المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْبَاب الثَّانِي   ‌ ‌فِي عوارض الْملك اللاحقة لطبيعة وجوده   وَلما كَانَ السَّعْي فِي - بدائع السلك في طبائع الملك - جـ ٢

[ابن الأزرق]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌فِي التحذير من تِلْكَ الْمَحْظُورَات

- ‌الْمَحْظُور الأول

- ‌اتِّبَاع الْهوى

- ‌الْمَحْظُور الثَّانِي

- ‌الترفع عَن المداراة

- ‌الْمَحْظُور الثَّالِث

- ‌قبُول السّعَايَة والنميمة

- ‌الْمَحْظُور الرَّابِع

- ‌اتِّخَاذ الْكَافِر وليا

- ‌الْمَحْظُور الْخَامِس

- ‌الْغَفْلَة عَن مُبَاشرَة الْأُمُور

- ‌فِي جَوَامِع مَا بِهِ السياسة الْمَطْلُوبَة من السُّلْطَان وَمن يَلِيهِ

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌فِي سياسة السُّلْطَان

- ‌السياسة الأولى

- ‌الْجُمْلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِي

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة

- ‌شَهَادَة عيان

- ‌الْجُمْلَة الثَّانِيَة

- ‌الْحق الأول

- ‌الْفَائِدَة الأولى

- ‌الْفَائِدَة الثَّانِيَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّالِثَة

- ‌الْحق الثَّانِي

- ‌تحذير

- ‌الْحق الثَّالِث

- ‌الْحق الرَّابِع

- ‌الْحق الْخَامِس

- ‌الْإِشَارَة الثَّانِيَة

- ‌الْإِشَارَة الثَّالِثَة

- ‌السياسة الثَّانِيَة

- ‌سياسة الْأُمُور الْعَارِضَة

- ‌ الْجِهَاد

- ‌الْعَارِض الأول

- ‌الْمَسْأَلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعشْرُونَ

- ‌الْعَارِض الثَّانِي

- ‌السّفر

- ‌الْمَسْأَلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة

- ‌الْعَارِض الثَّالِث

- ‌الشدائد النَّازِلَة

- ‌التَّذْكِير الأول

- ‌التَّذْكِير الثَّانِي

- ‌التَّذْكِير الثَّالِث

- ‌التَّذْكِير الرَّابِع

- ‌التَّذْكِير الْخَامِس

- ‌الْحِكَايَة الأولى

- ‌الْحِكَايَة الثَّانِيَة

- ‌الشدَّة الأولى

- ‌الشدَّة الثَّانِيَة

- ‌الشدَّة الثَّالِثَة

- ‌فَائِدَة فِي تَنْبِيه

- ‌الْعَارِض الرَّابِع

- ‌الرسَالَة

- ‌الرِّعَايَة الأولى تحقق أَن موقع الرَّسُول من السُّلْطَان موقع الدَّلِيل من الْمَدْلُول وَالْبَعْض من الْكل فَفِي سياسة أرسطو اعْلَم أَن الرَّسُول يدل على عقل من أرْسلهُ إِذْ هُوَ عينه فِيمَا لَا يرى وَأذنه فِيمَا لَا يسمع وَلسَانه عِنْدَمَا غَابَ عَنهُ وَقَالُوا الرَّسُول قِطْعَة من الْمُرْسل

- ‌الرِّعَايَة الثَّانِيَة

- ‌الرِّعَايَة الثَّالِثَة

- ‌الرِّعَايَة الرَّابِعَة

- ‌الرِّعَايَة الْخَامِسَة

- ‌الرِّعَايَة السَّادِسَة

- ‌الرِّعَايَة السَّابِعَة

- ‌الرِّعَايَة الثَّامِنَة

- ‌الرِّعَايَة التَّاسِعَة

- ‌الرِّعَايَة الْعَاشِرَة

- ‌الْعَارِض الْخَامِس

- ‌الْوُفُود

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌فِي سياسة الْوَزير

- ‌السياسة الأولى

- ‌سياسة لنَفسِهِ

- ‌الضَّرْب الأول

- ‌المعتقدات العلمية

- ‌المعتقد الأول

- ‌المعتقد الثَّانِي

- ‌المعتقد الثَّالِث

- ‌المعتقد الرَّابِع

- ‌المعتقد الْخَامِس

- ‌الضَّرْب الثَّانِي

- ‌العزائم العلمية

- ‌الْعَزِيمَة الأولى

- ‌الْعَزِيمَة الثَّانِيَة

- ‌الْعَزِيمَة الثَّالِثَة

- ‌الْعَزِيمَة الرَّابِعَة

- ‌الْعَزِيمَة الْخَامِسَة

- ‌السياسة الثَّانِيَة

- ‌سياسة السُّلْطَان

- ‌الْأَدَب الرَّابِع

- ‌الْأَدَب السَّادِس

- ‌الْأَدَب السَّابِع

- ‌الْأَدَب الثَّامِن

- ‌الْأَدَب التَّاسِع

- ‌الْأَدَب الْعَاشِر

- ‌النَّوْع الثَّانِي

- ‌المتقي

- ‌السياسة الثَّالِثَة لخواص السُّلْطَان

- ‌وَسَائِر أَرْبَاب الدولة

- ‌الطَّبَقَة الأولى المسالمون

- ‌المدارة الأولى

- ‌المدارة الثَّانِيَة

- ‌المدارة الثَّالِثَة

- ‌المدارة الرَّابِعَة

- ‌المدارة الخانسة

- ‌الطَّبَقَة الثَّانِيَة

- ‌المتطلعون إِلَى مَنْزِلَته

- ‌الْمُقَابلَة الأولى

- ‌الْمُقَابلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمُقَابلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمُقَابلَة الْخَامِسَة

- ‌فِي سياسة سَائِر الْخَواص والبطانة

- ‌فِي صُحْبَة السُّلْطَان وخدمته

- ‌الْمُقدمَة الأولى

- ‌فِي التَّرْهِيب من مخالطته

- ‌الْمُقدمَة الثَّانِيَة

- ‌التحذير من صحبته

- ‌خَاتِمَة إِفَادَة

- ‌فِي وَاجِبَات مَا يلْزم السُّلْطَان سياسة الْقيام بهَا وَفَاء بعهدة مَا تحمله وطولب مِنْهُ وَالْمَذْكُور مِنْهَا جملَة

- ‌الْوَاجِب الثَّالِث

- ‌إِقَامَة الْحُدُود

- ‌الْوَاجِب الرَّابِع

- ‌عُقُوبَة الْمُسْتَحق وتعزيزه

- ‌الْوَاجِب الْخَامِس

- ‌رِعَايَة أهل الذِّمَّة

- ‌الْكتاب الرَّابِع

- ‌فِي عوائد الْملك وعوارضه

- ‌فِي عوائق الْملك الْمَانِعَة من دَوَامه

- ‌النّظر الأول

- ‌فِي التَّعْرِيف بالعوائق المنذرة بِمَنْع دوَام الْملك

- ‌النّظر الثَّانِي

- ‌فِي التَّعْرِيف بكيفية طروق الْخلَل إِلَى الدول

- ‌بَيَان طروق الْخلَل فِي المَال

- ‌فِي عوارض الْملك اللاحقة لطبيعة وجوده

- ‌ فِي عوارض الْملك من حَيْثُ هُوَ

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌فِي اخْتِيَار الْمنَازل الحضرية الِاجْتِمَاع

- ‌الْفَصْل الثَّالِث

- ‌فِي اكْتِسَاب المعاش بِالْكَسْبِ والصنائع وَفِيه مسَائِل

- ‌الْفَصْل الرَّابِع فِي اكْتِسَاب الْعُلُوم

- ‌الخاتمة فِي سياستي الْمَعيشَة وَالنَّاس

- ‌الْمُقدمَة الأولى فِي التَّقْوَى

- ‌وفيهَا مسَائِل

- ‌الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِي حسن الْخلق

- ‌السياسة الأولى

- ‌سياسة الْمَعيشَة

- ‌المطلع الأول

- ‌فِي كليات مِمَّا تدبر بِهِ الْمَعيشَة من جَانب الْوُجُود وَفِيه انارات

- ‌المطلع الثَّانِي

- ‌فِي أُمَّهَات مِمَّا تحفظ بِهِ من جَانب الْعَدَم وَفِيه اضاءات

- ‌السياسة الثَّانِيَة

- ‌سياسة النَّاس

- ‌وَقبل التَّلْخِيص لَهَا فَهُنَا مُقَدمَات

- ‌مسكة الختام

الفصل: الْبَاب الثَّانِي   ‌ ‌فِي عوارض الْملك اللاحقة لطبيعة وجوده   وَلما كَانَ السَّعْي فِي

الْبَاب الثَّانِي

‌فِي عوارض الْملك اللاحقة لطبيعة وجوده

وَلما كَانَ السَّعْي فِي اخْتِيَار الْمنَازل الحضرية الِاجْتِمَاع واكتساب المعايش والعلوم مُتَأَخّر بُلُوغ الْغَايَة فِيهِ من وجود الْملك وَمن عوارضه بِاعْتِبَار رَأينَا تَكْمِيل التَّعْرِيف بعوارض الْملك من حَيْثُ هُوَ بتقرير مَا تَأَخّر من ذَلِك عَن وجوده فَهُنَا اربعة فُصُول

أَحدهَا‌

‌ فِي عوارض الْملك من حَيْثُ هُوَ

الثَّانِي فِي اخْتِيَار الْمنَازل الحضرية الِاجْتِمَاع

الثَّالِث فِي اكْتِسَاب المعايش

الرَّابِع فِي اكْتِسَاب الْعُلُوم

فلنأت بهَا ملخصة من كَلَام ابْن خلدون رحمه الله بِحَسب اللَّائِق بِهَذَا الْمقَام

‌الْفَصْل الأول

فِي عوارض الْملك من حَيْثُ هُوَ

وَهِي جملَة تذكرها مَعَ مَا يلْحق بهَا فِي مضمن مسَائِل

الْمَسْأَلَة الأولى انْفِرَاد صَاحب الدولة بالمجد وَذَلِكَ لَان الْملك على مَا سلف إِنَّمَا هُوَ بالعصبية وَهِي متالفة من عصبيات كَثِيرَة تغلبها وَاحِدَة مِنْهَا لوَقْتهَا حَتَّى يصير جَمِيعهَا فِي ضمنهَا وَبِذَلِك يحصل الِاجْتِمَاع والغلب على النَّاس

ص: 223

حِكْمَة طبيعية قَالَ وسره أَن العصبية الْعَامَّة للقبيل هِيَ مثل المزاح للمتكون وَهُوَ إِنَّمَا يكون عَن العناصر وَقد تبين فِي مَوْضِعه إِنَّهَا إِذا اجْتمعت اجْتمعت متكافئة لَا يَقع مِنْهَا مزاج أصلا إِلَّا بعد أَن يغلب فِيهَا وَاحِد اجْتمعت على الآخر وَحِينَئِذٍ يَقع الامتزاج

قَالَ وَكَذَلِكَ تِلْكَ العصبيات لَا بُد من غَلَبَة وَاحِدَة مِنْهَا حَتَّى تجمعها وتضمها وتصيرها عصبية وَاحِدَة كبرى وَلَا يُوجد ذَلِك إِلَّا لِذَوي رياسة فيهم ثمَّ لَا بُد من تعْيين وَاحِد مِنْهُم لرياسة الْجَمِيع لغَلَبَة منتبه وغرسه

تركيب قَالَ وَإِذا تعين لَهُ ذَلِك فَمن الطبيعة الحيوانية خلق الْكبر والانفة فترجح حِينَئِذٍ عَن الْمُشَاركَة فِي استتباعهم وَيَجِيء خلق التأله الَّذِي فِي طباع الْبشر على مَا تَقْتَضِيه السياسة من انْفِرَاد الْحَاكِم لفساد النظام بالتعدد لَو كَانَ فيهمَا الهة إِلَّا الله لفسدتا ليجدع انوف العصبية ويصدهم عَن الْمُشَاركَة لَهُم فِي التحكم وَيخْتَص بِهِ مَا اسْتَطَاعَ حَتَّى لَا يتْرك لاحدهم ناهزا فِي الْأَمر وَلَا حملا فيفرد لَا محَالة بالمجد كُله

