آية (118).

(2)

انظر نظرية الإسلام وهديه/ أبو الأعلى المودودي ص186 – 188.

(3)

انظر العلاقات الدولية في الإسلام د/ كامل الدقس ص316 - 317.

ص: 602

وقد صدر في إنجلترا قانون يمنع الاعتراف بأي زواج يتم على الطريقة الإسلامية، فلا يعتبر العقد قد وجد بحكم القانون لديهم، فلو تزوجت المرأة بعد زواجها الشرعي في الإسلام بدون طلاق لاعتبر الزواج الثاني دون الأول في القانون الإنجليزي (1).

وقد طلبت إحدى السيدات المسلمات المطلقة في جنوب أفريقيا مؤخر مهرها بعد طلاقها فرفضت المحكمة ذلك مدعية بطلان شرعية الزواج المعقود حسب الشريعة الإسلامية (2).

ومع ذلك وللأسف الشديد يصف الببغاوات الإسلام والمسلمين بالتعصب والتشدد والجمود والتطرف وكبت الحريات بينما يصفون أجنحة المكر الثلاثة، النصارى، واليهود، وأهل الأوثان بالتسامح والاعتدال والمحافظة على حريات الأفراد وحقوقهم، فيا ترى من الذي يشهد له الواقع ويصدقه التاريخ نحن المسلمين أم هؤلاء الحاقدون؟؟؟

(1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام د/ كامل سلامة الدقس ص316، 317.

(2)

انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد 538 السنة الحادية عشرة في 11/ 10/1401هـ ص35.

ص: 603