الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلافة أبي بكر رضي الله عنه
-
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول، من السنة الحادية عشرة من هجرته صلى الله عليه وسلم، ودفن في بيت عائشة رضي الله عنها، وكانت قد رأت سابقا ثلاثة أقمار سقطن في حجرتها، قالت رضي الله عنها:"فقصصت رؤياي على أبي بكر الصديق، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن في بيتها، قال لها أبو بكر: هذا أحد أقمارك، وهو خيرها"(1)، دفن خير الأقمار وكان أمر الأمة المحمدية بيده صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم أمرا مذهلا لأصحابه لشدة حبهم له صلى الله عليه وسلم، وملازمتهم مجالسه صلى الله عليه وسلم، وكم كان يقول: كنت أنا وأبو بكر وعمر، خرجت أنا وأبو بكر وعمر، وقال في قصة كلام البقرة، والذئب، وقد استغرب أناس كلامهما:
…
«آمنت به أنا وأبو بكر، وعمر» (2)، وغيرهما كثير من أصحابه، أحبوه حبا جما، وفدوه بأموالهم وأنفسهم، فعظمت وفاته عليهم حتى قام عمر رضي الله عنه يخطب في الناس، فقال المغيرة رضي الله عنه:"يا عمر، مات والله رسول الله، فقال عمر: كذبت ما مات رسول الله، ولكنك رجل تحوشك فتنة، ولن يموت رسول الله حتى يُفني المنافقين"، ما أراد عمر إلا هلاك أعداء الإسلام، وهو يعلم وجود الكثيرين منهم في ذلك الوقت، فلما جاء أبو بكر رضي الله عنه وعمر يخطب قال له: اجلس، فأبى عمر رضي الله عنه، وهو يعلم فضل أبي بكر رضي الله عنه، ولكن حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكبر بكثير من طاعة أبي بكر رضي الله عنه فتشهد أبو بكر رضي الله عنه، فمال الناس إليه، وتركوا عمر رضي الله عنه، لمعرفتهم بفضل أبي بكر رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أما بعد: من كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (3)، وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل
(1) موطأ مالك رواية أبي مصعب الزهري حديث (974).
(2)
البخاري حديث (2324) ..
(3)
الآية (144) من سورة آل عمران.
هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمعُ بشرا من الناس إلا يتلوها، فأخبر سعيد بن المسيب أن عمر قال:"والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعَقِرت حتى ما تُقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات"(1)، حصل للناس إفاقة من هول ما سمعوا من موت رسول الله رضي الله عنه كان قول أبي بكر رضي الله عنه بلسما شافيا لتلك الصدمة، بعد هذا انصرف الصحابة إلى التفكير في مصير الأمة المحمدية بعد نبيها، ولا يلزم أن يحضر جميع الصحابة سقيفة بني ساعدة، بل يكفي منهم النخبة ولم يكن ذلك إلا برعاية ربانية، فقد وعد بحفظ الذكر؛ والشريعة الإسلامية برمتها من الذكر، فكان اجتماع الأعيان في سقيفة بني ساعدة أمرا اجتهاديا ليس في أمر الأمة المحمدية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نص صريح لشخص معين لا من الكتاب العزيز، ولا من السنة النبوية، سوى بعض الإضاءات، السالف ذكرها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«يأبا الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (2)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«لا ينبغي لقوم يكون فيهم أبو بكر يؤمهم غيره» (3)، وكذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الخليفة الرابع ذكر أبا بكر وشرفه وفضله وقال:"قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فصلى بالناس، وقد رأى مكاني، وما كنت غائبا ولا مريضا، ولو أراد أن يقدمني لقدمني، فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا"(4)، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنه كان من شأن الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي فأتينا فقيل لنا: إن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة مع سعد بن عبادة يبايعونه، فقمت وقام أبو بكر، وأبو عبيدة بن الجراح، نحوهم فزعين أن يحدثوا في الإسلام فتقا، فلقيَنا رجلان من الأنصار، رجل صدق: عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي، فقالا: أين تريدون؟ فقلنا: قومَكم، لِما بلغنا من أمرهم، فقالا: ارجعوا فإنكم لن تُخالَفوا، ولن يؤت شيء تكرهونه، فأبينا إلا أن نمضي، وأنا أزوي كلاما أريد أن أتكلم به، حتى انتهينا إلى القوم،
(1) البخاري حديث (4454) ..
(2)
فضائل الصحابة لأحمد حديث (589).
(3)
الشريعة للآجري حديث (1300).
(4)
الشريعة للآجري حديث (1300) ..
وإذا هم عكوف هنالك على سعد بن عبادة، وهو على سرير له مريض، فلما غشيناهم تكلموا فقالوا: يا معشر قريش، منا أمير ومنكم أمير، فقام الحباب بن المنذر فقال: أنا جُذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب، إن شئتم والله رددناها جذعة، فقال أبو بكر: على رسلكم، فذهبت لأتكلم فقال: أنصت يا عمر (1)، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر الأنصار، إنا والله ما ننكر فضلكم، ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا، ولكنكم قد عرفتم أن هذا الحي من قريش بمنزلة من العرب، ليس بها غيرهم، وأن العرب لن تجتمع إلا على رجل منهم (2)، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، فاتقوا الله ولا تصدعوا الإسلام، ولا تكونوا أول من أحدث في الاسلام، ألا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين.