قَالَ وَقد يتم ذَلِك للْأولِ من مُلُوك الدولة وَقد لَا يتم إِلَّا للثَّانِي أَو الثَّالِث على قدر ممانعة العصبيات وقوتها إِلَّا انه أَمر لَا بُد لَهُ مِنْهُ فِي الدول سنة الله فِي عباده

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة الترف وَذَلِكَ أَن الْأمة إِذا تغلبت على مَا يبد ذَوي الْملك قبلهَا كثر رياشها وعوائد نعمها وتجاوزوا ضروريات الْعَيْش وخشونته

ص: 224

إِلَى نوافله ورقته وَتصير لتِلْك النَّوَافِل عوائد ضَرُورِيَّة فِي تَحْصِيلهَا تابعين فِي ذَلِك سنَن من قبلهم فِي آكل الطّيب ولس الانيق وركوب الفاره واستجادة الْفرش والانية إِلَى اخر الدولة على قدر حَالهم يكون حظهم مِنْهُ إِلَى أَن يبلغُوا مِنْهُ الْغَايَة الَّتِي للدولة أَن تبلغها بِحَسب قوتها وعوائد من قبلهَا سنة الله فِي خلقَة

المسالة الثَّالِثَة الدعة والسكون

وَذَلِكَ لَان الْملك لَا يحصل إِلَّا بالمطالبة وَإِذا حصلت غايتها مِنْهُ انْقَضى السَّعْي اليهما كَمَا قيل

(عجبت لسعي الدَّهْر بيني وَبَينهَا

فَلَمَّا انْقَضى مَا بَيْننَا سكن الدَّهْر)

وَعند ذَلِك يقصرون عَن المتاعب المتكلفة فِي طلبه ويؤثرون الرَّاحَة والسكون وَالرُّجُوع إِلَى تَحْصِيل ثَمَرَات الْملك من مباني الْقُصُور واجراء الْمِيَاه واغتراس الروضات والتأنق فِي الملابس والمطاعم والانية والفرش والاستمتاع بِسَائِر احوال الدُّنْيَا ويورثون من بعدهمْ من الاجيال وَلَا يزَال تزايد فيهم إِلَى أَن يَأْذَن الله فِيهِ بأَمْره

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة شاراته الْخَاصَّة بِهِ لتميز السُّلْطَان بانتحالها عَن الرّعية والبطانة وَسَائِر الرؤساء لما تَقْتَضِيه الابهة والبذخ والمشتهر مِنْهَا جملَة

الشارة الأولى الالة وَهِي ضَرْبَان

الضَّرْب الأول الألوية والرايات وَمِنْهَا فَوَائِد

الْفَائِدَة الأولى إِنَّهَا من شعار الحروب مُنْذُ عهد الخليقة فَلم تزل

ص: 225

بهَا الموحدون فِي أول دولتهم بالمغرب لما كَانُوا عَلَيْهِ من مُنَازع الدّيانَة والتورع عَن لِبَاس الْحَرِير وَالذَّهَب فاسقطوا وَظِيفَة الاقامة لَهَا وَنعم مَا فعلوا

الثانة جِهَة الْعِنَايَة بهَا فِي ابهة الْملك عِنْد اخذه بمذاهب الترف فَمن هُنَا نلخص من كَلَام ابْن خلدون مَا يَقْتَضِيهِ التَّعْرِيف بعوارض الْملك وَالْحق من وَرَائه

قَالَ كَانَ مَمْلُوك الْعَجم قبل الْإِسْلَام يجْعَلُونَ ذَلِك الطّراز بصور الْمُلُوك واشكالهم أَو غير ذَلِك فاعتاض مُلُوك الْإِسْلَام عَن ذَلِك بكتب اسمئهم مَعَ كَلِمَات تجْرِي مجْرى الفأل وعينوا فِي الدولتين إِذْ كَانَ عِنْدهم من افخم الْأَحْوَال دورا تسمى دور الطّراز وقلدوا الْقَائِم على النّظر فِيهَا خَواص الدولة وثقاة الموَالِي وعَلى ذَلِك كَانَ الْحَال فِي دولة بني امية بالأندلس والطوائف بعدهمْ وَفِي دولة العبيدين بِمصْر وَمن كَانَ على عَهدهم من مُلُوك الْعَجم بالمشرق وَلما ضَاقَ نطاق الدول عَن الترف بتعددها وَضعف استيلائها بطلت هَذِه الْوَظِيفَة وَالْولَايَة عَلَيْهَا من اكثر الدول بِالْجُمْلَةِ وَفِي آخر دولة الْمُوَحِّدين بالمغرب استدركوا مِنْهَا طرفا لم تكن بِتِلْكَ النباهة

قَالَ واما لهَذَا الْعَهْد فاردكنا مِنْهُ فِي الدولة المرينية لعنفوانها وشموخها رسما جَلِيلًا تلقوهُ من دولة بني الْأَحْمَر معاصريهم بالأندلس وَاتبع هُوَ فِي ذَلِك دوَل الطوائف فاتى مِنْهُ بلمحة شاهدة بالأثر

ص: 225

الامم تعقدها فِي مَوَاطِن الحروب والغزوات ولعهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَمن بعده من الْخُلَفَاء وَعند انقلاب الْخلَافَة ملكا اتَّخَذُوهَا مَعَ ذَلِك زِينَة وتنويها فكثيرا مَا كَانَ الْعَامِل أَو قَائِد الْجَيْش يعْقد لَهُ الْخَلِيفَة من العباسيين والعبيدين لِوَاء وَيخرج إِلَى عمله أَو بَعثه فِي موكب من أَصْحَاب الرَّايَات فَلَا يتَمَيَّز موكب الْعَامِل والخليفة إِلَّا بِكَثْرَة الألوية أَو قَتلهَا أَو بِمَا اخْتصَّ بِهِ الْخَلِيفَة من الألوان لرايته وبنده

الْفَائِدَة الثَّانِيَة أَن الْقَصْد بهَا تكثيرا أَو تلوينا واطالة إِنَّمَا هُوَ التهويل فِي الاكثر قَالَ وَرُبمَا تحدث فِي النُّفُوس وتلوناتها غَرِيبَة وَالله الخلاق الْعَلِيم

قلت قَالَ ابْن المناصف هِيَ ارواح العساكر وبثباتها ثبات افئدة الجماهير وَحَيْثُ انتفلت انتفلت مَعهَا الْقُلُوب وان ادبرت تبعتها انفس الْجلد والهروب

الْفَائِدَة الثَّالِثَة أَن تلوينها يخْتَلف باخْتلَاف الدول فِي اخْتِيَاره كالسواد فِي ايام بني الْعَبَّاس حزنا على شهدائهم من بني هَاشم ونعيا على بني امية فِي قَتلهمْ وَلذَلِك سموا المسودة وَالْبَيَاض عِنْد الطالبين الخارجين عَلَيْهِم فِي كل جِهَة وعصر مُخَالفَة لَهُم فَفِي ذَلِك سموا المبيضة سَائِر أَيَّام العبيدين وَكَذَا جَمِيع من خرج عَلَيْهِم وَلما نزع الْمَأْمُون عَن لبس السوَاد وشعاره عدل إِلَى لون الخضرة فَجعل رايته خضراء

ص: 226

الْفَائِدَة الرَّابِعَة أَن التكثير مِنْهَا والتقليل يخْتَلف أَيْضا بِحَسب مَقَاصِد الدول فِي ذَلِك فالعبيديون لما خرج مِنْهُم الْعَزِيز نزار إِلَى فتح الشَّام كَانَ لَهُ خَمْسمِائَة من النبود والموحدون وَبَنُو ايدهم الله تَعَالَى اقتصروا على سَبْعَة فِي الْعدَد تبركا بالسبعة قَالَه ابْن خلدون وزناته يبلغون إِلَى الْعشْرَة وَالْعِشْرين

قَالَ وَقد بلغت أَيَّام السُّلْطَان أبي الْحسن فِيمَا ادركناه مائَة من البنود ملونة بالحرير ومنسوجة بِالذَّهَب مَا بَين كَبِير وصغير وَمِائَة من الطبول ويأذنون للولاة والقواد فِي اتِّخَاذ راية وَاحِدَة صَغِيرَة من الْكَتَّان بَيْضَاء وطبل صَغِير أَيَّام الْحَرْب لَا يتجاوزون ذَلِك وَالتّرْك يتخذون فِيمَا ذكر ابْن خلدون على عَهده راية وَاحِدَة عَظِيمَة وَفِي رَأسهَا خصْلَة كَبِيرَة من الشّعْر وَهِي شعار السُّلْطَان عِنْدهم ثمَّ تَتَعَدَّد الرَّايَات ويبالغون فِي الاستكثار من الطبول والجلالقة من الافرنجة من الأندلس يتخذون فِيمَا ذكر أَيْضا على عَهده الوية قَليلَة ذَاهِبَة فِي الجو صعدا وَمَعَهَا قرع الأوتار وَنفخ الغيطات يذهبون فِيهَا مَذْهَب الْغناء فِي مَوَاطِن حروبهم

ص: 227

قَالَ هَكَذَا ابلغناعنهم وَعَن من وَرَاءَهُمْ من مُلُوك الْعَجم وَفِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف السنتكم والوانكم آيَات للْعَالمين

الضَّرْب الثَّانِي قرع الطبول وَنفخ الابواق والقروت وَقد كَانَ الْمُسلمُونَ لاول الْملَّة يتجافون عَن ذَلِك تنزها عَن غلظة الْملك واحتقار الابهة الَّتِي لَيست من الْحق فِي شَيْء وعنج مصير الْأَمر لمن بعدهمْ شاركوا فِيهِ مُلُوك الامم كَمَا تقدّمت حكايته عَنْهُم

تَوْجِيه ذكر أر سطوا فِي السياسة أَن السِّرّ فِي ذَلِك ارهاب الْعَدو فِي الْحَرْب فان الاصوات الهائلة لَهَا تَأْثِير فِي النُّفُوس بالروعة

قَالَ ابْن خلدون ولعمري انه لامر وجداني فِي مَوَاطِن الحروب يجده كل أحد من نَفسه

قَالَ وَهَذَا الَّذِي ذكره أَن كَانَ فَهُوَ صَحِيح فِي بعض الاعتبارات واما الْحق فِي ذَلِك فَهُوَ أَن النَّفس عِنْد سَماع النغم والاصوات يُدْرِكهَا الْفَرح والطرب فَيُصِيب مزاج الرّوح نشوة يستسهل بهَا الصعب ويستميت بالزهو فِيهِ وَهُوَ مَوْجُود حَتَّى فِي الْحَيَوَانَات الْعَجم كانفعال الابل بالحداء وَالْخَيْل بالصفير ويتأكد ذَلِك بتناسب الاصوات كَمَا فِي الْغناء ولاجله يتَّخذ الْعَجم فِي مَوَاطِن الحروب الالة الموسيقية

ص: 228

فيحدو المغنون بالسلطان ليحركوا نفوس الشجعان بطربهم إِلَى الاستماتة

شَهَادَة قَالَ ابْن خلدون وَلَقَد رَأينَا فِي حروب الْعَرَب المنشد يُغني امام الموكب بالشعر ويطرب فتجيش همم الابطال بِمَا فِيهَا ويسارعون مجَال الْحَرْب وينبعث كل قرن إِلَى قرنه وَكَذَا زنانة يتَقَدَّم إِلَى الشَّاعِر عِنْدهم امام الصنوف ويغني فيحرك بغنائه الْجبَال الرواسِي وينبعث على الاستمامة من لَا يظنّ بهَا

