المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أبو بكر عند احتضاره رضي الله عنه - الهادي والمهتدي

[مرزوق بن هياس الزهراني]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌المقدمة

- ‌القسم الأولخطوات الوحدة الإسلامية

- ‌الاصطفاء للرسالة:

- ‌نزول الوحي

- ‌العهد النبوي

- ‌ركائز وحدة الأمة

- ‌الركيزة الأولى: الوحدة في الإيمان:

- ‌الركيزة الثانية: الوحدة في المعبود:

- ‌الركيزة الثالثة: الوحدة في المتبوع:

- ‌الركيزة الرابعة: الوحدة في المنهج:

- ‌الركيزة الخامسة: حماية الركائز الأربع:

- ‌حماية الركيزة الأولى:

- ‌حماية الركيزة الثانية:

- ‌حماية الركيزة الثالثة:

- ‌حماية الركيزة الرابعة:

- ‌لماذا سموا أصحابا

- ‌فضل أصحاب رسول الله رضي الله عنهم

- ‌المفاضلة بين الصحابة رضي الله عنه

- ‌أصل المفاضلة:

- ‌عدالة الصحابة رضي الله عنه

- ‌كلام الله عز وجل

- ‌مراتب بلاغ القرآن:

- ‌المرتبة الأولى:

- ‌المرتبة الثانية:

- ‌المرتبة الثالثة:

- ‌المرتبة الرابعة:

- ‌كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌المرتبة الخامسة:

- ‌الخلافة الراشدة

- ‌موقف الصحابة من الخلافة الراشدة

- ‌مكانة أبي بكر رضي الله عنه

- ‌نسبه:

- ‌صفته رضي الله عنه

- ‌إسلامه رضي الله عنه

- ‌خلافة أبي بكر رضي الله عنه

- ‌الوحدة الإسلامية في عهد أبي بكر رضي الله عنه

- ‌موقف أبي بكر رضي الله عنه من استخلافه:

- ‌أبرز الأحداث في خلافة أبي بكر رضي الله عنه

- ‌حروب الردة

- ‌بعد حروب الردة:

- ‌أبو بكر عند احتضاره رضي الله عنه

- ‌وفاة أبي بكر رضي الله عنه

- ‌عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌نسبه:

- ‌صفته رضي الله عنه

- ‌إسلامه:

- ‌خلافة عمر بن الخطاب

- ‌عمر بين الحياة والموت:

- ‌عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌نسبه:

- ‌صفته رضي الله عنه

- ‌إسلامه رضي الله عنه

- ‌زواجه وهجرته رضي الله عنه

- ‌نفقته في سبيل الله:

- ‌لماذا لم يشهد بدرا رضي الله عنه

- ‌لماذا لم يشهد بيعة الرضوان رضي الله عنه

- ‌خلافة عثمان رضي الله عنه

- ‌بروز البلوى التي وُعد بها عثمان: رضي الله عنه

- ‌لماذا يسميه الرافضة نعثلا

- ‌علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌نسبه رضي الله عنه

- ‌صفته رضي الله عنه

- ‌خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌قتل علي رضي الله عنه

- ‌موقف علي رضي الله عنه من الخلفاء قبله رضي الله عنهم

- ‌موقفه من أبي بكر:

- ‌موقف علي من عمر رضي الله عنهما:

- ‌موقف علي من عثمان رضي الله عنهما:

- ‌ختم الخلافة ووحدة الأمة:

- ‌الحقد على الإسلام

- ‌في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ادعاء النبوة:

- ‌لإدعاء النبوة سببان في نظري:

- ‌في عهد أبي بكر رضي الله عنه

- ‌في عهد عمر رضي الله عنه

- ‌ الحقد المجوسي

- ‌في عهد عثمان رضي الله عنه

- ‌فتنة الخلاف

- ‌فتنة الخروج:

- ‌مزاعم الرافضة ضد عثمان

- ‌القسم الثاني افتراق الأمة الإسلامية

- ‌فُرقة المسلمين في العهد الأول

- ‌الموقف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما

- ‌كل خير لابد أن يقابله شر

- ‌التحالف الثلاثي

- ‌عهد عمر رضي الله عنه

- ‌ الخوارج

- ‌الرافضة

- ‌ما الحكم في قوم هذا شأنهم

- ‌مسلمون ولكن

- ‌الطريق إلى وحدة المسلمين

- ‌ السنة والشيعة

- ‌الفرق بين الشيعة والتشيع

الفصل: ‌أبو بكر عند احتضاره رضي الله عنه

اليمامة، فتنبه إلى خطورة عدم جمع القرآن وكتابته في مصحف يحفظ للأمة أمر دينها، وقد كانت هذه الإنجازات الإسلامية في مدة قصيرة لم تتجاوز أربعة وعشرين شهرا (1).

