الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المثال الأول: إباحة التعامل بالربا مع الكفار ومن أجلهم
لقد أباح الإسلام التعامل التجاري مع الكفار سواء كان الكفار في داخل الدولة الإسلامية أم خارجها ولكن ذلك التعامل معهم مشروط بشروط ومقيد بقيود، تجعل التعامل معهم ضمن ضوابط معينة تحقق المصلحة للمسلمين دون أن تكون بابًا للشر عليهم، ومن التعامل التجاري مع الكفار في داخل الدولة الإسلامية ما كان يجري بين المسلمين في المدينة وبين اليهود وغيرهم من المشركين من تعامل تجاري فقد كان سبب إجلاء بني قينقاع أن امرأة من المسلمين قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ يهودي لتشتري منه فربط ذلك اليهودي طرف ثوبها إلى ظهرها فلما قامت انكشفت عورتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، وقام اليهود على المسلم فقتلوه، ثم اشتد الأمر بينهما، حتى حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم عن المدينة (1).
(1) انظر تهذيب سيرة ابن هشام/ عبد السلام هارون ص174 - 175.
وقد سأل مهنا بن يحيى الشامي وهو فقيه عالم: الإمام أحمد بن حنبل عن البيع والشراء مع الكفار فأجابه بأنه لا بأس في ذلك (1)، وقد كانت هناك أسواق في مكة وكان المسلمون يشهدونها وشهد بعضها النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذه الأسواق ما كان في موسم الحج من تجارات مختلفة هذا فيما يتعلق بالتعامل التجاري مع الكفار داخل دار الإسلام والمسلمين أما التعامل التجاري مع الكفار في دار الحرب فهو جائز حيث كان ذلك مقررًا من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كانت تجارة عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما ذاهبة وآيبة بين الشام والمدينة وكانت الشام دار حرب على الإسلام والمسلمين، فالسفر إلى بلاد الكفار لغرض التجارة، مع حفظ العبد لدينه، وقدرته على إظهار دينه أمر لا مانع منه عند توفر الأسباب الداعية إلى ذلك وانتفاء الموانع التي يخشى منها على دين الإنسان ونفسه وماله (2). ولا شك أن أسواق الكفار تشتمل على المعصية، أو ما يستعان به على المعصية فإن وجد الإنسان من نفسه القدرة على الامتناع عن مفاسدهم ومجانبة باطلهم جاز له السفر وإلا كان السفر في حقه محرمًا، عند ضعف القدرة عن مقاومة الإغراءات ووسائل الفساد في المجتمع الكافر عملاً بالحديث الشريف «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (3) ومن دخل دار الحرب من المسلمين وهو مبعوث لرسالة أو تاجر، أو طالب معرفة لديهم، بأمان منهم فخيانتهم محرمة عليه، لأنهم إنما أعطوه الأمان مقابل ترك خيانتهم، وعدم الاعتداء على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم (4).
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم/ ابن تيمية ص230 - 232. وانظر أحكام أهل الذمة ج1 ص270.
(2)
انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم/ ابن تيمية ص230 - 232. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج8، ص221.
(3)
رواه النسائي والترمذي، وقال حديث حسن صحيح. انظر جامع العلوم والحكم/ عبد الرحمن بن شهاب الحنبلي ص101.
(4)
انظر الفتاوى السعدية/ ابن سعدي ج1 ص97.
ولا يجوز للمسلم الذي يحمل التجارة إلى دار الحرب، أن يحمل لهم ما يستعينون به على منكر لديهم، فلا يجوز حمل عنب أو تمر أو شعير يتخذونه خمرًا، وكذلك لا يجوز أن يبيعهم سلاحًا يقاتلون به مسلمًا. أما بيعهم ما هو مأكول وملبوس ومركوب مما هو مباح لنا ولهم فهو جائز (1).
وأهل الذمة وأهل العهد، إذا زاولوا التجارة في دار الإسلام فإن للحاكم المسلم الخيار بين أخذ العشر أو نصف العشر أو أكثر من ذلك أو أقل أو أن يسمح لهم ويعفيهم من أي التزام مالي، أو يعفي بعض البضائع دون بعض، وذلك لما يراه في صالح الإسلام والمسلمين، فهذه الأمور مبنية على رعاية المصلحة العامة للمسلمين في دار الإسلام، وتخضع للسياسة الشرعية المتمشية مع مصلحة الأمة وسلامتها (2).