كشف حَقِيقَة قَالَ واصله كُله فَرح يحدث فِي النَّفس فتنبعث مِنْهُ الشجَاعَة كَمَا تنبعث عَن نشوة الْخمر بِمَا حدث عَنْهَا من الْفَرح وَالله تَعَالَى اعْلَم

الشارة الثَّانِيَة السرير

وَفِيه نظر من وُجُوه

أَحدهَا أَن المُرَاد بِهِ شَامِل لكل مَا يجلس عَلَيْهِ السُّلْطَان من اعواد مَنْصُوبَة وآرائك منضدة ليرتفع بِهِ عَن مُسَاوَاة أهل مَجْلِسه عَظمَة وإجلالا

الثَّانِي أَن الْجُلُوس عَلَيْهِ سنة معرفَة فِي مُنَازع الْملك قبل الْإِسْلَام وَبعد انقلاب الْخلَافَة ملكا فقد كَانَ لِسُلَيْمَان عليه السلام سَرِير من عاج منعشى بِالذَّهَب ولملوك الْعَجم اسرة من ذهب يَجْلِسُونَ عَلَيْهَا

ص: 229

الثَّالِث أَن اتِّخَاذه إِنَّمَا يكون بعد استفحال الدولة والترف شَأْن الابهة كلهَا وَفِي أول الدولة لَا تتشوف اليه خشونة خلق البداوة إِذْ ذَاك

الرَّابِع أول من اتَّخذهُ مُعَاوِيَة رضي الله عنه بعد أَن اسْتَأْذن النا فِيهِ وَقَالَ لَهُم أَنِّي قد بدنت فأذنوا لَهُ فاتخذه وَاتبعهُ فِيهِ الْمُلُوك الإسلاميون وَصَارَ لَهُم من مُنَازع الْملك والأبهة

حِكَايَة كَانَ عَمْرو بن الْعَاصِ رضي الله عنه بِمصْر يجلس فِي قصره على الأَرْض مَعَ الْعَرَب وياتيه الْمُقَوْقس وَمَعَهُ سَرِير من الذَّهَب مَحْمُول على الْأَيْدِي لجلوسه شَأْن الْمُلُوك يجلس عَلَيْهِ وهم امامه وَلَا يغيرون عَلَيْهِ وَفَاء لَهُ بِمَا عقد مَعَهم من الدعة واطراحا لابهة الْملك

قَالَ ابْن خلدون ثمَّ كَانَ بعد ذَلِك لبني الْعَبَّاس والعبيدين وَسَائِر مُلُوك الْإِسْلَام شرقا وغربا من الاسرة والمنابر والتخوف مَا عفى على الاكاسرة والقياصرة وَالله مُقَلِّب اللَّيْل وَالنَّهَار

تَعْرِيف حكى ابْن قُتَيْبَة انه كَانَ يسْتَقْبل بفراش الْملك فِي

ص: 230

مَجْلِسه الْمشرق أَو مهب الدبور وَيجْعَل تكأته مِمَّا يَلِي الْمشرق وَيسْتَقْبل بِهِ مهب الصِّبَا لَان ناحيتي الصِّبَا والمشرق يوصفان بالعلو وناحيتي الْمغرب وَالدبور بالانخفاض

الشارة الثَّالِثَة السِّكَّة

وَهِي الْخَتْم على الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم بِطَابع حَدِيد ينقش فِيهِ صور وكلمات مَقْلُوبَة وَيضْرب بِهِ عَلَيْهِ فَتخرج رسوم تِلْكَ النقوش عَلَيْهَا ظَاهِرَة مُسْتَقِيمَة وَيضْرب بِهِ عَلَيْهِ فَتخرج رسوم تِلْكَ النقوش عَلَيْهَا ظَاهِرَة مُسْتَقِيمَة بعد اعْتِبَار عيار النَّقْد فِي خلوصه بالسبك مرّة بعد أُخْرَى وَبعد تَقْدِير أشخاص الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم بِوَزْن معِين يصطلح عَلَيْهِ فَيكون التَّعَامُل بهَا عددا وان لم تقدر أشخاصها فالتعامل يكون وزنا

قلت وَقد تقدم تَخْلِيص الْكَلَام عَلَيْهَا فِي فصل الْولَايَة الدِّينِيَّة

الشارة الرَّابِعَة الْخَاتم

وَفِي التَّعْرِيف بِوُجُوه النّظر فِيهِ فَوَائِد

الْفَائِدَة الأولى انه من الخطط الدِّينِيَّة والوظائف الملوكية والختم على الرسائل والصكوك مَعْرُوف للملوك قبل الْإِسْلَام وَبعده وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي ص صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَن يكْتب إِلَى قَيْصر فَقيل لَهُ أَن الْعَجم لَا يقبلُونَ كتابا إِلَّا أَن يكون مَخْتُومًا فَاتخذ خَاتمًا من فضَّة وَنقش عَلَيْهِ مُحَمَّد رَسُول الله قَالَ البُخَارِيّ جعل الثَّلَاث كَلِمَات فِي ثَلَاثَة اسطر وَختم بِهِ وَقَالَ لَا ينقش أحد مثله قَالَ وتختم بِهِ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان ثمَّ سقط من يَد عُثْمَان فِي بِئْر اريس وَكَانَت قَليلَة المَاء فَلم يدْرك قعرها بعد واغتم لذَلِك وَتَطير مِنْهُ وصنع اخر على مِثَاله

الْفَائِدَة الثَّانِيَة انه يُطلق على امور على الْآلَة المجعولة فِي

ص: 231

الاصبع وَمِنْه تختم إِذا لبسه وعَلى النِّهَايَة والتمام وَمِنْه ختمت الْأَمر إِذا بلغت اخره وختمت الْقرَان كَذَلِك وَمِنْه خَاتم الامن على السداد الَّذِي تسد بِهِ الْأَوَانِي والدنان يُقَال فِيهِ خَاتم

الْفَائِدَة الثَّالِثَة إِذا صَحَّ اطلاقه على هَذِه الْأُمُور صَحَّ اطلاقه على اثرها النَّاشِئ عَنْهَا فَيحْتَمل أَن يكون هَذَا الْخَتْم بالخط اخر الْكتاب أَو اوله بِكَلِمَات منتظمة من حمد أَو تَسْبِيح أَو باسم السُّلْطَان أَو الْأَمِير أَو صَاحب الْكتاب كَائِنا من كَانَ أَو بِشَيْء من نعوته عَلامَة على صِحَة الْكتاب وَسمي ذَلِك عَلامَة وخاتما تَشْبِيها لَهُ بأثر الْخَاتم الاصبعي فِي النقش وَمِنْه خَاتم السُّلْطَان وَخَاتم القَاضِي

وَيحْتَمل أَن يكون لغمس الْخَاتم فِي المداد والطين وصنعه على الصفح فتنقش الْكَلِمَات فِيهِ فَيكون من معنى النِّهَايَة والتمام كَأَن الْكتاب لَا يتم الْعَمَل بِهِ إِلَّا بِهَذِهِ الْعَلامَة وَيحْتَمل أَن يخْتم بِهِ فِي شَيْء لين فينقش فِيهِ حُرُوفه وَيجْعَل على مَوضِع الحزم من الْكتاب إِذا خزم وعَلى المودعات فَيكون من السداد

قلت وَمن هَذَا خَاتم السُّلْطَان وَمن يَلِيهِ لهَذَا الْعَهْد على هَذِه الصُّورَة لَكِن يُسمى بالطابع اخذا من هَذَا الْمَعْنى

الْفَائِدَة الرَّابِعَة أَن أول من احدث الْخَتْم على الْكتاب أَي الْعَلامَة

ص: 232

مُعَاوِيَة رضي الله عنه وَسَببه انه أَمر لعَمْرو بن الزبير عِنْد زِيَاد بِالْكُوفَةِ بِمِائَة ألف فَفتح الْكتاب وصير الْمِائَة مِائَتَيْنِ وَرفع زِيَاد حِسَابهَا فأنكرها مُعَاوِيَة وَطلب بهَا عمروا وحبسه حَتَّى قضايا عَنهُ اخوه عبد الله وَاتخذ مُعَاوِيَة عِنْد ذَلِك ديوَان الْخَاتم وخزم الْكتب وَلم تكن تخزم أَي جعل لَهَا السداد

تَفْسِير ديوَان الْخَاتم عبارَة عَن الْكتاب القائمين على إِنْفَاذ كتب السُّلْطَان والختم عَلَيْهَا بالعلامة أَو بِالْجَزْمِ وَقد يُطلق الدِّيوَان على مَكَان جُلُوس هَؤُلَاءِ الْكتاب

الْفَائِدَة الْخَامِسَة الخزم للكتب إِمَّا بدثر الْوَرق كَمَا فِي عرف كتاب الْمغرب أَو بلصق راس الصَّحِيفَة على مَا ينطوي عَلَيْهِ من الْكتاب كَمَا فِي عرف أهل الْمشرق وَقد جعل على مَكَان الدثر أَو اللصاق عَلامَة يُؤمن مَعهَا من فَتحه فالمغاربة يجْعَلُونَ على الدثر قِطْعَة من الشمع ويطبعون عَلَيْهَا بِخَاتم نقشت فِيهِ عَلامَة لذَلِك فيرتسم النقش فِي الشمع والمشارقة فِي التَّقْدِيم يختمون على مَكَان اللصق بِخَاتم منقوش أَيْضا قد

ص: 233

غمس فِي طين احمر فيرسم النقش عَلَيْهِ وَكَانَ هَذَا الطين يُسمى فِي الدولة العباسية بطين الْخَتْم وَكَانَ يجلب من سيراف

تعريفان

أَحدهمَا أَن هَذَا الْخَاتم الَّذِي هُوَ الْعَلامَة الْمَكْتُوبَة أَو النقش للسداد أَو الخزم للكتب خَاص بديوان الرسائل وَكَانَ ذَلِك للوزير فِي الدولة العباسية ثمَّ اخْتلف الْعرف وَصَارَ لمن اليه الترسيل وديوان الْكتاب

الثَّانِي من شارات الْملك وعلامته فِي دوَل الْمغرب اتِّخَاذ الْخَاتم للإصبع

قَالَ ابْن خلدون فيستحبون صوغه من الذَّهَب ويرصعونه بالفصوص من الْيَاقُوت والفيروزج والزمرد ويلبسه السُّلْطَان شارة لَهُم فِي عرفهم كَمَا كَانَت الْبردَة والقضيب فِي الدولة العباسية والمظلمة فِي الدولة العبيدية وَالله مصرف الْأُمُور بِحِكْمَتِهِ

قلت صوغ الْخَاتم من الذَّهَب للرِّجَال حرَام وَمن الْفضة وَبَعضه ذهب كَذَلِك على الْمَشْهُور

الشارة الْخَامِسَة الطّراز

قلت حَاصِل هَذِه الشارة كتب اسْم السُّلْطَان أَو علامته الْخَاصَّة طراز اثواب الْحَرِير الْمعدة للباسه أَولا وَعند ذَلِك فالنظر فِيهَا من جِهَتَيْنِ

أَحدهمَا جِهَة المشروعية فِي الْغَرَض فِيهَا فَقَط وَلَا خَفَاء إِنَّهَا سَاقِطَة الِاعْتِبَار شرعا لتَحْرِيم لِبَاس الْحَرِير على الرِّجَال وَلذَلِك لم يَأْخُذ

ص: 234

شَاهد قُوَّة قَالَ واما دولة التّرْك بِمصْر وَالشَّام لهَذَا الْعَهْد فَفِيهِ من الطّراز بَحر زاخر على مِقْدَار ملكهم وَعمْرَان بِلَادهمْ لكنه لَا يصنع فِي دُورهمْ وَلَيْسَت من وظائف دولتهم وَمَا تطلبه من ذَلِك فَمن صناعه ويرسم اسْم السُّلْطَان أَو الْأَمِير عَلَيْهِ ويعدون ذَلِك من طرف الصِّنَاعَة اللائقة بالدولة وَالله مُقَدّر اللَّيْل وَالنَّهَار

