المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فَصلٌ: إذَا عَادَ إلَى مِنَى .. بَاتَ بِهَا لَيلَتِيِ التَّشرِيقِ، وَرَمَى - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ٣

[الدميري]

الفصل: ‌ ‌فَصلٌ: إذَا عَادَ إلَى مِنَى .. بَاتَ بِهَا لَيلَتِيِ التَّشرِيقِ، وَرَمَى

‌فَصلٌ:

إذَا عَادَ إلَى مِنَى .. بَاتَ بِهَا لَيلَتِيِ التَّشرِيقِ، وَرَمَى كُلُّ يَزمٍ إلَى الجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ كُلِّ جَمرَةٍ سَبعَ حَصَيَاتٍ

ــ

تتمة:

من فاته الرمي ولزمه بدله .. يتوقف تحلله على الإتيان ببدله على الأصح؛ تنزيلًا للبدل منزلة المبل.

وقيل: لا كالمحصر العادم للهدي.

والثالث: إن افتدى بالدم .. توقف، وإن افتدى بالصوم .. فلا؛ لطول زمانه.

قال: (فصل:

إذا عاد إلى منى .. بات بها ليلتي التشريق)؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بات بها وقال: (خذوا عني مناسككم) وهذا المبيت واجب على الأظهر يجبر بدم.

وقيل: الاعتبار بطلوع الفجر.

قال: (ورمى كل يوم إلى الجمرات الثلاث كل جمرة سبع حصيات)؛ لما روى أبو داوود [1967] عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فبات بها ليالي التشريق يرمي الحمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة سبع حصيات يكبر مع كل حصاة) وهذا الرمي واجب بلا خلاف.

هذا فيمن لا عذر له، أما المعذور كأهل السقاية والرعاء .. فلهم إذا رموا جمرة العقبة يوم النحر أن ينفروا ويدعوا المبيت بمنى؛ لما روى الشيخان [خ 1634_ م 1315] عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن العباس رضي الله عنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية .. فأذن له في ذلك.

ص: 537

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وروى أبو داوود [1969]: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في ذلك) فللصنفين جميعًا أن يدعوا رمي يوم ويقضوه في اليوم الذي يليه، وليس لهم أن يدعوا رمي يومين على التوالي.

وإذا غربت الشمس والرعاء بمنى .. لزمهم المبيت بها ورمي غدها، ولأهل السقاية النفر بعد غروب الشمس على الأصح؛ لتعهدها، ولا رعي بالليل، وحكم المعذورين في خكم ليلة مزدلفة حكم ليالي منى.

ولو حدثت سقاية للحاج .. فللقائم بها ترك المبيت، قاله البغوي ومنعه ابن كج.

ولو قيل: إن دعت الحاجة إليها كانت كسقاية العباس رضي الله عنه وإلا فلا .. لم يبعد.

وفي معنى السقاية من ضاع ماله، أو خاف على نفسه، أو كان به مرض يشق عليه معه المبيت، أو له مريض يحتاج إلى تعهده، أو يطلب آبقًا على الأصح.

وترك المبيت ناسيًا كتركه عامدًا إلا في الإثم.

ويستحب استقبال القبلة في رمي الجمرات الثلاث، وهي معروفة:

الأولى: تلي مسجد الخيف، وهي الكبرى.

والثانية: الوسطى.

والثالثة: جمرة العقبة، وليست منى، إنما منى تنتهي إليها.

ويستحب أن يصلي الخمس مع الجماعة بمسجد الخيف، ويكثر فيه من الصلاة عند الأحجار التي أمام المنارة؛ فذلك مصلى الني صلى الله عليه وسلم.

وروي: أنه صلى في ذلك المكان سبعون نبيًا، منهم موسى، وأن فيه قبر سبعين نبيًا عليهم الصلاة والسلام.

ص: 538

وَإذَا رَمَى اليَومَ الثَّانِي وَأرَادَ النَّفرَ قَبلَ غُرُوبِ الشَّمسِ .. جَازَ وَسَقَطَ مَبِيتُ اللَّيلَةِ الثَّالِثَةِ وَرَمَى يَومِهَا، فَإن لَم يَنفِر حَتَّى غَرَبَت .. وَجَبَ مَبِيتُهَا وَرَمى الغَّدِ

ــ

قال: (وإذا رمى اليوم الثاني وأراد النفر قبل غروب الشمس .. جاز وسقط مبيت الليلة الثالثة ورمى يومها) ولا دم عليه؛ لقوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ ومَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} .

لكن التأخير أفضل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

ويستثنى من إطلاقه: من لا عذر له إذا لم يبت الليلتين الأوليين من التشريق ورمى في اليوم الثاني وأراد النفر الأول .. فليس له ذلك؛ لأنه لا عذر له فلم يجز له النفر.

قال: (فإن لم ينفر حتى غربت) الشمس (.. وجب مبيتها ورمى الغد) وهو يوم النفر الثاني وبه قال مالك وأحمد.

وعند أبي حنيفة: يجوز النفر ما لم يطلع الفجر.

