الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (1)، وكان مسيلمة يقول: محمد رسول قريش، وأنا رسول بني حنيفة، فأنزل الله عز وجل فيه وفي العنسي قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (2)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض، فوضع في كفي سواران من ذهب، فكبرا علي فأوحي الي أن انفخهما، فنفختهما فذهبا، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة» (3)، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيلمة لا زال يدعي لنفسه النبوة، وتبعه فئام من قومه، وكذلك طليحة بن خويلد الأسدي أصابه الطمع فزعم أنه نبي، وآمن به قومه، بنو أسد، هذه الأحداث الثلاث كانت رأس الفتنة والحقد على الإسلام، أهلك الله العنسي ومن تبعه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقيت فتنة مسيلمة، وطليحة قائمة إلى أن ولي أبو بكر رضي الله عنه الخلافة (4).
في عهد أبي بكر رضي الله عنه
-
وإذا كان عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسلم من محاولات الكيد للإسلام، وإثارة الفتنة ضد ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا غرو أن يُدلي الأشرار بأفكارهم، وهم أعداء الإسلام وقد تنفسوا الصعداء بانتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وقد جرحوا الجسد الإسلامي، وربما آلموه أحيانا كثيرة، وأنَّى لهم القضاء عليه، تدور عليهم الدوائر، وكل عمل أتوه فهو خاسر بائر، فالمرتدون بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن الإيمان رسخ في قلوبهم، فكان الشك في صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا زال يراودهم، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجت الأفعى من حجرها، جاهدة تبث سمومها لتقتل الجسد
(1) الآية (128) من سورة الأعراف، وانظر تفسير اللباب لابن عادل 6/ 121.
(2)
الآية (93) من سورة الأنعام.
(3)
البخاري حديث (4375) ..
(4)
بتصرف انظر: تاريخ خليفة بن خياط 1/ 103 والإصابة في تمييز الصحابة 3/ 440.
الإسلامي، وقد أدرك ذلك أبو بكر، وأعيان الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، قام مالك بن التيهان الأنصاري حتى وقف على قومه، فقال:"يا معشر الأنصار، أنصتوا واسمعوا مقالتي، وتفهموا ما ألقيه إليكم، اعلموا أنه قد شمتت اليهود والنصارى بموت نبينا محمد عليه السلام، وقد ظهرت حسيكة أهل الردة، وعُظْم المصائب علينا أن مسيلمة الكذاب خرج بأرض اليمامة يرعد ويبرق، وقد تعلمون أنه كان يدعي النبوة في حياة نبينا صلى الله عليه وسلم، والآن قد بلغني أن طليحة بن خويلد الأسدي أيضا قد ادعى النبوة ببلاد نجد، وأنا والله خائف على قبائل العرب أن ترتد عن دين الإسلام، فإن لم يقم بهذا الأمر رجل من بني هاشم، أو رجل من قريش فهو والله الهلاك والبوار"، وقد همت أكثر القبائل بالردة، بل أعلن بعضها عدم دفع الزكاة: الركن الثالث من أركان الإسلام، واجتمعت بنو حنيفة إلى مسيلمة الكذاب بأرض اليمامة، فقلدوه أمرهم وادعى أنه نبيهم، فارتدت بنو أسد ورأسوا على أنفسهم طليحة بن خويلد الأسدي، وهو الذي ادعى النبوة في أرض بني أسد، وارتدت فزارة ورأسوا عليهم عيينة بن حصن الفزاري، وارتدت بنو عامر وغطفان، ورأسوا على أنفسهم قرة بن سلمة القشيري، وارتدت بنو سليم ورأسوا على أنفسهم الفجاءة بن عبد ياليل السلمي، وارتدت طائفة من بني تميم ورأسوا عليهم امرأة يقال لها سجاح.
وبلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه فاغتم، بادر إلى المسجد فنادى في العرب، فقام في الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:"أيها الناس، إنما أنا رجل منكم أغني ما تغنون، وأحامي كما تحامون، وأنتم شركائي في هذا الأمر"، دارت الشورى بين موافق على القتال ومخالف، ولكن الله سلم وجعل الناس يجتمعون إلى أبي بكر رضي الله عنه، من كل ناحية، ويتقربون إليه، وإلى الله تعالى بقتال أهل الردة، فقد برئ الله منهم لرجوعهم عن دين الإسلام، ومنعهم الزكاة، وعزم أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يوجه إليهم بخالد بن الوليد في المهاجرين والأنصار، فكانوا سيفه القاطع، ورمحه النافذ، وسهمه الصائب رضي الله عنهم.
ضج المسلمون إلى أبي بكر رضي الله عنه، وقالوا: "يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا تسمع إلى ما قد انتشر من ذكر هذا الملعون الكذاب بأرض اليمامة؟ ! ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا
تعجلوا، فإني أرجو أن يكون الله تبارك وتعالى قد أذن بهلاكه، ثم كتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد، وهو يومئذ مقيم في البطاح: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن عثمان، خليفة رسول الله رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد ومن معه من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، أما بعد: يا خالد، فإني قد أمرتك بالجد في أمر الله، والمجاهدة لمن تولى عنه إلى غيره، ورجع عن دين الإسلام والهدى، إلى الضلالة والردى، وعهدي إليك يا خالد أن تتقي الله وحده لا شريك له، وعليك بالرفق والتأني".
