المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفرع الأول: موالاة الكفار في السفر إليهم والإقامة بينهم - الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية - جـ ٢

[محماس الجلعود]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث: الموالاة والمعاداة لأهل الأهواء والفرق

- ‌الفصل الأول: الموالاة والمعاداة لأهل الأهواء

- ‌المبحث الأول: موالاة أهل العصيان والفسوق ومعاداتهم

- ‌المبحث الثاني: موالاة المنافقين ومعاداتهم

- ‌المبحث الثالث: موالاة المرتدين ومعاداتهم

- ‌المبحث الرابع: موالاة الخارجين عن السلطة ومعاداتهم

- ‌المبحث الخامس: موالاة السلطة الحاكمة ومعاداتها

- ‌الفصل الثاني: الموالاة والمعاداة للفرق التي تنتسب إلى الإسلام

- ‌تقديم: حول افتراق هذه الأمة

- ‌المبحث الأول: موالاة ومعاداة الفرقة الزيدية

- ‌المبحث الثاني: موالاة ومعاداة الشيعة الاثنى عشرية

- ‌المبحث الثالث: موالاة ومعاداة الطائفة النصيرية

- ‌المبحث الرابع: موالاة ومعاداة الدروز

- ‌الباب الرابع: موالاة الكفارة ومعاداتهم

- ‌الفصل الأول: منهج التعامل مع الكفار

- ‌المبحث الأول: الإسلام بين دعوى التعصب والتسامح مع الكفار

- ‌المبحث الثاني: مفهوم الحرب والسلم في الإسلام

- ‌المبحث الثالث: تعامل المسلمين مع أهل الذمة والعهد في دار الإسلام

- ‌المبحث الرابع: تعامل المسلمين مع الكفار المحايدين

- ‌المبحث الخامس: تعامل المسلمين مع الكفار المحاربين

- ‌المحاربون من أهل الأوثان

- ‌المحاربون من اليهود

- ‌المحاربون من النصارى

- ‌الفصل الثاني: مظاهر الولاء للكفار

- ‌التمهيد لدراسة هذا الفصل

- ‌المبحث الأول: موالاة الكفار في الحقول العامة

- ‌المثال الأول: إطلاق حرية الدعوة إلى الكفر بين المسلمين

- ‌المثال الثاني: السماح بتعليم الكفر وتعليمه بين المسلمين

- ‌المثال الثالث: إباحة ظهور المحرمات بين المسلمين إرضاء للكفار وأشباههم

- ‌المثال الرابع: إطلاق يد الكفار في بناء المعابد لهم في بلاد المسلمين

- ‌المثال الخامس: منح الكفار حرية التنقل والإقامة بين المسلمين

- ‌المثال السادس: تمليك الكفار لما يتخذونه موضعًا لمعصية الله

- ‌المثال السابع: تأجير الأماكن والذوات لمن يتخذها هدفًا لمعصية الله

- ‌المبحث الثاني: موالاة الكفار في العلاقات الاجتماعية

- ‌الفرع الأول: السلام على الكفار والزيارة لهم

- ‌الفرع الثاني: تهنئة الكفار والثناء عليهم

- ‌الفرع الثالث: تشييع موتى الكفار وتعزيتهم في ذلك

- ‌الفرع الرابع: الزواج بالنساء الكافرات وتزويجهم المسلمات

- ‌المبحث الثالث: موالاة الكفار في الشئون الاقتصادية

- ‌المثال الأول: إباحة التعامل بالربا مع الكفار ومن أجلهم

- ‌المثال الثاني: إعطاء المساعدات المالية للكفار

- ‌المثال الثالث: تمكين الكفار من استغلال أموال المسلمين

- ‌المثال الرابع: تمكين الكفار من الوظائف الهامة في البلاد الإسلامية

- ‌المثال الخامس: توريث الكفار والنفقة عليهم من أهل الإسلام

- ‌المبحث الرابع: موالاة الكفار في الشؤون الحربية

- ‌الفرع الأول: الاستعانة بالكفار في القتال

- ‌الفرع الثاني: الدخول في حماية الكفار

- ‌الفرع الثالث: الاستعانة بسلاح الكفار

- ‌المبحث الخامس: موالاة الكفار في الحقوق الجنائية

- ‌الفرع الأول: قتل المسلم بالكافر

- ‌الفرع الثاني: إهانة المسلم بما دون القتل دفاعًا عن الكافر

- ‌الفرع الثالث: الستر على جواسيس الكفار وحمايتهم

- ‌المبحث السادس: موالاة المسلم للكفار في بلادهم

- ‌الفرع الأول: موالاة الكفار في السفر إليهم والإقامة بينهم

- ‌الفرع الثاني: موالاة الكفار في العمل لديهم وتحت ولايتهم

- ‌الفصل الثالث: العقوبات المترتبة على موالاة الكفار

- ‌المبحث الأول: العقوبة التعزيرية لمن يوالي الكفار

- ‌المبحث الثاني: العقوبة الإلهية التي تجري وفق السنة الربانية بحق من يوالون الكفار ويؤذون المؤمنين

- ‌المبحث الثالث: العقوبة الأخروية لمن يوالون الكفار

- ‌الفصل الرابع: واقع المسلمين اليوم من موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين

- ‌أولاً: فلسطين:

- ‌ثانيًا: أفغانستان:

- ‌ثالثًا: الفلبين:

- ‌خامسًا: المسلمون في كمبوديا:

- ‌سابعًا: المسلمون في الهند:

- ‌ثامنًا: جزر القمر:

- ‌تاسعًا: المسلمون اليونانيون:

- ‌عاشرًا: المسلمون في تونس:

- ‌الحادي عشر: موزمبيق:

- ‌الثاني عشر: أوغندا:

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌الفرع الأول: موالاة الكفار في السفر إليهم والإقامة بينهم

‌الفرع الأول: موالاة الكفار في السفر إليهم والإقامة بينهم

يختلف حكم السفر والإقامة بدار الكفار تبعًا لاختلاف النية والمقصد الباعث على السفر والإقامة عند الكفار، فقد ورد في الحديث الصحيح «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1). والنية إنما تدل عليها الأعمال الظاهرة، فإن كانت الأعمال الظاهرة حسنة والنية حسنة فالعمل حسن، وإن كانت النية سيئة فالعمل سيئ ولو حسن العمل في الظاهر لأنه يدخل حينئذ في باب النفاق.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الإقامة في كل بلد تكون لأسباب فإذا كانت في موضع يكون فيه أطوع لله ورسوله، وأفعل للحسنات والخير، بحيث يكون المسلم أعلم بذلك وأقدر عليه، وأنشط له، فهي أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة الله ورسوله دون ذلك» (2). اهـ. ومن ذلك نستدل على أن الإقامة في بلد - ما - أمر نسبي

(1) رواه البخاري ومسلم: انظر جامع العلوم والحكم/ عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ص5.

(2)

انظر مجموع الفتاوى/ ابن تيمية ج27 ص39.

ص: 847

يتعلق بنية الشخص نفسه، والظروف المحيطة به، فقد تكون إقامة المسلم في أرض يسود بها الضلال ويستعلي بها الكفر، أفضل إذا كان مجاهدًا في سبيل الله، داعيًا إلى منهج الله بقوله وفعله من إقامته في أرض كل أهلها من الناس الصالحين الطيبين (1).

