الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
51 - باب ما جاء في كراهية البول في الماء الراكد
حدثنا محمود بن غيلان: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وفي الباب: عن جابر (1).
* الكلام عليه:
أخرجه جماعة منهم البخاري (2) بسنده عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ ولفظه:"في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه"، هذه رواية شعيب عن أبي الزناد.
ورواه ابن عيينة، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة (3).
ورواه مسلم (4) من حديث هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة به، ومن حديث همام، عن أبي هريرة (5) وكذا هو عند النسائي (6)، من حديث محمد، عن
(1) الجامع (1/ 100).
(2)
في صحيحه كتاب الوضوء (1/ 95 - 96) برقم 238 باب البول في الماء الدائم.
(3)
رواه الحميدي في مسنده (2/ 428 - 429) برقم 969 وأحمد (2/ 394) و (2/ 464) والنسائي في سننه كتاب الغسل (1/ 216) برقم 397 باب ذكر نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم وقبله في كتاب الطهارة (1/ 135) برقم 221 باب النهي عن البول في الماء الراكد والاغتسال منه وفي الكبرى (1/ 114) برقم 225 وابن خزيمة في صحيحه (1/ 37) برقم 66.
(4)
في صحيحه كتاب الطهارة (1/ 235) برقم 282 باب النهي عن البول في الماء الراكد.
(5)
صحيح مسلم كتاب الطهارة (1/ 235) برقم 282 باب النهي عن البول في الماء الراكد.
(6)
في سننه كتاب الطهارة (1/ 52) برقم 57 - 58 باب الماء الدائم وفي الكبرى (1/ 75) برقم 55 و 57.
أبي هريرة كل هؤلاء قالوا: يغتسل (1).
ورواه الطبراني (2) في المعجم الأوسط، من طريق أبي عبد الرحمن المقرئ قال: نَهَى -أو نُهِيَ- أن يبول الرجل في الماء الدائم أو الراكد، ثم يتوضأ منه أو يغتسل منه؛ رواه عن بشر بن موسى عنه، وقال لم يجوده عن ابن عون غير المقرئ.
ورواه البيهقي (3) من حديث عطا بن مينا، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه أو يشرب"؛ أخرجه من طريق ابن وهب عن أنس بن عياض، عن الحارث بن عبد الرحمن عنه، وأخرجه أبو (4) بكر الخطيب في كتاب المتفق والمفترق من طريق ابن وهب عن أنس بن عياض، عن الحارث؛ فزاد أيضًا ذكره في ترجمة الحارث بن عبد الرحمن، وذكر أن الحارث بن عبد الرحمن تسعة (5).
وفي لفظ مسلم (6): لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب، وقالوا: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولًا، وفي رواية (7): لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة.
ورواه أبو (8) داود وابن (9) ماجه والإمام أحمد (10) والنسائي (11)، ثم يتوضأ منه
(1) في هامش نسخة ابن العجمي: عند النسائي في رواية؛ ثم يتوضأ منه.
(2)
المعجم الأوسط (3/ 254) برقم 3069.
(3)
السنن الكبرى (1/ 239).
(4)
المتفق والمفترق (2/ 755).
(5)
المتفق والمفترق (2/ 753).
(6)
في صحيحه كتاب الطهارة (1/ 236) برقم 283 باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد.
(7)
صحيح مسلم كتاب الطهارة (1/ 235) برقم 282 باب النهي عن البول في الماء الراكد.
(8)
في سننه كتاب الطهارة (1/ 29) برقم 27 باب في البول في المستحم.
(9)
في سننه كتاب الطهارة (1/ 124) برقم 344 باب النهي عن البول في الماء الراكد.
(10)
في مسنده (2/ 316) و (2/ 492 و 529).
(11)
في سننه كتاب الطهارة (1/ 52) برقم 57 باب الماء الدائم.
كرواية الترمذي.
وأما حديث جابر ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يبال في الماء الراكد؛ رواه مسلم (1).
قوله: في الماء الراكد الذي لا يجري، وفي بعض الألفاظ في الماء الدائم الذي لا يجري، وهو تفسير للدائم وإيضاح لمعناه.
قال بعض العلماء: ويحتمل أن يكون احترازًا عن راكد لا يجري بعضه كالبرك، ونحوها وسيأتي.
وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه، وهذا يقتضي النهي عن الجمع بينهما؛ أي لا يجمع بين البول والاغتسال منه.