‌أبو بكر عند احتضاره رضي الله عنه

-:

إن أبا بكر رضي الله عنه كغيره يصيب ويخطئ، لأنه غير معصوم، ونبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم هو الوحيد من البشر المعصوم الذي لا يرد له قول، فكان أبو بكر رضي الله عنه كغيره من الناس يجتهد فيصيب وله أجران، ويجتهد فيخطئ وله أجر الاجتهاد، وخطؤه مغفور، لأنه لم يرد سوى الحق، وإقامة العدل، ولم يُخْف أبو بكر رضي الله عنه، ما فكر فيه وتمنى الإقدام عليه أو الإحجام عنه، وهذا من الحرص على الخير، والتحرز من الشر، وكفى المرءَ نبلا أن تعد معايبه، ولا عيب والله نشهد به على أبي بكر رضي الله عنه، أكرم الأصحاب، وأحب الأحباب إلى رسول رب الأرباب، فخسئ والله من ثلبه وخاب.

قال رضي الله عنه: "ما آسَى على شيء إلا على ثلاث فعلتها، ووددت أني تركتها، وثلاث تركتها ووددت أني فعلتها، وثلاث وددت إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها: فأما الثلاث التي فعلتها، ووددت أني تركتها: فوددت أني لم أكن فتشت بيت فاطمة، ووددت أني لم أكن حرّقت الفُجَاءة وأطلقته نجيحاً، أو قتلته صريحاً، وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قَذَفْتُ الأمر في عنق أحد الرجلين، فكان أميراً وكنت وزيراً.

والثلاث التي تركتها وددت أني فعلتها: وددت أني يوم أُتيت بالأشعث بن قيس أسيراً ضربت عنقه، فإنه قد خُيل لي أنه لا يرى شَرّاً إلا أعانه، وددت أني كنت قد قذفت المشرق بعمر بن الخطاب، فكنت قد بسطت يميني وشمالي في سبيل الله، وددت أني يوم جهَزْت جيش الردة ورجعت أقمت مكاني فإن سلم المسلمون سلموا، وإن كان غير ذلك كنت صدر اللقاء أو مَدَداً.

وكان أبو بكر رضي الله عنه قد بلغ مع الجيش إلى مرحلة من المدينة، وهو الموضع المعروف بذي القصة (2).

(1) انظر (البداية والنهاية 6/ 371، 372، 419، 424 - 425).

(2)

بقعاء ذي القصة على بعد أربعة وعشرين ميلا عن المدينة (تاج العروس 1/ 5111).

ص: 78

والثلاث التي وددت أني سألت رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم عنها: وددت أني كنت سألته في مَنْ هذا الأمر، فلا يُنازَع الأمر أهله، وددت أني سألته عن ميراث العمة وبنت الأخ فإن بنفسي منهما حاجة، ووددت أني سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب فنعطيهم إياه (1).

هذا ما دار في ذهن أبي بكر رضي الله عنه وهو في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة، ذكر أمورا لا حرج عليه فيها، فقد وفّى في أمانته، فنقول يا أبا بكر رضي الله عنك إن كنت تحرجت مما ذكرت، فنقول لا تثريب عليك، فقد بذلت ما برأت والله به ذمتك، ولن يخزيك الله عز وجل، هذا ظننا بربنا رضي الله عنهم.

نقول هذا لأنك رويت وأنت الصادق المصدّق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا فهو صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال» (2) - يعني مال الله - وقلت: "ليس لهم أن يزيدوا على المأكل، وإني والله لا أغير شيئا من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فتشهد عليٌّ ثم قال:"إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك، وذكر قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم"، فتكلم أبو بكر فقال:"والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي"(3).

فكنتُ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتزمتُ بما التزم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي خطأ في هذا، ولِمَ لَمْ يوص رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمر الله بذلك في كتابه العزيز، فقال عز وجل:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (4) وأمر بها صلى الله عليه وسلم سعد بن مالك رضي الله عنه، قال سعد: قال: دعاني رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فقالَ: «أوصيت؟ » قلت: نعم. قال: «بِكَمْ؟ » قلت: بمالي كله في سبيل الله، قال:«فما أبقيت لولدك؟ » قلت: هم أغنياء بخير، قال: «أَوصِ

(1) مروج الذهب (1/ 290).