ولذلك يمكن تقسيم السفر والإقامة بين الكفار إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: مَنْ سفره مأمور به شرعًا وصاحبه مجاهد في سبيل الله حتى يرجع وذلك إذا كان الذهاب إلى الكفار بقصد الدعوة إلى الله، أو تعلم ما هو وسيلة إلى مرضاة الله وخذلان أعدائه. ودليل هذا النوع سفر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف يعرض الإسلام عليهم، وكانت كلها دار كفر في ذلك الوقت، فلم يمنعه ذلك من السفر إليها والإقامة بينهم بعض الوقت. وكذلك بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسل إلى ملوك أهل الأرض ومن حولهم وهم كفار، فقد بعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس ودحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر - وهو هرقل - ملك الروم، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر، وشجاع بن وهب بن أسد بن خزيمة إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك عرب النصارى، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك النصارى بالحبشة وهو أصحمة بن الحر (2).

فهؤلاء الأشخاص الذين يستحب لهم الذهاب إلى الكفار يشترط فيهم أن يكونوا عارفين لدينهم بأدلته الشرعية. متمسكين بعقيدتهم مأمونًا عليهم في ظاهر حالهم من الوقوع في الفتنة، قاصدين من سفرهم وسكناهم مع الكفار إظهار دين الله والدعوة إليه، ومعرفة ما يعينهم على ذلك.

القسم الثاني: من أقسام السفر والإقامة مع الكفار ما يكون مباحًا.

(1) انظر الابتعاث ومخاطره/ محمد بن لطفي الصباغ ص12.

(2)

انظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج4 ص180.

ص: 848

وهو من كان سفره لحاجة دنيوية كتجارة أو علاج وهو عارف لدينه بأدلته آمن من الفتنة، مظهر لدينه بعداوة الكفار والبراءة منهم، قادر على التأثير في الكفار دون التأثر بهم، وهذا ما حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام في تجارة، وهذا السفر دليل قاطع على جواز السفر إلى الكفار والتجارة معهم. فإن قيل، كان ذلك قبل النبوة، فالرد أنه صلى الله عليه وسلم لم يتدنس قبل النبوة بحرام، ولا اعتذر عن ذلك حين بُعِثَ، ولا منع أحدًا من الصحابة في حياته ولا منع ذلك أحد من خلفائه بعد وفاته.

فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى، وفي حمل الرسائل إلى ملوك أهل الأرض، فقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أهل مكة وهم أهل حرب للإسلام والمسلمين فدل ذلك على أن السفر لغرض مباح يكون مباحًا ولغرض مستحب يكون مستحبًا (1).

وقد كان للتجار المسلمين تأثير عظيم على كثير من البلدان التي ارتحلوا إليها، فحملوا معهم بضاعة الدعوة إلى الله بجانب البضائع الدنيوية فكانوا بذلك فاتحين لبلاد لم تطأها أقدام الجيوش الإسلامية، وإنما انتشر الإسلام فيها بفضل الله ثم بفضل أولئك الذين حملوا الإسلام بأقوالهم وأفعالهم فكانوا قدوة حسنة ومثلاً أعلى يقتدي بهم، ومن هذه البلاد أندونسيا وماليزيا ومعظم الدول الواقعة في شرق وجنوب آسيا ووسط أفريقيا وشرقها مثل تشاد ونيجيريا ويوغندا والسودان والصومال وما حولها.

القسم الثالث: ما يكون سفره وإقامته في بلاد الكفار حرام وكبيرة من كبائر الذنوب، وذلك من كان سفره لحاجة دنيوية وهو عارف لدينه بأدلته آمن من الفتنة، ولكنه غير قادر على إظهار دينه وتأدية شعائر الإسلام علانية وبحرية تامة، من فعل للواجبات وترك للمحرمات، وإظهار البغض والعداوة للكفار والبراءة منهم، فهذا لا يكون سفره وإقامته بين الكفار كفر ولكن

(1) انظر سير القرطبي ج6 ص13.

ص: 849

السفر والإقامة بين الكفار في هذه الحالة معصية تختلف درجتها باختلاف القدر المسموح به من إظهار الدين أو عدمه، ولذلك يجب على المسلم أن يحتاط لنفسه في هذه الناحية فلا يجوز السفر أو الإقامة في بلد لا يسمح أهله بإظهار شعائر الإسلام، وذلك مثل البلاد الشيوعية وما شاكلها، ولكن للأسف الشديد إن بعض الدول المعاصرة مثل اليمن والصومال وسوريا وليبيا وغيرها من الدول ترسل أعدادًا من أبناء المسلمين إلى الدول الشيوعية مثل روسيا وكوبا وتشيكوسلفاكيا والمجر وبلغاريا وغيرها من الدول الشيوعية، مع العلم أن هذه الدول لا تسمح للمسلم بمزاولة أي شعيرة من شعائر الإسلام، فلا يرضى بذلك من المسئولين والطلاب إلا أناس ليسوا من الإسلام في شيء (1).

القسم الرابع: من أقسام السفر والإقامة مع الكفار، ما يكون ردة وخروج عن الإسلام، وهذا الحكم ينطبق على كل من سافر إلى الكفار وأقام معهم مدة طويلة أو قصيرة، فرضي عن الكفار، وأظهر الموافقة على كفرهم، ومدح ما هم فيه من كفر، أو استحسن ذلك وأظهر لهم المودة والاحترام مع ما هم متلبسين به من كفر، فولاهم موالاة المحب لمحبوبه وركن إليهم، وأنس بقربه منهم، ولم يتميز عنهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال فهو منهم (2)، قال تعالى:(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(3).

وعلى ضوء ذلك يمكن القول: بأنه إذا استطاع المسلم إظهار الإسلام في بلد لم تحرم الإقامة فيه على من صان دينه وباين الكفر وأهله وأظهر العداوة لأعداء الله (4). وعلى ذلك يمكن حمل مفهوم الآيات والأحاديث

(1) انظر مجموعة التوحيد ص47، 303.

(2)

انظر رسالة في الجهاد/ للشيخ عبد الرحمن بن حماد آل عمر ص31 - 32.

(3)

سورة المائدة آية (51).

(4)

انظر الدرر السنية ج9 ص213.

ص: 850

الواردة في ذم مساكنة الكفار والإقامة معهم على من لم يقدر على إظهار دينه، أو رضي عنهم وتابعهم على دينهم وإن كان يدعي الإسلام، فمن الأدلة الواردة في ذم مخالطة المشركين على ذلك الوصف المتقدم ما يلي:-

أولاً- قول الله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)(1). لأن الرضا بالكفر كفر، وعلى هذا استدل العلماء بأن الراضي بالذنب كفاعله، لأن الذي يدعي الإسلام، ويكون مع المشركين في الاجتماع بهم، والنصرة لهم، والسكن معهم بحيث يعده المشركون أو المرتدون عن الإسلام أنه واحد منهم، فهو كافر مثلهم، وإن ادعى الإسلام (2).