لنا: ما روى مالك [1/ 407] بإسناد صحيح: أن ابن عمر رضي الله عنها قال: (من غربت عليه الشمس وهو بمنى من أوسط أيام التشريق .. فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد) وروي مثله عن أبيه عمر رضي الله عنه، وروي مرفوعًا لكن رفعه ضعيف.

ولو غربت وهو في شغل الارتحال، أو نفر قبل الغروب ثم عاد لشغل بعده .. جاز النفر على الصحيح.

ولو تبرع في هذه الحالة بالمبيت .. لم يلزمه الرمي في الغد نص عليه.

وإذا أوجبنا المبيت .. فتركه نظر، فإن كان مبيت مزدلفة وحدها .. أراق دمًا، وإن كان مبيت الليالي الثلاث .. فكذلك على الأرجح.

وفي قول: يجب لكل ليلة دم.

وإن ترك ليلة .. ففيه الأقوال الآتية في الشعرة والظفر:

ص: 539

وَيَدخُلُ رَميُ التَّشرِيقِ بِزَوالِ الشَّمسِ، وَيَخرُجُ بِغُرُوبِهَا،

ــ

أظهرها: مد.

والثاني: درهم.

والثالث: ثلث دم.

وإن ترك ليلتين .. فعلى هذا القياس.

وفي الليالي الأربع دمان، وقيل: دم للجميع.

قال: (ويدخل رمي التشريق بزوال الشمس) المراد: يدخل رمي كل يوم منها بزوال شمسه؛ لما روى جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة ضحى، وأما بعد .. فإذا زالت الشمس) رواه مسلم [1299].

وفي (البخاري)[1746] عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نتحين إذا زالت الشمس رمينا).

وروى مالك [1/ 408] عن نافع ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لا ترمى الجمار في الأيام الثلاثة حتى تزول الشمس).

قال الشافعي رضي الله عنه في (الإملاء): ويستحب قبل صلاة الظهر، فإن رمى قبل الزوال .. أعاد.

وقال عطاء: إن كان جاهلًا .. أجزأه.

وعن أبي حنيفة: يجوز الرمي في اليوم الثالث قبل الزوال.

قال: (ويخرج بغروبها) أي: رمي اليومين الأولين؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله في الليل، وظاهر كلام المصنف: أنه بغروبها يخرج رمي كل يوم.

ص: 540

وَقِيلَ: يَبقَى إلَى الفَجرِ، وَيَشتَرطُ: رَميُ السَّبعِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَتَرتِيبُ الجَمَراتِ، ....

ــ

والصحيح: أنه لا يخرج إلا بغروبها من آخر أيام التشريق، وطريق تصحيح كلامه على ذلك: أن يكون أراد وقت الاختبار لا وقت الجواز كما حمله ابن الرفعة.

قال: (وقيل: يبقى إلى الفجر) تشبيهًا بالوقوف بعرفة.

ومحل هذا الوجه: في اليومين الأولين، أما الثالث .. فلا خلاف في انقضاء زمنه بغروب شمسه لفراغ أيام المناسك.

قال: (ويشترط: رمي السبع واحدة واحدة)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رماها كذلك.

فلو رماها جملة واحدة ووقعت في المرمى .. حسبت واحدة، بخلاف ما إذا ضربه في الحد بمئة سوط دفعة؛ لأن الغالب على الرمي التعبد، والحدود مبنية على التخفيف.

ولو رمى بحصاتين دفعة واحدة إحداهما بيمينه والأخرى بيساره .. لم تحسب إلا واحدة بالاتفاق.

وعبارة المصنف تقتضي: أنه لو رمى سبع حصوات سبع مرات .. لا تجزئ؛ لانتفاء صفة الوحدة، وهي تجتزئ جزمًا.

قال: (وترتيب الجمرات) فيرمي التي تلي مسجد الخيف، ويقف ويدعوا بقدر (سورة البقرة) ، ثم الوسطى وقف ويدعو كذلك، ثم جمرة العقبة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقف عند هذه.

ص: 541

وَكَونُ الَمرمَيِّ حَجَرًا، وأن يُسَّمَى رَميًا، فَلا يَكفِي الوَضعُ

ــ

فلو عكس فبدأ بجمرة العقبة ثم الوسطى ثم الأولى .. حسبت له الأولى فقط.

ولو ترك حصاة ولم يدر من أيها تركها .. جعلها من الأولى، فيرمي إليها حصاة ويعيد ما بعدها.

وإن ترك ثلاث حصيات ولم يعلم موضعها .. أخذ بالاحتياط، فيجعل واحدة من يوم النحر وواحدة من الجمرة الأولى يوم القر وأخرى من الثانية يوم النفر الأول.

قال: (وكون النرمى حجرًا)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حين وضع الجمار في يده قال: (بأمثال هؤلاء فارموا).

وروى جابر رضي الله عنه: (أنه صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى) ،

فيجزئ الكذان والبرام والمرمر والزمرد وحجر النورة قبل أن يطبخ، وكذلك ما تتخذ منه الفصوص كالفيروزج والياقوت والبلور والزبرجد على الأصح؛ لأنها أحجار، وصحح الإمام والغزالي وابن الصلاح عدم الإجزاء به.

