الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقديم: حول افتراق هذه الأمة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» ، وفي رواية «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة» (1)، والحديث بسنده ومعناه صحيح في الجملة، وقد اختلف العلماء في كون هذه الفرق في النار، فقال قوم هو أن هذه الفرق تدخل النار لبدعتها، وإن كانت، لا تخلد فيها، لأنه لا يخلد فيها منهم إلا من وصل ببدعته إلى حد الكفر، مثل الغلاة من الفرق الباطنية، الذي يؤلهون عليا، أو ينكرون تمام الرسالة أو القرآن أو يئولون أركان الإسلام تأويلاً فاسدًا مثل تأويلات الدروز والنصيرية لأحكام الإسلام.
(1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ج1 ص12 - 23، رقم الحديث (203، 204).
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة» فيه دلالة على أن هذه الفرق كلها غير خارجة عن الإسلام، إذ قد جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم كلهم من أمته، وفيه أن المتأول لا يخرج من الملة وإن أخطأ في تأويله (1). اهـ.
واختلف العلماء في أهل البدع:
القول الأول: من كفرهم جميعًا وهذا القول قال به بعض المتأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو إلى المتكلمين (2).
القول الثاني: من كفر الجهمية دون الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة. وقد قال بهذا القول: يوسف بن أسباط وعبد الله بن المبارك وتبعهم على ذلك طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم (3).
القول الثالث: من لا يكفر أحدًا من أهل البدع، بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قول الرسول صلى الله عليه وسلم «في النار» مثل ما جاء في سائر الذنوب من أكل مال اليتيم ونحو ذلك (4).
ويقول: ابن تيمية رحمه الله «وفصل الخطاب في هذا الباب يذكر أصلين:
الأصل الأول: أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقًا، وإذا كان الأمر كذلك، فأهل البدع فيهم الزنديق حيث كان
(1) انظر تهذيب سنن أبي داود لابن قيم الجوزية ج7 ص154. وانظر إجابة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. مجلة الدعوة السعودية عدد (821) الاثنين 27/ 1/1402هـ. ص26.
(2)
انظر فيما تقدم مذكرة في الملل والنحل أملاها الدكتور/ محمد رشاد سالم على طلاب قسم العقيدة في كلية أصول الدين للعام الدراسي 96/ 1397هـ. من ص6 - 7.
(3)
المصدر السابق المكان نفسه.
(4)
المصدر السابق المكان نفسه.
رؤساء أهل البدع منافقين زنادقة وهذا كفر ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطن وظاهر، ولكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ومن أهل البدع من يكون فيه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا، لا يرقى به إلى درجة الكفر. ومن أهل البدع من يكون مخطئًا ومتأولاً مغفورًا له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى، ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه» (1).
الأصل الثاني: إن المقالة الواحدة يختلف حكمها بحكم قائليها فمن جحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، أو أباح الزنا والخمر والربا ونكاح ذوات المحارم، فهذه المقالة كفر بواح لا غبار عليها.
وقد يقول بذلك إنسان لم يبلغه الخطاب، ولم تبلغه الشرائع (2) الإسلامية فلا يكفر بذلك، لأنه لا يحكم بكفر من جحد شيئًا مما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يعلم أنه أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم (3). اهـ.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل يفضل اليهود والنصارى على الغلاة من الفرق الباطنية.
فأجاب: أن كل من كان مؤمنًا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو خير من كل من كفر به، وإن كان في إيمانه ذلك نوع من البدعة، سواء كانت بدعة التشيع، أو من المرجئة والقدرية وغيرهم، فإن اليهود والنصارى كفار كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق
(1) المصدر السابق ص7.
(2)
روى عبد الله بن بسر أن أعرابيًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به، قال:«لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله» . انظر سنن ابن ماجه ج4 ص418 رقم (3855) وانظر مسند أحمد ج4 ص188 - 190.