ولا فرق في ذلك بين المدة القريبة أو المدة البعيدة، فكل بلد لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيه، لا يجوز له المقام فيه ولو يومًا واحدًا إذا كان يقدر على الخروج منه (3). فحكم الإقامة كحكم السفر في ذلك، نظرًا لما يترتب عليهما من منافع أو مفاسد متشابه في حق الفرد والأمة على حد سواء (4).

وقد قال القرطبي في الآية المتقدمة في قوله تعالى: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)(5): إن هذه الآية نزلت في المنافقين الذين يجالسون أحبار اليهود

(1) سورة النساء آية (140).

(2)

انظر مجموعة التوحيد ص48.

(3)

المصدر السابق المكان نفسه.

(4)

المصدر السابق المكان نفسه.

(5)

سورة النساء آية (140).

ص: 851

فيسخرون من القرآن وهم معهم، فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر ولم يستطع تغييره.

وقال الكلبي (1) إن هذه الآية منسوخة (2). بقوله تعالى: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(3).

قال القشيري (4)، إن الآية الأخيرة ليست منسوخة بالأولى بل المعنى ما عليكم من حسابهم إذا قمتم بتذكيرهم وزجرهم أما إذا رضيتم فلا يجوز الجلوس معهم ويصبح حينئذ أمرًا محرمًا (5)، وقال قتادة: إن الآية التي تفيد عدم مسئولية المسلمين بعد النصح والبيان منسوخة (6). بقوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)(7). ولكن الراجح أن هذه الآية الأخيرة متناولة لعموم المسلمين في حق عموم الكفار، أما الفرد المسلم في بلاد الكفار فمن غير المتصور أنه بعد نصحه للكفار أن يقاتلهم إذا لم

(1) هو محمد السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبي (أبو النضر) مفسر، إخباري، نسابة، راوية، ولد بالكوفة وشهد وقعة دير الجماجم مع ابن الأشعث وتوفي بالكوفة سنة (146هـ) من آثاره: تفسير القرآن الكريم.

انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحاله ج10 ص15.

(2)

انظر تفسير القرطبي ج5 ص418.

(3)

سورة الأنعام آية (69).

(4)

يوجد بهذا الاسم:

1 -

القشيري (أبو الفضل) بكر بن محمد. انظر معجم المؤلفين ج3 ص74.

2 -

القشيري (أبو نصر) عبد الرحيم بن عبد الكريم. انظر معجم المؤلفين ج5 ص207.

3 -

القشيري (أبو القاسم) عبد الكريم بن هوازن. انظر معجم المؤلفين ج6 ص6. وانظر الإعلام للزركلي ج5 ص198.

ولم يتضح لي صاحب هذا القول منهم.

(5)

انظر تفسير القرطبي ج7 ص15.

(6)

المصدر السابق نفس المكان.

(7)

سورة التوبة آية (5).

ص: 852

يستجيبوا له لأن القتال مسئولية جماعية في حق الأمة وليس واجبًا فرديًا على أفراد المسلمين المتواجدين داخل دار الكفار (1).

ثانيًا - قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)(2).

يقول سيد قطب رحمه الله: يمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان متجاوزًا تلك الحالة الخاصة في مكة إلى ما يماثلها في كل زمان ومكان يلحق هذا الحكم كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض، ثم تمسكه أمواله ومصالحه وقراباته وصداقاته وخوفه من متاعب التنقل والارتحال إلى دار الإسلام (متى وجدت) التي يحيا فيها حياة إسلامية في ظل شريعة الله (3).

ثالثًا - قول الله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)(4). يقول القرطبي: إن الآية دليل على عدم الدخول إلى أرض العدو ودخول الكنائس والبيع، ومجالسة الكفار وأهل البدع وهم في تلك الحالة التي نهي عن مجالستهم فيها وقلما تجد الكفار في حالة من حالات الإعراض عن الخوض في آيات الله، وهذا الأمر يستدعي الانتباه عند مجالسة الكفار ورد باطلهم عليهم عند تعرضهم لأحكام الله وآياته أو مفارقتهم عند عدم القدرة على الإنكار عليهم (5).

(1) انظر تفسير القرطبي ج5 ص417 - 418 وج7 ص14 - 15.

(2)

سورة النساء آية (97).

(3)

انظر في ظلال القرآن/ سيد قطب م2 ص498 - 500.

(4)

سورة الأنعام آية (68).

(5)

انظر تفسير القرطبي ج7 ص12.

ص: 853

رابعًا: عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة -أو قال- لا ذمة له» (1).

وروي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: أما بعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» (2) وفي هذين الحديثين وعيد شديد لمن جامع المشركين وساكنهم اختيارًا وخاصة من لم يستطع إظهار دين الله عندهم وإعلان البراءة منهم ومن كفرهم فليحذر المسلمون المقيمون بين الوثنين والمرتدين والنصارى والمجوس من أن يلحقهم هذا الوعيد الشديد الذي قد يؤدي بهم إلى الخروج عن دائرة الإسلام، فهذا الوعيد الشديد يقتضي تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين لمن عجز عن إظهار دينه وهو قادر على الهجرة إلى بلد يظهر فيه الإسلام، كما أن السفر إلى البلاد التي لا يُظهر فيها دينه لا يجوز له ذلك، لما يترتب على ذلك من ترك شعائر الإسلام، وإظهار الدين ليس كما يتصوره البعض من مجرد إقامة الصلاة والصيام والزكاة والحج وعداوة القلب وبغضه للكفار سرًا، فإن ذلك لا يكفي في النجاة من عذاب الله، بل لا بد مع ذلك من إظهار المعتقد الصحيح ومخالفة كل طائفة من طوائف الكفر فيما اشتهر عنها والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء والبراءة منهم ومما يعبدون (3). وهذه ملة إبراهيم الخليل عليه السلام وهي الدين القويم والصراط المستقيم، ومبناها الحب في الله والبغض في الله والموالاة فيه والمعاداة فيه، إذ هي أوثق عرى الإيمان ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كَثُرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك (4).

(1) انظر أحكام القرآن للجصاص ج2 ص542. وقد ذكر الرازي في كتاب الجرح والتعديل ج2 ص502. أن له صحبة وأنه روى عن مالك وقيس بن حازم والشعبي.

(2)

رواه أبو داود في سننه ج3 ص93. وقال عنه الألباني: حديث حسن. انظر صحيح الجامع الصغير ج6 ص279.

(3)

انظر مجموعة التوحيد ص300.

(4)

انظر كتاب الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض تأليف/ سليمان بن سحمان ص6 مخطوطة في جامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413).

ص: 854

يقول الشيخ سليمان بن سحمان معقبًا على ذلك بما يلي: «إن قولنا لا تجوز الإقامة والسفر إلى بلاد المشركين لمن لا يستطيع إظهار دينه، ولم يكن من الضعفاء المعذورين وهذا لا يعني كفر من فعل ذلك، وإنما هو آثم عاص، ولكن يلحق من أباح واستباح السفر والإقامة بدون قيد أو شرط فهذا كافر لإباحته ما حرم، الله، لا لمجرد السفر أو الإقامة عند الكفار» (1). اهـ.