وفي بعض ألفاظه: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل منه، وهذا يقتضي النهي عن كل منهما وهو غير الأول؛ فإن هذا يضمن النهي عن كل من الفعلين والأول يضمن النهي عن الجمع بين الفعلين ولا يلزم منه النهي عن كل واحد منهما.
وقوله: ثم يغتسل، قال أبو (2) العباس القرطبي في كتابه المفهم: الرواية الصحيحة يغتسل برفع اللام ولا يجوز نصبها إذ لا ينتصب بإضمار أن بعد ثم (2) وخالفه في ذلك ابن مالك وسيأتي.
قال القرطبي (2): وبعض الناس قيده ثم يغتسل مجزومة اللام على العطف على لا يبولن، وهذا ليس بشيء إذ لو أراد ذلك لقال: ثم لا يغتسلنّ لأنه إذ ذاك
(1) في صحيحه كتاب الطهارة (1/ 235) برقم 281 باب النهي عن البول في الماء الراكد. في هامش نسخة ابن العجمي:
قلت: وفي الباب مما لم يذكره: عن عبد الله بن عمر: أخرجه ابن ماجه من حديث ابن أبي فروة عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في الماء الناقع
…
". اهـ.
وضعفه الألباني بهذا اللفظ.
(2)
المفهم (1/ 541 - 542).
يكون عطف فعل على فعل لا عطف جملة على جملة؛ وحينئذ يكون الأصل مساواة الفعلين في النهي عنهما وتأكيدهما بالنون الشديدة، فإن المحل الذي توارد عليه شيء واحد، وهو الماء فعدوله عن ثم لا يغتسلن إلى ثم يغتسل دليل على أنه لم يرد العطف وإنما جاء ثم يغتسل على التنبيه، على مآل الحال؛ ومعناه أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه، فيمتنع عليه استعماله لما وقع فيه من البول، قال: وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يضرب أحدكم امرأته ضرب الأمة ثم يضاجعها"(1) برفع يضاجعها ولم يروه أحد بالجزم، ولا يتخيله فيه لأن المفهوم منه أنه إنما نهاه عن ضربها لأنه يحتاج إلى مضاجعتها في ثاني حال فتمتنع عليه لما أساء من معاشرتها فيتعذر عليه المقصود؛ لأجل الضرب.
وتقدير اللفظ: ثم هو يضاجعها وثم هو يغتسل (2)، قال شيخنا أبو (3) الفتح القشيري رحمه الله: وهذا يقتضي أنه كالتعليل للنهي عن البول في الماء الراكد لا عن الغسل منه من مدلول اللفظ مباشرة بل من مدلولاته التزامًا من حيث إنه لو لم يكن البول فيه مانعًا من الغسل أو الوضوء منه لما صح تعليل النهي عن البول فيه بأنه سيقع منه الغسل لكن التعليل صحيح على حسب ما اقتضاه الكلام عنده؛ فوقع النهي عن الغسل منه بعد البول بطريق الالتزام؛ لأنه لازم لصحة التعليل وفي تعيين هذا المعنى الذي ذكره لأن يحمل عليه اللفظ نظر.
وقال الشيخ محيي (4) الدين النووي: إن الرواية يغتسل مرفوع أي لا تبل ثم أنت تغتسل منه (4)، في كلامه على هذا الحديث الذي لفظه لا يبل في الماء الدائم
(1) هذا الحديث بهذا اللفظ ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/ 347) ط. السلفية مصر ولم يعزه لأحد ورواه بنحوه البخاري في صحيحه كتاب التفسير (3/ 323 - 324) برقم 4942 باب سورة الشمس وضحاها ومسلم في صحيحه كتاب الجنة وصفة نعيمها (4/ 2191) برقم 2855 باب النار يدخلها الجبارون.
(2)
المفهم (1/ 541 - 542).
(3)
شرح الإلمام (1/ 362).
(4)
شرح صحيح مسلم (3/ 178).
الذي لا يجري ثم يغتسل منه.
قال: وذكر شيخنا أبو (1) عبد الله بن مالك: أنه يجوز أيضًا جزمه عطفًا على يبولن، ونصبه بإضمار أن بإعطاء ثم حكم واو الجمع (2)، قال (3): فأما الجزم فظاهر، وأما النصب فلا يجوز لأنه يقتضي أن المنهي عنه الجمع بينهما دون إفراد أحدهما وهذا لم يقله أحد بل البول منهي عنه سواء أراد الاغتسال فيه أو منه أم لا.
وهذا التعليل الذي علل به امتناع النصب ضعيف لأنه ليس فيه أكثر من كون هذا الحديث لا يتناول النهي عن البول في الماء الراكد بمفرده، وليس يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة بلفظ واحد فيؤخذ النهي عن الجمع من هذا الحديث ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر، والله أعلم (4).