الشارة السَّادِسَة الفساطيط والأخبية

وَهِي من الة السّفر وزينته الاستعداد لَهُ على نِسْبَة الدولة فِي الثروة واليسار وَلها بِاعْتِبَار الْأَخْذ بِهِ أَو التّرْك لَهُ حالتان

إِحْدَاهمَا حَالَة الْبِدَايَة وَلَا وجود لهَذِهِ الشارة فِيهَا لاستغنائها بِمَا جرت بِهِ عَادَتهَا فِي اتِّخَاذه قبل الْملك فِي عهد الْأَوَّلين وخلفاء فِي امية كَانُوا يسكنون فِي أسفارهم بُيُوتهم الَّتِي كَانَت لَهُم من الْوَبر وَالصُّوف بظمونهم وَسَائِر حَالهم واجيالهم من الاهل وَالْولد كَمَا هُوَ شَأْن الْعَرَب لهَذَا الْعَهْد

الثَّانِيَة حَالَة النِّهَايَة فِي استفحال الْملك وَأَخذه بمذاهب النرف كَمَا فِي الْعَرَب الْمشَار اليهم عِنْد تعينيهم بعد فِي مُنَازع البذج والحضارة والانتقال من سُكْنى الْخيام إِلَى سُكْنى الْقُصُور وَمن ظهر الخفه

ص: 236

إِلَى ظهر الْحَافِر فَاتخذ السُّكْنَى فِي أسفارهم بيُوت الْكَتَّان مُخْتَلفَة الأشكال مقدرَة الْأَمْثَال من القوراء والمستطيلة والمربعة فَاخْتَلَفُوا فِيهَا بابلغ مَذَاهِب الاحتفاء والزينة ويدير الْأَمِير أَو الْقَائِد على فساطيطه سياجا من الْكَتَّان يُسمى بالمغربي بِلِسَان أهل الغرب بافراك بِالْكَاف الَّتِي بَين الْقَاف وَالْكَاف يخْتَص بِهِ السُّلْطَان بذلك الْقطر

قَالَ ابْن خلدون واما الْمشرق فيتخذه كل امير وان كَانَ دون السُّلْطَان وستمر الْحَال على ذَلِك فِي مَذَاهِب الدول بذخا وترفا

قَالَ وَكَذَا كَانَت دولة الْمُوَحِّدين وزناتة وَكَانَ سفرهم أول أَمرهم فِي بيُوت سكناهم قبل الْملك من الْخيام والقياطين وَلما اخذوا فِي مَذَاهِب الترف وسكنى الْقُصُور اتَّخذُوا الأخبية والفساطيط وبلغوا من ذَلِك فَوقف مَا ارادوه

الشارة السَّابِعَة الْمَقْصُورَة للصَّلَاة وَهِي وَالدُّعَاء فِي الْخطْبَة قَالَ ابْن خلدون من الْأُمُور الخلافية وَمن شارات الْملك الإسلامي وَلم تعرف فِي غير دوَل الْإِسْلَام

قلت وفيهَا على ذَلِك الْقَصْد مَا نكمله من غير وُجُوه

ص: 237

أَحدهَا أول من احدثها قيل مَرْوَان بن الحكم حِين طعنه الْيَمَانِيّ وَهُوَ نقل مَالك فِي الْعُتْبِيَّة قَالَ وَجعلهَا من طين وَجعل فِيهَا تشبيكا وَقيل مُعَاوِيَة رضي الله عنه حِين ضربه الْخَارِجِي وَقطع عرق النسا من صلبه وَهَذَا نقل المؤرخين حَكَاهُ الشَّيْخ أَبُو عمر فِي الِاسْتِيعَاب عَن الزبير ابْن بكار

الثَّانِي الْمُوجب لاتخاذها إِمَّا خوف الاغتيال كَمَا وَقع لمعاوية ومروان وَغَيرهمَا صرح بذلك ابْن رشد حسبهما يَأْتِي عَنهُ أَن شَاءَ الله تَعَالَى أَو مَا تَقْتَضِيه نخوة الْملك فِي الترفع من الِاخْتِلَاط بِالنَّاسِ وَلَو امن من ذَلِك الْمَحْذُور وَهُوَ ظَاهر قَول ابْن خلدون وانما اتَّخذت عِنْد حُصُول الترف والاستفحال شَأْن احوال الابهة كلهَا وَقد يُرَاعِي الامران وان اسْتَقل كل وَاحِد مِنْهُمَا

الثَّالِث من الْمُلُوك من أَزَال رسمهما من الْجَوَامِع وَهُوَ أَبُو يَعْقُوب بن

ص: 238

عبد الْمُؤمن الْقَائِل فِيهِ ابْن جبيش وَقد سُئِلَ عَنهُ وَهُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز عدلا علما وزهدا وفضلا وَحمل ابْن خلدون ذَلِك على طَرِيق البداوة الَّتِي كَانَت إِذْ ذَاك شعارهم

قَالَ وَلما استفحلت دولتهم وَأخذت بحظها من الترف وَجَاء يَعْقُوب الْمَنْصُور ثَالِث مُلُوكهمْ فاتخذها وَبقيت من بعده سنة مُلُوك الْمغرب والأندلس

قَالَ وَهَذَا الشَّأْن فِي سَائِر الدول سنة الله فِي عباده

قلت خلق البداوة اقْربْ إِلَى تحري الصَّوَاب فِي ترك الْأَحْدَاث لغير مُوجب وَبِالْجُمْلَةِ فِي اجْتِنَاب كل مَا لم يُؤذن فِيهِ

الرَّابِع نَص ابْن رشد فِي مَوَاضِع من الْبَيَان على أَن اتخاذها مَكْرُوه لكَونهَا محدثة قَالَ مَا نَصه عِنْد قَول مَالك أول من جعل الْمَقْصُودَة مَرْوَان الخ مَا تقدم نَقله وَجه قَوْله الْأَعْلَام بَان الْمَقْصُودَة محدثة لم تكن على عهد النَّبِي ص صلى الله عليه وسلم وَلَا على عهد الْخُلَفَاء

ص: 239

بعده وانما أحدثها الْأُمَرَاء للخوف على أنفسهم فاتخاذها فِي الْجَوَامِع مَكْرُوه انْتهى

وَلابْن الْحَاج فِي مدخله مُبَالغَة فِي تَقْرِير تِلْكَ الْكَرَاهَة بِمَا عدد من مفاسد اتخاذها

قلت وَيظْهر الْآن أَن الْخَوْف الَّذِي علل بِهِ الْأَحْدَاث ينْهض فِي رفع الْكَرَاهَة لما ينشأ عَن تحَققه من الْمَفَاسِد الْعِظَام لَا سِيمَا أَن صَحَّ النَّقْل عَن مُعَاوِيَة رضي الله عنه فَفِيهِ مَعَ ذَلِك اسوة إِذْ هُوَ صَحَابِيّ كريم مشهود لَهُ عَنهُ أهل السّنة باستمراره بعد رَسُول الله ص صلى الله عليه وسلم على مَا كَانَ عَلَيْهِ من فَضِيلَة الصُّحْبَة والسابقة وَتلك الْمَفَاسِد لَا تقاوم ضَرَر عدم اتخاذها حَيْثُ يتَوَقَّع ولبيانه مَحل آخر

الْخَامِس إِذا كَانَت هَذِه الْمَقْصُورَة مُبَاحَة لكل النَّاس فِي الصَّفّ الأول مَا بداخلها ملاصقا لمقام الْأَمَام وان كَانَت غير مُبَاحَة فَهُوَ مَا وَرَاءَهَا واليا جوارها روى عَن مَالك رَحمَه الله تَعَالَى

قلت وعَلى الِاخْتِيَار جَوَاز اتخاذها لما اشير اليه وان الْحَائِل إِذا انْقَطع بِهِ الصَّفّ حَالَة الضَّرُورَة لَا يضر بالصف الأول مَا يَلِي الْأَمَام داخلها وَقد نقل النَّوَوِيّ عَن الشَّافِعِيَّة انه مَذْهَب الْمُحَقِّقين وَمُقْتَضى الظَّوَاهِر

ص: 240

قلت ولوضع اتخاذها صور مُتعَدِّدَة لخلاف فِيهَا الْبَحْث بِاعْتِبَار هَذَا الْمقَام لتقريره مَحل آخر وَالله تَعَالَى اعْلَم

الشارة الثَّامِنَة الدُّعَاء فِي الْخطْبَة

وَقد تقدم لِابْنِ خلدون انه من شارات الْملك الإسلامي وللكلام فِيهِ مجالان

المجال الأول مَا تَقْتَضِيه مَذَاهِب الْملك فِيهِ وَالْوَاقِع مِنْهُ بِحَسب تلون الْحَالة أُمُور

أَحدهَا إحداثه عِنْد حُصُول الابهة وَوُجُود الْمَانِع من ولَايَة صَلَاة السُّلْطَان بِنَفسِهِ فيشيد بِذكرِهِ الْخَطِيب النَّائِب عَنهُ تنويها باسمه ودعى لَهُ بِمَا جعل الله تَعَالَى مصلحَة الْعَالم فِيهَا كَمَا تقدم التَّنْبِيه عَلَيْهِ خُصُوصا فِي تِلْكَ السَّاعَة الَّتِي هِيَ مَظَنَّة الْإِجَابَة

الثَّانِي فِي مُشَاركَة الْخَلِيفَة فِيهِ عِنْد الاستبداد عَلَيْهِ فيدعى لَهُ أَولا ثمَّ للمتغلب عَلَيْهِ بعده

قَالَ ابْن خلدون وَذهب ذَلِك بذهاب تِلْكَ الدول وَصَارَ الْأَمر إِلَى اخْتِصَاص السُّلْطَان بِالدُّعَاءِ لَهُ دون من سواهُ

الثَّالِث غَفلَة بداية الدولة أَولا لخشونة بداوتها عَن تعْيين الْمَدْعُو لَهُ اقتناعا بِالدُّعَاءِ الْمُبْهم لمن ولى أَمر الْمُسلمين

قَالَ ابْن خلدون ويسمون مثل هَذِه الْخطْبَة عباسية يعنون بهَا أَن الدُّعَاء على الأجمال إِنَّمَا يتَنَاوَل العباسي تقليدا فِي ذَلِك لمن سلف وَلَا يحلفُونَ بِمَا وَرَاء ذَلِك من تَعْيِينه وَالتَّصْرِيح باسمه فَإِذا انْتَهَت عُيُون سياستهم ونظروا فِي أعطاف ملكهم طالبوا بِالتَّعْيِينِ وَالتَّصْرِيح وَلم يقنعوا بتعميمه الْإِبْهَام

ص: 241

الرَّابِع اذعان الدولة المغلوبة للإفصاح باسم غالبها إِمَّا فِي بدايتها أَو عِنْدَمَا يُدْرِكهَا كَمَا يَحْكِي أَن يَعْقُوب بن عبد الْحق مَا هد دولة بني مرين حَضَره رَسُول الْمُسْتَنْصر من بني أبي حَفْص وتخلف فِي بعض أَيَّامه عَن شُهُود الْجُمُعَة فَقيل لَهُ لما لم يحضر هَذَا الرَّسُول فَقَالَ لخلو الْخطْبَة من ذكر سُلْطَانه فَأذن فِي الدُّعَاء لَهُ وَكَانَ ذَلِك سَببا لاخذهم بدعوته وكما يَحْكِي أَن يغمر اسن بن زيان مَا هد دولة

ص: 242

بني عبد الواد لما غَلبه الْأَمِير أَبُو زَكَرِيَّا ابْن أبي حَفْص على تلمسان ثمَّ بدا لَهُ فِي اعادة الْأَمر اليه على شُرُوط من جُمْلَتهَا ذكر اسْمه على مَنَابِر سَائِر عمله فَقَالَ هِيَ أعوادهم يذكرُونَ علها من شاؤا