قال عمر: لي، ولأبي عبيدة بن الجراح - فأيهما بايعتم فهو لكم ثقة، قال: فو الله ما بقي شيء كنت أحب أن أقوله إلا وقد قاله يومئذ، غير هذه الكلمة - يعني ترشيحه - فو الله لأن أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا في غير معصية، أحب إلي من أن أكون أميرا على قوم فيهم أبو بكر، قال: ثم قلت: يا معشر الأنصار، يا معشر المسلمين، إن أولى الناس بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده ثاني اثنين إذ هما في الغار: أبو بكر السباق المبين، ثم أخذت بيده وبادرني رجل من الأنصار، فضرب
(1) أمر من أخ كريم لأخ كريم فقد آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما سيدا كهول أهل الجنة سوى الأنبياء والمرسلين (الغيلانيات حديث 19) ..
(2)
سئل بعض العلماء لم كانت قريش أفضل العرب وهي قبيلة من مضر؟ فقال: لأن دارها لم يزل منسكا لحج الناس، وموسما لهم وموردا لقضاء نسكهم، وكانوا لا يزالون يتأملون أحوال الواردين ويراعونها، يختارون أحسن ما يشاهدونه، ويتكلمون بأحسن ما يسمعونه من لغتهم، ويتخلقون بأحسن ما يرون من شمائلهم، فبذلك - وهو حسن الاختيار الذي هو ثمرة العقل - صاروا أفضل العرب، ثم قال: لما بعث الله نبيه رضي الله عنه منهم تمت لهم به الفضيلة، وكملت به السيادة، وإنما صار دارهم حرما لأن الله تعالى لما قال للسماوات والأرض:{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} من الآية (11) من سورة فصلت، كان المجيب له بذلك من الأرض موضع الكعبة ومن السماء ما قابله فلذلك جعل فيه البيت المعمور (السلوك في طبقات العلماء والملوك 1/ 70).
على يده قبل أن أضرب على يده، ثم ضربت على يده وتتابع الناس" (1)، هذا هو الحق المبين، الذي أعمى الله عنه خلائق زعموا عدم أحقية أبي بكر رضي الله عنه بالخلافة، مع علمهم بوجود العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجله كثيرا، حتى قال:«عم الرجل صنو أبيه» (2) ولم ينظر الناس في استخلافه، ولم يكن المقدم عندهم، ولا الإمام الأعظم، وإنما كان المقدم والإمام الأعظم أبو بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه.
وإن للأنصار فضلهم ومكانتهم في نصرة الله ورسوله، والتضحية في سبيل الله بالنفس والنفيس، فلهم الحق كل الحق أن يتطلعوا إلى شيء من الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تطلعوا إلى أن يعطيهم رسول الله من غنائم يوم حنين، وعتبوا على ذلك، فلما أبان لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحق قبلوا وطابت أنفسهم؛ لأن الإسلام مقدم عندهم على كل شيء، وهنا كان أبو بكر وعمر وأبو عبيدة أبعد نظرا من سعد بن عبادة وقومه رضي الله عنهم، خافوا من الانشقاق، فيكون ذلك بابا من الشر على وحدة الأمة المحمدية، ولاسيما والأمر لا زال في صُبحه، وأمام من يلي أمر الأمة من الأعمال ما يستدعي وحدة الصف على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا من جانب ومن جانب آخر الأنصار أنفسهم يعرفون مكانة قريش بين القبائل في الجاهلية، وما لهم من تأثير على سير الأحداث، فذكَّرهم أبو بكر رضي الله عنه الأمر الخطير، مع الاعتراف بفضل الأنصار، وبمكانتهم في الأمة المحمدية، فالناس دثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشعاره الأنصار، ولم يسعَ أبو بكر رضي الله عنه لترشيح نفسه، ولكنه رشح أحد اثنين وهما من يعرف الأنصار والمهاجرون فضلهم، الأمر الذي لا يختلف عليه اثنان منهم، أبا حفص عمر رضي الله عنه، وأبا عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، فالأول الفاروق، والثاني أمين الأمة، ولا غرابة في مبادرة عمر رضي الله عنه إلى ترشيح أبي بكر، فالصحابة مجمعون على فضل أبي بكر رضي الله عنه، المهاجرون منهم والأنصار، وأنه الخيار منهم، والسابق الأول إلى كل فضيلة، وهو من يدعى من أبواب الجنة الثمانية، لطرْقه أبواب الخير المتعلقة بها، ولذلك لم يُنازَع عمر رضي الله عنه في ترشيحه
(1) أخرجه ابن أبي شيبة، المصنف (8/ 571).
(2)
مسلم حديث (983).