ولا يجزي الؤلؤ وما ليس بحجر من طبقات الأرض كالزرنيخ والإثمد والمدر والجص والآجر والطين والملح والرخام، ولا بالذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد.

ولو غصب حجرًا أو سرقه ورمى به .. أجزأه كالصلاة في الدار المغصوبة.

قال: (وأن يسمى رميًا، فلا يكفي الوضع) وكذلك الدفع بالرجل؛ لأن المأمور به الرمي فلا بد من صدق اسمه.

وقيل: يكفي الوضع اعتبارًا بالحصول في المرمى كما لو وضع المتوضئ يده المبتلة على رأسه بلا مد.

ولا يجوئ الرمي عن القوس.

ولا يفتقر الرمي إلى نية على المذهب.

ص: 542

والسُنَّةُ: أَن يَرمِيَ بِقَدرِ حَصَى الخَذفِ. وَلَا يُشتَرَطُ بَقاَءُ الحَجَرِ فِي المَرمَى ، ولَا كَونُ الرَّامِي خَارِجًا عَنِ الجَمرَةِ

ــ

ولا ينافي هذا اشتراط قصد الرمي؛ فإنه قد يقصد الرمي ولا يقصد النسك؟

قال: (والسنة: أن يرمي بقدر حصى الخذف)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بحصى الخذف) روله مسلم [1299].

و (الخذف) بالخاء والذال المعجمتين: الرمي بالحصا من بين إصبعين، ومقصود الحديث: أن الحصا تكون صغارًا، فإن رمى بأكبر منه أو بأصغر .. كره وأجزأ.

وحصى الخذف قدر الباقلاء، وقال الشافعي رضي الله عنه: إنه أصغر من الأنملة طولًا وعرضًا، وقيل: قدر النواة.

والأصح عند الرافعي: أنه يرميه على هيئة الخذف، فيضعه على بطن الإبهام ويرميه برأس السبابة.

والأصح في (الروضة) و (شرح المهذب): أنه يرميه على غير هيئة الخذف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: (إنه لا يقتل الصيد ولا ينكأ العدو، وإنه يفقأ العين ويكسر السن) وهذا عام في الحج وغيره.

قال: (ولا يشترط بقاء الحجر في المرمى) فلو تدحرج وخرج منه بعد الوقوع فيه .. لم يضر؛ لأن اسم الرامي قد حصل لكن يشترط أن يقع فيه، فلو شك لم يكف على المذهب.

قال: (ولا كون الرامي خارجًا عن الجمرة)؛ لحصول اسم الرمي، فلو وقف في طرف منها ورمى إلى طرف آخر .. أجزأه.

ويستحب أن يكون الرامي في اليومين الأولين نازلًا، وفي اليوم الأخير راكبًا؛ لينفر عقبه ليتصل بركوب الصدر، كما أنه يرمي يوم النحر راكبًا ليتصل بركوبه من مزدلفة ثم ينزل.

ص: 543

وَمَن عَجَزَ عَنِ الرَّميِ ..... استَنَابَ

ــ

وعلى قياس هذا: يستحب إذا تعجل في اليوم الثاني أن يرمي راكبًا، وأن يرمي بيده اليمنى ، ويرفعها عند الرمي حتى يرى بياض إبطه.

فرع:

يستحب للإمام أن يخطب في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الظهر؛ لما روى أبو داوود [1947] بإسناد صحيح عن رجلين من بني بكر قالا: (رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في أوسط أيام التشريق بمنى ونحن عند راحلته).

واستحب الشافعي رضي الله عنه أن تكون هذه الخطبة بعد الرمي وصلاة الظهر، يودع فيها الحاج، ويعلمهم جواز النفرين، وهذه تسمى خطبة الوداع؛ لأنها آخر الخطب الأربع.

ويستحب أن يأمرهم فيها بأن يختموا حجهم بتقوى الله عز وجل ويذكر لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (علامة الحج المبرور أن يكون المرء بعد حجه خيرًا منه قبله).

قال: (ومن عجز عن الرمي .. استناب) ولو بالأجرة، حلالًا كان النائب أم محرمًا؛ لأن الإنابة في الحج جائزة فكذلك في أبعاضه.

والعجز إما لمرض أو حبس ونحوه.

وشرط ابن الرفعة: أن يحبس بغير حق، وغيره أطلق ذلك.

ويشترط أن لا يرجى زوال العجز إلى خروج وقت الرمي، وأن يكون النائب قد رمى عن نفسه أولًا، فلو لم يفعل .. وقع عن نفسه.

ولو رمى النائب ثم وال عذر المستنيب والوقت باق .. لم يجب عليه إعادته، بل يستحب.

وقال الفوراني والبغوي وغيرهما: هو على القولين فيما إذا حج عن المعضوب ثم شفي.

وأطلق الأصحاب جواز الاستنابه، وهو ظاهر في غير الأجير إجارة عين، ففيه

ص: 544

وَإذَا تَرَكَ رَميَ يَومٍ .. تَدَارَكَهُ فِي بَاقِي الأَيَّامِ فِي الأَظهَرِ وَلَا دَمَ، وإلَّا .. فَعَليهِ دَمٌ، ......