وَقلت وشاهدت بتلمسان وَبَعض اعمالها لهَذَا الْعَهْد تَصْرِيح الْخَطِيب بأسم السُّلْطَان أبي عَمْرو عُثْمَان صَاحب تونس مقدما فِي الذّكر على اسْم صَاحب تلمسان السُّلْطَان أبي عبد الله من اعقاب بني زيان لما بَينهمَا من الشُّرُوط فِي ذَلِك

انعطاف فَإِذا اسْتَقَلت الجولة بِنَفسِهَا وقويت على شَأْنهَا استنكف حِينَئِذٍ صَاحبهَا من مثلذلك وافراد الدُّعَاء لنَفسِهِ وَتجَاوز فِي التنويه باسمه إِلَى الْغَايَة

قَالَ ابْن خلدون والعالم بُسْتَان وَالله على كل شَيْء قدير

المجال الثَّانِي مَا تَقْتَضِي بِهِ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَلَا تَخْلُو من حالتين

ص: 243

أَحدهمَا أَن يفعل فِي بعض الاوقات لمعارض يتَأَكَّد عِنْده وَلَا اشكال حِينَئِذٍ فِي مشروعيته وَتوجه الْأَمر بِهِ وَعَلِيهِ يتنزل قَول ابْن خلدون أَن أول من دَعَا للخليفة فِي الْخطْبَة ابْن عَبَّاس دَعَا لعَلي بن أبي طَالب رضي الله عنهما فِي حطبته وَهُوَ عَامل لَهُ على الْبَصْرَة فَقَالَ اللَّهُمَّ انصر عليا على الْحق لانه اصل لما اتَّصل بِهِ الْعَمَل من ذَلِك دَائِما

الثَّانِيَة أَن يلْتَزم فِي الْخطْبَة التنويه بمقام الْملك واشادة باسم الْقَائِم بِهِ وَفِيه تَعَارَضَت انظار الشُّيُوخ فَمن مُنكر لَهُ وحاكم عَلَيْهِ بالبدعة لعدم الْعَمَل عِنْد الْأَوَّلين كالشيخ عز الدّين وَمن تبعه وَمن مصوب وَمن مُعْتَقد لاستحسانه لدلَالَة اسْتِمْرَار الْعَمَل بِهِ عِنْده على أَن لَهُ أصلا صَحِيحا كالأستاذ أبي سعيد وَغَيره وَمن قَائِل برجحانه ووجوبه بعد الْأَحْدَاث ومصير تَركه خُفْيَة اعْتِقَاد السُّلْطَان فِي الْخَطِيب مَا تخشى غائلته كالشيخ ابْن عَرَفَة فِيمَا اجاب بِهِ عِنْد استطلاع مَا عِنْده فِي ذَلِك ولتمام الْبَحْث فِيهِ مقَام آخر

الْتِفَات هَذَا النّظر إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ يكون الدُّعَاء مُجَردا عَن الغلو فِي الثَّنَاء المفرط والمدح الْكَاذِب فان اقْترن ذَلِك بذلك كَمَا فِي بعض الدول فمعظم الشُّيُوخ على الْإِنْكَار واوجبوا عِنْده اعْتِقَاد أَمريْن

أَحدهَا عدم نفع الدُّعَاء لسوء الْأَدَب فِيهِ قَالَ الشَّيْخ عز الدّين فِي تَقْرِيره فان من عَاق من سَيّده عَاص لَهُ بمخالفة آمره قَائِلا فِي شَفَاعَته اكرم عَبدك الْمُطِيع لأمرك العاكف على خدمتك كَانَ عِنْد السَّيِّد كَاذِبًا جَدِيرًا بَان لَا تقبل شَفَاعَته

الثَّانِي عدم وجوب الأنصاف الْمَطْلُوب فِي الْخطْبَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ رَأَيْت الزهاد بِمَدِينَة السَّلَام والكوفة إِذْ بلغ الْأَمَام إِلَى الدُّعَاء أهل الدُّنْيَا قَامُوا فصلوا ورايتهم أَيْضا يَتَكَلَّمُونَ مَعَ جلسائهم فِيمَا يَحْتَاجُونَ اليه من

ص: 244

أَحدهمَا أَن يفعل فِي بعض الاوقات لمعارض يتَأَكَّد عِنْده عِنْده وَلَا اشكال حِينَئِذٍ فِي مشروعيته وَتوجه الْأَمر بِهِ وَعَلِيهِ يتنزل قَول ابْن خلدون أَن أول من دَعَا للخليفة فِي الْخطْبَة ابْن عَبَّاس دَعَا لعَلي بن أبي طَالب رضي الله عنهما فِي خطبَته وَهُوَ عَامل لَهُ على الْبَصْرَة فَقَالَ اللَّهُمَّ انصر عليا على الْحق لانه اصل لما اتَّصل بِهِ الْعَمَل من ذَلِك دَائِما

الثَّانِيَة أَن يلْتَزم فِي الْخطْبَة التنويه بمقام الْملك واشادة باسم الْقَائِم بِهِ وَفِيه تَعَارَضَت انظار الشُّيُوخ فَمن مُنكر لَهُ وحاكم عَلَيْهِ بالبدعة لعدم الْعَمَل عِنْد الْأَوَّلين كالشيخ عز الدّين وَمن تبعه وَمن مصوب وَمن مُعْتَقد لاستحسانه لدلَالَة اسْتِمْرَار الْعَمَل بِهِ عِنْده على أَن أصلا صَحِيح كالأستاذ أبي سعيد غَيره وَمن قَائِل برجحانه ووجوبه بعد الْأَحْدَاث ومصير تَركه خُفْيَة اعْتِقَاد السُّلْطَان فِي الْخَطِيب مَا تخشى غائلته كالشيخ ابْن عَرَفَة فِيمَا اجاب بِهِ عِنْد استطلاع مَا عندع فِي ذَلِك ولتمام الْبَحْث فِيهِ مقَام آخر

الْتِفَات هَذَا النّظر انا هُوَ حَيْثُ يكون الدُّعَاء مُجَردا عَن الغلو فِي الثَّنَاء المفرط والمدح الْكَاذِب فان اقْترن ذَلِك بذلك كَمَا فِي بعض الدول فمعظم الشُّيُوخ على الْإِنْكَار واوجبوا عِنْده اعْتِقَاد أَمريْن

أَحدهَا عدم نفع الدُّعَاء لسوء الْأَدَب فِيهِ قَالَ الشَّيْخ عز الدّين فِي تَقْرِيره فان من شفع فِي عَاق من سَيّده عَاص لَهُ بمخالفة آمره قَائِلا فِي شَفَاعَته اكرم عَبدك الْمُطِيع لأمرك العاكف على خدمتك كَانَ عِنْد السَّيِّد كَاذِبًا جَدِيرًا بَان لَا تقبل شَفَاعَته

الثَّانِي عدم وجوب الْإِنْصَات الْمَطْلُوب فِي الْخطْبَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ رَأَيْت الزهاد بِمَدِينَة السَّلَام والكوفة إِذا بلغ الْأَمَام إِلَى الدُّعَاء أهل الدُّنْيَا قَامُوا فصلوا ورأيتهم أَيْضا يَتَكَلَّمُونَ مَعَ جلسائهم فِيمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من

ص: 245

امورهم أَو فِي عَلَيْهِم وَلَا يصغون حِينَئِذٍ لانهم عِنْدهم لَغْو فلاا يلْزم استماعهم لَا سِيمَا وَبَعض الخطباء يكذبُون انْتهى

قلت وَمَا ابدع مَا للمقري فِي ذَلِك قَالَ فِي التحف والطرف لَهُ سَمِعت الْعَلامَة أَبَا زيد ابْن الْأَمَام يَقُول فِي تَفْسِير قَوْله عليه السلام فِي الْمُوَطَّأ إِذا قلت لصحابك انصت والامام يخْطب يَوْم الْجُمُعَة فقد لغوت إِذا اخذ فِي الثَّنَاء على السُّلْطَان جَازَ الْكَلَام وارتفع وجوب الْإِنْصَات لانه فِي هَذِه الْحَالة يمدح وَلَا يخْطب فَهُوَ بَان يحثى التُّرَاب فِي وَجهه اولى مِنْهُ بَان يستمع لقَوْله قَالَ فاستحسنت هَذَا من رَأْيه

فَقلت الغالي اولى بَان يكون هُوَ الدَّاعِي فعلى من مر بِهِ أَن يمر كَرِيمًا وَمن حَضَره أَن يعرض عَنهُ تبرءا وتسليما قَالَ الله عز وجل {وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما} وَقَالَ {وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ} وَقَالُوا {لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم سَلام عَلَيْكُم لَا نبتغي الْجَاهِلين}

الْمَسْأَلَة اللقب الْخَاص يصاحب الدولة وَقد زعم ابْن الْعَرَبِيّ

ص: 245

الْحَاتِمِي أَن الْحِكْمَة الإلهية جرت فِي الْعَالم باختصاص الْخَلِيفَة باسم ينْفَرد بِهِ بِحَيْثُ إِذا اطلق لَا يفهم مِنْهُ غَيره ثمَّ لَا عَلَيْهِ فِي الِاشْتِرَاك فِي بَقِيَّة اسمائه تأسيا بِمن اسْتَخْلَفَهُ وَهُوَ الله تَعَالَى فانه خَاص باسم الألوهية فَإِذا قيل الله لم يفهم مِنْهُ سواهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى

قلت هُوَ معنى مَا نسب لارسطو يجب على الْملك أَن يخْتَص باسم علم مَشْهُور يشرف على من سواهُ لانه علم يشار إِلَيْهِ وغرض يقْصد نَحوه وَقَول ابْن الْعَرَبِيّ تأسيا بِمن اسْتَخْلَفَهُ فِي معنى اطلاق التخلق بِهِ لَا سِيمَا الألوهية وَفِي ذَلِك كَلَام الشُّيُوخ مُقَرر فِي موَاضعه إِذا تقرر هَذَا فقد تحيروا من ذَلِك فِي الدولة الاسلامية بِحَسب التدريج فِي الْمُقْتَضِي لَهُ القابا جملَة

اللقب الأول خَليفَة رَسُول الله ص صلى الله عليه وسلم سمى بذلك أَبُو بكر رضي الله عنه لما بُويِعَ بعد وَفَاة رَسُول الله ص صلى الله عليه وسلم لم يزل الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن توفى رضي الله عنه اقتناعا بِهِ واقتصارا على شرف غَايَته فَلَقَد قيل لَهُ رضي الله عنه يَا خَليفَة الله فَقَالَ لست بخليفة الله وَلَكِنِّي خَليفَة رَسُول الله ص صلى الله عليه وسلم

قلت من هُنَاكَ قَالَ النَّوَوِيّ يَنْبَغِي إِلَّا يُقَال خَليفَة الله بل يُقَال الْخَلِيفَة وَخَلِيفَة رَسُول الله ص صلى الله عليه وسلم وامير الْمُؤمنِينَ

اللقب الثَّانِي امير الْمُؤمنِينَ وَفِيه كَلَام من وُجُوه

أَحدهَا أَن أول من سمي بِهِ عمر رضي الله عنه لما بُويِعَ بعد أبي بكر رضي الله عنه استثقالا بِكَثْرَة الاضافات فِي قَوْلهم لَهُ قبل ذَلِك خَليفَة خَليفَة

ص: 246

رَسُول الله ص صلى الله عليه وسلم خُصُوصا عِنْد تزايد ذَلِك دَائِما إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى الهجنة وَيذْهب مِنْهُ إِلَى التَّمْيِيز بِتَعَدُّد الاضافات فعدلوا عَنهُ إِلَى مَا يُنَاسِبه ويدعى بِهِ مثله