أما حكم التعامل معهم وأخذ نقودهم وهم قد يكسبونها عن طريق الربا أو القمار أو الفواحش أو ما إلى ذلك.
فجمهور العلماء على جواز التعامل معهم، وإن كانت مصادر أموالهم محرمة لاقتحامهم ما حرم الله، فقد دل الدليل على ذلك من الكتاب والسنة قال تعالى:(وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ)(3). وهذا نص في حل طعامهم مع أنه قد يدخل عليهم بطرق محرمة، وعامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وأقر التعامل معهم في مناسبات شتى، وقد رجح القرطبي ذلك (4).
أما التعامل معهم بالربا في خارج دار الإسلام أو السماح لهم بالتعامل بالربا مع المسلمين أو بين بعضهم البعض في دار الإسلام فلا يجوز قولاً واحدًا للأدلة القطعية المتواترة من الكتاب والسنة (5). لأن الله عز وجل إذا
(1) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم - ابن تيمية ص230 - 232.
(2)
انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص149 - 175.
(3)
سورة المائدة آية (5).
(4)
انظر تفسير القرطبي ج6 ص12 - 13.
(5)
انظر المغني والشرح الكبير ج10 ص515.
حرام على المسلم أمرًا، فإنه لا يجوز أن يستحل هذا المحرم في أي زمان أو مكان إلا ما ورد الشرع بتخصيصه كالميتة ونحوها، ذلك أن تحريم هذه المحرمات أمر مطلق، فلا يجوز للإنسان أن يتعلل باستباحته للمحرم أنه موجود في مجتمع كافر لا حرمة له، فقد كان المسلمون يعيشون مع كفار قريش في مكة، واليهود في المدينة ومع ذلك لم يقع منهم تعامل مع هؤلاء الكفار، في الربا أو القمار أو نحو ذلك (1).
والربا والقمار حكمهما كحكم الزنا، وقد وردت الآيات الدالة على تحريم الزنا مطلقة من غير تخصيص على تحريم الزنا بالمسلمات فقط (2). ويقول الإمام الشافعي رحمه الله:«الإسلام ملزم للمسلم حيثما كان بوجوب تطبيق أحكامه وأداء فرائضه من عبادات وواجبات وهي لا تسقط إذا كان في بلاد الكفار أو غيرها من الديار، ما دام حيًا عاقلاً مختارًا» (3).
وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر «إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله» (4) وفي هذا الوعيد ما يدل على أنه لا يجوز لأهل الذمة وأهل العهد التعامل بالربا ونحوه من المحرمات في جميع الشرائع فلا وجه لما يتعلل به بعض المهزومين في عقيدتهم وأخلاقهم من أن السماح في بعض المحرمات إنما هو لوجود فئة من أهل الذمة وأهل العهد من غير المسلمين، كما تفعل ذلك بعض المؤسسات الاقتصادية العاملة في بعض البلاد الإسلامية حيث تتعامل بالربا بصورة ظاهرة وخفية، وتعلن الحرب على الله ورسوله والمؤمنين وهي بذلك تخرج على شريعة الله وتخالف أمره، ومن حارب الله فقد هزم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ
(1) المصدر السابق، ص515.
(2)
انظر الخراج لأبي يوسف ص189.
(3)
انظر الحرب والسلم في شريعة الإسلام د/ مجيد خدوري ص199.
(4)
انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام د/ عبد الكريم زيدان ص110.
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (1). فوجود غير المسلمين في بلاد الإسلام لا يبرر إباحة الربا بأي وجه من الوجوه في البلاد الإسلامية.
أما مشاركة المسلم لغير المسلم في تجارة ونحوها، فإن الشافعية يكرهون مشاركة المسلم لغير المسلم في المعاملات المالية، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«لا تشاركن يهوديًا ولا نصرانيًا ولا مجوسيًا، لأنهم يربون والربا لا يحل» (2).