ــ

أطلقوا أنه لا يستنيب في شيء مما عليه من العمل، فإما أن يستثني هذه الصورة، وإما أن يغتفر ذلك للضرورة، وهو الأقرب.

قال: (وإذا ترك رمي يوم .. تداركه في باقي الأيام في الأظهر) سواء ترك ذلك عمدًا أم سهوًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جوز ذلك للرعاء وأهل السقاية، وقيس عليه غيره.

والثاني: لا يتدارك؛ قياسًا على ما بعد أيام التشريق، وإذا تدارك ما تركه في أيام التشريق .. فالأظهر: أنه أداء.

ووقع في (الكفاية): أن الإمام والغزالي صححا خلافه وهو وهم عليهما.

فعلى الأظهر إذا فعله بعد الزوال .. صح ويجب تقديمه على رمي اليوم، وإن فعله قبله .. فوجهان:

أصحهما في (الروضة) و (أصلها): الصحة؛ لأن القضاء لا وقت له على التعيين. والأصح في (الشرح الصغير): المنع، وإن فعله في الليل .. فهو كما أخر قضاء رمضان إلى رمضان آخر.

قال: (وإلا .. فعليه دم) أي: إذا لم يتداركه؛ لأنه ترك نسكًا فعليه دم، سواء منعناه منه أو جوزناه فلم يفعل؛ لعموم قول ابن العباس رضي الله عنهما:(من ترك نسكًا .. فعليه دم).

وعن الزهري: أنه إذا ترك الرمي حتى مضت أيام التشريق .. كان عليه الحج من قابل.

ص: 545

وَالمَذهَبُ: تَكمِيلُ الدَّمِ في ثَلَاثِ حَصَياتٍ

ــ

فإن كان مراده رمي جمرة العقبة .. فهو الذي تقدم عن ابن الماجشزن أنه ركن، وإن أراد رمي أيام التشريق .. فهو غريب.

قال: (والمذهب: تكميل الدم في ثلاث حصيات)؛ ولا تلزمه زيادة عليه لو زاد في الترك على ثلاث، حتى إنه يلزمه دم كامل بترك يوم النحر وأيام منى؛ لاتحاد جنس الرمي فأشبه حلق الرأس.

وعلى هذا: ففي الحصاة والحصاتين الأقوال الثلاثة الآتية في حلق الشعرة والشعرتين:

أصحهما: مد.

والثاني: درهم.

والثالث: ثلث دم.

والقول الثاني: أنه يلزمه كل يوم دم كامل؛ لأنها عبادة مستقلة.

فعلى هذا: يلزمه في الأيام الأربعة أربعة دماء إذا لم يتعجل.

والقول الثالث: يلزمه ليوم النحر دم ولأيام التشريق كلها دم آخر؛ لاختلاف الرميين في القدر والوقت والحكم، وما ذكرناه من الخلاف في الحصاة والحصاتين محله في آخر جمرة من أيام التشريق.

فلو تركها من الجمرة الأخيرة يوم القر أو النفر الأول ولم ينفر .. فلأصح: يتم المتروك بما أتى به في اليوم الذي بعده، لكنه يكون تاركًا لرمي الجمرة الأولى والثانية في ذلك اليوم فعليه دم.

ص: 546

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

وإن تركها من إحدى الجمرتين الأوليين في أي يوم كان .. فعليه دم؛ لأن ما بعدها غير صحيح لوجوب الترتيب في المكان، هذا في المتروك في أيام التشريق فأما إذا كان من رمي النحر .. فيلزمه به دم كامل على الأصح عند المتولي والأصحاب؛ لأنها من أسباب التحلل، فهذا ترك منها حصاة واحدة .. لم يتحلل إلا ببدل كامل.

وفي (النهاية) وجه غريب ضعيف: أن الدم يكمل في حصاة واحدة مطلقًا، فاجتمع فيما يكمل به الدم ستة أوجه:

أصحها: ثلاث حصيات.

والثاني: جمرة.

والثالث: ثلاثة أيام التشريق.

والخامس: حصاة واحدة.

والسادس: يكمل في الحصاة الواحدة من يوم النحر دون غيره.

تذنيب:

قال الشافعي رضي الله عنه في القديم: أحب للإنسان أن ينزل بمنيً في الخيف الأيمن منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويستحب إذا نفر من منىً أن ينصرف من جمرة العقبة راكبًا مهللًا مكبرًا.

وأن ينزل بالمُحَصَّب، وهو اسم لما بين الجبلين إلى المقبرة، ويقال له الأبطح وخيف بني كنانة، فيصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت به ليلة الرابع عشر.

فلو تركه .. لم يؤثر في نسكه؛ لأنه سنة مستقلة ليست من مناسك الحج.

ص: 547

وإِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ .. طَافَ لِلْوَدَاعِ،

ــ

وقال القاضي عياض: إنه مستحب عند جميع العلماء، وكذلك صرح به جماعة من الأصحاب.

وقال الماوردي: إنه ليس بسنة وإنما هو منزل استراحة.