الثَّانِي ذكر الشَّيْخ أَبُو عمر فِي التَّسْمِيَة بِهِ علتين

إِحْدَاهمَا مَا اشير إِلَيْهِ من كَرَاهِيَة الاستثقال حَيْثُ قَالَ قَالَ عمر كَانَ أَبُو بكر يُقَال لَهُ خَليفَة رَسُول الله ص صلى الله عليه وسلم فَكيف يُقَال لي خَليفَة خلفية رَسُول الله ص صلى الله عليه وسلم يطول هَذَا فَقَالَ لَهُ الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَنْت اميرنا وَنحن الْمُؤْمِنُونَ فَأَنت امير الْمُؤمنِينَ قَالَ فَذَاك إِذا

الثَّانِيَة أَن لبيد بن ربيعَة وعدى بن حَاتِم قدما إِلَى الْمَدِينَة وأناخا راحلتيهما بِفنَاء الْمَسْجِد ثمَّ دخلا فَإِذا بهما بِعَمْرو بن الْعَاصِ فَقَالَا لَهُ اسْتَأْذن لنا على امير الْمُؤمنِينَ يَا عَمْرو فَقَالَ عمروا انتما وَالله أصبْتُمَا اسْمه نَحن الْمُؤْمِنُونَ وَهُوَ اميرنا فَوَثَبَ عَمْرو فَدخل على عمر فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا امير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ عمر مَا بداك فِي هَذَا الِاسْم يعلم الله لتخْرجن مِمَّا قلت قَالَ أَن لبيد بن ربيعَة وعدى بن حَاتِم قدما فأناخا راحلتيهما بِفنَاء الْمَسْجِد ثمَّ دخلا وَقَالا لي اسْتَأْذن لنا يَا عَمْرو على امير الْمُؤمنِينَ فهما وَالله اصابا اسْمك أَنْت الْأَمِير وَنحن الْمُؤْمِنُونَ فَجرى الْأَمر

ص: 247

على ذَلِك

اعْتِبَار بسابقة عناية يروي انه رضي الله عنه خرج إِلَى الْمَسْجِد وَمَعَهُ الْجَارُود الْعَبْدي فَإِذا يامرأة على الطَّرِيق فَسلم عَلَيْهَا فَردَّتْ عليه السلام ثمَّ قَالَت هيه يَا عمر عهدتك وَأَنت تسمى عُمَيْرًا فِي سوق عكاظ تقارع الصّبيان فَلم تذْهب الْأَيَّام حَتَّى سميت امير الْمُؤمنِينَ فَاتق الله فِي الرّعية وَاعْلَم أَن من خَان الْوَعيد قرب مِنْهُ الْبعيد وَمن خَافَ الْمَوْت خشِي الْفَوْت فَبكى طَويلا فَقَالَ لَهَا الْجَارُود قد ابكيت امير الْمُؤمنِينَ واكثرت فَقَالَ عمر دعها أَو مَا تعرفها هَذِه خَوْلَة بنت حَكِيم امْرَأَة عبَادَة بن الصَّامِت الَّتِي سمع الله قَوْلهَا من سمائه فعمر اجدر أَن يسمع قَوْلهَا

ص: 248

الثَّالِثَة بعد اسْتِقْرَار تَسْمِيَة الْخُلَفَاء بِهَذَا اللقب افردوا بِهِ قَدِيما من ملك الْحجاز وَالشَّام وَالْعراق والمواطن الَّتِي هِيَ ديار الْعَرَب ومراكز الدولة ومادة الْملك وَالْفَتْح وَسلم لَهُم ذَلِك إِلَى أَن أدْرك الْهَرم الدولة هُنَاكَ وَاسْتولى عَلَيْهَا الاستبداد وَالْجهل فانقسمت دولة القاصية إِذْ ذَاك فرْقَتَيْن أَحدهمَا من بَقِي على هَذَا التَّسْلِيم تواضعا مَعَهم فِي الْعُدُول إِلَى نعت آخر كَمَا يَحْكِي عَن يُوسُف بن تاشفين ملك لمتونة انه لما ملك العدوتين اجْتمع إِلَيْهِ اشياخ الْقَبَائِل وَقَالُوا أَنْت الْخَلِيفَة على الْمغرب وحقك الْيَوْم أَن تدعى الْأَمِير بل ندعوك يَا امير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُم حاشى الله أَن تتسمى بِهَذَا الِاسْم إِنَّمَا يتسمى بِهِ ويستحقه خلفاء بني الْعَبَّاس وَأَنا رجلهم والقائم بدعوتهم فِي بِلَاد الْمغرب فَقَالُوا لَهُ لَا بُد لَك من اسْم تمتاز بِهِ عَن امراء الْقَبَائِل فتسمى بأمير الْمُسلمين وَقيل خاطبه بِهِ المستظهر بِاللَّه العباسي فِي التَّقْلِيد الَّذِي رَجَعَ بِهِ إِلَيْهِ الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ وَابْنه القَاضِي أَبُو بكر من مشيخة اشبيلية بعد أَن اوفدهما على المستظهر ببيعته فاتخذه لقبا يخْتَص بِهِ

قلت ورد عَلَيْهِ مَعَ ذَلِك القَاضِي أَبُو بكر بكتابين من الشَّيْخَيْنِ الْإِمَامَيْنِ أبي حَامِد الْغَزالِيّ وَأبي بكر الطرطوشي بِالدُّعَاءِ لَهُ وَالْوَصِيَّة بِالْمُسْلِمين

الثَّانِيَة من شمخ بانفه عَن هَذَا التَّسْلِيم لما ثَبت لَدَيْهِ من ضعف الْخلَافَة بالمشرق وَلما رأى فِي نَفسه من اسْتِحْقَاق الْمُشَاركَة فِي ذَلِك كَمَا اتّفق لعبد الرَّحْمَن النَّاصِر من خلفاء الأموية بالأندلس بعد مُضِيّ مُدَّة من ولَايَته

ص: 249

فعهد إِلَى الْخَطِيب بقرطبة أَن يخْطب بِهِ وانفذ الْكتب إِلَى الْعمَّال بِمَا نَصه

إِمَّا بعد فَأَنا احق من استوفى حَقه واجدر من اسْتكْمل خطه الَّذِي فضلنَا الله بِهِ واظهر أثرنا فِيهِ وَرفع سلطاننا إِلَيْهِ وَيسر على أَيْدِينَا إِدْرَاكه وَسَهل بدولتنا مرامه وَالَّذِي أشاد فِي الأفاق من ذكرنَا وعلو امرنا والعن من رَجَاء الْعَالمين بِنَا وَأعَاد من انحرافهم إِلَيْنَا واتبشارهم بدولتنا وَالْحَمْد الله ولي النِّعْمَة والانعام بِمَا انْعمْ بِهِ واهدى الْفضل بِمَا تفضل علينا فِيهِ وَقد رَأينَا أَن تكون الدعْوَة لنا بأمير الْمُؤمنِينَ وَخُرُوج الْكتب عَنَّا وورودها علينا بذلك إِذا كل مدعُو بِهَذَا الِاسْم غَيرنَا منتحل لَهُ ودخيل فِيهِ ومتسم بِمَا لَا يسْتَحقّهُ وَعلمنَا أَن التمادى على ترك الْوَاجِب لنا من ذَلِك حق اضعناه وَاسم لَا يسْتَحقّهُ علمنَا أَن التَّمَادِي على ترك الْوَاجِب لنا من ذَلِك حق أضعناه وَاسم ثَابت استقطناه أَمر الْخَطِيب بموضعك أَن يَقُول بِهِ واجر مخاطبتك لنا عَلَيْهِ أَن شَاءَ الله وَالله الْمُسْتَعَان

فَائِدَة قَالَ الْبَغَوِيّ لَا بَأْس أَن يُسمى بِأَمْر الْمُسلمين امير الْمُؤمنِينَ والخليفة وان كَانَ مُخَالفا لسيرة امة الْعدْل لقِيَامه بِأَمْر الْمُؤمنِينَ وَسمع الْمُؤمنِينَ ة لَهُ

اللقب الثَّالِث الاوصاف الْجَارِيَة الِاسْم الْعلم مُبَالغَة فِي التَّعْظِيم واحرازا لتمييز الْخُلَفَاء بهَا بَعضهم عَن بعض لما فِي امير الْمُؤمنِينَ من الِاشْتِرَاك كالسفاح والمنصور وَالْهَادِي وَالْمهْدِي والرشيد وَمَا فِي معنى ذَلِك وَأول من فتح الْبَاب بَنو الْعَبَّاس من لدن بلوغهم الْغَايَة فِي بذخ الْملك إِلَى آخر أَمرهم واقتفى أثارهم فِيهِ العبيديون بأفريقية ومصر وتجافي عَنهُ بَنو

ص: 250

أُميَّة بالمشرق أول جَريا مَعَ سذاجة وَلم يفارقوا منازعها وبالأندلس ثَانِيًا تقليدا لسلفهم مَعَ الْقُصُور عَن ذَلِك لتخلفهم عَن ملك قطر الْخلَافَة الَّتِي هِيَ مَرْكَز العصبية إِلَى أَن جَاءَ النَّاصِر مِنْهُم فَزَاد على تَسْمِيَته بأمير الْمُؤمنِينَ على مَا تقدّمت الْحِكَايَة عَنهُ أَن يلقب بالناصر لدين اله وَاسْتمرّ مثله فِيمَن بعده سَائِر دولتهم وَعند انتساخها بدول الطوائف اقتسموا تِلْكَ الألقاب وتوزعوها لقُوَّة استبدادهم فتقلبوا مِنْهَا بِمَا بِمَا شاؤوا كَمَا قَالَ ابْن شرف ناعبا عَلَيْهِم ذَلِك

(مِمَّا يزهدني فِي ارْض أتدلس

أَسمَاء مُعْتَمد فِيهَا ومعتضد)

(ألقاب مملكة فِي غير موضعهَا

كالهر يَحْكِي انتفاخا صولة الْأسد)

اللقب الرَّابِع الْأَمِير كَانُوا فِي صدر الْإِسْلَام يسمون بِهِ قواد الْبعُوث وَهُوَ فعيل من أَمر قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ الْجَاهِلِيَّة يدعونَ عَلَيْهِ ص صلى الله عليه وسلم امير مَكَّة وامير الْحجاز قلت ثمَّ اقْتصر عَلَيْهِ كثير مِمَّن اسْتَقل بِالْملكِ تلقيبا أَو واثة إِلَى أَن بلغُوا الْغَايَة الَّتِي هِيَ

ص: 251

قُوَّة دولتهم فَعِنْدَ ذَلِك انتقلوا إِلَى الألقاب الْخَاصَّة بِالْملكِ كَمَا تقدم عَن يُوسُف بن تاشفين فِي انْتِقَاله إِلَى التَّسْمِيَة بأمير الْمُسلمين

فَائِدَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ سمي بالأمير وَلم يسم بالناهي لَان الْأَمر سبق فِينَا قبل النَّهْي فان الله أَمر إِبْلِيس بِالسُّجُود لادم قبل أَن ينهاه عَن الشَّجَرَة فَوَقع الِابْتِلَاء بِالْأَمر قبل النَّهْي فَلَا جلّ ذَلِك قدم عَلَيْهِ فِي الذّكر الشَّجَرَة اللقب الْخَامِس امير الْمُسلمين دعِي بذلك سعد بن أبي وَقاص رضي الله عنه لإمارته على جَيش الْقَادِسِيَّة وهم مُعظم الْمُسلمين يَوْمئِذٍ

قلت وَعَلِيهِ اقْتصر هَؤُلَاءِ الْمُلُوك النصريون إِلَى هَذَا الْعَهْد ايدهم الله ونصرهم واوائل زنانة بالمغرب

اللقب السَّادِس الألقاب الخلصة بالمتغلبين على الدول تَشْرِيفًا لَهُم عَمَّن غلبوه على الْأَمر واشعارا بِحسن وَلَا يهتم لَهُ وهم فِي ذَلِك فرقتان