هذا في شأن مسيلمة الكذاب مدعي النبوة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتم القضاء عليه، نعق الغراب فتبعه كل غراب، إلا من تاب بعد ذلك وأناب، لما قام لهم السيف والكتاب، والسنة وفصل الخطاب، جيَّشَ لهم أبو بكر خليفة رسول الله، من خيرة الأصحاب من أذلهم فقُتل من قُتل، وعاد منهم من عاد إلى الحق والصواب.
بعث إليهم أبو بكر خالد بن الوليد رضي الله عنهما، فقتل مسيلمة الكذاب، وقاتل بني حنيفة وأهل الردة وأطاعوه، وكان عامر بن الطفيل الدوسي (1)، من أصحاب الرايات ممن شهد اليمامة مع خالد بن الوليد (2).
دعا أبو بكر خالد بن الوليد رضي الله عنهما، فعقد له عقدا، وضم إليه الجيش، ثم قال:"يا خالد، سر نحو طليحة بن خويلد الأسدي ومن معه من بني أسد وغطفان وفزارة، وانظر إذا وصلت إلى القوم ونزلت بديارهم وسمعت أذانا، فلا تقاتلن أحدا حتى تعذر إليهم وتنذرهم، ثم دسس إلى أمرائهم وأشرافهم فأعطهم من المال على أقدارهم، وانظر إذا وافيتهم، فلا تنزلن بهم نهارا فيروا عسكرك، ويعلموا ما فيه من الناس، ولكن انزل بهم ليلا عند وقت نومهم، ثم ارعوا إبلكم وحركوا أسلحتكم، وهولوا عليهم ما قدرتم، وإن أظفركم الله بطليحة بن خويلد وأصحابه، فسر نحو البطاح من أرض تميم، إلى مالك بن نويرة، وأصحابه ولعلي آتيك من ناحية أخرى إن قدرنا على ذلك، إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
(1) بتصرف، انظر: فتوح الشام 1/ 5، 199.
(2)
هذا في نظري خطأ، إنما هو الطفيل بن عمرو، وقد بينت ذلك في كتابي الجوس في من نسب إلى دوس.
فقال خالد: "يا خليفة رسول الله، فإذا أنا وافيت القوم، فإلى ما أدعوهم؟ ، قال: ادعهم إلى عشر خصال، شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والطاعة، والجماعة"، ثم كتب إليهم أبو بكر رضي الله عنه (1).
ولقي خالد رضي الله عنه القوم ومنهم طليحة وقومه، فانهزم طليحة إلى الشام، ثم أسلم وحسن إسلامه، أحرم بالحج، فرآه عمر، فقال:"إني لا أحبك بعد قتل الرّجلين الصّالحين: عكّاشة بن محصن، وثابت بن أقرم"، وكانا طليقين لخالد، فلقيهم طليحة وسلمة فقتلاهما، فقال طليحة:"هما رجلان أكرمهما اللَّه بيدي ولم يهني بأيديهما"(2).
فالردة كانت من أعظم ما حدث بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أمرها عظيما، ووقتها عصيبا، فالمرتدون على أحوال:
منهم من كان حديث عهد بإسلام فكان من السهل أن تجتاحه الفتنة، ويُلم به هاجس الشيطان، فوقعت منه الردة.
ومنهم من منع الزكاة ولم يرتد عن الشهادتين وبقية فرائض الإسلام، وتأول قول الله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3)، فقال: كنا ندفعها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله أمره أن يأخذ من أموالنا صدقة يطهرنا بها، ويصلي علينا - يدعو لهم - فصلاته سكن لنا، وليس ذلك لأبي بكر.
ومنهم من ارتد طمعا في السيادة والملك.
وعلى هذا أكثر قبائل العرب إلا من ادعى فيهم النبوة وصدقوه ولو ظاهرا، كقوم سجاح بنت المنذر، وقيل بنت الحارث التميمي (4): الكاهنة تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة، في قصة شهيرة، وصح أنها أسلمت بعد وحسن إسلامها.
(1) بتصرف، انظر: كتاب الردة للواقدي 1/ 49، 50، 65، 70، 71، 112.
(2)
بتصرف انظر: تاريخ خليفة بن خياط 1/ 103 والإصابة في تمييز الصحابة 3/ 440.
(3)
الآية (103) من سورة التوبة.
(4)
وقيل: سجاح بنت الحارث التغلبية، كانت من نصارى العرب، وقد ادعت النبوة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، فالتف حولها أناس كثير من قومها ومن غيرهم، وغزت بهم القبائل المجاورة، حتى وصلت إلى بني تميم، فاصطلحوا معها، وسارت حتى وصلت اليمامة، والتقت بمسيلمة وصدقته وتزوجها، ولما قتل مسيلمة رجعت إلى بلادها وأقامت في قومها بني تغلب، ثم أسلمت وحسن إسلامها، ثم انتقلت بعد ذلك إلى البصرة وماتت بها، أشراط الساعة 1/ 66.