الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكسر الله أعداءه في جزيرة العرب وخارجها، لم يسعَ أبو بكر رضي الله عنه إلى الخلافة، بل الخلافة سعت إليه، لأنه رضي الله عنه كان أزْهَدَ الناس، وأكثرهم تواضعاً: في أخلاقه، ولباسه، ومطعمه، ومشربه، وتأكد ذلك بعد توليه الخلافة، إذ كان لبسه في خلافته الشملة، قدمَ إليه زعماء العرب وأشرافهم، وملوك اليمن وعليهم الْحُلَل، وبرود الْوَشْي المثقل بالذهب، والتيجان، فلما شاهدوا ما عليه من اللباس والزهد والتواضع والنسك، وما هو عليه من الوقار والهيبة ذهبوا مَذهبه، ونزعوا ما كان عليهم، وكان ممن وفد عليه من ملوك اليمن ذو الكلاع ملك حمير، ومعه ألف عبد دون من كان معه من عشيرته، وعليه التاج والحُلَل، فلما شاهد من أبي بكر رضي الله عنه ذلك الزهد والتواضع ألقى ما كان عليه وَتَزَيَّا بِزِيِّ أبي بكر، حتى إنه رؤي يوماً في سوق من أسواق المدينة على كتفيه جلد شاة، ففزعت عشيرته لذلك وقالوا له:"قد فضحتنا بين المهاجرين والأنصار، قال: أفأردتم مني أن أكون ملكاً جباراً في الجاهلية، جباراً في الإسلام، لا تكون طاعة الرب إلا بالتواضع لله والزهد في هذه الدنيا"(1)، وتواضعت الملوك ومَنْ ورد عليه من الوفود بعد التكبر، وتذللوا بعد التجبر.
أبرز الأحداث في خلافة أبي بكر رضي الله عنه
-:
لم تنطفئ العداوة للإسلام، من اليهود والذين أشركوا، حتى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله عز وجل مكن للإسلام في جزيرة العرب، وأذاع صيته في أنحاء من الأرض، فما سمع أناس بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا واشرأبت أعناقهم، وجاشت صدورهم بما فيها من الرغبات، وكان أول من برز مظهرا رغبة شخصية أبداها: الحباب بن المنذر رضي الله عنه في طلب الخلافة، حين قال في سقيفة بني ساعده:"أنا جُذيلها المحكك، وعُذيقها المرجَّب، إن شئتم والله رددناها جذعة"(2)، ولكن الله عز وجل أراد خلاف ذلك، فكان أفضل الأمة بعد نبيها الأَولَى والأحق عند الله ورسوله والمؤمنين، وما كاد يستقر الأمر في يد أبي بكر رضي الله عنه حتى أطلَّت الفتنة برأسها من خلال من زعم أن الزكاة لا تؤدى إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يستحق جمعها أحد بعده، وكانت مهمة الفتح
(1) مروج الذهب 1/ 289.
(2)
مصنف ابن أبي شيبة 8/ 571.
الإسلامي معقودة من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم لجيش يقوده أسامة بن زيد رضي الله عنه، وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام، فلما وصل إلى مكان يسمى ذي خشب (1)، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)، وفي الوقت نفسه ارتد بعض العرب، فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا ضرورة إلغاء جيش أسامة، فلما عزم أبو بكر رضي الله عنه على إنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه، والحال ما ذكرنا، لم يرض هذا الإجراء كثير من الصحابة رضي الله عنهم ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأشاروا على خليفة رسول الله أن لا ينفذ جيش أسامة؛ لاحتياجه إليه فيما هو أهم، في الأحداث القائمة، لرد خطرها عن الإسلام والمسلمين، والاستقواء بجيش أسامة على قمع المرتدين، وإعادتهم إلى حضيرة الإسلام، وإلا اتسع الخرق على الراقع، وربما تكون فتنة كبرى، يصطلي بنارها المسلمون، وتقوى شوكة الأعداء، ولا ريب أنها مشورة ذات أهمية بالغة، ولها وزنها وقدرها العظيم، وهم مأجورون على ذلك رضي الله عنهم، غير أن شجاعة الصديق وبعد نظره، وتعظيمه لله ورسوله جعله يأبى أشد الإباء، ويقول لمحبيه والناصحين له:«والذي لا إله إلا هو لو جرَّت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللت لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم» (3)، لأجهزن جيش أسامة، وآمر الحرس يكونون حول المدينة، فحاوره يزيد الضخم فقال: ما أراك تنحاش لِما قد بلغ من الناس، ولِما يتوقع من إغارة العدو؟ ، فقال: ما دخلني إشفاق من شيءٍ، ولا دخلني في الدين وحشة إلى أحد بعد ليلة الغار، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى إشفاقي عليه وعلى الدين، قال لي:«هون عليك، فإن الله قد قضى لهذا الأمر بالنصر والتمام» (4)، فسمع الصحابة وأطاعوا، وخرج أبو بكر رضي الله عنه
(1) هو بضمتين: وادٍ قريب من جبل البيضاء من جهة بواط، على مَسِيرةِ لَيْلة من المَدينة، قال الطرماح:
أو كالفتى حاتم إذ قال ما ملكت ** كفاي للناس نهبى يوم ذي خشب (لسان العرب 1/ 351، والجبال والأمكنة والمياه 1/ 207).