أما من يرى إباحة ذلك لجهله وعدم علمه بأن في ذلك نصًا شرعيًا يمنع السفر والإقامة بدون إظهار الدين، أو يرى الإباحة بناء على تأويل أو شبهة عرضت له، ولم يتبين له وجه الحق، فهذا إن كان رده لأجل هذه الشبهة التي عرضت له، فإن عمله هذا قادح في إيمانه، لأنه لم يبذل الوسع في طلب الحق والتحقيق في الأمر، بل حسَّن الظن بمن يقلد وهو دون الأول الذي لا شبهة في كفره وتكفيره، ولكنه على كل حال آثم في عدم البحث عن الحق وسؤال أهل الذكر كما أمر الله عز وجل.

وقد يحتج بعض الناس على جواز مخالطة الكفار والسفر معهم وإليهم والإقامة بينهم بما يجري داخل الدولة الإسلامية في جواز وجود الذميين والمستأمنين بين المسلمين. فما هو الفرق بين إقامة الكفار في دار الإسلام أو إقامة بعض المسلمين بدار الكفار؟

والجواب على ذلك أن أهل الذمة والمستأمنين في دار الإسلام يعلم الخاص والعام أنهم يعيشون في ظل الدولة الإسلامية ويعاملون معاملة خاصة بحيث لا يكون لهم تأثير سلبي على الأمة الإسلامية، فأهل الإسلام متميزون عنهم بدينهم ولهم الغلبة والظهور والقهر على الأعداء فلا يقاس

(1) المصدر السابق ص8.

ص: 855

هذا على مخالطة الكفار في ديارهم حال ظهورهم وغلبتهم على أهل الإسلام أو كونهم هم أهل الغلبة والسلطان في بلادهم (1).

ولا شك أن مخالطة الكفار ومعاشرتهم بغير نية دعوة، وصلابة عقيدة وسيلة من الوسائل المحرمة، والوسائل تتخذ حكم غاياتها، فأكثر المسافرين والمخالطين والمعاشرين لأهل الكفر هم من الغوغاء والعوام من المسلمين وغالبًا أن هؤلاء لا يعرفون ما أوجب الله عليهم من معاداة المشركين، ولا ما حرم الله ورسوله من موالاتهم، وأن منها ما يخرج من الملة ومنها ما هو دون ذلك (2). وقد يستدل البعض الآخر على جواز مساكنة الكفار والإقامة معهم بهجرة المسلمين إلى الحبشة والإقامة بين الكفار، ونحن نقول إن الذهاب من حيث المبدأ إلى الكفار جائز بشرط إظهار الدين علانية ومعاداة المشركين لأن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا كذلك، فإن النجاشي أظهر الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم والقرآن حين قرأ عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صدر سورة مريم أذعن وصدق، وأظهر المخالفة لقومه.

وأيضًا فإن قريشًا لما بعثوا عمرو بن العاص رضي الله عنه قبل إسلامه إلى النجاشي ليرد من هاجر إليه من المسلمين غضب النجاشي غضبًا شديدًا حتى خاف عمرو أن يوقع به ورد هدايا قريش إليها وقال مخاطبًا لجعفر وأصحابه «اذهبوا فأنتم سيوم (3) بأرضي من سبكم غرم» (4). فأظهروا دينهم ووحدوا ربهم ولم يمنعهم منه أي مانع، ولم يعارضهم معارض، ولم يحصل منهم موالاة أو ركون لمن كان هناك من النصارى

(1) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان الدوسري ص33 مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413).

(2)

المصدر السابق ص42.

(3)

سيم من سوم الماشية إذا أرسلها، وسوّم فلان فلانًا، خلاه وما يريد. المعجم الوسيط ج1 ص468.

(4)

انظر الدرر السنية ج9 ص197 - 198.

ص: 856

ولا وقع منهم شيء مما يُكره فعله في حق المسلم، وإنما صاروا دعاة إلى الله بأقوالهم وأفعالهم وسببًا في إسلام من أسلم من أهل الحبشة فأين أولئك الصفوة الكرام من الذين يسافرون ويقيمون بدار الكفار في وقتنا الحاضر إننا نجد أن كثيرًا من المنتسبين إلى الإسلام اليوم إذا ذهبوا إلى بلاد الكفار ركنوا إليهم واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين، وأظهروا الموافقة والإعجاب والتقدير لأهل الكفر ومناهج الكفار، وعادوا إلى المسلمين دعاة إلى الكفر إلا من عصم الله منهم، فنجدهم ينادون بموادة أهل الشرك ومحبتهم بأقوالهم وأفعالهم، ويستغلون وظائفهم في الإعلام والتعليم وغير ذلك من المجالات لخدمة أعداء الإسلام، ولم يكتفوا بذلك بل إن البعض منهم نصب نفسه لمعاداة الإسلام وأهله، وهذا خروج عن الإسلام أعاذنا الله من ذلك.

أما من يستدل على جواز مساكنة الكفار بقصة مؤمن آل فرعون على اعتبار أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه، فإنه قد أظهر دينه وقام على فرعون وملائه مقامًا عظيمًا، فنصحهم ودعاهم، فقد قال الله عنه:(وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ)(1). فأظهر لهم إيمانه ودعاهم إليه، وقال الله في حقه:(فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ)(2). فقد قام على آل فرعون مقام أنبيائهم فما داهن في دينه، ولا كتمه بل أظهر المخالفة لفرعون وقومه فما حصل منه إلا ما يحبه الله ويرضاه (3).

وقد تساءل الشيخ سليمان بن سحمان عن المقام بدار الكفر ثم رد على هذا التساؤل بأبيات هي كما يلي:-

(1) سورة غافر آية (38).

(2)

سورة غافر آية (45).

(3)

انظر الدرر السنية ج9 ص197 وانظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض. سليمان بن سحمان ص75 - 76.

ص: 857

ترى المرء يكفيه الصلاة وصومه

وإظهاره في الصحب إني لمسلم

وأبغض أهل الكفر لكن أخافهم

فلست أريهم ما يسيء ويؤلم

وليس بشرط أن أصرح عندهم

بتكفيرهم جهرًا ولا أتكلم

وكيف وأموالي لديهم وعندهم

معاشي وأوطاني فكيف التقدم

إذا لم أوافقهم وربي عالم

بما ينطوي قلبي عليه ويكتم

من الحب للإسلام والدين والهدى

وبغضي لأهل الكفر والله يعلم

فإن كان هذا الحب والبغض كافيًا

ولو لم أصرح بالعداوة فيهموا

فما وجه هذا من كتاب وسنة

أجيبوا على هذا السؤال وأفهموا (1)

وأجاب على ذلك بأبيات هي كما يلي:

والله حرم مكث من هو مسلم

في كل أرض حلها الكفارُ

ولهم بها حكم الولاية قاهرًا

فاربأ بنفسك في المقام شنارُ

وانظر حديثًا في البراءة قد أتى

نقل الثقات رواته الأخيارُ

(1) ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان ص221.