أَحدهمَا الواقفون عِنْد هَذَا الْحَد كملوك عجم الْمشرق فِي تَسْمِيَة الْخُلَفَاء المتغلبين بشرف الدولة ونظام الْملك وبهاء الْملك وَنَحْو ذَلِك

الثَّانِيَة المتجاوزون إِلَى مَا وَرَاء الْغَايَة من ذَلِك فِي انتحال مَا هُوَ خَاص بِالْملكِ اشعارا بِالْخرُوجِ عَن ربقة الاصطناع حَيْثُ أضافوها إِلَى الدّين فَقَط كصلاح الدّين وَنور الدّين وَنَحْو ذَلِك وهم الْمُتَأَخّرُونَ مِنْهُم لما قوى استبدادهم وتلاشت بهم عصبية الْخلَافَة

اللقب السَّابِع الْأَمَام الْمَعْصُوم تسمى بذلك مهْدي الْمُوَحِّدين لامرين بِإِحْدَاهُمَا اعْتِقَاد رَأْي الشِّيعَة فِي وجوب نصب امام مَعْصُوم يحفظ

ص: 252

بِهِ نظام الْعَالم فِي كل زمَان

الثَّانِي الترفع عِنْد اتِّبَاعه عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ لما فِيهَا من مُشَاركَة الْوَالِدَان من اعقاب أهل الْخلَافَة يَوْمئِذٍ شرقا وغربا كَذَا قرر ابْن خلدون قَالَ ثمَّ انتحل ولي عَهده عبد الْمُؤمن اللقب بأمير الْمُؤمنِينَ وَجرى عَلَيْهِ أعقابه من بعده وَال بِي حَفْص من بعدهمْ استئثارا بِهِ عَمَّن سواهُم لوراثتهم مَا جَاءَ بِهِ أمامهم ولذهاب عصبية قُرَيْش وتلاشيها فَكَانَ ذَلِك دأبهم

قلت والى الْآن فِي آل أبي حَفْص وَالله يمد من يَشَاء بعونه

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة أَن المتغلبين على السُّلْطَان لَا يشاركونه فِي اللقب الْخَاص لامرين

أَحدهَا أَن المتغلب لَا صبغة فل فِي الْملك كَمَا فِي السُّلْطَان الْمُنْفَرد بهَا من أول الدولة بِمَا كَانَ لَهُ من العصبية الْحَاصِل بهَا الغلب أَولا وَبِمَا بَقِي مِنْهَا حَافِظًا لدوام الدولة وشاملا لعصبية من تغلب عَلَيْهِ

الثَّانِي انه لَا يحاول باستبداده انتزاع الْملك ظَاهرا بل ثَمَرَته من الْأَمر وَالنَّهْي والحل وَالْعقد موهما انه متصرف عَن سُلْطَانه منفذ من وَرَاء الْحجاب لاحكامه فَلذَلِك يتجافى عَن سمات الْملك والقابه جهده وَيبعد نَفسه عَن التُّهْمَة بذلك وَمَتى تجاسر على التَّعَرُّض بِشَيْء مِنْهُ هلك لاول وهلة

موعظة قَالَ ابْن خلدون وَقد وَقع مثل هَذَا لعبد الرَّحْمَن بن الْمَنْصُور بن أبي عَامر حِين سما إِلَى مُشَاركَة هِشَام وَأهل بَيته فِي لقب الْخلَافَة وَلم يقنع بِمَا قنع أَبوهُ واخوه من الاستبداد بِالْحلِّ وَالْعقد فَطلب من هِشَام الْخَلِيفَة أَن يعْهَد لَهُ بالخلافة فَنَفْس ذَلِك عَلَيْهِ بَنو مَرْوَان

ص: 253

وَسَائِر قُرَيْش وَبَايَعُوا لِابْنِ عَم الْخَلِيفَة هِشَام بن مُحَمَّد بن هِشَام بن عبد الْجَبَّار وَخَرجُوا عَلَيْهِم وَكَانَ فِي ذَلِك خراب الدولة العامرين وهلاك خليفتهم وَالله خير الْوَارِثين

المسالة السَّابِعَة تفَاوت الموَالِي والمصطنعين بتفاوت قديمهم وحديثهم فِي الالتحام بِصَاحِب الدولة وَسَببه أَن الْمَقْصُود من مُوَافقَة العصبية ومغالبتها لَا يتم إِلَّا بِالنّسَبِ لما تقدم وَالْولَايَة بِالْوَلَاءِ أَو الْحلف بتنزل مَنْزِلَته لانه وان كَانَ طبيعيا فَإِنَّمَا هُوَ وهمي وَالْمعْنَى الَّذِي بِهِ الالتحام إِنَّمَا هُوَ الْعشْرَة وَطول الصُّحْبَة بالمربى وَالرّضَاع وَسَائِر احوال الْمَوْت والحياة وَإِذا حصل الإلتحام بذلك جَاءَت النعرة والمناصرة كَمَا هُوَ مشَاهد وَمثله حَاصِل فِي الاصطناع فانه يحدث بَين المصطنع وَمن اصطنعه نِسْبَة خَالِصَة من الوصلة تنزل هَذِه الْمنزلَة وان لم يكن بِنسَب فثمرات النّسَب إِذا مَوْجُودَة

وَإِذا تقرر هَذَا فالولاية بَين الْقَبِيل وَبَين أَوْلِيَائِهِمْ مَتى سبقت حُصُول الْملك كَانَت عقائدها اصح لامرين

أَحدهمَا انهم قبل الْملك اسوة لَا يتَمَيَّز النّسَب عَن الْولَايَة إِلَّا عِنْد الاقل مِنْهُم فيتنزلون مِنْهُم منزلَة ذَوي الْقُرْبَى وَإِذا اصطنعوهم بعده كَانَت مرتبته مُمَيزَة للسَّيِّد عَن الْمولى ولاهل الْقَرَابَة عَن أهل الْولَايَة والاصطناع لما تَقْتَضِيه احوال الرياسة من ذَلِك فتميز حَالهم ويتنزلون منزلَة الاجانب

ص: 254

فيضعف الالتحام الَّذِي بِهِ التناصر وَذَلِكَ انقص من الاصطناع قبل الْملك

الثَّانِي أَن الاصطناع قبل الْملك يخفي شَأْن تِلْكَ اللحمة بطول الزَّمَان ويظن بِهِ فِي الاكثر النّسَب فتقوى العصبية وَلَا كَذَلِك يعده لقرب الْعَهْد واستواء الاكثر فِي مَعْرفَته فَلَا جرم يتَمَيَّز عَن النّسَب وتضعف العصبية بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قبل الدولة

شَهَادَة عيان قَالَ ابْن خلدون فَاعْتبر ذَلِك فِي الدول والرياسات تَجدهُ فَكل من كَانَ اصطناعه قبل الْملك والرياسة المصطنعة تنزل بِهِ لشدَّة التحامه بِهِ منزلَة ابنائه وَذَوي رَحمَه وَمن كَانَ اصطناعه بعد لَا يكون لَهُ من اللحمة مَا للأولين

قَالَ هَذَا مشَاهد بالعيان حَتَّى أَن الدولة فِي آخر امرها ترجح إِلَى اصطناع الْأَجَانِب فَلَا يبْنى لَهُم مجد كَمَا للمصطنعين قبلهَا لقرب الْعَهْد حِينَئِذٍ بأوليتهم ومشارفة الدولة على الانقراض فيكونون منحطين فِي مهاوي الضعة

اعلام قَالَ وانما يحمل صَاحب الدولة على إِلَيْهِم فِي الاصطناع مَا يعترى فِي نفوس الصَّنَائِع الْأَوَّلين من التعزز عَلَيْهِ وَقلة الخضوع لَهُ وَنَظره بِمَا ينظر إِلَيْهِ أهل نِسْبَة لتأكد اللحمة مُنْذُ الاعصار المتطاولة بالمربى والانتصار بسلفه والانتظام مَعَ كبراء أهل بَيته فينافرهم لما يحصل بذلك من الدَّالَّة والاعتزاز عَلَيْهِ ويعدل عَنْهُم إِلَى اسْتِعْمَال سواهُم وَيكون عِنْد اتخلاصهم قَرِيبا فَلَا يبلغون رتب الْمجد ويبقون على حَالهم وَهَكَذَا شَأْن الدول فِي أواخرها

ص: 255

قَالَ واكثر مَا يُطلق اسْم الصَّنَائِع والاولياء على الْأَوَّلين واما هَؤُلَاءِ المحدثون فخدم واعوان وَالله ولي الْمُؤمنِينَ

المسالة الثَّامِنَة تفوت مَرَاتِب صَاحب السَّيْف والقلم

لَا خَفَاء أَن السَّيْف والقلم كِلَاهُمَا الة عظمى للسُّلْطَان فِي الِاسْتِعَانَة بهما على آمره إِلَّا انه مَتى اشتدت الْحَاجة الو وَاحِد مِنْهُمَا اكثر من الآخر فرتبة صَاحبه هِيَ الْمُقدمَة

امام السَّيْف فَفِي حالتين

أَحدهمَا أول الدولة لِأَنَّهَا لَا تتمهد إِذْ ذَاك إِلَّا بِصدق الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيم لغناء المعونة بِهِ والاستظهار واين هَذَا من مرتبَة الْقَلَم الَّذِي غَايَته إِذْ ذَاك أَن يكون خَادِمًا فَقَط

الثَّانِيَة آخر امرها لِأَنَّهَا وَالْحَالة تِلْكَ بِمَا نالها من الْهَرم بِضعْف العصبية وَقلة النَّاصِر تشتد حَاجَتهَا إِلَيْهِ فِي الدفاع بِهِ واكثر من الْقَلَم وَمَعْلُوم أَن رُتْبَة من يحْتَاج إِلَيْهِ اكثر فَوق رُتْبَة من الْحَاجة إِلَيْهِ دون ذَلِك ولاجله يكون ارباب السيوف فِي الْحَالَتَيْنِ اوسع جاها واكثر نعْمَة من أَصْحَاب الاقلام واما الْقَلَم فَفِي وسط الدولة حَيْثُ يسْتَغْنى صَاحبهَا بعض الشَّيْء عَن السَّيْف لما تمهد من آمره وَمَا انْصَرف إِلَيْهِ همه من تَحْصِيل ثَمَرَات الْملك فِي ضبط الجباية وتنفيذ الْأَحْكَام والقلم هُوَ الْمعِين لَهُ فِي ذَلِك وَالْمُعْتَمد فِيهِ عَلَيْهِ فَفِي هَذِه الْحَالة الَّتِي اشتدت فِيهَا الْحَاجة إِلَيْهِ يكون أربابه أوسع جاها ونعمة واعلى رُتْبَة ومكانه واقرب من السُّلْطَان مَجْلِسا واكثر إِلَيْهِ ترددا وفيهَا يَسْتَغْنِي عَن الوزراء وَحَملَة السيوف ويبعدون عَن بَاطِن السُّلْطَان ويحذرون على أنفسهم من بوادره

ص: 256

وَهُوَ فِيمَا قرب من الأَرْض اكثر لانعكاس الاشعة من سطح الأَرْض بِمُقَابلَة الاضواء فتتضاعف الْحَرَارَة هُنَا لَا جلّ ذَلِك وَإِذا تجاوزن مطارح الاشعة المنعكسة فَلَا حر هُنَاكَ بل يكون فِيهِ الْبرد حَيْثُ مجالي السَّحَاب وَالشَّمْس فِي نَفسهَا لَا حارة وَلَا بَارِدَة إِذْ هِيَ جسم بسيط مضيء وَلَا مزاج لَهُ

