الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المثال الرابع: تمكين الكفار من الوظائف الهامة في البلاد الإسلامية
إن الأصل في منهج الدول الإسلامية الحقيقة، أن لا يتولى الوظائف الخاصة والعامة إلا أهل الإسلام، لأن غير المسلمين قوم لا تؤمن خيانتهم، فقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(1).
ولذلك قال جمهور العلماء: بأنه لا يستعان بالكافر عند وجود من يقوم مقامه من المسلمين، وقد أصبحت هذه المسألة كقاعدة مطردة في حياة المسلمين السابقين (2).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «لا يجوز أن يولّى
(1) سورة آل عمران آية (118).
(2)
انظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج2 ص7. وانظر تفسير القرطبي ج4 ص179. وانظر الآداب الشرعية والمنح المرعية/ محمد بن مفلح الحنبلي ج2 ص462 - 464. وانظر مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص516 - 517.
الكتابي شيئًا من ولايات المسلمين على جهات سلطانية، ولا أخبار الأمراء، ولا غير ذلك من المناصب الهامة ذات المساس بمصالح الأمة وقوتها» (1). اهـ.
وقد روى الإمام أحمد رحمه الله بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه: «إن لي كاتبًا نصرانيًا» قال: مالك قاتلك الله! أما سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(2). ألا اتخذت حنيفًا مسلمًا قال. قلت: «يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه» .
قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أضلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله (3).
وورد على عمر رضي الله عنه كتاب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أما بعد. يا أمير المؤمنين فإن في عملي كاتبًا نصرانيًا لا يتم أمر الخراج إلا به، فكرهت أن أقلده دون أمرك، فكتب إليه عافانا الله وإياك قرأت كتابك في أمر النصراني. أما بعد: فإن النصراني قد مات. والسلام (4). يعني مراد عمر رضي الله عنه أنه لو قدر موت هذا النصراني فما كان معاوية صانعًا بعد موته فليصنعه الآن، وهذا أمر من عمر رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه بإبعاد النصراني وتولية غيره من المسلمين مكانه من غير مراجعة، وإخبار له بأن المسلمين في غنية عن أعداء الله في مثل هذه المهام، ومثل ذلك ما رواه هلال الطائي عن وسق
(1) مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص512.
(2)
سورة المائدة آية (51).
(3)
انظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص50 وانظر السنن الكبرى للبيهقي ج10ص127 كتاب آداب القاضي.
(4)
انظر أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية ج1 ص211.
الرومي قال كنت مملوكًا لعمر رضي الله عنه فكان يقول لي أسلم فإنك إن أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين، فإنه لا ينبغي أن أستعين على أمانتهم، من ليس منهم، فأبيت فقال لا إكراه في الدين. فلما حضرته الوفاة أعتقني فقال اذهب حيث شئت (1). ويروى أنه كتب بعض عمال عمر رضي الله عنه إليه يستشيرونه في استعمال الكفار، فقالوا: إن المال قد كثر ولا يحصيه إلا هم، فاكتب إلينا بما ترى، فكتب إليهم، «لا تدخلوهم في دينكم، ولا تسلموهم ما منعهم الله منه، ولا تأمنوهم على أموالكم، وتعلموا الكتابة فإنما هي حلية الرجال» (2).
ثم قال: من كان قبله كاتب من المشركين، فلا يعاشره ولا يؤازره ولا يجالسه، ولا يعتضد برأيه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستعمالهم ولا خليفته من بعده (3) اهـ.
وروي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى بعض عماله. «أما بعد: فإنه بلغني أن في عملك كاتبًا نصرانيًا، يتصرف في مصالح المسلمين والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (4). فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد -يعني ذلك الكاتب إلى الإسلام- فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به، ولا تتخذ أحدًا على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين» . اهـ. فأسلم حسان وحسن إسلامه (5).
ويروى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي هريرة (رضي الله
(1) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص37.
(2)
انظر أحكام أهل الذمة ج1 ص211.
(3)
انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص211.
(4)
سورة المائدة آية (57).
(5)
المصدر السابق ج1 ص214.