ص: 858

فيه البراءة بالصراحة قد أتت

من كل من يسكن مع الأشرار

قد صرحت فيمن أقام ببلدة

مستوطنًا وولاتها الكفار

والمرء ليس بمظهر للدين بل

للمكث في أوطانه يختارُ

إلا الذي هو عاجز مستضعف

فالنص جاء بعذره لا العار (1)

ويقول في قصيدة أخرى:

وحبكم الدنيا وإيثار جمعها

على الدين أضحى أمره قد تحكما

لذلك داهنتم وواليتموا الذي

بأوصاف أهل الكفر قد صار مظلمًا

وجوزتمو من جهلكم المسافر

إقامته بين الغواة تحكما

بغير دليل قاطع بل بجهلكم

وتلبيس أفاك أراد التهكما

ويا مؤثر الدنيا على الدين إنما

على قلبك الران الذي قد تحكما

وعاديت بل واليت فيها ولم تخف

عواقب ما تجني وما كان أعظما

أغرتك دنياك الدنية راضيًا

بزهرتها حتى أبحت المحرما (2)

(1) ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان ص76 - 77.

(2)

المصدر السابق ص198 - 200.

ص: 859

فمن المعلوم أن عداوة المشركين واجبة على كل مسلم في كل زمان ومكان وعداوة القلب وبغضه لا تكفي في إبراء الذمة عند مساكنة الكفار ومخالطتهم، بل لا بد من إظهار العداوة لهم، ولكفرهم بالقول والفعل كما قال تعالى: في شأن إبراهيم عليه السلام (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)(1). فلا بد من إظهار العداوة والبغضاء للكفار، والتصريح لهم بالبراءة منهم ومما يعبدون، سواء كان المسلم بدار الإسلام أم بدار الكفر، إلا عند وجود الإكراه المجلئ الذي يحمل الإنسان على موافقة الكفار في الظاهر دون الباطن، أو كان من المستضعفين المعذورين عند الله، وفيما عدا هذه الحال لا يجوز للمسلم المقام بين الكفار وهو غير مظهر للدين مع أنه حر طليق قادر على الانتقال عنهم ومفارقتهم، فالعذر في موافقة الكفار في الظاهر دون الباطن خاص بالأسير المسلم ونحوه الذي أمره ليس بيده، وإنما أمره بيد الكفار، وهذا لا ينطبق على الذين يسافرون إلى بلاد الكفار ويقيمون بينهم برغبتهم، وهم قادرون على تركها في أي وقت شاءوا فهؤلاء لا عذر لهم في مداهنة الكفار وموافقتهم في الظاهر وإن خالفوهم في الباطن.

وقد يقول قائل أنا لا أتبرأ من المشركين ولا أعاديهم لأن هذه الآية وغيرها من الآيات ليست نصًا في الحكم على من لم يعاد المشركين.

والجواب: أن يقال: إن قولك هذا رد على الله وخروج من الدين، لأن الله عز وجل يقول:(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)(2).

(1) سورة الممتحنة آية (4).

(2)

سورة المجادلة آية (22).

ص: 860

فهذه الآية دلت على انتفاء الإيمان الواجب لمن قام بموادة من حاد الله عز وجل، كما دلت بمفهوم المخالفة على محبة المؤمنين المطيعين لله.

ومن يرى أن إظهار العداوة والتصريح بها للكفار خاص بالرسل إذ هي البلاغ الذي عليهم، ولا تجب على آحاد الناس فهذا القول من أبطل الباطل وأعظم المغالطات (1)، حيث إن الله تعالى قد بين أن الموالاة والمعاداة من سنة أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، فلا يرغب عن سنة إبراهيم إلا من سفه نفسه قال تعالى:(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)(2). فعداوة القلب وبغضه وموالاته لا تكفي في النجاة من عذاب الله مع القدرة على إظهار العداوة والتصريح بها بين الكفار لمن يسافر باختياره ويقيم بينهم بمحض إرادته فأين التصريح بالعداوة والبغضاء ممن يسافر إلى بلاد الكفار في وقتنا الحاضر؟

إن الذي يحصل غالبًا من أحوال المسافرين والمقيمين عند الكفار هو الموافقة وإظهار الرضا وربما الإعجاب بكفرهم، حتى لقد رجع الكثير منهم دعاة إلى الماسونية والصليبية والشيوعية والإباحية البهيمية، والشخص المتمسك بالإسلام والذي يعتبر من العاضيَّن عليه بالنواجذ في بلاد الكفار هو الذي يسكت عن هؤلاء الكفار ويعتزلهم، ويجد ويجتهد في حماية نفسه من أن يذوب فيما لديهم من مستنقعات الفساد وأوحال الرذيلة، والإغراءات العفوية والمتعمدة التي يرسمها الأعداء للإيقاع بأبناء المسلمين.

وبناء على ذلك فإن إظهار الدين - الذي هو ترك المحرمات وتأدية الواجبات وإظهار العداوة للكفر والكفار - أمر يتعذر تحقيقه وحصوله في

(1) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان ص49. (مخطوطة) بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413).

(2)

سورة البقرة آية (130).

ص: 861

معظم بلاد الكفار، فإن السفر والإقامة في تلك البلاد التي لا يظهر المسلم فيها دينه بالشروط المعتبرة عند العلماء عمل محرم، وغير جائز في الإسلام، كيف لا يكون ذلك! والهجرة مستحبة من بلاد الكفار إلى دار الإسلام وإن كان المسلم قادرًا على إظهار دينه، فكيف إن لم يقدر على إظهار الدين؟ ألا يكون سفره وإقامته على تلك الحال عمل محرم ودليل من أدلة موالاته للكفار إن لم يكن مكرهًا على ذلك إكراهًا ملجئًا (1).

يقول الشيخ سليمان بن سحمان: «إن مذهبنا أن لا نكفر من سافر إلى بلاد الكفار أو جلس عندهم وهو مظهر للإسلام موالي لأهله مبغض للكفر معاد لأهله.

وإنما نكفر من أقام بدار الكفار، ووافقهم على كفرهم ورضي به. وأذل الدين لأجل غرض دنيوي.

أما من أقام في دار الكفار وهو قادر على الهجرة ولم يتمكن من إظهار دينه فمقامه بينهم محرم لا يرقى إلى درجة الكفر ما لم يحصل موافقة للكفار في الظاهر والباطن» (2) اهـ.

ومن الأسباب التي دعت العلماء إلى أن يهتموا بموضوع السفر والإقامة بين الكفار هو ما رأوه من آثار سيئة وانتكاسات كبرى لحال كثير من الذين وطنوا أنفسهم على المقام بين الكفار فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.

يقول الشيخ سليمان بن سحمان: «إن السفر إلى بلاد المشركين من الوسائل التي تجر إلى مخالطتهم، وتمنع من إظهار الدين عندهم ويقع بسببها إظهار الموافقة لهم، والبشاشة واللين عند مقابلتهم، والرضا أو عدم

(1) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان ص82. (مخطوطة) بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413).

(2)

المصدر السابق ص87 - 90.

ص: 862

المبالاة بأعمالهم، وهذا الأمر من أكبر الوسائل المفضية إلى مشاهدة المنكر والسكوت عنه، فالإثم لا يحصل بمجرد المخالطة وإكثار السفر والإقامة بينهم وإنما بالرضا والموافقة على كفرهم ويدخل فيه ما هو دون ذلك من الفجور وقول الزور والظلم والفسوق، وأنواع المعاصي فإن الرضا بأعمال الكفر كفر، والرضا بما دون الكفر كل بحسبه كذلك» (1). اهـ.