(2)

أخرجه البخاري حديث (3712) وانظر أطرافه: (3093، 4036، 4241، 6726).

(3)

أخرجه البخاري حديث (3712) وانظر أطرافه: (3093، 4036، 4241، 6726).

(4)

الآية (180) من سورة البقرة.

ص: 79

بالعُشر» فما زلت أنا قصه حتى قال: «أوص بالثلث، والثلث كثير» (1)، وقال صلى الله عليه وسلم:«إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث» (2)، فالوصية للوارث منتفية، والوصية لغير الوارث ثابتة، وهي في سبيل الله على العموم، ولكنها ثابتة في حق الأمة دون النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الأنبياء لا يورثون، وكل ما تركوا فهو صدقة في سبيل الله قلّ أو كثير، إلا ما هو مستثنى للنفقة بقوله صلى الله عليه وسلم:«إنما يأكل آل محمد من هذا المال» (3)، وبقوله صلى الله عليه وسلم:«إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركت بعد مؤنة عاملي، ونفقة نسائي صدقة» (4)، فكون فاطمة رضي الله عنها لم تعلم بهذا الحكم الشرعي لا يقلل من شرفها على نساء العالمين، ولا على مكانتها عند الصحابة ومنهم أبو بكر رضي الله عنهم، ولا عند الأمة المحمدية، وكونها تطالب أبا بكر رضي الله عنه فذاك من حقها حسب فهمها، ولذلك عللت مطالبتها رضي الله عنها بسؤال أبي بكر فقالت له:«من يرثك؟ ، قال: أهلي وولدي، قالت: فمالي لا أرث النبي صلى الله عليه وسلم؟ ! قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنا لا نورث» ولكني أعول من كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوله، وأنفق على من كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق عليه (5)، وفي رواية أنها قالت:"أفي الله أن ترث أباك، ولا أرث أبي؟ ، أما قال رسول الله: المرء يحفظ ولده؟ " فبكى أبو بكر بكاء شديدا (6).

نعم بكى أبو بكر رضي الله عنه فبين يديه بنت رسول الله رضي الله عنها، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني» (7)، وحاشا أبا بكر رضي الله عنه أن يسيء

(1) أخرجه الترمذي حديث (991) وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني.

(2)

أخرجه الترمذي حديث (2299) طرفا من حديث طويل في حجة الوداع، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني.

(3)

أخرجه البخاري حديث (4036) وانظر أطرافه: (3093، 3712، 4241، 6726).

(4)

أخرجه أحمد المسند حديث (10232) ..

(5)

أخرجه البيهقي السنن الكبير حديث (13119).

(6)

تاريخ اليعقوبي (1/ 155).

(7)

أخرجه البخاري حديث (3714) وانظر أطرافه: (926، 3110، 3729، 3767، 5230، 5278).

ص: 80

إلى بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعل ما فعل ظلما وعدوانا، بل فعله اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفيذا لأمره صلى الله عليه وسلم، لكنه بكى لأنه وقع بين نارين: عدم رضا فاطمة رضي الله عنها، والعمل بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بلاءً لأبي بكر رضي الله عنه أيهما يقدم، ولكن قد قال تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1)، وقد أخبره صلى الله عليه وسلم أنه لا يورث، فاختار ما هو حق، وهذه منقبة عظيمة لأبي بكر رضي الله عنه ولكنه آلمه ما سمع من فاطمة رضي الله عنها لعظم مكانتها في نفسه.

أما كون فاطمة رضي الله عنها وجدت على أبي بكر رضي الله عنه، فهجرته ولم تكلمه حتى ماتت (2)، فهذا يحتمل أحد أمرين:

الأول: أنها هجرته ولم تكلمه، لعدم قناعتها بما روى عن أبيها، وهذا فيه بعد ولا يليق ببنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترد رواية عن أبيها، من رجل تعرف قدره ومكانته عند أبيها، ثم لا ترضى بما قضى به والدها صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (3)، ولا ريب أن أبابكر رضي الله عنه لو ساير فاطمة رضي الله عنها لخالف نص القرآن، وقد سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لا يورث، والمحصلة حكم النص القرآني، وحاشا أبابكر أن يعص الله ورسوله، ولو كانت فاطمة رضي الله عنها كبيرة القدر عنده، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (4)، فلو أنها سرقت وقطع رسول الله يدها، هل يعني هذا أنه لا يحبها، بلى والله إنها لحبيبته، ولكن حكم الله لا يستثني شريفا ولا وضيعا.