وعلى هذا: يحمل ما ثبت في (الصحيحين)[خ 1765، 1766 - م1311، 1312] عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ليس التحصيب بشيء، إنما هو منزل نزله النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (وإذا أراد الخروج من مكة .. طاف للوداع)؛ لما روى الشيخان [خ 1755 - م1328] عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيتن إلا أنه خفف عن المرأة الحائض).

فلو أراد الخروج إلى دون مسافة القصر .. فالصحيح: أنه مأمور به خلافًا للبغوي.

والمحرم من مكة إذا أراد الخروج إلى منىً يستحب له طواف الوداع، ولا يجبر تركه بدم قطعًا، وكذلك الخارج منها للعمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن أن يعمر عائشة رضي الله عنهما من التنعيم، ولم يأمرها عند ذهابها بالوداع.

وفهم من كلام المصنف أنه لا يؤمر به من لم يرد الخروج، وهو كذلك بلا خلاف.

وأنه لا فرق بين أن يكون حاجًا أم لا، ولا بين أن يكون آفاقيًا أو مكيًا، يسافر لحاجة ثم يعود أم لا، وهو كذلك على الصحيح.

ص: 548

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

وقيل: يختص بمن فرغ من حج أو عمرة، والوجهان ينبنيان على أنه من المناسك أم لا؟ والمنصوص في (الأم) و (الإملاء (: أنه منها، وبه صرح جماعة من الأصحاب، خلافًا للبغوي والمتولي فإنهما قالا: ليس الوداع من المناسك، وإنما هو تحية البقعة.

وهل هو واجب أو لا؟ فيه القولان الآتيان، وتأويل كلامهما أنه ليس من الأركان، واتفقوا على جبره بدم عند الترك وهو دليل على أنه من الحج؛ لأن الدم إنما يجب للخلل الحاصل في النسك.

قال ابن الرفعة: ويظهر أثر النزاع في المكي إذا خرج من مكة لسفر وفي افتقاره إلى نية؟ إن جعلناه من المناسك .. لا يفتقر، وإلا .. افتقر.

وفي أنه هل يلزم الأجير فعله على القول بأنه سنة؟ ويقع عن المستأجر على القولين؛ فإن الشيخ عز الدين قال في (القواعد (: إن الإجارة تشمل الأركان والواجبات والسنن، ويظهر أثره في حط جزء من الأجرة عند تركه.

ثم إن قول المصنف: (من مكة) يوهم أن الحاج إذا أراد الانصراف من منىً .. لم يؤمر به، والمجزوم به في (شرح المهذب) أنه مأمور به.

فرع:

طواف الوداع لا يدخل تحت طواف آخر، حتى لو أخر طواف الإفاضة وفعله بعد أيام منىً وأراد السفر عقبه .. لم يكفهن وهذا فرع مهم أسقطه من (الروضة) لكون الرافعي ذكره في أثناء تعليل.

ص: 549

وَلَا يَمْكُثُ بَعْدَهُ، وَهُوَ وَاجِبٌ يُجْبَرُ تَرْكُهُ بِدَمٍ، وَفِي قَوْلٍ: سُنَّةٌ لَا يُجْبَرُ. فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فَخَرَجَ بِلَا وَدَاعٍ وَعَادَ قَبْلَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ .. سَقَطَ الدَّمُ،

ــ

قال: (ولا يمكث بعده)؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق.

فإن مكث لغير حاجة أو لحاجة لا تتعلق بالسفر كالزيارة والعيادة وقضاء الدين .. فعليه إعادته.

وإن اشتغل بركعتي الطواف أو بأسباب الخروج كشراء الزاد وشد الرحل .. لم يضر، وكذا لو أقيمت الصلاة فصلاها معهم.

وحقيقة طواف الوداع: أنه موقوف، إن سار بعده .. تبينا أنه انصرف إلى الواجب، وإلا .. كان نافلة.

قال: (وهو واجب يجبر تركه بدم)؛ للأمر به في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد، وهذا على القول بأنه نسك ظاهر، وأما على خلافه .. فلا وجه لجبره بالدم.

قال: (وفي قول: سنة لا يجبر)؛ لأنه لو كان واجبًا .. لاستوى في جبرانه بالدم المعذور وغيره، وذو العذر لا دم عليه، وبهذا قال مالك رحمه الله.

ومراد المصنف بقوله: (لا يجبر) أي: وجوبًا، أما اصل الجبر .. فلا خلاف فيه، وعبارة المصنف توهم خلاف ذلك.

قال: (فإن أوجبناه، فخرج بلا وداع) عامدًا أو ناسيًا، عالمًا أو جاهلًا (وعاد قبل مسافة القصر .. سقط الدم)؛ لأنه في حكم المقيم.

قال الشيخ: كذا عللوه وفيه نظر إذا قلنا: إنه لا فرق بين السفر الطويل والقصير في وجوب الوداع فإن كان الخروج عامدًا .. عصى به، ويلزمه العود ما لم يبلغ مسافة القصر على الصحيح؛ فقد رد عمر رضي الله عنه رجلًا لم يودع من بطن مرٍّ.