وقد قال ابن دقيق العيد: «إن الوسيلة إلى الطاعة طاعة كما أن الوسيلة إلى المعصية معصية» (2). اهـ.

وقد نهى الله عز وجل عن الوسائل المفضية إلى الكفر قال تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(3). فذكر تعالى أن علة النهي عن الزواج بالمشركين والمشركات أنهم يدعون إلى النار في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم وأن مخالطتهم مصدر من مصادر الخطر على المسلمين، وهذا الخطر ليس خطرًا دنيويًا فقط بل قد يكون شقاءً أبديًا، فيستفاد من تعليل النهي في الآية السابقة النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع، لأنه إذا لم يصح التزوج من الكفار على قول من قال بالتحريم أو على قول من قال بكراهية ذلك (4)، مع أن الزواج فيه مصالح كثيرة، فالخلطة المجردة من أهداف الدعوة إلى الله أولى خصوصًا الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك على المسلم حسًا ومعنى (5).

(1) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان ص56، الورقة (28) مخطوطة بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (3413).

(2)

المصدر السابق المكان نفسه.

(3)

سورة البقرة آية (221).

(4)

انظر صفحة 700 - 712 من هذه الرسالة.

(5)

انظر تفسير ابن سعدي ج1 ص274 - 275.

ص: 863

وينقل الشيخ سليمان بن سحمان عن ابن تيمية قوله: «أنه قال -أي شيخ الإسلام- في قوله تعالى: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (1). إن الطائفة المعفو عنها كانت عاصية، لا كافرة إما بسماع الكفر دون إنكاره أو بالجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله، أو بكلام هو ذنب وليس كفر» (2) اهـ.

وقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)(3). فقد ذكر بعض المفسرين أن الزور عيد المشركين، فيكون الحكم هو النهي عن حضور أعياد المشركين وما في حكمها من أفعال كفرهم (4). قال تعالى:(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(5).

وبناء على ما تقدم فإن الإقامة الاختيارية المصحوبة بالرضا في المقام ببلد يعلو فيه الشرك والكفر، وتظهر منه مظاهر الردة والنكول عن الإسلام وترفع فيه شعارات الإلحاد والفساد لهو مقام لا يرتضيه الله من المسلم، ولا يرضاه المسلم الحقيقي لنفسه، حيث إن المسلم لا يمكن أن تطمئن نفسه في بلد تهدم فيه أركان التوحيد، وترفع فيه شعائر الكفر ويسوده الطغاة والفجرة، ويستذل فيه أهل الإيمان والإسلام.

إن الرضا بالمقام في مثل هذا الوضع لا يصدر إلا عن قلب رانت عليه الذنوب والمعاصي، وانطفأت فيه جذوة الإيمان، واستمرأ الملذات واستعبدته الشهوات حتى فقد الإحساس بالمسئولية نحو نفسه ونحو الإسلام

(1) سورة التوبة آية (66).

(2)

انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان، مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413) ص57.

(3)

سورة الفرقان آية (72).

(4)

انظر تفسير القرطبي ج13 ص79 - 80.

(5)

سورة الأنعام آية (68).

ص: 864

والمسلمين وماتت في نفسه الغيرة على محارم الله وأحكام الإسلام. ويستثنى من ذلك المستضعفون الذين يقيمون مع الكفار بغير رغبة أو رضًا أو اختيار منهم، قال تعالى:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)(1) فهؤلاء لا إثم ولا حرج عليهم، ولكن معظم المسلمين الذين يقيمون في بلدان الكفر اليوم لا ينطبق عليهم وصف الاستضعاف، حيث إن معظمهم يذهب إليها برغبة منه واختيار، ولمقاصد مادية وأهداف دنيوية بحتة، لا صلة لها بالعمل للإسلام والمسلمين، وهذا هو المحذور الشرعي في خلطة الكفار والمقام بينهم (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(2).

أما المسلم المستضعف الذي يقيم بين الكفار فعليه أن يعلم أن مقامه حالة استثنائية ويجب عليه أن لا يرضى بالمقام بينهم، وأن يعلم أن المقام معهم على هذه الحال ضرورة يجب أن تزول باتخاذ أسبابها العاجلة والآجلة.

قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)(3). فبين تعالى مقالتهم الدالة على أنهم لم يقيموا مختارين للمقام، وذلك أنهم يدعون الله أن يخرجهم، فدل ذلك على حرصهم على الخروج، وأنه متعذر عليهم، ويدل على ذلك وصفهم أهل القرية بالظلم، وسؤالهم ربهم أن يجعل لهم وليًا يتولاهم ويتولونه، وأن يجعل لهم ناصرًا ينصرهم على أعدائهم الذين هم بين أظهرهم.

قال تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا

(1) سورة البقرة آية (286).

(2)

سورة التوبة آية (63).

(3)

سورة النساء آية (75).

ص: 865

يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا) (1). فذكر تعالى في هذه الآية حالتهم التي هم عليها وهي أنهم لا يستطيعون حيلة للخروج ولا يجدون طريقًا إلى ذلك (2).

والحاصل من ذلك أن المستضعفين هم العاجزون عن الخروج من بين أظهر المشركين وهم مع ذلك يطلبون من الله أن يهيء لهم الخروج ممن يقيمون معهم على الظلم.

فدل ذلك على أن المسلم إذا كان يقدر على الخروج من بلاد المشركين ولم يمنعه من ذلك إلا الرغبة في وطن المشركين وعشرتهم أو نحو ذلك، فإن الله تعالى لم يعذر من تعذر بذلك وسماه ظالمًا لنفسه فقال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)(3). قال ابن كثير وغيره: إن هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين فهو مرتكب حرامًا بالإجماع وبنص هذه الآية المتقدمة (4). اهـ.

قال السدي (5) لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «افد نفسك وبر أخويك» ، قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم نصل قبلتك ونشهد

(1) سورة النساء آية (98).

(2)

انظر مختصر تفسير ابن كثير/ محمد علي الصابوني م1 ص427.

(3)

سورة النساء آية (97).

(4)

انظر تفسير مختصر ابن كثير/ محمد علي الصابوني م1 ص427. وانظر زاد المسير في علم التفسير/ عبد الرحمن بن الجوزي ج2 ص178.

(5)

هو إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير القرشي (أبو محمد) مفسر، سكن الكوفة وتوفي سنة (127هـ) من آثاره تفسير القرآن الكريم. انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحاله. ج2 ص276.

ص: 866

شهادتك، قال «يا عباس إنكم خاصمتم فَخُصِمْتُم» ثم تلى قوله تعالى:(أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا)(1). رواه ابن أبي حاتم (2). اهـ.

ومن خلال تلك الآيات يتضح لنا أن المستضعف الحقيقي هو الذي لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً للخروج من دار الكفار أما الذي يقيم مع الكفار برغبته واختياره إيثارًا لحب الأهل والمال والولد والمسكن غير ضائق بالمقام بين الكفار، وهو غير مظهر للدين، فهو كاذب في دعواه وعذره غير مقبول عند الله تعالى ولا عند رسوله، ولا عند أهل العلم بشريعة الله، ولذلك فإن الناس في موضوع الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام على ثلاثة أضرب:

الضرب الأول: من تجب عليه الهجرة، وهو من يقدر عليها. ولا يمكنه إظهار دينه والقيام بواجبات الإسلام مع المقام بين الكفار.

فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)(3). وهذا وعيد شديد يدل على وجوب الهجرة لمن قدر عليها وهو في مجتمع لا يسمح بظهور شعائر الإسلام، لأن إظهار شعائر الإسلام واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (4).

الضرب الثاني: من لا هجرة عليه بسبب العجز عنها لمرض أو إكراه أو ضعف كالنساء أو الولدان ونحوهم، فمثل هؤلاء لا هجرة عليهم لقوله تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً

(1) سورة النساء آية (97).

(2)

انظر مجموعة التوحيد ص302.

(3)

سورة النساء آية (97، 98).

(4)

انظر المغني والشرح الكبير ج10 ص514 - 515.

ص: 867

وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (1). ولا توصف باستحباب لكونها غير مقدور عليها.

الضرب الثالث: من تستحب له ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها ولكنه يتمكن من إظهار دينه في دار الكفار، فتستحب له ليتمكن من جهاد الكفار وتكثير سواد المسلمين، ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة، فقد روي أن نعيم (2) النحام حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو عدي فقالوا له: أقم عندنا وأنت على دينك ونحن نمنعك ممن يريد أذاك، وأكفنا ما كنت تكفينا، وكان يقوم بأيتام بني عدي، وأراملهم فتخلف عن الهجرة مدة، ثم هاجر بعد ذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«قومك كانوا خيرًا لك من قومي لي، قومي أخرجوني وأرادوا قتلي، وقومك حفظوك ومنعوك» فقال: يا رسول الله: «بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله وجهاد عدوه، وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله» أو نحو هذا القول (3).

ومما تقدم يتبين لنا أن الناس في سفرهم وإقامتهم مع المشركين ينقسمون إلى قسمين:-

القسم الأول: من يجوز لهم السفر والإقامة بدار الكفار وهم:-

أولاً: من يقصد بسفره الدعوة إلى الله بقوله وفعله وهو متمكن من إظهار

(1) سورة النساء آية (98، 99).

(2)

هو نعيم بن عبد الله النحام بن عدي بن كعب القرشي العدوي، أسلم قديمًا وكان من الأوائل في الإسلام. قيل أسلم بعد عشرة أنفس وقيل بعد ثمانية وثلاثين إنسانًا وكان يكتم إسلامه أول الأمر، ثم أظهره وأراد الهجرة فمنعه قومه لأنه كان ينفق على الأرامل من بني عدي، فقالوا له أقم عندنا على أي دين شئت، فوالله لا يتعرض إليك أحد إلا ذهبت أنفسنا جميعًا دونك، ثم قدم مهاجرًا بعد ست سنين من الهجرة واستشهد في اليرموك سنة خمس عشرة من الهجرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقيل استشهد بأجنادين سنة ثلاث عشرة في خلافة الصديق رضي الله عنه.

انظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة ج5 ص33 - 34.

(3)

انظر: المغني والشرح الكبير ج10 ص514.

ص: 868

دينه مأمون عليه من الفتنة في ظاهر حاله مظهرًا الموالاة للمسلمين والمعاداة للكافرين.

الثاني: من يكون سفره مباحًا شرعًا وهو من سافر لبيع وشراء أو علاج أو نحو ذلك وهو عارف بدينه مأمون عليه في ظاهر حاله من الفتنة مظهرًا الموالاة للمسلمين والمعاداة للكافرين.

الثالث: المستضعفين من النساء والولدان ونحوهم الذين لا يستطيعون حيلة للخروج ولا يجدون طريقًا إلى ذلك.

القسم الثاني: الذي لا يجوز لهم السفر والإقامة بدار الكفار وهم:

أولاً: من يكون سفره وإقامته ببلاد الكفار حرام أو كبيرة من كبائر الذنوب، وذلك من يسافر لحاجة دنيوية وهو عارف لدينه، مأمون عليه من الفتنة، ولكنه لا يستطيع إظهار دينه، وتأدية شعائر الإسلام علانية وبحرية تامة.

ثانيًا: من يكون سفره وإقامته ببلاد الكفار ردة وكفر وذلك في حق من أظهر الموافقة للكفار على كفرهم، واستحسن ما هم فيه من كفر ومدحه، ولم يتميز عنهم بتحليل الحلال وتحريم الحرام (1)، فهو صورة طبق الأصل لهم وقد قال الله فيمن هذه صفته (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(2).

وبناءً على ذلك فإن الأصل في منهج الإسلام هو إبقاء المسلم في دار الإسلام، والانتقال إليها من دار الكفر، وأما عكس ذلك وهو الانتقال من دار الإسلام إلى دار الكفر، فهذا مشروط بشروط ومقيد بقيود يجب على المسلم الملتزم بالإسلام حقًا وصدقًا الوقوف عندها، وعدم تجاوزها، وقد

(1) انظر الجهاد: تأليف/ عبد الرحمن بن حماد آل عمر ص 31 - 32.

(2)

سورة المائدة آية (51).

ص: 869

أشرنا فيما تقدم إلى ثلاثة أنواع من المسلمين يجوز لهم السفر والإقامة بين الكفار وفي دار الكفر، وذلك أن سفرهم ومقامهم بين الكفار إما لمصلحة الدعوة الإسلامية كالذين يدعون إلى الإسلام، أو الذين يزاولون أعمالاً مشروعة مع محافظتهم على الواجبات وترك المحرمات وإظهار الحق ومودته، وانتقاد الباطل وكراهيته، وإما لمصلحة النفس وهؤلاء هم المستضعفون من المسلمين، وتلك الحالات الثلاث لا تنطبق على معظم المبتعثين إلى الدول الكافرة ولا على المسافرين إليها.

وعلاج هذه الظاهرة في رأيي لا يكون بإغلاق الحدود بيننا وبين الكفار ولكن بتعميق مفهوم الإيمان في النفوس وغرس القناعة الذاتية في الأفراد فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم حواجز حول المدينة ليبحث مقاصد المسافرين ويمنع الناس من السفر إلى بلاد الشام ومكة قبل الفتح وإنما كان يعلم أن لدى كل مسلم حصانة ذاتية من داخل النفس بسبب صدق الإيمان وقوة الإسلام.

أما اليوم وقد فُقِدَت هذه الحصانة الذاتية والمناعة الداخلية فإنه يجب على الدول التي تدعي الإسلام أن لا تسمح للمسلم بالخروج إلى دار الكفار إلا إذا أبرز المسلم شهادة تزكية معتبرة تدل على صلاحه واستقامته في ظاهر حاله وأنه مظنة التأثير دون التأثر، وأنه يتمتع بقسط كبير من التقوى والورع الذي يمنح النفس القدرة على مقاومة إغراءات الكفار ومفاسدهم كما يقاوم الجسم القوي السليم عدوى الأمراض الجسدية والوبائية.