(1) الأستاذ النحوي محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائي الأندلسي الجياني الشافعي، له تصانيف مفيدة منها التسهيل والكافية، توفي سنة ثنتين وسبعين وستمائة. فوات الوفيات (3/ 407) طبقات الشافعية الكبرى (5/ 28)، غاية النهاية (2/ 180).
(2)
شواهد التوضيح (164).
(3)
أي النووي، انظر شرح صحيح مسلم (3/ 178).
(4)
شرح الإلمام (1/ 362 - 364).
قلت: وكلام ابن دقيق العيد هذا ابتداء من قوله وهذا التعليل إلى آخره نقله العراقي في طرح التثريب (2/ 31) والسيوطي في عقود الزبرجد (2/ 324) ونقله بمعناه الحافظ في الفتح (1/ 347) وأجاب الكرماني في شرح البخاري (3/ 92 - 93) عن النووي بمثل جواب ابن دقيق العيد.
وقال ابن هشام في مغني اللبيب (1/ 119) تعليقأ على كلام النووي: "فتوهم تلميذه الإمام أبو زكريا رحمه الله أن المراد إعطاؤها حكمها في إفادة معنى الجمع وإنما أراد ابن مالك إعطاءها حكمها في النصب لا في المعية أيضًا، ثم ما أورده إنما جاء من قبل المفهوم لا المنطوق، وقد قام دليل آخر على عدم إرادته".
قلت: لعله يشير بالدليل الذي قام على عدم إرادة المفهوم إلى حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى أن يبال في الماء الراكد" أخرجه مسلم في كتاب الطهارة (1/ 235) برقم 281 باب النهي عن البول في الماء الراكد.
قال النووي (1): وهذا النهي في بعض المياه للتحريم وفي بعضها للكراهة (2)، فإن كان الماء كثيرًا جاريًا، لم يحرم البول فيه لمفهوم الحديث، ولكن الأولى اجتنابه وإن كان قليلًا جاريًا؛ فقد قال جماعة من أصحابنا يكره والمختار أنه يحرم ولأنه يقذره وينجسه على المشهور من مذهب الشافعي وغيره، ويغر غيره فيستعمله مع أنه نجس وإن كان الماء كثيرًا راكدًا. فقال أصحابنا: يكره ولا يحرم (3).
ولو قيل: يحرم لم يكن بعيدًا، فإن النهي يقتضي التحريم على المختار عند المحققين والأكثرين من أهل الأصول وفيه من المعنى أنه يقذره وربما أدى إلى تنجيسه بالإجماع لتغيره أو إلى تنجيسه عند أبي حنيفة ومن وافقه في أن الغدير الذي يتحرك طرفه يتحرك طرفه الآخر ينجس بوقوع نجاسة فيه.
وأما الراكد القليل فقد أطلق جماعة من أصحابنا أنه مكروه، والصواب المختار أنه يحرم البول فيه لأنه ينجسه، ويتلف مائيته ويغير غيره باستعماله.
والتغوط في الماء كالبول فيه وأقبح وكذا إذا بال في إناء ثم صبه في الماء وكذا وإذا بال بقرب النهر بحيث يجري إليه البول فكله مذموم قبيح منهي عنه على التفصيل المذكور ولم يخالف في هذا أحد من العلماء؛ إلا ما حكى عن داود الظاهري وليس بشيء (4).
وقال العلماء: ويكره البول والتغوط بقرب الماء وإن لم يصل إليه لعموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البراز في الموارد، ولما فيه من إيذاء المارين بالماء، ولما يخاف من وصوله إلى الماء.
(1) شرح صحيح مسلم (3/ 178 - 179).
(2)
زاد النووي ويؤخذ ذلك من حكم المسألة.
(3)
قال النووي قال أصحابنا وغيرهم من العلماء.
(4)
شرح صحيح مسلم (3/ 178 - 179) بتصرف بيسير.
وأما انغماس من لم يستنج في الماء ليستنجي فيه؛ فإن كان قليلًا بحيث ينجس بوقوع النجاسة فيه فهو حرام، لما فيه من تلطخه بالنجاسة وتنجيس الماء، وإن كان كثيرًا لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، فإن كان جاريًا فلا بأس به وإن كان راكدًا فليس بحرام، ولا تظهر كراهته لأنه ليس في معنى البول ولا يقاربه (1).
قلت: أما قول الشيخ محيي الدين رحمه الله: وهذا النهي في بعض المواضع للتحريم، وفي بعضها للكراهة؛ فهو من باب استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين (2)، وفيه من الخلاف ما هو معروف عند أهل الأصول هذا إن حملنا النهي حقيقة على التحريم (3)؛ كما هو المختار عندهم، وفي قوله عليه السلام: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم
…
" الحديث، عموم لا بد من تخصيصه اتفاقًا بالماء المتبحر الذي لا يتحرك أحد طرفيه يتحرك الآخر؛ كما قاله الحنفيون (4)، أو بحديث القلتين كما ذهب إليه الشافعي (5) ومن ذكرنا أو بالعمومات الدالة على طهورية الماء ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة لقول مالك، ومن نحا نحوه ولو ثبت لنا مقدار القلتين بثبوت حديثهما لكان تخصيص الشافعيين هذا الحديث بحديث القلتين أولى مما فعله الحنفيون، إذ هو تخصيص بمنطوق والحنفيون إنما خصوه بمعنى فهموه؛ وهو سراية
(1) المصدر السابق.
(2)
ذهب الشافعي وجمهور أصحابه إلى جواز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه ومنعه الحنفية وغيرهم.
انظر: العدة (2/ 703)، المسودة (166)، الإحكام للآمدي (2/ 242)، المحصول (1/ 268) و (1/ 343)، المدخول (147) البحر المحيط (2/ 139) شرح الكوكب المنير (3/ 195).
(3)
النهي المجرد عن القرائن يفيد التحريم عند الجمهور، إحكام الفصول (125) المنقول (126)، المحصول (2/ 281)، شرح تنقيح الفصول (168)، كشف الأسرار (1/ 256) البحر المحيط (2/ 426 - 427).
(4)
انظر مختصر الطحاوي (16)، الكتاب مع شرحه اللباب (1/ 22)، الهداية (1/ 70) شرح فتح القدير (1/ 68) العناية على البداية (1/ 70).
(5)
انظر طرح التثريب (2/ 610) رسالة علمية وشرح الإلمام (1/ 407).
النجاسة في الماء، وإن مع هذا المقدار من الكثرة لا سراية وهذا المقدار من الماء داخل تحت العموم فتخصيصه بهذا العنى تخصيص العام بمعنى مستنبط يعود عليه بالتخصيص (1) وفيه من الخلاف ما ليس في الأول، وأما من تمسك بالعمومات الدالة على طهورية الماء الذي لم يتغير صفة من أوصافه الثلاثة فيحمل النهي هنا على الكراهة فيما لم يتغير وهو خلاف المشهور في النهي.
ومن قال بتنجيس ما دون القلتين من الماء وإن لم يتغير من أصحاب الشافعي وغيرهم، فإنما أخذه من مفهوم حديث القلتين. وفي تخصيص العموم بالمفهوم تنارع بين أهل الأصول (2) فبعضهم يقول لا نعلم خلافًا بين القائلين بالمفهوم أنه يجوز تخصيص العموم به، وسواء كان من قبيل مفهوم الموافقة أو من قبيل مفهوم المخالفة وغيره يقول: إذا قلنا المفهوم حجة فالأشبه أنه لا يجوز تخصيص العام به لأن المفهوم أضعف دلالة من المنطوق به فكان التخصيص تقديمًا للأضعف على الأقوى وذلك غير جائز، وذلك غير جائز ولكل من الفريقين شبه واحتجاجات ليس هذا موضعها.
وقولهم: التغوط في الماء بمعنى البول فيه من باب القياس في معنى الأصل؛ فإن المذكور في الخبر إنما هو البول وكذلك اغتسال الحائض في الماء في معنى اغتسال الجنب وكذلك النفساء فرتب من ذلك المنع من اغتسال الجمعة والغسل من غسل الميت، عند من يوجبهما، كل هذا من باب القياس في معنى الأصل وإن اختلفت الراتب فيه بالقوة والضعف. والظاهري لا يلحق هذه بغسل الجنابة لانتقاء الجسم.
وأما الأغسال المسنونة فهل يلحق بغسل الجنابة أو لا؟ أما من اقتصر على
(1) المشهور من قول الأصوليين أنه يجوز أن يستنبط النهي معنى يخصصه التمهيد للإسنوي (375) والبحر المحيط (3/ 377 - 378).
(2)
انظر المستصفى (2/ 105)، العدة (2/ 578)، المسودة (127، 143)، روضة الناظر (2/ 167)، البحر المحيط (3/ 381 - 385).
اللفظ فلا إلحاق عنده وأما من يقيس فمن زعم أن العلة الاستعمال وإفساد الماء وجب أن يخرج على وجهين: وهو أن الاستعمال في نقل الطهارة هل يجعل الماء مستعملًا أو لا؛ فيه خلاف ومن علل بغير ذلك قال: ساوت العلة في الفرع العلة في الأصل ورجحت عليه ألحق وإلا امتنع الإلحاق وذلك كالتعليل بالعبادة النفسية فقد يدعى أنها في هذه الأغسال ناقصة عنها في الغسل من الجنابة.
وقد ذكرنا الفرق بين رواية من روى: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم لا يغتسل فيه"، ومن روى:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه"؛ وأن الرواية الأولى تقتضي النهي عن الجمع بين الأمرين ووقوع الاغتسال منه بعد البول فيه.
والثانية تقتضي النهي عن كل فرد منهما، وذكرنا أن ظاهر النهي للتحريم فمن رأى النهي عن البول في الماء لمن لا يغتسل فيه محمولًا على الكراهة والتنزيه يحتاج إلى صارف يصرف النهي عن ظاهره.
قال القاضي (1) عياض: ونهيه عليه السلام عن بول الرجل في الماء الراكد أو الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه وهو تفسير الراكد هذا تفسير منه عليه السلام، على طريق التنزيه والإرشاد إلى مكارم الأخلاق والاحتياط على دين الأمة وهو في الماء القليل آكد منه في الكثير لإفساده له؛ بل ذكر بعضهم أنه على الوجوب فيه لأنه قد يتغير منه ويفسد فيظن من مر به أن فساده لقراره أو مكثه، وكذلك يكثر تكرار البائلين في الكثير حتى يعتريه ذلك؛ فحمى عليه السلام هذا العارض في الماء الذي أصله الطهارة بالنهي عن ذلك (2).
(1) إكمال المعلم (2/ 105).
(2)
إكمال المعلم (2/ 105).
وهذا الكلام حمل القاضي فيه النهي على الكراهة وعدم التحريم وحكايته عن بعضهم التحريم تقريب لا تصريح.
وما حكيناه عن النووي من التفصيل أظهر من هذا غير أنه قال: فإن الماء كثيرًا جاريًا لم يحرم البول فيه لمفهوم الحديث وهذا مفهوم المخالفة والخلاف فيه معروف وهو هنا يختص بالجاري وأما الكثير فلا مدخل له في الفهوم هذا فيما يرجع إلى الماء اليسير أو ما قاربه؛ أما حكم البول في الماء الكثير المستبحر الذي لا ينجسه مثل ذلك ولا يستقذر بملاقاة مثله فيرجع إلى أن العموم هل يخص بالمعتاد والغالب أو لا؛ فمن قال بالأول صرف النهي إلى المياه المعتادة في الاستعمال غالبًا وأخرج عن ذلك ما ينذر استعماله ولا يكاد يخطر ببال المتكلم ومن لم يخص العموم بذلك فلا يبعد أن يجري اللفظ على ظاهره إن لم يخصه الإجماع هذا كله إذا لم يعلل النهي بعلة وأما إذا قلنا إنه معلل بالتنجيس أو الاستقذار وهما منتفيان عنه فالحكم ينتفي بانتفاء علته.
وقد استدل أبو يوسف رحمه الله بهذا الحديث على نجاسة الماء المستعمل فإنه فرق بين الغسل فيه والبول فيه؛ والبول فيه ينجسه فكذلك الغسل فيه، وفي دلالة القرآن بين الشيئين على استوائهما في الحكم خلاف بين العلماء فالمذكور عن أبي يوسف والمزني ذلك وخالفهما غيرهما واستدل بقوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، الأول غير واجب، والثاني واجب، ولا ينبغي أن يجعل هذا الحديث وإن اختلفت ألفاظه حديثًا واحدًا، ذكر في بعض طرقه الوضوء في قوله: ولا يتوضأ منه، وفي بعضها الاغتسال، وفي بعضها ولا يغتسل، وفي بعضها ثم يغتسل، فيحتاج إلى حمل بعض هذه الألفاظ على بعض أو الترجيح لأحدهما فيقال به، ويعدل عن ما عداه بل هي أحاديث متعددة، وكلها صحيح ولأن الوضوء
والاغتسال مما يكثر السؤال والجواب عنه.
وقد روي من حديث أبي هريرة وجابر كما ذكرنا من طرق عدة وإنما يصار إلى القول في مثل ذلك بأنه حديث واحد إذا اتحد مخرجه وغلب على الظن أن الواقعة المخبر عنها لا يتكرر وقوع مثلها، والله أعلم.
* * *