عنه) كتابًا جاء فيه «وأبعد أهل الشرك وأنكر فعالهم، ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك، وساعد على مصالح المسلمين بنفسك» (1).
وقد أمرنا الله عز وجل على لسان رسوله باتباع سنة الخلفاء الراشدين حيث روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ» (4).
فمما تقدم نستنتج أن توظيف الكفار في بلاد المسلمين كان في بداية الأمر نادرًا وقليلاً جدًا، وكان أمرًا مستنكرًا إلا عند الضرورة القصوى، رغم أن الكفار كانوا يعملون بصفة أجراء مستخدمين أذلاء مستصغرين أمام المسلمين، ولكن المسلمين مع ذلك كانوا يستعظمون هذا الأمر، فقد أنكر علي بن عيسى (5) على ابن الفرات تقليده ديوان الجيش لرجل نصراني
(1) المصدر السابق ج1 ص212.
(2)
انظر تفسير القرطبي ج4 ص179.
(3)
انظر ظهر الإسلام/ أحمد أمين ج1 ص83.
(4)
رواه ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود، وأبو داود والترمذي من رواية العرباض بن سارية وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. انظر جند الله ثقافة وأخلاقًا/ تأليف سعيد حوى ص 140. وانظر ص649 من هذه الرسالة.
(5)
يوجد علي بن عيسى بن عبيد الله (أبو الحسن) النحوي المعروف بالرماني، ولد سنة (296هـ) وكانت له يد طولى في النحو واللغة، والمنطق والكلام وله تفسير كبير، وتوفي سنة (384هـ) ولا أدري هل هو المقصود أم لا؟ حيث إنه كان في سن السادسة عشرة عندما توفي ابن الفرات. انظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج11 ص151. وانظر ج11 ص314.
فقال: «ما اتقيت الله في تقليدك ديوان الجيش رجلاً نصرانيًا، وجعلت أنصار الدين وحماة العقيدة والبيضة يقبلون يده ويمثلون أمره» (1) وللمهدي عامل نصراني تجاوز حدوده، فاستدعاه بعض المسلمين إلى القاضي سوار بن عبد الله وحضروا لديه، وبعد الأدلاء بالأقوال طلب البينة فشهدت على النصراني وتعديه منهج الحق، ثم خرج النصراني وعاد بكتاب المهدي الذي سبق أن أعطيه، فدخل المسجد هو وجماعة من النصارى ثم تجاوز الجالسين وحاول الخدم منعه فأبى حتى حضر أمام سوار بن عبد الله فدفع إليه الكتاب فرماه سوار ولم يقرأه، وقال ألست نصرانيًا؟ فقال: بلى. أصلح الله القاضي. ثم رفع سوار رأسه وقال جروه برجله خارج المسجد وأقسم أن لا ينظر له في شيء حتى يوفي المسلمين حقوقهم، فقال كاتب القاضي: قد فعلت اليوم أمرًا يخشى أن يكون له عاقبة. فقال: أعز أمر الله يعزك الله (2).
وفي عهد المهدي قويت شوكة أهل الذمة قليلاً ومكنهم من بعض المناصب التي هي بالقياس إلى ما يحصل في زماننا شيء لا يذكر، ولكن المسلمين في ذلك الوقت لقوة الإيمان لديهم وشدة حساسيتهم للمنكر - استعظموا ذلك، فاجتمع بعض الصالحين ثم ذهبوا إلى المهدي وأنشد أحدهم عند الخليفة هذه الأبيات:
بأبي وأمي ضاعت الأحلام
…
أم ضاعت الأذهان والأفهام
من صد عن دين النبي صلى الله عليه وسلم محمد
…
أله بأمر المسلمين قيام
ألا تكن أسيافهم مشهورة
…
فينا، فتلك سيوفهم أقلام
(1) انظر ظهر الإسلام/ أحمد أمين ج1 ص83.
وانظر كتاب الوزراء/ للصابي ص95.
(2)
أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص217.
فكتب إلى جميع عماله أن لا يتركوا أحدًا من أهل الذمة يكتب عند أحد منهم (1).