وتعبير المصنف وغيره بـ (السقوط) يقتضي وجوب الدم بمجرد الخروج، وينبغي أن يأتي فيه ما سبق في مجاوزة الميقات.

ص: 550

أَوْ بَعْدَهَا .. فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَلِلْحَائِضِ النَّفْرُ بِلَا وَدَاع

ــ

وصورة المسألة: أن يطوف بعد العود كما صرح به في (المحرر)، فلو عاد ليطوف فمات قبل ذلك .. لم يسقط الدم.

وإذا أوجبنا عليه الرجوع فرجع من دون مسافة القصر .. قال الدارمي لا يلزمه الإحرام وإن قلنا: دخول مكة يوجبه.

وإذا اعتبرنا مفارقة الخطة فهل الاعتبار بمفارقة الحرم أو مكة؟ فيه وجهان:

أصحهما: الثاني.

وحاصل المنقول فيما يفوت به ويستقر الدم خمسة أوجه:

أصحهما: بمسافة القصر من مكة.

والثاني: من الحرم.

والثالث: بمجاوزة الحرم.

والرابع: بمجاوزة مكة.

والخامس: لا يفوت ولا يستقر ما دام حيًا.

قال: (أو بعدها .. فلا على الصحيح)؛ لاستقراره بالسفر الطويل وانقطاع حكم الإقامة.

والثاني: يسقط كما لو عاد قبل الانتهاء إليها.

قال: (وللحائض النفر بلا وداع) وكذلك النفساء؛ لما روى الشيخان [خ 1755 - م1328] عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض).

ورويا [خ 1757 - م1211]: أن صفية بنت حيي حاضت بعد ما أفاضت، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:(أحابستنا هي؟) قالوا: إنها كانت قد أفاضت، قال:(فلتنفر) فأمرها أن تنفر ولم يأمرها بالدم، ولو كان واجبًا .. لبينه.

ويستحب أن تقف عند باب المسجد وتدعو بالدعوات الآتية، فإن طهرت قبل

ص: 551

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

ــ

مفارقة بنيان مكة .. لزمها الوداع، وإن جاوزته وانتهت إلى مسافة القصر .. لم يلزمها العود، وإن لم تنته إليها .. فالنص: أنه لا وداع عليها.

والنص فيمن ترك الوداع بلا عذر ولم ينته إلى مسافة القصر: أنه يلزمه العود ويسقط عنه الدم بعوده، وقيل: فيهما قولان، والمذهب: تقريرهما.

والفرق: أن الحائض حين المفارقة لم تكن من أهل الوداع، بخلاف التارك بلا عذر.

فروع:

المستحاضة إذا نفرت في يوم حيضها .. لم يلزمها وداع، أو في يوم طهرها .. لزمها.

وإذا حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة .. فالأولى: أن تقيم حتى تطهر فتطوف إلا أن يكون عليها ضرر ظاهر، فإن أرادت النفر مع الناس قبل طواف الإفاضة .. جاز، وتبقى محرمة حتى تعود إلى مكة فتطوف ولو طال ذلك أعوامًا.

وفي كلام الشافعي رضي الله عنه والماوردي ما يشعر بأنه لا يجوز لها ان تنفر حتى تطوف، وحاول المصنف تأويله على الكراهة.

وإذا أرادت الإقامة حتى تطهر .. لم يلزم الجمَّال انتظارها- خلافًا لمالك- إذا كان الطريق آمنًا، فإن كان مخوفًا .. لم تَنْتَظِرْ بالإجماع.

وقال الشيخ محب الدين الطبري: لم يتعرض الأصحاب للمعذور بغير الحيض والنفاس إذ ترك الوداع كالخائف من ظالم أو فوت رفقة ونحو ذلكن قال: وفي ذلك عندي احتمالان:

أحدهما: يعذر كالحائض.

ص: 552

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والثاني: لا؛ لأن الرخص لا يقاس عليها.

قال: والأول أظهر.

ويستحب إذا فرغ من طواف الوداع وركعتيه خلف المقام أن يأتي الملتزم، وهو ما بين ركن الحجر وباب الكعبة، وذرعه أربعة أذرعن وهو من المواضع المستجاب فيها الدعاء، فيلصق بطنه وصدره بحائط البيت، ويبسط يديه على الجدار، فيجعل اليمنى مما يلي الباب واليسرى مما يلي الحجر، ويدعو بما أحب من أمر الدنيا والآخرة.

ويندب أن يدعو بما روي عن بعض السلف: اللهم؛ البيت بيتك، والعبد عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك حتى سيرتني في بلادك، وبلغتني بنعمتك حتى اعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني .. فازدد رضا، وإلا .. فَمُنَّ الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، ويبعد عنه مزاري، هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم؛ أصحبني العافية في بدنين والعصمة في دينين وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، وأجمع لي خير الدنيا والآخرة، إنك قادر على ذلك.

ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلمن ويتعلق بأستار الكعبة؛ ففي (مسند أحمد (: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلتزم البيت ويضع جبهته عليه).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من دعا في الملتزم من ذي غم أو ذي كربة .. فرج الله عنه).

