الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعلمنا العلم والعمل" (1)، هؤلاء وأمثالهم من الجم الغفير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم نقلة القرآن الكريم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنهم نقل العُدُول الأخيار من التابعين الأبرار، وعنهم تابعوهم من الأئمة الأعلام، وهكذا يتواتر النقل إلى قيام الساعة، بنقل العدل عن مثله، ومثل القرآن كان أصحاب رسول الله رضي الله عنهم، يلتقطون كلامه صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة.
كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم
-:
ومثل العناية بالقرآن كان أصحاب رسول الله رضي الله عنهم، يلتقطون كلامه صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، كما قيل لسلمان رضي الله عنه:"قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة: فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم"(2).
لقد اعتنى الصحابة رضي الله عنهم بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من انقطع عن الكسب ولازم رسول الله حتى أكثر الرواية عنه صلى الله عليه وسلم وتقدم ذكر المكثرين: وهم سبعة رضي الله عنهم، تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بادئ ذي بدء بكلام رب العالمين، الذي نزل به الروح الأمين جبريل عليه السلام {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (3)، فكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق الكلام وأبينه بعد كلام رب العزة والجلال، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفا عند قريش قبل البعثة بالصادق الأمين، فقد قال عنه ربنا جل وعلا في القرآن:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4)، وقال تعالى آمراً بأخذ ما يأمر به صلى الله عليه وسلم، والانتهاء عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (5)، وذلك لكمال صدقه صلى الله عليه وسلم ونصحه للأمة، وحذر تعالى من مخالفة
(1) أخرجه أحمد المسند حديث (23529).
(2)
مسلم حديث (23529).
(3)
من الآية (87) من سورة النساء.
(4)
الآيتان (3، 4) من سورة النجم.
(5)
من الآية (7) من سورة الحشر.
ذلك فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1)، وبين سبحانه أن مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم ونهيه ليست من صفات المؤمنين فقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (2)، وقال صلى الله عليه وسلم عن كلامه:«ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل ينثني شبعانا على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ألا ولا لقطة من مال معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروهم، فإن لم يقروهم فلهم أن يعقبوهم بمثل قراهم» (3)، فأصبح التشريع الإسلامي كتابا وسنة: ما قال الله في كتابه العزيز، وما قال رسوله الصادق الأمين، فالحرام ما حرم الله ورسوله، والحلال ما أحل الله ورسوله، أضاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سنه الخلفاء الراشدون، وهم صفوة الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، والمراد ما اجتهد فيه كل واحد منهم مما لا نص فيه فإنه شرع يلزم الأمة المحمدية العمل به، قال صلى الله عليه وسلم:«أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة» (4).
بناء على هذا فإن التشريع الإسلامي كتابا وسنة من لدن حكيم حميد: هو الله عز وجل وحده لا شريك له، فما كان من حلال وحرام فهو بأمره تعالى، سواء ورد النص به في القرآن أو السنة النبوية، أو فيهما معا، وعلم الكتاب والسنة توارثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العلماء من أصحابه، وعنهم من بعدهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرث
(1) من الآية (7) من سورة النور.
(2)
الآية (36) من سورة الأحزاب ..
(3)
أبو داود حديث (4604).
(4)
أحمد المسند حديث (17184).
هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالي» (1)، فقد ورث الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم علم الكتاب والسنة، وهم خلفه صلى الله عليه وسلم واجتهد الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم فيما حدث في زمنهم من قضايا لم يرد فيها نص من كتاب ولا سنة، فكانوا خير الناس، وكان زمنهم خير الأزمان، إذ حفظوا للأمة المحمدية كل شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت دولة الخلافة الراشدة على أزكى ما يكون من العدل والمساواة، وسياسة الأمة بذلك في شئون الدنيا والآخرة، حتى لكأنك ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسمع صوته، لكثرة ما يلتزم كل واحد منهم رضي الله عنهم بأداء ما سمع من رسول الله بكل صدق وأمانة وإخلاص، وكان يستوثق بعضهم بعضا فيما سمع حتى يروي الحديث الواحد العشرات منهم رضي الله عنهم، وجاء بعد الصحابة التابعون رحمهم الله.
ولم يكن حرص الصحابة رضي الله عنهم على السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصرا على النص القرآني الكريم، بل كانوا يرقبون ألفاظه وحركاته وسكناته، ليعلموا المراد من ذلك، الذكور منهم والإناث على حد سواء، فما أكثر ما تجد في السنة قول الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، كقول النعمان بن بشير: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحلال بين والحرام بين
…
» (2)، ولم يكتفوا بالسماع فما أكثر ما تجد في السنة قول الصحابي: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا وكذا، كقول عائشة رضي الله عنها:"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة"(3)، ولم يكف ذلك بل كانوا يرصدون أفعاله، فما أكثر ما تجد الصحابي يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا وكذا، وكقول عائشة رضي الله عنها: "كنت قاعدة أغزل، والنبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، فجعل جبينه يعرق، وجعل عرقه يتولد نورا، فبُهت،
(1) أخرجه البيهقي، السنن الكبير (21439).
(2)
أخرجه البخاري حديث (52).
(3)
أخرجه البخاري حديث (751).
فنظر إليِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بالك يا عائشة؟ بُهت؟ ! » قلت: جعل جبينك يعرق، وجعل عرقك يتولد نورا، ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره، قال: وما يقول أبو كبير؟ قلت: يقول:
ومبرءًا من كل غُبَّرِ حيضة
…
وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه
…
برقت كبرق العارض المتهلل
قالت: فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بين عينيَّ" وقال: «جزاك الله يا عائشة خيرا، ما سُررتِ مني كسروري بك» (1)، هذه أم المؤمنين حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول ما تقول عن حبيبها، ويأبا الزنادقة إلا القدح في طهرها، لعن الله من قدح به، ومن صدقه، ومن أذاعه ونشره، وكقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعل التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها» (2)، أو يقول: كنت عند رسول الله فجاء رجل فقال كذا وكذا، كقول عدي بن حاتم رضي الله عنه:«كنت عند رسول الله فجاءه رجلان، أحدهما يشكوا العيلة، والآخر يشكو قطع السبيل. . .» (3)، وأسلوب آخر هو رصد ما يفعله بعض الصحابة بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُقر الفاعل على فعله، أو ينهاه عما فعل، ولم يكن ذلك في حال بل في أحوال كثيرة، وأبواب من العلم لا تحصى، بل كان من حرصهم أن من اضطر للغياب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كلف بعض من يحضر بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا عاد سأل صاحبه عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان عمر رضي الله عنه وهو من خواص الصحابة يتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وجار له، فينزل عمر رضي الله عنه يوما، ويأتي جاره رضي الله عنه بما استفاده ذلك اليوم، وينزل جاره يوما، فيأتي عمر بما استفاد ذلك اليوم (4)، وهذا أنس بن مالك وهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والله ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان يحدث بعضنا بعضا، ولا يتهم
(1) مختصر خلافيات البيهقي 4/ 284.
(2)
أخرجه البخاري حديث (166).
(3)
أخرجه البخاري حديث (1413).
(4)
انظر: البخاري حديث (2468).
بعضنا بعضا» (1)، ومنهم من لازم رسول الله وانقطع للأخذ عنه قال أبو هريرة رضي الله عنه:"إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2)، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون"(3)، وأخذ صغار الصحابة عن كبارهم، فكانوا جميعا في الخير كتلة واحدة يأمن بعضهم بعضا، أصفى الناس قلوبا وأصدقهم ألسنة، وأقومهم بالحق، وأقمعهم للباطل، حقا والله هم العدول الأمناء، وقد شهد لهم جميعا بذلك، ولمن بعدهم من التابعين وأتباعهم ومن تبعهم بإحسان، شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«يرث هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالي» (4)، فورث الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم علم الكتاب والسنة، وهم خلفه صلى الله عليه وسلم فتسلسل الصدق المطلق، والوثوق الكامل بتلك المراتب الأربع، وعلى هذا المنهج قامت دولة الخلافة الراشدة على أزكا ما يكون من العدل والمساواة، وسياسة الأمة بذلك في شئون الدنيا والآخرة، بكل صدق وأمانة وإخلاص، وبرزت خيرية القرون الثلاثة، الأمثل فالأمثل، متضمنة رجال البلاغ في المرتبة الخامسة من التابعين وأتباعهم رحمهم الله.
(1) أخرجه الحاكم، المستدرك 15/ 94 ..
(2)
الآيتان (159، 160) من سورة البقرة.
(3)
البخاري حديث (118).
(4)
أخرجه البيهقي، السنن الكبير (21439) ..