(3)
انظر فيما تقدم مذكرة في الملل والنحل أملاها الدكتور/ محمد رشاد سالم على طلاب قسم العقدية في كلية أصول الدين للعام الدراسي 96/ 1397هـ ص7.
للرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالفًا له، لم يكن كافرًا به، ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم (1).
ويقول عبد القاهر بن طاهر البغدادي (2) إن وصف «أمة الإسلام» لا يشمل إلا من كان مقرًا بحدوث العالم، وتوحيد صانعه، وقدمه وصفاته، وعدله، وحكمته، ونفى التشبيه عنه، وآمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبعموم رسالته إلى الكافة، وقام بتأييد شريعته، واعتقد أن كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق وبأن القرآن الكريم خال من الزيادة أو النقص، وأنه مع السنة متبع أحكام الشريعة، وأن الكعبة هي القبلة التي تجب الصلاة إليها، فكل من أقر بذلك، ولم يشبه ببدعة تؤدي إلى الكفر فهو من أهل السنة الموحدين الداخلين في مسمى أمة الإسلام (3).
ثم يقول: «إن فرقة الزيدية والإمامية معدودتان في فرق الأمة الإسلامية، ما عدا الغلاة منهما فخارجون عن الإسلام» .
أما الفرق الباطنية كالدروز والنصيرية والقرامطة ونحوهم فهي ليست من فرق الإسلام بل هي فرق خلطت بين المجوسية والنصرانية والإسلام فأخذت من كل بطرف زيادة في التضليل والنفاق (4). اهـ.
(1) انظر الفتاوى لابن تيمية ج35 ص201.
(2)
هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله التميمي البغدادي الشافعي (أبو منصور) فقيه، أصولي، متكلم، أديب، مشارك في أنواع من العلوم، ولد ببغداد ونشأ بها وسكن نيسابور ودرس بها سبعة عشر عامًا وتوفي بأسفرايين سنة (429هـ) من مؤلفاته الكثيرة: الكلام في الوعيد الفاخر في الأوائل والآواخر، شرح المفتاح لابن القاص في فروع الفقه الشافعي، الملل والنحل للبغدادي، كتاب التفسير، التكملة في الحساب، وله أشعار كثيرة. انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحاله ج5 ص309.
(3)
انظر الفرق بين الفرق/ عبد القاهر بن طاهر البغدادي ص12 - 13.
(4)
انظر الفرق بين الفرق/ عبد القاهر بن طاهر البغدادي ص21.
وقد عدَّ ابن تيمية رحمه الله فرقة النصيرية التي تدعى العلوية من الفرق الخارجة عن الإسلام (1). اهـ.
وعلى هذا فإن الحكم على الفرق المنتسبة إلى الإسلام يختلف باختلاف نظرتها واعتقادها في أصول الإسلام، فمن يعتقد في أصل من أصول الإسلام ما يوجب الكفر يحكم بكفره ومن يعتقد تأويلاً باطلاً في أصل من الأصول فإنه لا يحكم بكفره ولكنه يوصف بالفسق والعصيان إذا كان هذا التأويل لا يوجب الكفر وذلك مثل اعتقاد بعض الشيعة بأن الصلاة جماعة غير واجبة حتى يخرج المهدي المنتظر في زعمهم فمن حافظ على الصلاة منفردًا منهم فلا يكفر بترك الجماعة لأن مسألة حضور الجماعة ليست أصولية يحكم بكفر من تركها.
فالخلاف في الأصول الشرعية لا يعذر فيه أحد، ولذلك لما كتب أحمد بن علي القاسمي رسالة إلى عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله يقول فيها «ولا يعترض أحد منا على أحد في مذهبه، وكل مجتهد مصيب» فرد عليه عبد العزيز - وهو من العلماء العاملين والحكام العادلين - بقوله «هذا في مسائل الفروع، لا في الأصول، حيث إن المشركين من اليهود والنصارى وغيرهم يدَّعون أنهم مصيبون (2). قال تعالى: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (3)» .
وقال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)(4). اهـ.