وقد ذكر المؤرخون والعلماء أن من فضائل هارون الرشيد أنه ما قلد أحدًا من أهل الذمة منصبًا يضار المسلمون من خلاله، فقد قلد الفضل بن يحيى أعمال خرسان، وجعفرا أخاه، ديوان الخراج، ولذلك عُمِرت المساجد والجوامع وأقيمت الصهاريج وأماكن السقيا، وجعلت الدواوين لليتامى والعجزة ولو مكن لأهل الذمة لما حصل شيء من ذلك (2).
وفي عهد المأمون كان يحضر مجلسه يهودي، فأتى أحد الشعراء المسلمين وأراد أن يوقع بهذا اليهودي، أو يسلم، فأنشد أبياتًا منها:
يا ابن الذين طاعته في الورى
…
وحكمه مفترض واجب
إن الذي عظمت من أجله
…
يزعم هذا أنه كاذب
فالتفت المأمون إلى اليهودي وقال: أصحيح ما يقول؟ قال نعم، فأمر بإبعاده، وقيل بقتله (3).
وفي عهد المتوكل حج المتوكل في إحدى السنوات فسمع بعض رجاله رجلاً يطوف بالبيت ويدعو على المتوكل علنًا فأخذه الحرس، وجاءوا به سريعًا إليه، فقال ما حملك على ما صنعت؟ فقال والله يا أمير المؤمنين، ما قلت الذي قلته إلا وقد أيقنت بالقتل، ولكن اسمع كلامي وأمر بقتلي بعد ذلك إن أردت، فقال: قل. فقال: سأطلق لساني بما يرضي الله ورسوله، ويغضبك يا أمير المؤمنين، قد اكتنف دولتك، كتاب
(1) المصدر السابق ص216.
(2)
انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص217. وانظر أحداث سنة (191هـ) في البداية والنهاية/ لابن كثير ج1 ص206 وتاريخ الطبري ج10 ص100 (ط - الحسينية).
(3)
أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص219.
من أهل الذمة، أحسنوا الاختيار لأنفسهم وأساءوا الاختيار للمسلمين وابتاعوا دنياهم بآخرة أمير المؤمنين، خفتهم ولم تخف الله، وأنت مسئول عما اجترحوا وليسوا مسئولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم، بفساد آخرتك، فإن أخسر الناس صفقة يوم القيامة، من أصلح دنيا غيره بفساد آخرته، واذكر ليلة تتمخض صبيحتها عن يوم القيامة، وأول ليلة يخلو فيها المرء بقبره ليس معه إلا عمله، فبكى المتوكل إلى أن أغشى عليه، ثم أمر بإزالتهم (1).
وأما الخليفة المقتدر بالله فإنه في سنة خمس وتسعين ومائتين عزل كتاب النصارى وعمالهم، وأمر أن لا يستعان بأحد من أهل الذمة (2). حتى إنه أمر بقتل أبي ياسر النصراني عامل مؤنس الحاجب لتعديه على حقوق المسلمين.
وكذلك الخليفة الراضي بالله كثرت الشكايات من أهل الذمة في زمانه ومن الذين شكوا الشاعر مسعود بن الحسين الشريف البياضي حيث يقول:
يا ابن الخلائف من قريش والأولى
…
طهرت أصولهم من الأدناس
قلدت أمر المسلمين عدوهم
…
ما هكذا فعلت بنو العباسي
حاشاك من قول الرعية أنه
…
ناس لقاء الله أو متناسي
ما لعذر إن قالوا غدا هذا الذي
…
ولى اليهود على رقاب الناس
ما كنت تفعل بعدهم لو أهلكوا
…
فافعل وعدّ القوم في الأرماس (3)
وفي عهد الخليفة المستنصر بالله زاد نفوذهم حتى بدأ يغبطهم بعض المسلمين على مناصبهم كما صور ذلك الشاعر الراضي بن البواب حيث يقول:
(1) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص222.
(2)
انظر البداية والنهاية لابن كثير ج11 ص108. وانظر أحكام أهل الذمة ج1 ص224.
(3)
أحكام أهل الذمة ج1 ص225.
