الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد عرف الناس ضلال من ارتد، فأخذ بعضهم يعير بعضا بذلك الضلال، قال عليّ بن هوذة بن عليّ الحنفي - من بني حنيفة - بعد قتل مسيلمة الكذاب، وسمع الناس يعيّرون بني حنيفة بالردّة فقال يذكر من ارتدّ من العرب غير بني حنيفة:
رمتنا القبائل بالمنكرات
…
وما نحن إلاّ كمن قد جحد
ولسنا بأكفر من عامر
…
ولا غطفان ولا من أسد
ولا من سليم وألفافها
…
ولا من تميم وأهل الجند
ولا ذي الخمار ولا قومه
…
ولا أشعث العرب لولا النّكد
ولا من عرانين من وائل
…
بسوق النّجير (1) وسوق النّقد (2)
وكنّا أناسا على غرّة
…
نرى الغيّ من أمرنا كالرّشد
ندين كما دان كذّابنا
…
فيا ليت والده لم يلد! (3).
بعد حروب الردة:
لما عاود العرب الإسلام بعد الردة، ندبهم أبو بكر، ومستشاره عمر، رضي الله عنهما، إلى الجهاد، فسارت العرب إلى الشام والعراق، والذين ساروا إلى الشام توجهوا بعد فتحه إلى مصر، ففتحوها، فكان فيهم من له صحبة، وفيهم من لا صحبة له، وإن أدركوا الجاهلية، فإن كل من شهد الفتوح أيام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أدركوا الجاهلية، فإن آخر أيام عمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة تقريباً، كل من قاتل في أيام أبي بكر وعمر كان كبيراً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (4)، وكان عهد أبي بكر قوة للحضارة الإسلامية، ففي عهده اتسعت رقعة البلاد الإسلامية زيادة على ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان عزَم على إكمال ما بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أعمال الفتح الإسلامي، عملا بقول الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
(1) حصن باليمن لجأ إلية الأشعث وقومه في حروب الردة (معجم البلدان 2/ 271).
(2)
النقد صغار الشاة (معجم البلدان 4/ 319) ولعله سوق باليمن.
(3)
معجم البلدان 2/ 169.
(4)
أسد الغابة 1/ 143.
صَاغِرُونَ} (1)، وبقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (2)، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن خروجه صلى الله عليه وسلم عام تبوك بالناس، وفي وقت شديد الحر، كثير الجَهد والمشقة، ثم عقد لواء الجهاد بعد ذلك لأسامة رضي الله عنه، ليسير بمن معه لفتح تخوم الشام، تنفيذا لأمر ربه تعالى، وإعلاما لأمته بأهمية الفتح الإسلامي، وتبليغ الناس دعوة الحق، وقد أدرك هذا أبو بكر رضي الله عنه، فكان أول عمل قام به إنفاذ أسامة بن زيد رضي الله عنه في جيش إلى البلقاء من الشام، إذ لم يتم ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان انتقاله إلى الرفيق الأعلى مصابا جللا دهى المسلمين، فلم يكن فراقه هينا على أصحابه رضي الله عنهم، فاشتد الحال، ونجمت أمور خطيرة بموته صلى الله عليه وسلم، لم تهدد أمن المسلمين فحسب، بل هددت بقاء الإسلام كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فهم أبو بكرأن تجهيز جيش أسامة كان بداية الفتح الإسلامي، ونشر دين الله في الأرض، ولم يقف أبو بكر رضي الله عنه عند هذا الحد، بل شرع في جمع الأمراء والجيوش من أماكن متفرقة من جزيرة العرب، ليبعث بها لفتح الشام والعراق، وفاء لما نوى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عقد اللواء لأسامة رضي الله عنه، فلما اجتمع عنده ما أراد من الجيوش قام في الناس خطيبا، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم حث الناس على الجهاد، فقال:"ألا إن لكل أمر جوامع فمن بلغها فهي حسبه، ومن عمل لله كفاه الله، عليكم بالجد والقصد فإن الجد والقصد أبلغ، ألا إنه لا دين لأحد لا إيمان له، ولا إيمان لمن لا خشية له، ولا عمل لمن لا نية له، ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله، لَما ينبغي للمسلم أن يختص به، هذه هي النجاة التي دل الله عليها، فنجّى بها من الخزي، وألحق بها من الكرامة"، ثم شرع رضي الله عنه في تولية الأمراء، وعقد الألوية والرايات، وبعثهم في أول سنة (13 هـ) وتم فيما لا يجاوز ستة أشهر فتح أمصار كثيرة من الشام أرض الروم، وكانت مقولة عظيمة لأبي بكر رضي الله عنه حينما بلغه أن جيوش الروم تتحزب على المسلمين فكان مما قال رضي الله عنه: "أَلْقَوا جنود المشركين، وأنتم أنصار الله،
(1) الآية (29) من سورة التوبة.
(2)
الآية (123) من سورة التوبة ..
والله ينصر من ينصره، وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم عن قلة، ولكن من تلقاء الذنوب فاحترسوا منها، وليصل كل رجل منكم بأصحابه"، وقد تابع الصديق هذا الجانب الهام، في بناء الحضارة الإسلامية، والارتقاء بالشعوب من ظلمات الجاهلية، إلى نور الإسلام، فجهز لفتح العراق جيشا بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأمره أن يأتي الأبلة، ليدخل العراق من أعاليها، وأن يتألف الناس، ويدعوهم إلى الله عز وجل، فإن أجابوا وإلا أخذ منهم الجزية، وإن امتنعوا عن ذلك قاتلهم، وأمره ألا يكره أحدا على المسير معه، لأنه لا يأمن غدره، ولا يستعين بمن ارتد عن الإسلام، ولو عاد عن ردته، فهو غير مأمون ولاسيما وهو قريب عهد بردة، وهذه فطنة عظيمة من أبي بكر رضي الله عنه، وأخذ أبو بكر يتابع أخبار خالد في سيره في الفتح، ويمده بالسرايا والبعوث والجيوش عند حاجته إلى ذلك، وسار خالد رضي الله عنه في فتح أمصار العراق، يبث سراياه لحصار الحصون، ويستنزلون أهلها قسرا وقهرا، وصلحا ويسرا، وكان في جملة ما نزل بالصلح قوم من نصارى العرب، فيهم عمرو بن عبد المسيح بن نُفيلة، وجد خالد معه كيسا فقال: ما في هذا الكيس؟ وفتحه خالد فوجد فيه شيئا، فقال ابن نُفيلة: هو سم ساعة، فقال: ولم استصحبته معك؟ ! فقال: حتى إذا رأيت مكروها في قومي أكلته فالموت أحب إلي من ذلك، فأخذه خالد في يده وقال: إنه لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، ثم قال: بسم الله خير الأسماء، رب الأرض والسماء، الذي ليس يضر مع اسمه داء، الرحمن الرحيم، قال: وأهوى إليه الأمراء ليمنعوه، فبادرهم فابتلعه، فلما رأى ذلك ابن نُفيلة قال: والله يا معشر العرب، لتملكن ما أردتم مادام منكم أحد - يعني بهذه الصفة - ثم التفت إلى قومه أهل الحيرة، فقال: لم أر كاليوم أمراء أوضح إقبالا من هذا، ثم دعاهم وسألوا خالدا الصلح، فصالحهم وكتب لهم، وقدم خالد رضي الله عنه برهانا جديدا على كمال الإيمان، وقوة التوكل، وبعد نظر من خالد ليعلم القوم وكبيرهم أن هذه هي صفة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وليست الحالة الوحيدة، فمثل هذا كثير (1)،
وهو ما
(1) من ذلك قصة العلاء بن الحضرمي، في غزو دارين، دعا بثلاث دعوات استجاب الله له فيها: نزل منزلا فطلب الماء فلم يجد، فقام وصلى ركعتين وقال: اللهم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك، اللهم اسقنا غيثا نتوضأ به ونشرب، ولا يكون لأحد فيه نصيب غيرنا، فساروا =
فهمه ابن نفيلة وقومه، وبرز الوفاء من خالد لموعود وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو
= قليلا، فإذا هم بماء حين أقلعت السماء عنه، فتوضؤا منه وتزودوا، وقد لا حظ أحد أصحابه اشتراطه في الدعاء، وهو أمر استغربه، فلما رأى أن الله استجاب له وأنز ل المطر، أراد أن يتحقق الإجابة في الشرط، فملأ إداوته وتركها عمدا، فلما ساروا مسافة قال لأصحابه: إني نسيت إداوتي فرجع إلى ذلك المكان فلم يجد أثرا للماء، وكأنه لم يصبه ماء قط، وليس في اشتراط العلاء غرابة، لأن الأرض أرض عدو، وفي ذلك وهَن لهم، وفيه كرامة للمجاهدين لإعلاء كلمة الله، وعلم العدو بمثل هذا الحدث تسهيل لمهمة المجاهدين، هاتان اثنتان، أما الدعوة الثالثة: فلما أشرفوا على دارين حال البحر بينهم وبينها، فقال العلاء: يا علي يا حكيم، إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك، اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلا، فدخلوا البحر ولم يبلغ الماء لبودهم، ومشوا على متن الماء ولم يبتل لهم شيء، وأخرى وقعت لأحد الصحابة، عندا ما حال نهر دجلة وهو ماد بينهم وبين العدو، فقال رجل من المسلمين: بسم الله ثم اقتحم بفرسه، فارتفع على الماء، فقال الناس: بسم الله فارتفعوا على الماء، فنظر إليهم العدو وقالوا:" ديوات، ديوات" أي مجانين، يقولون ذلك وهم فارون على وجوههم، وكان أول من اقتحم دجلة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أبو عبيدة النفيعي أمير الجيوش، وأنه نظر إلى دجلة فتلا قوله تعالى:{وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا} آل عمران من الآية (145) ثم سمى الله تعالى واقتحم بفرسه الماء، واقتحم الجيش وراء، ومن ذلك، قصة أبي مسلم الخولاني، جاء إلى دجلة وهي ترمي الخشب من مدها، فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه وقال: هل تفقدون من متاعكم شيئا فندعو الله تعالى؟ ! "ثقة بالله عز وجل لا حدود لها، فكافأهم الله عز وجل بفورية الإجابة وشد الأزر، ولم تكن هذه الصفة قاصرة على الرجال، بل كان للنساء المؤمنات حظا، وذلك "أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرة ومعها ابنها قد بلغ، فأضافها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النساء، وابنها إلى الرجال مع أهل الصفة، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة، فمرض أياما ثم قبض، فغمضه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بجهازه، فلما أرادوا أن يغسلوه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يا أنس ائت أمه فأعلمها)، فأعلمها أنس قال: فجاءت حتى جلست عند قدميه، فأخذت بهما ثم قالت: اللهم إني أسلمت لك طوعا، وخلعت الأوثان، فلا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحمله"، قال: "فوالله ما انقضى كلامها حتى حرك قدميه، وألقى الثوب عن وجهه، وعاش حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى هلكت أمه"، إن هذا وما شابهه حدث بسبب إيمانهم بالله ورسوله، وتحكيم كتاب الله وسنة رسوله، فنالوا ما نالوا من الفضل والتميز، نسأل الله أن يطهر قلوبنا ويستجيب دعاءنا، ولا يحرمنا فضله ونصرته وكرمه. انظر (البداية والنهاية 6/ 3118، 319، 320).
صحابي يقال له: شويل (1)، وذلك أنه لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قصور الحيرة، وكأن شُرُفها أنياب الكلاب، فقال له يا رسول الله، هب لي ابنة نفيلة، واسمها كرامة، فقال: هي لك، فلما كان يوم خالد هذا ادعاها شويل رضي الله عنه، وشهد له اثنان، فلم يصالحهم خالد حتى يسلموها، فامتنع قومها من تسليمها وقالوا: ما تريد من امرأة ابنة ثمانين سنة؟ ! ، فقالت لقومها: ادفعوني إليه، فإني سأفتدي منه، وإنه قد رآني وأنا شابة، وسلمت إليه، فلما خلا بها قالت: ما تريد امرأة بنت ثمانين سنة؟ ! ، وأنا أفتدي منك فاحكم بما تريد، وقال: والله لا أفديك بأقل من عشر مائة، فاستكثرتها خديعة منها، ثم أتت قومها وأحضروا له ألف درهم، ولامه الناس وقالوا: لو طلبت أكثر من مائة ألف لدفعوها إليك، فقال: وهل عدد أكثر من عشر مائة؟ ! ، وذهب إلى خالد وقال: إنما أردت أكثر العدد، فقال خالد: أردت أمرا وأراد الله غيره، وإنا نحكم بظاهر قولك، ونيتك عند الله، كاذبا كنت أم صادقا، وفي هذه القصة جانبان هامان:
الأول: الوفاء بما وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم شويلا رضي الله عنه، كما وفّى عمر رضي الله عنه لسراقة بسواري كسرى.
الثاني: العدل: بعدم قبول دعوى شويل رضي الله عنه أنه ما أراد إلا أكثر العدد، وقد صلى خالد لما فتح الحيرة ثمان ركعات بتسليمة واحدة، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم فتح مكة فقد صلى ثمان ركعات شكرا لله عز وجل على ذلك الفتح العظيم، وما أشبه الليلة بالبارحة في حياة خالد بن الوليد رضي الله عنه، يعظمه أبو بكر فيقول: والله لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد، وبعث إليه وهو في العراق ليقدم إلى الشام، فيكون الأمير على من بها، وقد حفظ الصديق رضي الله عنه للأمة أمر دينها بجمع القرآن الكريم من صدور الرجال، واللخاف والعُسُب، وكلف بذلك زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقد لفت نظره إلى هذا العمل العظيم ما وقع للقراء من القتل في يوم
(1) لعل هذا لقبه وهو خريم بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هذه الحيرة البيضاء قد رفعت لي، وهذه الشيماء بنت نفيلة الأزدية على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود " فقلت: يا رسول الله، فإن نحن دخلنا الحيرة ووجدتها على هذه الصفة هل لي؟ قال:" هي لك " وذكر الحديث (أسد الغابة 1/ 332).