(2)
مختصر تاريخ دمشق (4/ 291).
(3)
مختصر تاريخ دمشق (4/ 291).
(4)
مختصر تاريخ دمشق (4/ 291) ..
شاهراً سيفه، راكباً على راحلته إلى ذي القَصَّة (1)، فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأخذ بزمام راحلته، فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! ، أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد:«أشمر سيفك، ولا تفجعنا بنفسك» فو الله لئن أُصِبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبداً، فرجع وأمضى الجيش (2)، وأمر أسامة بن زيد أن يَنفذ في جيشه، وسأله أن يترك له عمر رضي الله عنه يستعين به على أمره، فقال: فما تقول في نفسك؟ (3)، فقال: يا ابن أخي! فعل الناس ما ترى فدع لي عمر، وأنفذ لوجهك، فخرج أسامة رضي الله عنه بالناس وشيّعه أبو بكر رضي الله عنه فقال له: ما أنا بموصيك بشيء، ولا آمرك به، وإنما آمرك ما أمرك به رسول الله، وامض حيث ولاك رسول الله.
نفَّذ أسامة رضي الله عنه، وكان أبو بكر رضي الله عنه حكيما موفقا في هذا القرار الصارم، وكان فيه من الخير: تقديس عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عقد اللواء لأسامة رضي الله عنه ووجهه بجيش إلى الروم، ومن يجسر على حل أمر أبرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا من فقه أبي بكر رضي الله عنه، فقد عظَّم الله ورسوله في هذا الإجراء، ولم يشك في نصر الله للمؤمنين، قال الزهري رحمه الله: من فضل أبي بكر أنه لم يشك في الله ساعة (4)، ومن شدة وثوقه بالله تعالى كان المنقوش على خاتمه «نِعْمَ اللهُ القادر» وقد حصل بهذا الاستقواءُ الذي أراده الصحابة رضي الله عنهم خير كثير، فإنه لما أنفذ أسامة رضي الله عنه بجيشه، جعل لا يمر بقبيلٍ يريدون الارتداد إلاّ قالوا: لولا أن لهؤلاء قوةً ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم، وقتلوهم ورجعوا
(1) بقعاء ذي القصة على بعد أربعة وعشرين ميلا عن المدينة (تاج العروس 1/ 5111) ولعله بين ذي خشب والمدينة، من جهة طريق تبوك الآن.
(2)
مختصر تاريخ دمشق (4/ 291).
(3)
تأمل هذه العبارة من أسامة رضي الله عنه فإن فيها إجلال لأبي بكر، فكأنه يقول لأبي بكر رضي الله عنه، كيف تطلب مني إبقاء عمر رضي الله عنه، وأنت المقدم عليه عند الله ورسوله والمؤمنين، فما زاد ذلك أبا بكر إلا تواضعا، وحلما في مخاطبة أسامة رضي الله عنه، مع بيان سبب استبقاء عمر رضي الله عنه، وفي ذلك تكريم لعمر رضي الله عنه، وهو والله لذلك أهل، رضي الله عنهم أجمعين.
(4)
مختصر تاريخ دمشق (4/ 291).