يهود هذا الزمان قد بلغوا
…
غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم، والمال عندهم
…
ومنهم المستشار والحكم
يا أهل مصر إني قد نصحت لكم
…
تهودوا كي تنالوا ما ملكوا (1)
وقد ولى العزيز بالله نصرانيًا اسمه (عيسى بن نسطورس) كتابة الأموال، واستناب بالشام يهوديًا اسمه (منشا) فاعتز بولايتهما النصارى واليهود، وأوذي المسلمون، وقد عمد أهل مصر الغيورون على الإسلام والمسلمين، فوضعوا دمية على شكل مجسم لإنسان ووضعوا بين يديه ورقة كبيرة كتبوا عليها «بالذي أعز اليهود بمنشا والنصارى بعيسى بن نسطورس وأذل المسلمين بك إلا كشفت ظلامتي» وأقعدوا تلك الدمية على طريق العزيز بالله، فلما رآها أمر بأخذها، وقرأ ما فيها، ثم قبض على النصراني واليهودي فأودعهما السجن وأخذ منهما أموالاً كثيرة وأبعدهما وقراباتهما عن الحكم وكذلك فعل الحاكم بأمر الله (2).
وقد لزم الملك الصالح صلاح الدين ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور بن قلاوون أهل الذمة بالذلة والصغار، وأمر أن لا يستخدم منهم أحد في الدواوين السلطانية ولا في شيء من الأشياء التي يمكن أن يكون عملهم بها مضرًا على الإسلام والمسلمين، وذلك خلال حكمه ما بين (753 - 755هـ)(3).
وهذه المواقف كلها تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يجوز تمكين اليهود والنصارى من الوظائف والمهن التي يحققون من خلالها الاستعلاء على المسلمين، تمشيًا مع قول الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ)(4).
(1) انظر تاريخ الإسلام السياسي. د/ حسن إبراهيم ج4 ص183.
(2)
انظر ظهر الإسلام/ أحمد أمين ج1 ص82.
وانظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج11ص320.
(3)
انظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج14 ص250.
(4)
سورة آل عمران آية (118).
وجميع الروايات المروية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطرقها المختلفة تؤكد الالتزام بمعنى هذه الآية، وتوصل هذا المفهوم بما لا يدع مجالاً للشك أو التردد، من أن الاستعانة بغير المسلمين لا تجوز إلا عند الضرورة القصوى وبقدر ضئيل لا يشكل خطرًا أو ضررًا على الإسلام والمسلمين وقد عد ابن تيمية الاستعانة بالنصيريين من أكبر الكبائر مع أنهم يدعون الإسلام. فكيف بالكفار الصرحاء الذين يعلنون كفرهم وعداوتهم للإسلام والمسلمين (1). اهـ.
ولكن المسلمين قد تجاوزوا هذا الحكم كما تجاوزوا غيره من الأحكام الشرعية وتذللوا مع أعداء الله أكثر مما يجب لدرجة أن أحد كتاب الغرب أنفسهم وهو (آدم متز) أحد مؤرخي الغرب يقول: «من الأمور التي نعجب لها كثيرًا كثرة عدد العمال والمتصرفين غير المسلمين في أمور الدولة الإسلامية» (2).
وهذا يدلنا على أن الدولة الإسلامية قد فتحت صدرها بكل رحابة لغير المسلمين وأشركتهم في إدارة شئونها وهي تعلم أنهم يخالفونها في العقيدة والغاية، وهذا الموقف هو أقصى درجات التعاون مع المخالفين في العقيدة والتسامح معهم ولكن ذلك كله ما كان يقابل من أهل الذمة بالاستحسان والاعتراف بالجميل بل كان البعض منهم يستغل هذا التسامح لتهييج روح الانتقام والتسلط على رقاب المسلمين وهذا ما حصل في الأيام الأولى من خلافة الآمر بأمر الله، فقد كان أحد الذميين كاتبًا للخليفة، فآذى المسلمين واحتكر الوظائف والمصالح لأهل ملته، وعندما أحس بتمركزهم وخوف انتقام المسلمين منهم جمع أبناء ملته وخطب فيهم قائلاً: نحن ملاك هذه الديار وقد أخذها المسلمون منا وتغلبوا عليها واغتصبوها من أيدينا فنحن
(1) انظر مختصر الفتاوى المصرية/ لابن تيمية ص 476.
(2)
انظر كتاب الإسلام انطلاق لا جمود. د/ مصطفى الرافعي ص16.
مهما فعلنا بالمسلمين من مكر وخديعة فهو قبالة (1) ما فعلوه بنا، فجميع ما نأخذه من أموالهم وأموال ملوكهم حل لنا وبعض ما نستحقه عليهم (2). هذه نظرة عامة أهل الكتاب إلى المسلمين، وهذا ما يطبقه أعداء الله في واقع المسلمين اليوم حيث نهبوا خيرات المسلمين المادية والمعنوية وفرقوا شمل الأمة الإسلامية وخططوا ويخططون للوقيعة بها في شتى المجالات وهذا الفعل إنما هو مصداق لقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(3). فنحن لم نعقل أمر الله في مقاطعة الذين كفروا والابتعاد عنهم ولذلك أصابنا ما حذرنا الله منه قال تعالى: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ)(4). إن واجب الحكومات والشعوب التي تدعي الإسلام إن كانت صادقة في دعواها، أن تعمل على تقديم المسلمين وتفضيلهم على الكفار عند الاستقدام والتوظيف وذلك أمر واجب عقلاً وشرعًا، ففي الشرع يقول الله عز وجل (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (5). وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه
…
» الحديث (6).
(1) أي مثل الدَيْن عليهم نسترده منهم. انظر المعجم الوسيط ج2 ص719.
(2)
انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص227.
(3)
سورة آل عمران آية (118).
(4)
سورة التوبة آية (8).
(5)
سورة المائدة آية (2).
(6)
رواه مسلم وانظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج1 ص258.
وأما من حيث العقل فإن المسلم عندما يوفر فرصة العمل لأخيه فإنما يعينه على الحياة بوسيلة شريفة وهذا نوع من التكافل الاجتماعي بين المسلمين وثانيًا أن المسلم عندما يستقدم للعمل أحد إخوانه المسلمين فمعنى ذلك أنه لم يدخل في الأمة الإسلامية والمجتمع الإسلامي جسمًا غريبًا على المسلمين في أقل الأحوال، بخلاف من يستقدم الكافر فإنه إن لم يكن هذا عدوا لدودا لهذا الدين وهذه الأمة فأقل أحواله أنه غريب على المسلمين في عقيدته وأقواله وأفعاله يخشى فساده ولا يؤمن ضرره على الإسلام والمسلمين وما يتعلل به البعض من أن الكفار أحسن خدمة، وأكثر أمانة وأقوى التزامًا بالعمل ومواعيده، فالرد أن هذه صفات توجد في المسلمين والكفار وهي مشتركة بين الناس جميعًا ولكن تلك الصفات باعثها في المؤمن غير باعثها في الكافر، فالكافر قد يتخذ تلك الصفات للدعاية لنفسه ولكفره وليخدع بها بعض الناس في التعامل كي يصل إلى هدفه الحقيقي في استغلال الغير إلى أبعد الحدود وبطريقة لا يشعر بها المستغل أنهم يستغلونه، أما المؤمن فإن الباعث للصفات الحسنة في نفسه هو مجرد الإيمان بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً، ولذلك إذا توفرت في المسلم صفة الإيمان الحقيقي توفرت فيه جميع الصفات الحسنة لأن الأخلاق الكريمة من ثمار الإيمان الصحيح ومن علاماته، فدور المسلم هو البحث عن إخوانه المسلمين الذين يجمعون بين القول والعمل والذين تظهر عليهم علامات الصدق والإيمان فيجب عليه أن يأخذ باعتباره أساسًا أن المعاملة مع غير المسلمين لا تجوز إلا عند الضرورة القصوى ووفق شروط معينة لا تتوفر في عامة الكفار ممن يعملون في دار الإسلام وقد ورد في الأثر «ومن قلد رجلاً على عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى منه لله فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين» (1).
فالواجب عند الاختيار هو اختيار من هو أقرب إلى الله ورسوله
(1) الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية/ ابن تيمية ص8.