واشتراط شهادة التزيكة والعدالة أمر لا اعتراض عليه حسب معرفتي وتقديري، لأنه إذا كانت الدول تشترط على المسافرين منها وإليها إحضار شهادة تطعيم دولية ضد الأمراض المعدية الحسية، فإن خطر الأمراض الاعتقادية والفكرية والسلوكية على الإنسان المسلم أشد من خطر الأمراض الجسدية لأن إصابة الإنسان في عقيدته وسلوكه قد تجعله من المخلدين في نار جهنم.

ص: 870

ولذلك يجب دراسة أحوال المبتعثين والمسافرين إلى الدول الكافرة ومعرفة موقف تلك الدول من أبناء المسلمين الموجودين فيها ومدى تمكينها لهم من مزاولة واجبات الإسلام، وهل تسعى إلى إفسادهم بالطرق المختلفة أم لا؟

فإذا توفرت الأسباب الصالحة والمبيحة للمقام بين الكفار جاز ابتعاث الطلاب والسفر إلى الدول الكافرة، عند الحاجة إلى ذلك.

ولكن الحاصل في عصرنا الحاضر خلافًا لما يجب أن يكون، فأعداء الأمة الإسلامية هم الآمرون الناهون في معظم الأقطار الإسلامية، ولذلك تراهم قد جعلوا الابتعاث والسفر إلى بلاد الكفار بابًا من أبواب تكفير المسلمين وارتدادهم عن الإسلام وذلك أن الابتعاث يشتمل على سلبيات هي كما يلي:-

أولاً: إرسال شباب صغار السن من المرحلة الثانوية وما في مستواها وهم أجهل ما يكونون في عقيدتهم ودينهم، ولا يعرفون عيوب وسيئات الأنظمة والديانات في بلاد الكفار.

ثانيًا: إن معظم الشباب يبتعثون ويشترط عليهم أن يكونوا غير متزوجين، أو لا يشجعون على استصحاب أزواجهم معهم مما يترتب على ذلك فساد أخلاق كثير من المبتعثين وسقوطهم في حمأة الرذيلة، إلا من عصم الله.

ثالثًا: إغراق المبتعثين بالناحية المالية إما من أهله إن كان من أبناء التجار أو من ذوي السلطان، أو من الدولة حيث تدفع بعض الدول الإسلامية وخاصة النفطية مبالغ طائلة مما يكون لذلك مردود عكسي على معظم الطلاب في المجتمعات الكافرة أو شبه الكافرة.

رابعًا: إن الابتعاث يتم في كثير من الأحيان لأغراض تافهة ومقاصد هزيلة مثل أن يبتعث أناس لدراسة الموسيقى أو الرياضة أو ما إلى ذلك من

ص: 871

قضايا سطحية لا تفيد الأمة في دينها ودنياها ولا تخدمها في قضاياها الأساسية والمصيرية.

خامسًا: إن الدول التي تبعث بأبنائها إلى بلاد الكفار، لا توفر لهم الحماية اللازمة، في إظهار دينهم، وحرية عبادتهم في بلاد الكفار ولا تدعمهم بمالها وجاهها في ذلك، رغم أنها لوجدت في هذا الموضوع لاستطاعت تحقيق شيء مرضى في ذلك، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه.

سادسًا: إن التجربة أثبتت فشل معظم المبتعثين في عقيدتهم وسلوكهم وفي العلوم التي ابتعثوا لتحصيلها، نظرًا إلى أنهم يُرْمَون في بلاد الكفار بلا حسيب أو رقيب، سوى العيون التي تطارد كل من ينال من مقام الحاكم وقدسيته، أما مسألة العقيدة والأخلاق فإن الطالب في حل من ذلك، فليعتقد كل إنسان ما شاء، وليتخلق كل إنسان بما شاء من أخلاق الكفار وصفاتهم ما دام يعطي الولاء لصاحب السيادة والسلطان.

وقد عاد آلاف من الطلاب من الشرق والغرب، ومع ذلك فإن حال المسلمين تسير من سيء إلى أسوأ، فماذا حقق الطلاب الذاهبون الآيبون على مدى نصف قرن للبلاد الإسلامية؟ هل حققوا تقدمًا عسكريًا يستردون به الأوطان السليبة ويعيدون به الكرامة المهدورة تحت أقدام الصهاينة اليهود.

الأعداء ليسوا أغبياء كي يعلموا أبناء المسلمين علمًا هو سبب قوة الأعداء ضد الإسلام والمسلمين، فاللص مهما يكن غبيًا لا يسلم سلاحه لعدوه، لأنه يعرف أن سر تفوقه على عدوه هو هذا السلاح الذي بيده، وقد عاد إلينا كثير من الأبناء بقشور الغرب والشرق دون أن يحلموا معهم اللباب، فهم إما ببغاوات لمهازل الغرب، أو إمعات لسخافات الشرق، قد فقدوا أصالتهم الاعتقادية وشعائرهم التعبدية وأصبحوا ذيولاً لصهاينة الشرق والغرب.

ص: 872

والذي نستنتجه من هذا العرض المتقدم أن البلاد الإسلامية لو أخلصت دينها لله، وصدق قادتها في ولائهم للإسلام والمسلمين لحرصوا على ابتعاث الشباب المؤمن الصادق في إيمانه المخلص في عقيدته ولتحققت لهم ثلاثة أهداف رئيسية:

أولاً: أن يكون ابتعاث الشباب المؤمن وسيلة من وسائل الدعوة في بلاد قد خيم على أهلها ظلام الجاهلية، وظلم أنظمتها، حيث إن المسلم الملتزم بالإسلام يكون داعية بقوله وفعله وسلوكه في المجتمع الذي هو فيه كما حصل من معظم المسلمين، كانوا دعاة إلى الإسلام في أسفارهم إلى أفريقيا وجنوب شرقي آسيا.

الثاني: أن الشباب المؤمن سوف يكون جادًا في تعلم العلم النافع والتحصيل المفيد، مما يترتب على ذلك وجود الخبرة اللازمة للعلوم والصناعات الأساسية اللازمة لنمو الأمة وتطورها تطورًا صحيحًا، فإن الذي يطلب العلم بغير عقيدة أو مبدأ كريم لا يجني إلا القشور.

ثالثًا: إنه في أقل الأحوال تسلم عقيدة هؤلاء الشباب من الانحراف والتبديل، ويسلم المجتمع من شر المبادئ الهدامة والعقائد الضالة التي عاد بها كثير من المبتعثين إلى بلاد الإسلام.

فالسلامة في أقل الأحوال غنيمة بالقياس إلى من خسر الدنيا والآخرة نتيجة مخالطة الكفار والمقام بينهم كما هو شان كثير من المبتعثين والمسافرين إلى بلاد الكفار بصورة غير شرعية، فهل نتعظ بما سلف؟ أم لا تزال الأمة الإسلامية تلدغ عشرات المرات وهي في سباتها لا تفيق.

وخلاصة القول في موضوع السفر والإقامة بين الكفار أن هذا الأمر يدور على أربعة أحكام هي:-

1 -

الاستحباب.

2 -

الإباحة.

ص: 873

3 -

التحريم الذي لا يخرج من الملة.

4 -

التحريم الذي يقتضي الردة والكفر.

وقد فصلنا المقتضى لهذه الأحكام في أول هذا المبحث تفصيلاً نعتقد أن فيه الكفاية والله حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 874