وقال الحنابلة تجوز المشاركة بشرط أن لا يخلو غير المسلم بالمال دون المسلم، لأن غير المسلم يعمل بالربا، فإذا تولى المسلم العدل تصرفات الشركة بنفسه زال المحذور فتجوز المشاركة حينئذ بهذا الشرط (3). وطائفة الكفار المحاربين الممتنعين ينصر بعضهم بعضًا فهم كالشخص الواحد لذا فإنه يجوز للحاكم أن يشترط عليهم عند دخولهم إلى بلاد الإسلام أن لا يأخذوا للمسلمين شيئًا، وما أخذوا بطريقة غير مشروعة يكونون ضامنين له، والمضمون يؤخذ من أموال التجار المحاربين عامة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأسير العقيلي حين قال:«يا محمد، علام أوخذ فقال بجريرة خلفائك من ثقيف» وأسره النبي صلى الله عليه وسلم وحبسه لينال بذلك من حلفائه مقصوده.
ولو أسرنا حربيًا قادمًا إلى دار الإسلام لأي غرض بقصد تخليص من أسٍروه منا جاز ذلك باتفاق المسلمين (4). ولنا أن نحبسه حتى يردوا أسيرنا ولو اخذنا مال حربي حتى يردوا علينا ما أخذوه لمسلم جاز ذلك إذ اشترط عليهم الإمام ذلك عقد الأمان عند الدخول (5).
(1) سورة البقرة آية (278، 279).
(2)
المصدر السابق ص555. رقم (2).
(3)
انظر المغني ج5 ص3 - 4.
(4)
انظر مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص516.
(5)
المصدر السابق نفس المكان.
وبناء على ذلك إذا قام الكفار المحاربون بالتضييق على المسلمين لديهم، فيجوز للمسلمين معاملة الكفار المستأمنين بمثل ما يعامل به المسلمون في بلاد الكفار عملاً بقوله تعالى:(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ)(1) ولكن هذه المعاملة ليست مطلقة من كل وجه، فقد يتعامل الكفار مع المسلمين في دار الكفر بأنواع من الظلم، ولا مجاراة في الظلم وهذا ما يؤكد أن مصدر حقوق الأجنبي في دار الإسلام هي الشريعة الإسلامية وما تمثله من أخلاق كريمة ومثل عليا (2).
أما أهل الذمة فلا يجوز أخذهم بجريرة غيرهم من الكفار ما لم يتواطئوا مع أهل الحرب وتثبت خيانتهم، فعند ذلك يجوز معاقبتهم بجريمة خيانتهم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع بني قريظة عندما انحازوا إلى الأحزاب وظاهروهم على المسلمين (3). قال تعالى:(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا)(4).
ونستنتج مما تقدم أنه محرم على المسلمين أفرادًا وحكومات أن يتعاملوا بالربا سواء فيما بينهم أو مع البنوك الأجنبية في بلادهم حيث إن الأصل هو عدم السماح لأي مصرف في البلاد الإسلامية أن يتعامل بالربا على أي شكل من الأشكال، كما أن تعامل الأفراد أو الدول بالربا مع البنوك الربوية خارج البلاد الإسلامية أمر محرم لا يجوز، لأن الواجبات والمحرمات لا تسقط عن المسلم في أي مكان كان ما دام عاقلاً مختارًا (5).
وعلى هذا فإن الذين يمنحون التصاريح المتعددة للبنوك الربوية التي
(1) سورة النحل آية (126).
(2)
انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام. د/ عبد الكريم زيدان ص74.
(3)
انظر تهذيب سيرة ابن هشام ص225 - 235.
(4)
سورة الأحزاب آية (26).
(5)
انظر الحرب والسلم في شرعة الإسلام د/ مجيد خدوري ص199.
ملأت كل مدينة وقرية وكل منعطف وشارع، موالين لأعداء الله، محاربين لله ورسوله والمؤمنين بأعمالهم، وإن نافقوا بأقوالهم، وادعوا أنهم مسلمين فإن المسلم الحقيقي هو الذي يقف عند حدود الله، فلا يحل ما حرم الله من أنواع الربا، فمن استحل التعامل بالربا فقد خرج من الإسلام. قال تعالى:(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(1).
(1) سورة المائدة آية (44).