الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثاني: إهانة المسلم بما دون القتل دفاعًا عن الكافر
ذكرنا فيما سبق حكم القصاص من المسلم إذا قتل كافرًا وبينا الحكم والراجح في ذلك، وفي هذا الفرع نتناول مسألة اعتداء المسلم على الكافر بما دون القتل، من لطم أو شجاج أو تجريح بالكلام أو نحو ذلك، وهل يجب على المسلم القصاص أو التعزير كما لو اعتدى على مسلم مساو له سواء بسواء؟ أم أن التعدي على الكافر ينظر إليه باعتبار آخر لما فيه من صفة الكفر؟
والجواب على ذلك أن اعتداء المسلم على الكافر الذمي أو المستأمن من أجل مصلحة دنيوية أو حقوق مادية موجب للقصاص والتعزير على العقوبات التي تدخل في هذا الباب. وهذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة حيث يرى أن المسلم والكافر يكافئ بعضهم البعض الآخر ما دام الكافر معصوم الدم بعهد أو أمان.
إلا أنه يرى القصاص مطلقًا، أما الشافعي وأحمد فيرون القصاص فيما دون النفس فقط. وخالف في ذلك الإمام مالك حيث يرى أنه لا
قصاص بين المسلم والكافر حتى فيما دون القتل فلو قطع مسلم يد كافر فلا يقتص من المسلم لانعدام التكافؤ، لأن القصاص فيما دون النفس يقتضي المساواة بين الطرفين ولا مساواة بين المسلم والكافر (1).
أما إذا اعتدى المسلم على الكافر الذمي أو المستأمن بسبب تطاولهما على الله ورسوله ودين الإسلام، فقام المسلم بتغيير ما صدر منهم من المنكر بالقول أو الفعل أو بهما معًا، وأدبهم على ذلك بضرب ونحوه وهو غير متجاوز في العقوبة ما يجب عليهم أصلاً من عقوبة تجاه هذا المنكر فإن المسلم في هذه الحالة لا يعاقب على ما صدر منه بحق الذمي أو المستأمن، ما دام أن ما صدر منه إنما كان بدافع تغيير المنكر الذي رآه بيده، فإن من حق كل مسلم أن يغير المنكر الذي يراه بيده أو قوله أو بقلبه عند أضعف درجات الإيمان، كما ورد في صحيح مسلم «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان» (2). سواء كان هذا المنكر صادرًا من مسلم أو معاهد أو ذمي، ما دام هذا المنكر غير مباح أصلاً في حق المعاهد أو الذمي كشرب الخمر أو أكل لحم الخنزير، فإنه ليس من حق المسلم أن ينكر على هؤلاء مثل ذلك الشيء الذي يرونه مباحًا في دينهم، ما لم يجاهروا بهذه المحرمات ويتحدوا بها مشاعر المسلمين.
أما ما عدا ذلك من المحرمات عند أهل الكتاب، فإن المسلم ينكر على المعاهد والذمي كما ينكر على المسلمين سواء بسواء، ولو اقتضى الأمر تأديبهم بالفعل أو القول - دون تعدٍ - فلا قصاص عليه ولا تعزير والدليل على ذلك ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قَد لُطِمَ وجهه فقال: يا محمد. إن رجلاً من أصحابك من الأنصار قد لطم وجهي. فقال: ادعوه، فدعوه، فقال:
(1) انظر التشريع الجنائي الإسلامي/ عبد القادر عودة ج2 ص215.
(2)
رواه مسلم. انظر صحيح مسلم ج1 ص69 (كتاب الإيمان) باب النهي عن المنكر.
ألطمت وجهه؟ قال: يا رسول الله، إني مررت باليهود فسمعته يقول: والذي اصطفى موسى على البشر، قال فقلت: أعلى محمد صلى الله عليه وسلم قال فأخذتني غضبة فلطمته. قال: لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جزى بصعقة الطور (1). فلم يقتص الرسول صلى الله عليه وسلم للذمي من المسلم وهذا دليل على أن المسلم لما كان الدافع إلى فعله هو الغيرة لله ولرسوله وكان الذمي متعد بموجب عقد الذمة الذي يلزم أهل الذمة بعدم قول أو فعل أي شيء فيه انتقاص لله ولرسوله ودين الإسلام، كان ذلك مسقطًا للجزاء على المسلم، وفي هذا الحديث دليل على أن الذمي أو المعاهد إذا أقدم على ما فيه انتقاص الإسلام والمسلمين جاز للمسلم المعروف بالعلم والعدالة تعزيره على ذلك، إذا كان الموقف لا يحتمل تأجيل ذلك ورفعه إلى الإمام، ولا عقوبة عليه في ذلك (2) ولكن ذلك لا يعني جواز ظلم المعاهد أو التعدي عليه بغير حق فقد ورد في الحديث «ألا من ظلم معاهدًا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة» (3). وهذا يدلنا على حسن رعاية الإسلام لحقوق غير المسلمين إلا عند إساءتهم للإسلام والمسلمين فحينئذ تسقط الحصانة عنهم، ويعاملون معاملة المحاربين للإسلام والمسلمين.
(1) رواه البخاري. انظر فتح الباري ج12 ص263.
(2)
انظر فتح الباري ج12 ص263 وانظر التشريع الجنائي الإسلامي عبد القادر عودة ج1 ص505 - 511.
(3)
أخرجه أبو داود والبيهقي - انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني م1 ص185 رقم الحديث (446).