والثاني: تفسير الهجر بعدم زيارته، فليست من المحارم اللاتي يجب التواصل معهن، فلزمت بيتها، ولو كانت محرما فإن اشتغال الخليفة بأمور المسلمين، قد

(1) من الآية (63) من سورة النور.

(2)

انظر: البخاري حديث (4240، 4241).

(3)

الآية (36) من سورة الأحزاب.

(4)

البخاري حديث (3475).

ص: 81

يقلل التواصل إلى حد كبير، دون القطيعة، فإنها غير واردة البتة، ولم تكلمه في أمر الميراث مرة ثانية قناعة منها بما ذكر لها من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والالتزام بالنفقة، وهذا والله هو اللائق ببنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها، ولو كان أبوبكر رضي الله عنه أخطأ فعلا في حقها، فكيف وهو لم يخطئ، وكلما في الأمر أنه أنفذ ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بكتاب الله، وثبت على ذلك، لكن أصحاب الأهواء لا يروق لهم إلا متابعة منهجهم في ثلب الإسلام ورجاله الذين اصطفاهم الله لنقله إلى الناس كافة، كابرا عن كابر، فكان ما ذهبوا إليه طعنا في فاطمة رضي الله عنها قبل أن يكون ثلبا في أبي بكر رضي الله عنه، وصاحب الهوى لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، ولم تكن فاطمة رضي الله عنها وحيدة في أمر المطالبة في الميراث، أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا طالبن أبابكر رضي الله عنه بذلك، تقول أم المؤمنين عائشة: أَرسل أَزواج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عثْمان إلى أَبِى بكرٍ يسألنه ثُمُنهن مما أَفاء اللَّه على رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، فكنت أَنا أَردهن، فقلتُ لهن ألا تتَقِينَ الله، أَلم تعلَمن أَن النبِي صلى الله عليه وسلم كَان يقول:«لَا نورث، ما تركنا صدقة - يرِيد بِذلِك نفسه - إِنما يأكل آل محمدٍ فِي هذا الْمالِ» فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما أخبرتهن (1).

فكانت هذه الصدقة بيد علي رضي الله عنه منعها علي عباسا فغلبه عليها، ثم كانت بيد حسن بن علي رضي الله عنه، ثم بيد حسين بن علي رضي الله عنه، ثم بيد علي بن حسين رحمه الله، وحسن ابن حسن رحمه الله، وكلاهما كانا يتداولانها، ثم بيد زيد بن حسن، وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا (2)، فهذا أبو بكر رضي الله عنه، وضع صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد علي رضي الله عنه، ولم يرصدها في صدقات بيت مال المسلمين، فأي صدق وإخلاص بعد هذا، وتتوالى الرقابة والتصريف في علي وأبنائه.

أما قوله: «ووددت أني لم أكن حرّقت الفُجَاءة» هو بحير بن إياس، على وزن بعير (3)، وكان من أمره أنه ارتد، وكوَّن حربة على المسلمين، وقدم إلى قومه بني

(1) أخرجه البخاري حديث (5353) وانظر طرفاه: (6727، 6730).

(2)

أخرجه البخاري حديث (5353) وانظر طرفاه: (6727، 6730).

(3)

تبصير المنتبه بتحرير المشتبه (1/ 16).

ص: 82

سليم يدعوهم إلى الردة (1)، وكان من أمره التلبيس على أبي بكر رضي الله عنه قال له: إني مسلم وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار، فاحملني وأعني، فحمله أبو بكر، على ظهر (2) وأعطاه سلاحا، فخرج يستعرض الناس المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم، ومعه رجل من بني الشريد يقال له: نُجبة بن أبي الميثاء، فلما بلغ أبا بكر خبره كتب إلى طريفة بن حاجز: أن عدو الله الفجاءة أتاني يزعم أنه مسلم، ويسألني أن أقويه على من ارتد عن الاسلام، فحملته وسلّحته، ثم انتهى إليَّ من يقين الخبر أن عدو الله قد استعرض الناس المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم ويقتل من خالفه منهم، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله، أو تأخذه فتأتيني به، فسار إليه طريفة بن حاجز فلما التقى الناس كانت بينهم الرمي بالنبل، فقتل نُجبة بن أبي الميثاء بسهم رمي به، فلما رأى الفجاءة من المسلمين الجد قال لطريفة: والله ما أنت بأولى بالأمر مني، أنت أمير لأبي بكر وأنا أميره، فقال له طريفة: إن كنت صادقا فضع السلاح وانطلق معي إلى أبي بكر، فخرج معه فلما قدما عليه أمر أبو بكر طريفة بن حاجز فقال: أخرج به إلى هذا البقيع فحرقه فيه بالنار، فخرج به طريفة إلى المصلى فأوقد له نارا فقذفه فيها، فقال خفاف بن ندبة يذكر الفجاءة فيما صنع:

لِمَ يأخذون سلاحه لقتاله

ولذاكم عند الإله أثام

لا دينهم ديني ولا أنا فاتن

حتى يسير إلى الطراة شمام (3).

وفي رواية: جاءت بنو سليم إلى أبي بكر فقالوا: إن العرب قد كفرت فأمدنا بالسلاح، فأمر لهم بسلاح فأقبلوا يقاتلون أبا بكر، فقال لهم عباس بن مرداس:

لِمَ تأخذون سلاحه لقتاله

ولكم به عند الإله آثام (4).

تأثم أبو بكر رضي الله عنه من التحريق بالنار، لأن العذاب بها توعد الله به العصاة في الآخرة، وقد فعل ذلك علي رضي الله عنه حين حرق أناسا من الشيعة قالوا: يا أمير المؤمنين

(1) الإصابة (1/ 258).

(2)

أعطاه إبلا يحمل عليها.

(3)

تاريخ الطبري (2/ 492).

(4)

تاريخ دمشق (16/ 255).

ص: 83

أنت هو، قال: من أنا؟ قالوا: أنت هو، قال: ويلكم من أنا؟ قالوا: أنت ربنا، أنت ربنا، قال ارجعوا فأبوا، فضرب أعناقهم، ثم خد لهم في الأرض ثم قال: يا قنبر ائتني بحزم الحطب، فأحرقهم بالنار ثم قال:

لما رأيت الأمر أمرا منكرا

أوقدت ناري ودعوت قنبرا (1).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تعذبوا بعذاب الله» (2)، ولقتلتهم، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من بدل دينه فاقتلوه» (3)، فبلغ ذلك علياً فقال: ويح ابن أم الفضل، إنه لغواص على الهنات (4)، ولذلك ندم أبو بكر رضي الله عنه، ولا ضير عليهما فالزنادقة مصيرهم النار، إن عاجلا أو آجلا، ولكن لشدة تمسكهما بالكتاب والسنة حصل منهما التأثم، وجزاهما الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

أما قول أبي بكر: "وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قَذَفْتُ الأمر".

فقد حاول أن يلقي بالأمر على كاهل أحد الرجلين: عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة عامر بن الجراح، رضي الله عنهما، وهما أهل لذلك، ولكن أراد أبو بكر أمرا، وأراد الله غيره، ولا راد لإرادته تعالى:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (5) وإنما حكى أبو بكر ما يتمناه في ذلك الحين، وهذه أمنية مَن تجرد عن الهوى والشهوات، فزكا وجلَّ عن الشبهات.

وقوله: "وددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً ضربت عنقه".

كان الأشعث بن قيس ممن ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فسير أبو بكر الجنود إلى اليمن، فأخذوا الأشعث أسيراً، فأحضر بين يديه، فقال له: استبقني لحربك وزوجني أختك، فأطلقه أبو بكر وزوجه أخته، وهي أم محمد بن الأشعث، ولما تزوجها اخترط سيفه، ودخل سوق الإبل فجعل لا يرى جملاً ولا ناقة إلا عرقه، وصاح الناس:

(1) تاريخ دمشق (42/ 475).

(2)

أخرجه البخاري حديث (3017، وطرفه: 6922).

(3)

أخرجه البخاري حديث (3017، وطرفه: 6922).

(4)

تاريخ الإسلام (2/ 94).

(5)

الآية (16) من سورة البروج.

ص: 84

كفر الأشعث، فلما فرغ طرح سيفه، وقال: إني والله ما كفرت، ولكن زوجني هذا الرجل أخته، ولو كنا ببلادنا لكانت لنا وليمة غير هذه، يا أهل المدينة، انحروا وكلوا، ويا أصحاب الإبل، تعالوا خذوا أثمانها فما رئي وليمة مثلها (1)، وقد عمل أبو بكر رضي الله عنه بالأصل أن من تاب يتوب الله عليه، ولعله تأمل الأمر فوجد ما ذكر علة لما قال، قال رضي الله عنه: فإنه قد خُيل لي أنه لا يرى شَرّاً إلا أعانه، ولكن الله أراد لهما خيرا مما أراد أبو بكر رضي الله عنه، فقد صنع خيرا بقبول توبة الأشعث، وأحسن بتزويجه أخته، وكان الخير في حسن إسلام الأشعث بعد ردته، وشارك في الفتح الإسلامي، شهد الأشعث اليرموك بالشام، ففقئت عينه، ثم سار إلى العراق فشهد القادسية والمدائن، وجلولاء، ونهاوند، وسكن الكوفة وابتنى بها داراً، وشهد صفين مع علي رضي الله عنه، وكان ممن ألزم علياً بالتحكيم، وشهد الحكمين بدومة الجندل، وكان عثمان رضي الله عنه، قد استعمله على أذربيجان، وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما تزوج ابنته (2)، وكل هذا حدث بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه، ولو شاهد هذا لسر رضي الله عنه، بعدم قتله: فقد تحقق لأبي بكر بعد موته ما نوى من الخير.

وقوله: "وددت أني يوم جهَزْت جيش الردة".

هذا من حرصه رضي الله عنه على إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، يريد مشاركة الأمة في كل صغيرة وكبيرة من أمور الإسلام، كيف لا وهو السابق لكل خير وفضيلة، شهد بذلك أصحاب رسول الله دون استثناء، وكان في بقائه خير كثير للأمة المحمدية، وقد أصاب والله علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال له وهو يثنيه عن الخروج:«أشمر سيفك، ولا تفجعنا بنفسك، فو الله لئن أُصِبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبدا» (3)، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد بلغ مع الجيش إلى مرحلة من المدينة، وهو الموضع المعروف بذي القصة (4).

وقوله: "وددت أني كنت سألته في مَنْ هذا الأمر".

(1) أسد الغابة (1/ 16).

(2)

أسد الغابة (1/ 16).

(3)

مختصر تاريخ دمشق (4/ 291).

(4)

بقعاء ذي القصة على بعد أربعة وعشرين ميلا عن المدينة (تاج العروس 1/ 5111).

ص: 85

هذه الأمنية أراد بها التوكيد على عدم رغبته في ولاية الناس، لكن الله أراد ذلك لأبي بكر رضي الله عنه ليناله من أجر الصبر على بلائها، وأجر الاجتهاد في مصالح المسلمين، وأجر مقارعة أعداء الدين، والحفظ على وحدة الأمة المحمدية، يناله أجر ذلك كله، فضلا من الله ورحمة، وهداية منه تعالى إلى سبل الخير والرشاد، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1).

وقد ورد ما يشير إلى أن أبا بكر هو المقدم لحمل هذه المهمة العظمى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:«أدعي لي أبا بكر، وأخاك حتى أكتب كتابا؛ فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبا الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (2)، وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن أبي بكر:«إئتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا؛ لا يختلف عليه» فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال: «أبا الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (3)، صدق من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وإنما نزاهة أبي بكر وحرصه على نفع الناس، واستقرار الوضع بحسم الموقف بأمر من الله ورسوله، لعبد من عباده كائنا من كان، فلا يُنازَع الأمر أهله، وكانت هذه الأمنية من أبي بكر رضي الله عنه حرصا على وحدة الأمة المحمدية، ومستقبل الإسلام، وكان ذلك بفضل الله في ولايته، التي أبا الله والمؤمنون أن يُختلف عليها.

وقوله: "وددت أني سألته عن ميراث العمة وبنت الأخ".

هذا من اجتهاده في مصالح المسلمين، فالعمة وبنت الأخ، لا إرث لهما، مع إخوتهما، ولا ترثان منفردتين (4)، فأراد أن ينظر في أمرهما بما لا يعارض الشرع، وقد كان عمر يقول: عجبا للعمة تورث ولا ترث (5)، وهذا ما كان في نفس أبي بكر رضي الله عنه.

وقوله: "ووددت أني سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب".

(1) الآية (69) من سورة العنكبوت.

(2)

أخرجه مسلم حديث (6332).

(3)

أخرجه أحمد المسند (24931).

(4)

الشرح الكبير (7/ 100).

(5)

السنن الكبير للبيهقي (6/ 213).

ص: 86