والمؤمنين وفي الغالب لا يوجد كامل، فيفعل خير الخيرين ويدفع شر الشرين، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:«اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة» (1).
وعندما يتعذر على المسلم إحلال مسلم محل كافر بعد بذل الجهد واستفراغ الوسع فلا مانع من استخدام الكافر عند ذلك فإن الله عز وجل ما جعل علينا في الدين من حرج قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)(2). ولكنه بعيد جدًا أن يبحث المسلم في المجتمع الإسلامي الكبير عن شخص ذي صفات ومواصفات معينة فلا يجده بين المسلمين حتى يضطر إلى التعاقد مع الكفار، إلا إذا كانت تلك الصفات والمواصفات التي ينشدها يحرمها الإسلام، فهو يلجأ إلى غير المسلمين لأنها شبه مباحة في نظرهم، ولأنهم لا يرون في فعلها غضاضة. ولا يتحرجون عن ارتكاب تلك الدنايا. في الوقت الذي يمتنع المسلم عن فعلها بكل عزة وإباء.
وبناء على ذلك فإن استعمال الكفار لا يجوز إلا بشرطين:
1 -
تعذر من يحل محل الكفار من المسلمين.
2 -
أن يؤمن جانبهم على الإسلام والمسلمين.
ولهذا يجوز للمسلمين أن يستخدموا الكفار في الوظائف التعليمية عند عدم وجود من يقوم مقامهم من المسلمين ولكن ذلك مشروط بعدم حصول الأذى للمسلمين في عقيدتهم وأنفسهم، فلا بد أن تكون مادة العلم الذي يراد تعليمه، مادة مباحة، فلا يجوز تعليم الأشياء المحرمة سواء كان المعلم مسلمًا أو كافرًا مثل الغناء والرقص وضروب السحر والشعوذة وما إلى ذلك، وأن يكون المسلم أمينًا مأمونًا على أبناء المسلمين، بحيث لا
(1) الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية/ ابن تيمية ص8.
(2)
سورة البقرة آية (286).
يستغل وجوده بين أبناء المسلمين لزرع الفسق والكفر في قلوب التلاميذ والدليل على جواز تعليم غير المسلم للمسلمين ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أسرى بدر حيث طلب من بعض الأسرى الذين لا مال لديهم، أن يفدوا أنفسهم بأن يعلم الواحد منهم عشرة من غلمان المسلمين ويخلي سبيله (1).
وقد يحتاج الإنسان في طلب العلاج لبعض الأمراض المستعصية إلى أن يذهب إلى طبيب يهودي أو نصراني، وذلك جائز وفق شروط معينة وهي أن يكون اليهودي أو النصراني خبيرًا بهذه المهنة ثقة عند الناس مأمونًا من عدم استغلال مهنته والدعوة إلى المنكر ومحاربة الحق، فإذا كان بهذه الشروط ولم يجد مسلمًا يساويه في الدرجة والاختصاص جاز له أن يستطبه، كما يجوز له أن يودعه المال عند الحاجة وأن يعامله في البيع والشراء (2)، فقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم ابن أريقط وهو رجل مشرك حين هاجر من مكة إلى المدينة وائتمنه على نفسه وماله، ولكنه مع ذلك كان أجيرًا مستخدمًا لا معينًا مكرمًا (3). وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم، وقد روي أن الحارث بن كلدة - وكان كافرًا - قد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستطبوه، وهذا كله مشروط بأن لا يوجد طبيب مسلم على درجته من الطب، فإذا وجد طبيب مسلم، فالمسلم أحق بمنفعة أخيه حيث إن قوة المسلم قوة لإخوانه وقوة الكافر قوة لأعدائه، ومساعدة المسلمين لأعداء الله بما يقويهم على أهل الإسلام محرم عليهم (4). ولكن يدفع أخف الضررين عند الحاجة إلى ذلك في مثل هذه الصورة والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل.
(1) انظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج3 ص328.
(2)
انظر مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص516 - 517.
(3)
انظر فتح الباري كتاب الإجارة ج4 ص442 ح2263.
(4)
انظر مختصر الفتاوى المصرية ابن تيمية ص505، ص516 - 517.