فمن المعلوم أن أهل السنة والجماعة وإن اختلفوا في بعض المسائل
(1) انظر الفتاوى لابن تيمية ج32 ص145 - 161 وانظر الفرق بين الفرق/ عبد القاهر بن طاهر البغدادي ص252 - 255.
(2)
انظر الدرر السنية ج1 ص148 - 150.
(3)
سورة الأعراف آية (30).
(4)
سورة الكهف آية (103، 104).
الفقهية الفرعية، فإن اختلافهم ناجم عن اجتهاد محض، ودوافع بريئة من كل شائبة في غالب أحوالهم، وهذا الاختلاف إن كان اختلاف تنوع في بعض المسائل الفرعية فهو أمر لا يعيب المختلفون فيه بعضهم بعضًا.
وإن كان اختلاف تضاد في مسائل فرعية فيجوز وصف أحد المخالفين بالخطأ والآخر بالصواب، ولكن المخطئ لا يخرج من ملة الإسلام ما لم يتعمد سلوك الخطأ عن علم ويقين، أما من أخطأ عن اجتهاد منه في مسألة فرعية، فلا ضير عليه (1).
أما الخلاف في أصل من أصول الإسلام فهو أمر لا يجوز قولاً واحدًا، ومن خالف في أصل من أصول الإسلام فحكمه الكفر، ومن يخالف في أصل واحد كمن يخالف في سائر الأصول، ومذهب أهل السنة والجماعة فيمن خالف في أصل من أصول الإسلام أنهم يوجبون البراءة منه ومن قوله وفعله واعتقاده (2).
ولذلك فإن دراستنا لأي فرقة من الفرق المنتسبة إلى الإسلام يقودنا إلى دراسة أهم الأصول الاعتقادية والشعائر التعبدية لتلك الفرقة من واقع مصادرها الأصلية، وما قاله عنها جهابذة العلماء عبر التاريخ، ثم بعد الاطلاع على الأسس والمنطلقات العقائدية لتلك الفرق نستطيع تصنيفها وترتيبها، ومعرفة درجة الموالاة والمعاداة التي ينبغي لأهل الإسلام الالتزام بها من واقع أقوال وأفعال مؤسسي تلك الفرق وأتباعهم إلى عصرنا الحاضر.
وقد يقول معترض أن البحث في الفرق الإسلامية وخلافها من أهل السنة والجماعة عمل سلبي وتحصيل حاصل لا يترتب عليه فائدة لأطراف
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم/ ابن تيمية ص37 - 39.
(2)
انظر تبديد الظلام وتنبيه النيام/ إبراهيم سليمان الجيهان ص63.
النزاع سوى إذكاء روح العداوة بينهما كلما هدأت الفتنة بمرور الزمن وحانت فرصة الوحدة والالتقاء.
ونحن نرد على هذا الاعتراض بأن غرض العلماء من بيان هذا الأمر في كل زمان ومكان، هو بيان بطلان الباطل من تلك العقائد الضالة، لئلا تتخذ مع مرور الزمن، أمور مسلمة عند سلامتها من النقد والمناقشة والاعتراض، فإن رجع أصحابها عنها فقد رجعوا إلى الحق، وإن تمسكوا بها فقد تمسكوا بالباطل، فبيان بطلانها واجب على المسلمين للمسلمين، وللكفار الذين يتخذون من اعتقادات بعض فرق الباطنية وسيلة للطعن في الإسلام وتشويه نظامه المميز الفريد.
ونحن قد نلجأ إلى الغلظة في الكلام بناء على الحقائق المذهلة التي قد يكون إثباتها جارحًا لبعض الفرق، مما قد يجعلهم يصفون هذا الأسلوب بأنه نوع من التطرف والتشنج والانفعال الخالي من الحوار الهادئ، والجدل الموضوعي.
ونحن نرد: بأن المقام مع من يعبثون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويتسلون بدماء المسلمين وأعراضهم ليس مجرد الغلظة في الكلام ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل.