الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قتل علي رضي الله عنه
-:
لم يكن علي رضي الله عنه جاهلا بمجرايات الأمور، فلديه من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ما جعله يقول:«يا للدماء، لتُخضبن هذه من هذا» (1) - يعني لحيته من دم رأسه - وقد علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما علم عثمان أنه شهيد، وأنه يلج الجنة بسبب بلوى تصيبه، وفي رواية أن عليا رضي الله عنه قال:«لتُخضبن هذه من هذا، فما ينتظر بالأشقى» قالوا: فأخبرنا به نبير عترته، قال: إذاً تالله تقتلون غير قاتلي، قالوا: أفلا تستخلف، قال: لا، ولكني أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا: فما تقول لربك إذا لقيته؟ قال: أقول: «اللهم إنك تركتني فيهم، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم; فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم» (2).
فكان القدر المحتوم على يد عبد الرحمن بن ملجم وشبيب الأشجعي اكتنفا عليا حين خرج إلى الفجر، فأما شبيب فضربه فأخطأه وثبت سيفه في الحائط، ثم أحصر نحو أبواب كندة، وقال الناس: عليكم صاحب السيف; فلما خشي أن يؤخذ رمى بالسيف ودخل في عرض الناس، وأما عبد الرحمن فضربه بالسيف على قرنه، ثم أحصر نحو باب الفيل; فأدركه عُريض أو عُويض الحضرمي; فأخذه فأدخله على علي، فقال علي:"إن أنا مت فاقتلوه إن شئتم أو دعوه، وإن أنا نجوت كان القصاص"(3).
برز انقسام المسلمين في خلافة عثمان، واستقر في خلافة علي رضي الله عنهما، وهو من علامات نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أمرا لا مفر منه، ولكن للمحق دلائل كونه على الحق، وللباغي دلائل تدل على بغيه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله (4): الخوارج تكفر عثمان وعليا وسائر أهل الجماعة.
وأما "شيعة علي الذين شايعوه بعد التحكيم، وشيعة معاوية التي شايعته بعد التحكيم فكان بينهما من التقابل، وتلاعن بعضهم، وتكافر بعضهم ما كان، ولم تكن الشيعة
(1) مصنف ابن أبي شيبة حديث (37099).
(2)
مسند أحمد حديث (1078) وهو حسن لغيره.
(3)
مصنف ابن أبي شيبة حديث (37097).
(4)
مجموع الفتاوى 4/ 437.
التي كانت مع علي يظهر منها تنقص لأبي بكر وعمر، ولا فيها من يقدم عليا على أبي بكر وعمر، ولا كان سب عثمان شائعا فيها، وإنما كان يتكلم به بعضهم فيرد عليه آخر، وكذلك تفضيل علي عليه لم يكن مشهورا فيها، بخلاف سب علي فإنه كان شائعا في أتباع معاوية، ولهذا كان علي وأصحابه أولى بالحق، وأقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، كما في الصحيح (1) عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق» .
وكان سب علي ولعنه من البغي الذي استحقت به الطائفة أن يقال لها: الطائفة الباغية، كما رواه البخاري في صحيحه (2) عن خالد الحذاء، عن عكرمة قال: قال لي ابن عباس ولابنه علي: " انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه فأخذ رداءه فاحتبى به ثم أنشأ يحدثنا حتى إذا أتى على ذكر بناء المسجد فقال: كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفض التراب عنه ويقول: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن"(3) ورواه مسلم عن أبي سعيد أيضا قال: "أخبرني من هو خير مني أبو قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار - حين جعل يحفر الخندق - جعل يمسح رأسه ويقول: «بؤس ابن سمية تقتله فئة باغية» ورواه مسلم (4) أيضا عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«تقتل عمارا الفئة الباغية» .
وهذا أيضا يدل على صحة إمامة علي، ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار - وإن كان متأولا - أنه لم يكن يجوز قتال علي، وعلى هذا فمقاتله مخطئ، وإن كان متأولا، أو باغ بلا تأويل،
(1) مسلم حديث (1064).
(2)
البخاري حديث (447) ومسلم حديث (2916).
(3)
البخاري حديث (447).
(4)
مسلم حديث (2915).
وهو أصح القولين، وهو الحكم بتخطئة من قاتل عليا، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين.
وكذلك أنكر يحيى بن معين على الشافعي استدلاله بسيرة علي في قتال البغاة المتأولين، قال: أيجعل طلحة والزبير بغاة؟ ! ، رد عليه الإمام أحمد فقال ويحك وأي شيء يسعه أن يضع في هذا المقام: يعني إن لم يقتد بسيرة علي في ذلك لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة. والقول الثاني: أن كلاً منهما مصيب، وهذا بناء على قول من يقول: كل مجتهد مصيب.
وهو قول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية.
وفيها قول ثالث: أن المصيب واحد لا بعينه، ذكر الأقوال الثلاثة ابن حامد والقاضي وغيرهما.
وهذا القول يشبه قول المتوقفين في خلافة علي من أهل البصرة، وأهل الحديث، وأهل الكلام: كالكرامية الذين يقولون: كلاهما كان إماما، ويجوزون عقد الخلافة لاثنين.
لكن المنصوص عن أحمد تبديع من توقف في خلافة علي، وقال: هو أضل من حمار أهله، وأمر بهجرانه ونهى عن مناكحته ولم يتردد أحمد ولا أحد من أئمة السنة في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه، ولا شكوا في ذلك.
فتصويب أحدهما لا بعينه تجويز لأن يكون غير علي أولى منه بالحق وهذا لا يقوله إلا مبتدع ضال، فيه نوع من النصب، وإن كان متأولا، لكن قد يسكت بعضهم عن تخطئة أحد، كما يمسكون عن ذمه والطعن عليه، إمساكا عما شجر بينهم، وهذا يشبه قول من يصوب الطائفتين.
ولم يسترب أئمة السنة وعلماء الحديث: أن عليا أولى بالحق وأقرب إليه، كما دل عليه النص، وإن استرابوا في وصف الطائفة الأخرى بظلم أو بغي، ومن وصفها بالظلم والبغي - لما جاء من حديث عمار - جعل المجتهد في ذلك من أهل التأويل.
يبقى أن يقال: فالله تعالى قد أمر بقتال الطائفة الباغية، فيكون قتالها كان واجبا مع علي، والذين قعدوا عن القتال هم جملة أعيان الصحابة: كسعد، وزيد، وابن عمر،
وأسامة، ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة، وهم يروون النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في القعود عن القتال في الفتنة، وقوله صلى الله عليه وسلم:«القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير. . .» الحديث (1) وقوله: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن» (2) وأمره لصاحب السيف عند الفتنة أن يتخذ سيفا من خشب، جاء علي بن أبي طالب إلى أُبي فدعاه إلى الخروج معه، فقال له أُبي:"إن خليلي وابن عمك عهد إلي إذا اختلف الناس أن أتخذ سيفا من خشب، فقد اتخذته، فإن شئت خرجت به معك"(3) وبحديث أبي بكرة للأحنف بن قيس لما أراد أن يذهب ليقاتل مع علي، وهو قوله: صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» (4) الحديث. والاحتجاج على ذلك بقوله: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (5) وهذا مذهب أهل الحديث وعامة أئمة السنة، حتى قال: لا يختلف أصحابنا أن قعود علي عن القتال كان أفضل له لو قعد، وهذا ظاهر من حاله في تلومه في القتال، وتبرمه به، ومراجعة الحسن ابنه له في ذلك، وقوله له: ألم أنهك يا أبت؟ ، وقوله: لله در مقامٍ قامه سعد بن مالك، وعبدالله بن عمر، إن كان برا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطأه ليسير.
وهذا يعارض وجوب طاعته، وبهذا احتجوا على الإمام أحمد في ترك التربيع بخلافته، فإنه لما أظهر ذلك قال له بعضهم: إذا قلت كان إماما واجب الطاعة ففي ذلك طعن على طلحة والزبير، حيث لم يطيعاه بل قاتلاه، فقال لهم: أحمد: إني لست من حربهم في شيء - يعني أن ما تنازع فيه علي وإخوانه - لا أدخل بينهم فيه، لما بينهم من الاجتهاد والتأويل الذي هم أعلم به مني، وليس ذلك من مسائل العلم التي تعنيني، حتى أعرف حقيقة حال كل واحد منهم، وأنا مأمور بالاستغفار
(1) البخاري حديث (3601) ومسلم حديث (2886).
(2)
البخاري حديث (19) وفي مواضع عدة.
(3)
الترمذي حديث (2203) حديث حسن.
(4)
البخاري حديث (31) ومسلم حديث (2888).
(5)
البخاري حديث (121) وفي مواضع عدة، ومسلم حديث (66) كذلك.
لهم، وأن يكون قلبي لهم سليما، ومأمور بمحبتهم وموالاتهم، ولهم من السوابق والفضائل ما لا يهدر، ولكن اعتقاد خلافته وإمامته ثابت بالنص، وما ثبت بالنص وجب اتباعه، وإن كان بعض الأكابر تركه، كما أن إمامة عثمان وخلافته ثابتة إلى حين انقراض أيامه، وإن كان في تخلف بعضهم عن طاعته أو نصرته، وفي مخالفة بعضهم له من التأويل ما فيه، إذ كان أهون مما جرى في خلافة علي.
وهذا الموضع هو الذي تنازع فيه اجتهاد السلف والخلف: فمن قوم يقولون بوجوب القتال مع علي كما فعله من قاتل معه، وكما يقول كثير من أهل الكلام والرأي الذين صنفوا في قتال أهل البغي، حيث أوجبوا القتال معه، لوجوب طاعته ووجوب قتال البغاة، ومبدأ ترتيب ذلك من فقهاء الكوفة واتبعهم آخرون.
ومن قوم يقولون: بل المشروع ترك القتال في الفتنة، كما جاءت به النصوص الكثيرة المشهورة، كما فعله من فعله من القاعدين عن القتال، لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن ترك القتال في الفتنة خير وأن الفرار من الفتن باتخاذ غنم في رؤوس الجبال خير من القتال فيها، وكنهيه لمن نهاه عن القتال فيها، وأمره باتخاذ سيف من خشب، ولكون علي لم يذم القاعدين عن القتال معه، بل ربما غبطهم في آخر الأمر.
ولأجل هذه النصوص لا يختلف أصحابنا أن ترك علي القتال كان أفضل، لأن النصوص صرحت بأن القاعد فيها خير من القائم، والبعد عنها خير من الوقوع فيها، قالوا: ورجحان العمل يظهر برجحان عاقبته، ومن المعلوم أنهم إذا لم يبدؤوه بقتال، فلو لم يقاتلهم لم يقع أكثر مما ووقع من خروجهم عن طاعته، لكن بالقتال زاد البلاء، وسفكت الدماء، وتنافرت القلوب، وخرجت عليه الخوارج، وحكم الحكمان، حتى سمي منازعه بأمير المؤمنين، فظهر من المفاسد ما لم يكن قبل القتال، ولم يحصل به مصلحة راجحة.
وهذا دليل على أن تركه كان أفضل من فعله، فإن فضائل الأعمال إنما هي بنتائجها وعواقبها، والقرآن إنما فيه قتال الطائفة الباغية بعد الاقتتال، فإنه قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا