الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1)، فلم يأمر بالقتال ابتداء مع واحدة من الطائفتين، لكن أمر بالإصلاح وبقتال الباغية، وإن قيل: " الباغية يعم الابتداء والبغي بعد الاقتتال، قيل: فليس في الآية أمر لأحدهما بأن تقاتل الأخرى، وإنما هو أمر لسائر المؤمنين بقتال الباغية، والكلام هنا: إنما هو في أن فعل القتال من علي لم يكن مأمورا به، بل كان تركه أفضل، وأما إذا قاتل لكون القتال جائزا وإن كان تركه أفضل، أو لكونه مجتهدا فيه وليس بجائز في الباطن: فهنا الكلام في وجوب القتال معه للطائفة الباغية، أو الإمساك عن القتال في الفتنة، وهو موضع تعارض الأدلة، واجتهاد العلماء والمجاهدين من المؤمنين بعد الجزم بأنه وشيعته أولى الطائفتين بالحق، فيمكن وجهان: أحدهما: أن الأمر بقتال الطائفة الباغية مشروط بالقدرة والإمكان، إذ ليس قتالهم بأولى من قتال المشركين والكفار، ومعلوم أن ذلك مشروط بالقدرة والإمكان، فقد تكون المصلحة المشروعة أحيانا هي التآلف بالمال والمسالمة والمعاهدة، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، والإمام إذا اعتقد وجود القدرة ولم تكن حاصلة كان الترك في نفس الأمر أصلح (2).
موقف علي رضي الله عنه من الخلفاء قبله رضي الله عنهم
-
موقفه من أبي بكر:
روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قام أبو بكر بعدما استخلف بثلاث، فقال: من يَستَقيلُني بيعتي فأقيله؟ ، فقلت: والله لا نقيلك، ولا نستقيلك، من ذا الذي يؤخرك وقد قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)، هذا كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الحكم العدل في خلافة أبي بكر، ولذلك مما قال:
…
فمشيتُ عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته، ونهضتُ في تلك الأحداث - حروب الردة - حتى زاغ الباطل وزهق، وكانت كلمة الله هي العليا
(1) الآية (9) من سورة الحجرات.
(2)
مجموع الفتاوى 4/ 436 - 442، نقلناه لنفاسته في الموضوع.
(3)
السنة لأبي بكر الخلال حديث (372) وفضائل أبي بكر للعشاري حديث (20).
ولو كره الكافرون، فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسر وسدد وقارب واقتصد، فصحبته مناصحاً وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهداً (1)، وقال لما توفي أبوبكر رضي الله عنه: "رحمك الله أبا بكر، كنت إلف رسول الله، وأنسه ومستراحه، وموضعا لسره ومشاورته، وأول القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأشدهم يقينا، وأخوفهم لله، وأعظمهم غنى في دين الله، وأحوطهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأيمنهم على أصحابه وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقبا، وأكثرهم سوابقا، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأقربهم من رسول الله رضي الله عنه مجلسا، وأشبههم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده، فجزاك الله عن الإسلام خيرا، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، صدَّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس، فسماك الله في تنزيله صديقا فقال:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (2)، واسيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تخلوا، وقمت معه عند المكاره حين عنه قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة، ثاني اثنين، وصاحبه في الغار، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، ومواطن الكره، خلفته في أمته بأحسن الخلافة حين ارتد الناس، وقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي، قويت حين ضعُف أصحابك، ونهضت حين وهنوا، وبرزت حين استكانوا، ولزمت منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هَمُّوا، وقمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت حين تتعتعوا، مضيت بنور إذ وقفوا، فاتبعوك فهُدوا، كنت أخفضهم صوتا، وأعلاهم فوقا، وأقلهم كلاما، وأصوبهم منطقا، وأطولهم صمتا، وأبلغهم قولا، وأكبرهم رأيا، وأشجعهم نفسا، وأشدهم يقينا، وأحسنهم عقلا، وأعرفهم بالأمور، كنت والله للدين يعسوبا أولا حين نفر عنه الناس، وأخيرا حين أقبلوا، كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا، ورعيت ما أهملوا، وحفظت ما أضاعوا لعلمك بما جهلوا، شمرت إذ خنعوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، وأدركت آثار ما طلبوا، وراجعوا رشدهم برأيك، فظفروا ونالوا بك ما لم يحتسبوا،
(1) نهج البلاغة 61.
(2)
الآية (33) من سورة الزمر ..
كنت على الكافرين عذابا صبا، وللمسلمين غيثا وخصبا، فطرت والله بغنائها، وفزت بجبائها، وذهبت بفضائلها، وأدركت سوابقها، لم تُفَل حجتك، ولم تضعُف نصرتك، ولم تختر نفسَك، ولم يزغ قلبك، كنت كالجبل، فلا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمَنَّ الناس عليه في صحبتك وذات يدك» وكنت ضعيفا في بدنك، قويا في أمر الله، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في أعين المؤمنين، كبيرا في أنفسهم، لم يكن لأحد فيك مغمز، ولا لقائل فيك مهمز، ولا لأحد فيك مطمع، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقه، والقوي العزيز عندك ذليل حتى تأخذ منه الحق، القريب والبعيد في ذلك سواء، أقرب الناس إليك أطوعهم لله وأتقاهم له، شأنك الحق والصدق والرفق، قولك حق وحتم، وأمرك حكم وحزم، ورأيك علم وعزم، فأقلعت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأُطْفئت النيران، وقوي الإيمان، واعتدل بك الدين، وثبت الإسلام والمسلمون، وقوي الإيمان، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون، فسبقت والله سبقا بعيدا، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا، وفزت بالخير، فجللت عن البكا، وعظمت رزيتك في السماء، وهدت مصيبتك الأنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا له أمره، فو الله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثلك أبدا، كنت للدين عزا وحرزا وكهفا، وللمؤمنين فيئا وحصنا وغيثا، فألحقك الله بميتة نبيك، ولا أحرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك، فإنا لله وإنا إليه راجعون"، فسكت الناس حتى انقضى كلامه، ثم بكوا عليه حتى علت أصواتهم، وقالوا: صدقت يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، وقال رضي الله عنه: لله بلاء أبي بكر لقد قوم الأود، وداوى العلل، واقام السنة، وخلف البدعة، وذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها واتقى شرها، أدى لله طاعة واتقاه بحقه. . . . الخ (2)، هذا كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، نطق بالحق في تأبين أبي بكر رضي الله عنه، وشهد بما علم، وأنعم بشهادة من عرف لله حقه ولرسول الله حقه، ولأبي بكر حقه، وقال محمد بن
(1) نهج البلاغة نقلا عن العواصم من القواصم 1/ 275.
(2)
انظر: السنة لأبي بكر بن الخلال 1/ 284 - بتصرف - وانظر: الشريعة للآجري 4/ 1725.
الحنفية رحمه الله: قلت لأبي: "يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بني، أو ما تعرف؟ ! فقلت؟ لا، قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول: ثم عثمان! فقلت: ثم أنت؟ فقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين"(1)، ولما توفي أبو بكر رضي الله عنه تزوج علي رضي الله عنه أسماء بنت عميس بعده وربا ابنه محمد صغيرا، وولاه كبيرا على مصر ونشبت بينه وبين عمرو بن العاص حرب سنة (38)(2)، كان عمرو رضي الله عنه في صف معاوية رضي الله عنه، وكان الحكم مع أبي موسى رضي الله عنه فمكر بأبي موسى، وقد اتفقا على أن يخلع كل منهما صاحبه ويختار الناس، فلم يفعل عمرو رضي الله عنه، اجتهد فأخطأ، وقد ندم عند فاته رضي الله عنه فقال: "اللهم إنك أمرت عمرو بن العاص بأشياء فتركها، ونهيته عن أشياء فارتكبها، فلا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت.
قالها ثلاثا جامعا يديه معتصما بهما حتى قبض (3).
قال ابن شماسة المهري: "حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت، يبكي طويلا، وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ ، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ ، قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، إني قد كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه، فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال:«ما لك يا عمرو؟ » قال: قلت: أردت أن أشترط، قال:
…
«تشترط بماذا؟ » قلت: أن يغفر لي، قال:«أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ » وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري
(1) شرح الطحاوية ت الأرناؤوط 2/ 710، انظر: السنة لأبي بكر بن الخلال 1/ 291 ..
(2)
أنظر: سمط النجوم العوالي 2/ 463، والرياض النظرة في مناقب العشرة 1/ 267.
(3)
الطبقات الكبرى ط العلمية 7/ 342.
ما حالي فيها، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة، ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي" (1).
ونقول تبا لأولئك الناقمين على أبي بكر رضي الله عنه انتصارا لإخوانهم المرتدين، مستدلين بروايات مصنوعة مزورة، معرضين عن حقائق الكتاب والسنة، موغلين في عداوة الإسلام وأهله، ومن التزوير ما جاء في كتاب التحفة الاثني عشرية: إذ حذف الشريف الرضى صاحب نهج البلاغة حفظا لمذهبه الفاسد، حذف لفظ أبي بكر وأثبت بدله: فلان، وتأبى الأوصاف إلا أبا بكر، ولهذا الإيهام اختلف الشراح، فقال البعض هو أبو بكر، وقال آخرون: هو عمر، ورجح الأكثرون الأول، وهو الحق، والعجب أن الناقمين على الصحابة وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، يفعلون ذلك بزعمهم حب آل البيت، وهم والله برآء من حب آل البيت، لأنه حب عار عن الصدق اتخذوه لغايات يسعون لتحقيقها، بدعوى الحب الكاذب، حتى صار ذلك عارا على آل البيت، قال عليّ بن الحسين رحمه الله وكان أفضل هاشمي في زمانه:"أيها الناس أحبونا بحب الإسلام، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارًا"(2).
قلت ليس حب آل البيت عارا، ولكن لكثرة ما وضع له من الزور والكذب عليهم فردا فردا روايات لا يصدقها مجنون فضلا عن عاقل أصبح حب آل البيت عارا بسببها، ونِعْم حب آل البيت عند أهل السنة، إنه حب الإسلام الذي نشده علي بن الحسين رحمه الله.
أما الرافضة فقد أخبر بهلاكهم وضلالهم عليٌّ نفسه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيك مَثَلٌ من عيسى بن مريم أبغضته يهود، حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزلة التي ليس به» .
(1) مسلم حديث (192).
(2)
آل رسول الله وأولياؤه (1/ 188).