وفي الحديث: أن هناك ملكًا يؤمن على الدعاء.

ويستجيب كثرة النظر إلى البيت؛ فغن الله تعالى ينزل عليه في كل يوم عشرين ومئة رحمة، ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين.

ويكون آخر عهده النظر إلى البيت إلى أن يغيب عنه مبالغة في تعظيمه، وحرصًا على تحصيل الأجر المرتب على النظر إليه.

ص: 553

وَيُسَنُّ: شُرْبُ مَاءِ زَمْزَمَ،

ــ

وقيل: يلتفت إليه كالمتحزن على فراقه، وهذا هو الصحيح، بل الصواب: فيوليه ظهره ولا يمشي القهقري كما يفعله كثير من العوام؛ فذلك مكروه.

وقد كره ابن عباس ومجاهد قيام الرجل على باب المسجد ناظرًا إلى الكعبة عند انصرافه.

ويستحب أن يزور الأماكن المشهورة بالفضل في مكة وهي ثمانية عشر موضعًا منها: البيت الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وبيت خديجة، ومسجد دار الأرقم عند الصفا، والغار الذي بجبل حراء، والذي يجبل ثور المذكور في القرآن.

فائدة:

قال الحسن البصري: الدعاء يستجاب في خمسة عشر موطنًا بمكة: في الطواف، والملتزم، وتحت الميزاب، وفي البيت، وعند زمزم، وعلى الصفا والمروة، وفي المسعى، وخلف المقام، وفي عرفات، ومزدلفة، ومنىً، وعند الجمرات الثلاث.

قال: (ويسن: شرب ماء زمزم)؛ لما روى مسلم [2473]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها مباركة، إنها طعام طعم (.

وفي (أبي داوود الطيالسي)[451]: (وشفاء سقم (.

وأما حديث: (ماء زمزم لما شرب له (.. فرواه أحمد [3/ 357] وابن أبي شيبة [4/ 358] والبيهقي [5/ 148] وابن ماجه [3062]، وقال الحافظان زكي الدين والدمياطي: إنه حسن، ورواه الحاكم [1/ 473] والدارقطني [2/ 289] وقال: صحيح الإسناد.

وروي ابن الجوزي في (الأذكياء (: ان سفيان بن عيينة سئل عنه فقال: صحيح.

وليس لاستجاب الشرب منها وقت مخصوص، بل يستحب بعد طواف الإفاضة وفي كل زمان.

ويستحب استقبال القبلة عند شربه، وأن يتضلع منه؛ فقد روي البيهقي [5/ 147] من طرق ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون

ص: 554

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

من زمزم) وقد شربه جماعة من العلماء لمطالب فنالوها.

ويستحب أن يقول: اللهم؛ إنه قد بلغني عن نبيك محمد صلى الله عليه وسلم انه قال: (ماء زمزم لما شرب له)، وإني أشربه لتغفر لي، ويذكر ما يريد دينًا ودنيا.

وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا شربه .. قال: (اللهم؛ إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وشفاء من كل داء) وقال الحاكم [1/ 473] صحيح الإسناد.

ويستحب الدخول إلى البئر والنظر فيها، وأن ينزع منها بالدلو الذي عليها ويشرب.

قال الماوردي: ويستحب ان ينضح منه على رأسه ووجهه وصدره، وأن يتزود من مائها، وأن يستصحب منه ما أمكنه؛ ففي (البيهقي) [5/ 202]:(أن النبي صلى الله عليه وسلم استهدى سهيل بن عمرو من ماء زمزم، فبعث إليه بمزادتين، وأن عائشة رضي الله عنها كانت تحمله وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله في القرب، وكان يصبه على المرضى ويسقيهم منه).

ويستحب دخول الكعبة إذا لم يتأذ به أحدًا، والصلاة فيها وأقلها ركعتان، وليكن في الموضع الذي صلى فيه صلى الله عليه وسلم.

ويستحب لداخلها أن يكون متواضعًا خاشعًا.

قال القاضي الطبري: وأن لا يرفع بصره إلى سقفها، ويكون حافيًا.

ص: 555

وَزِيَارَةُ قَبْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ فَرَاغِ الْحَجِّ

ــ

ويستحب الإكثار من دخول الحجر، والصلاة فيه والدعاء؛ فإنه أو أكثر من الكعبة كما تقدم.

وينبغي للحاج والمعتمر مدة مقامه بمكة أن يغتنم الطواف والصلاة في المسجد، والاعتمار والصدقة وأنواع البر والقربات؛ فإن الحسنة هناك بمئة ألف حسنة.

فرع:

بيع أستار الكعبة: منعه ابن عبدان وصاحب (التلخيص).

وقال ابن الصلاح: الأمر فيها إلى رأي الإمام، يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعًا وإعطاء.

وقال الشيخ: لا بأس بتفويض الأمر إلى بني شيبة يتصرفون فيها بما شاؤوا من بيع وغيره، وهو ملخص ما في (المهمات)؛ لأن عمر رضي الله عنه كان يقسمها بين الحاج.

قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم: (ولا بأس أن يلبس كسوتها من صارت إليه؛ من حائض وجنب وغيرهما).

وأما غير الكسوة من الصفائح ونحوها .. فلا يباع أصلًا، وكذلك كسوتها الداخلة فيها لا تزال، بل تبقي على ما هي عليه؛ لأن الذي تكلم فيه الأصحاب إنما هي الستور التي جرت العادة أن تغير في كل سنة.

قال: (وزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغ الحج) فذلك من أفضل الطاعات والقربات.

والله ما جئتهم زائرًا

إلا وجدت الأرض تطوى لي

ولا انثنى عزميَ عن طيبة

إلا تعثرت بأذيالي

ص: 556

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ولا اختصاص لا ستجاب الزيارة بوقت، بل هي مندوبة مطلقًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(من زار قبري .. وجبت له شفاعتي) رواه ابن خزيمة في (صحيحه) من حيث ابن عمر رضي الله عنهما.

وقال صلى الله عليه وسلم: (من جاءني زائرًا لم تنزعه حاجة إلا زيارتي .. كان حقًا على الله أن يكون له شفيعًا يوم القيامة) رواه ابن السَّكَن في سننه (الصحاح المأثورة).

وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يسلم علي .. إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام رواه أبو داوود [2034].

وروي ابن النجار عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى علي عند قبري .. وكل الله به ملكًا يبلغني، وكفي أمر دنياه وآخرته، وكنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة).

وينبغي أن يكثر في طريقه من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، فإذا وقع بصره على حرم المدينة وأشجارها .. زاد منها، وسأل الله تعالى أن ينفعه بهذه الزيارة وأن يتقبلها منه.

وأن يغتسل عند دخوله، ويلبس أنظف ثيابه، ويستحضر شرف المدينة، وأنها أشرف الأرض بعد مكة عند الشافعي رضي الله عنه، وأفضلها مطلقًا عند مالك وآخرين، وأن الذي شرفت به خير الخلق أجمعين.

فإذا دخل المسجد قال الذكر الذي يقول بكل مسجد، ثم يصلي تحية المسجد بين المنبر وقبره صلى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من الصلاة .. شكر الله على هذه النعمة.

ص: 557

ثم يزور بأدب وخضوع فيقول غير رافع صوته كثيرًا: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله،

السلام عليك يا سيد المرسلين، وأشباه ذلك ثم يقول: اللهم؛ آته الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا

الذي وعدته، وآته نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون.

ثم يتأخر صوب يمينه قدر ذراع فيسلم على أبي بكر الصديق، ثم قدر ذراع فيسلم على عمر بن الخطاب

رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين.

ثم يرجع إلي موقفه الأول قُبالة وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ويتوسل به ويتشفع إلى الله سبحانه؛ فقد روى

الحاكم [2/ 615] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما اقترف آدم الخطيئة

قال: يا رب؛ أسألك بحق محمد

صلى الله عليه وسلم إلا ما غفرت لي، فقال الله تعالى:(يا آدم وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه؟) قال: يا رب لأنك

لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك .. رفعت رأسي فرأيت في قوائم العرش مكتوبًا: لا إله إلا الله محمد رسول

الله، فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله عزوجل: (صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق

إلي؛ إذ سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك).

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.

ومن أحسن ما يقول الزائر بعد ذلك: ما أنشده العتبي في القصة المشهورة (1)

[من البسيط]

ص: 558

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

وينبغي المحافظة علي الصلاة في مسجده الذي كان في زمنه؛ فالصلاة فيه بألف صلاة.

وليجدر من الطواف بقبره صلى الله عليه وسلم، ومن الصلاة داخل الغرفة الشريفة بقصد تعظيمه.

ويكره إلصاق البطن والظهر بجدارة كراهة شديدة.

ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد عنه كما لو كان بحضرته صلى الله عليه وسلم في حياته.

ويستحب أن يصلي بين المنبر والقبر فذلك روضة من رياض الجنة.

وتستحب زيارة البقيع وقباء، وأن يأتي بئر أريس فيشرب منها ويتوضأ، وكذلك الآبار السبعة،

وأن يزور المساجد بالمدينة وهي نحو ثلاثين موضعًا، وأن يصوم بالمدينة ما أمكنه، ويتصدق على

جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم المقيمين والغرباء بما أمكنه.

وإذا أراد السفر

استحب أن يودع المسجد بركعتين، ويأتي القبر الشريف ويعيد نحو السلام الأول

ويقول: اللهم لا تجعله آخر العهد من حرم رسولك صلى الله عليه وسلم، ويسر لي العود إلى الحرمين

سبيلًا سهلًا، وارزقني العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وردنا إلى أهلنا سالمين غانمين.

وينصرف تلقاء وجهه ولا يمشي القهقرى.

ولا يجوز لأحد أن يستصحب شيئًا من الأكر (1) المعمولة من تراب الحرم، ولا من الأباريق والكيزان

المعمولة من ذلك.

ومن البدع تقرب العوام بأكل الصيحاني في الروضة.

الأُكَرـ جمع أُكْرةـ: الحفرة في الأرض.

ص: 559