قَالَ وعوج بن عنَاق هُوَ من العمالقة أَو من الكنعانيين الَّذين كَانُوا فريسة بني اسرائيل عِنْد فتحهم الشَّام واطوال بني اسرائيل وجثمانهم لذَلِك الْعَهْد قريب من هياكله يشْهد بذلك ابواب بَيت الْمُقَدّس فَإِنَّهَا وان خربَتْ وجددت لم تزل الْمُحَافظَة على اشكالها ومقادير ابوابها وَكَيف يكون التَّفَاوُت بَين عوج وَبَين أهل عصره بِهَذَا الْمِقْدَار وانما شَأْن غلطهم فِي هَذَا انهم استعظموا اثار الامم وَلم يفهموا حَال الدول فِي الِاجْتِمَاع والتعاون وَمَا يحصل بذلك وبالهندام من الاثار الْعَظِيمَة فصرفوه إِلَى قُوَّة الْأَجْسَام وشدتها بِعظم هياكلها وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك

التَّنْبِيه قَالَ زعم المَسْعُودِيّ نقلا عَن الفلاسفة أَن الطبيعة لما برأَ الله الْخلق كَانَت فِي نِهَايَة الْقُوَّة والكمال فَكَانَت الاعمار اطول والاجسام اقوى فان طرق الْمَوْت إِنَّمَا هُوَ بانحلال القوى الطبيعية فَإِذا كَانَت قَوِيَّة كَانَت الاعمار ازيد وعندما ادركها الضعْف بتناقض الْمَادَّة قصرت الاعمار وَلَا يزَال كَذَلِك إِلَى وَقت الانحلال وانقراض الْعَالم

ص: 256

شَهَادَة قَالَ ابْن خلدون فِي معنى مَا كتب بِهِ أَبُو ملم للمنصور حِين آمره بالقدوم إِمَّا بعد فانه مِمَّا حفظناه من وَصَايَا الْفرس اخوف مَا يكون الوزراء إِذا سكت الدهماء سنة الله فِي عباده

المسالة التَّاسِعَة انْتِقَال الدولة من البداوة إِلَى الحضارة

وَذَلِكَ لانهما طوران طبيعيان للدول وطور البدواة مِنْهُمَا مُتَقَدم على طور الحضارة لَان الغلب الَّذِي بِهِ الْملك إِنَّمَا هُوَ بالعصبية وَمَا يتبعهَا من شدَّة الْبَأْس وتعود الافتراس وَلَا يكون ذَلِك غَالِبا إِلَّا مَعَ البدواة فطورها اذن مُتَقَدم على الْملك ثمَّ إِذا حصل الْملك تبعه الرفه واتساع الْأَحْوَال والحضارة إِنَّمَا هِيَ تفنن فِي ترف ذَلِك واحكام الصَّنَائِع المستعملة فِي مذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والانية على حسب مَا تنْزع إِلَيْهِ النُّفُوس من الشَّهَوَات والملاذ وَمَا تتلون بِهِ من العوائد فطورها إِذا للْملك تَابع لطور الحضارة ضَرُورَة تَبَعِيَّة الرفه للْملك إِذا تقرر هَذَا

فهناك أُمُور

أَحدهَا أَن هَذَا الِانْتِقَال هُوَ من الدول السالفة إِلَى الدول الخالفة فحضارة الْفرس قلا الْإِسْلَام انْتَقَلت للْعَرَب بني أُميَّة وَبني الْعَبَّاس وانتقلت حضارة بني أُميَّة بالأندلس إِلَى مُلُوك الْمغرب من الْمُوَحِّدين وزناتة وانتفلت حضارة بني الْعَبَّاس إِلَى الديلم ثمَّ إِلَى التّرْك السلجوقية ثمَّ إِلَى التّرْك المماليك بِمصْر والتتار بالعراقين

الثَّانِي أَن الدولة الخالفة لمَكَان هَذَا الِانْتِقَال تقلد السالفة فِي مَذَاهِب الحضارة فَمنهمْ يَأْخُذُونَ وعَلى منوالهم ينسجون كَمَا وَقع للْعَرَب

ص: 257

لما ملكوا فَارس وَالروم وَلم يَكُونُوا لذَلِك الْعَهْد فِي شَيْء من الحضارة فقد قدم لَهُم الْمرْفق فحسبوه رِقَاعًا وعثروا على الكافور فِي خَزَائِن كسْرَى فاستعملوه فِي عجينهم ملحا وامثال ذَلِك فَلَمَّا استعبدوا اهل الدول قبلهم واستعلموهم فِي مهنهم وحاجات مَنَازِلهمْ واختاروا مِنْهُم المهرة فِي مثل ذَلِك والقومة عَلَيْهِ افادوفم علاجه وَالْقِيَام على التفنن فِيهِ فبلغوا الْغَايَة فِيهِ وتطوروا بطور الحضارة والترف فِي استجادة المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والانية وَسَائِر الماعون والخرثى فَأتوا من ذَلِك بِمَا وَرَاء الْغَايَة فِي مثله

الثَّالِث انه على قدر الدولة يكون شانها فِي الحضارة لَان أمورها من الترف والترف من تَوَابِع الثروة والثروة من تَوَابِع الْملك وَمِقْدَار مَا يستولي عَلَيْهِ أهل الجولة فعلى نِسْبَة الْملك يكون ذَلِك كُله

الرَّابِع انه من افخم مَا جرى من ذَلِك على نِسْبَة الْملك فِي الدول الاسلامية مَا وَقع مِنْهُ فِي مقامين

أَحدهَا الجوائز والاعطية بلغت فِي دولة بني الْعَبَّاس والعبيدين وَمن بعدهمْ مَا علم من أحمال المَال وتخوت الثِّيَاب واعداد الْخَيل بَعْدَمَا كَانَت أَيَّام بني أُميَّة الْإِبِل فِي الْأَكْثَر أخذا بمذاهب الْعَرَب وبدواتهم

الثَّانِي الولائم والأعراس حُكيَ من ذَلِك فِي عرس الْمَأْمُون ببوران بنت الْحسن بن سهل مَا يَقْتَضِي مِنْهُ الْعجب كنثر أَبِيهَا يَوْم الْأَمْلَاك على الطَّبَقَة الأولى من حَاشِيَة الْمَأْمُون بَنَادِق الْمسك ملتوتة على الرّقاع

ص: 258

بالضياع وَالْعَقار مسوغة لمن حصلت فِي يَده بِمَا يَسُوقهُ إِلَيْهِ البخت من ذَلِك وعَلى الطَّبَقَة الثَّانِيَة بدر الدَّرَاهِم فِي كل بدرة عشرَة آلَاف وعَلى الثَّالِثَة بدر الدَّرَاهِم كَذَلِك بعد أَن انفق فِي مقَام الْمَأْمُون بداره اضعاف ذَلِك وكإعطاء الْمَأْمُون فِي مهرهَا لَيْلَة زفافها ألف حَصَاة من الْيَاقُوت وايقاد شموع العنبر فِي كل وَاحِدَة مِنْهَا مائَة من وَهُوَ رَطْل وَثُلُثَانِ وَبسطه الْفرش الَّتِي كَانَ الْحَصِير مِنْهَا منسوجا بِالذَّهَب مكللا بالدر والياقوت

وَقَالَ الْمَأْمُون حِين رَآهُ قَاتل الله أَبَا نواس كَأَنَّهُ ابصر هَذَا حَيْثُ يَقُول فِي صفحة الْخمر

(كَانَ صغرى وكبرى من فقاقعها

حَصْبَاء در على ارْض من الذَّهَب)

واعداده بدار الطَّبْخ من الْحَطب لَيْلَة الْوَلِيمَة نقل مائَة واربعين واربعين بغلة عَاما كَامِلا ثَلَاث مَرَّات فِي كل يَوْم وفني لليلتين واوقدوا واربعين بغلة عَاما كَامِلا ثَلَاث مَرَّات فِي كل يَوْم وفني لليلتين واوقدوا الجريد يصبون عَلَيْهِ الزَّيْت وامره النواتية بإحضار السفن لاجازة الْخَواص لدجلة من بَغْدَاد إِلَى قُصُور الْملك بِمَدِينَة الْمَأْمُون لحضور الْوَلِيمَة فَكَانَ مَا اعد مِنْهَا لذَلِك ثَلَاثِينَ الْفَا فِي كثير من هَذَا

قَالَ ابْن خلدون وَكَذَلِكَ عرس الْمَأْمُون بن ذِي النُّون بطليطلة نَقله

ص: 259

بن بسام وَابْن حَيَّان

الْخَامِس أَن من أهل الدول من حاول اتِّبَاع من قبله فِي هَذَا الْبَاب فَرَأى انه نقص عَنهُ فقنع لما بلغت قدرته إِلَيْهِ كَمَا يَحْكِي أَن الْحجَّاج أَو لم فِي ختان بعض وَلَده فَاسْتَحْضر بعض الدهاقين فَسَأَلَهُمْ عَن ولائم الْفرس وَقَالَ اخبروني بأعظم صَنِيع شهدته فَقَالُوا لَهُ نعم ايها الْأَمِير شَهِدنَا بعض مرازبة كسْرَى وَقد صنع لأهل فَارس صَنِيعَة احضر فِيهَا صحافا من الذَّهَب على اخونة الْفضة اربعا على كل وَاحِد ويحمله ارْبَعْ وصائف وَيجْلس عَلَيْهِ اربعة من النَّاس فَإِذا طعموا اتبعُوا اربعتهم الْمَائِدَة بصفائحها ووصائفها فَقَالَ الْحجَّاج يَا غُلَام انْحَرْ الْجَزُور واطعم النَّاس وَعلم انه لَا يشغل بِهَذِهِ الابهة الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة اخْتِلَاف أَحْوَال أهل الدولة باخْتلَاف أطوارها وَذَلِكَ أَن الدولة تنْتَقل فِي أطوار مُخْتَلفَة وحالات متجددة ويكتسب

ص: 259

اصحابها فِي كل طور خلفا من احوال ذَلِك الطّور لَان الْخلق تَابع بالطبع لمزاح حَالَة

قَالَ ابْن خلدون واطوار الدولة لَا تتعدى فِي الْغَالِب خَمْسَة اطوار الطّور الأول طول الظفر بالبغية والاستيلاء على الْملك

وَيكون فِيهِ صَاحب الْملك اسوة قومه فِي اكْتِسَاب الْمجد وجباية المَال والمدافعة عَن الْحَوْزَة لَا ينْفَرد دونهم بِشَيْء ولان ذَلِك هُوَ مُقْتَضى العصبية الَّتِي وَقع بهَا الغلب وَهِي لم تزل بعد بِحَالِهَا

الطّور الثَّانِي طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بِالْملكِ ودفعهم عَن الْمُشَاركَة يكون فِيهِ معتنيا باصطناع الرِّجَال واتخاذ الموَالِي والصنائع لجدع انوف أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين لَهُ فِي نَفسه الضاربين فِي الْملك بِمثل سَهْمه حَتَّى يقر الْأَمر فِي نصابه ويفرد أهل بَيته لما يَبْنِي من مجده فيعاني من مدافعتهم ومغالبتهم مثل مَا عاناه الْأَولونَ فِي طلب الْأَمر أَو اشد لَان الْأَوَّلين دفعُوا الْأَجَانِب فَكَانَ ظُهُورهمْ عَلَيْهِم بِأَهْل العصبية جَمِيعًا وَهَذَا يدافع الاقارب وَلَا يظاهره عَلَيْهِم إِلَّا الْأَقَل من الأباعد

الطّور الثَّالِث طور الْفَرَاغ والدعة لتَحْصِيل ثَمَرَات الْملك من تَحْصِيل المَال وتخليف الاثار فيستفرغ وَسعه فِي الجباية وَضبط الدخل والخرج وتشييد المباني الحافلة والامصار المتسعة والهياكل المرتفعة واجازة الْوُفُود

ص: 261

من اشراف الامم ووجوه القابئل وَبث الْمَعْرُوف فِي اهله مَعَ التَّوسعَة على صنائعه بامال والجاه واختبار جُنُوده وادرار ارزاقهم حَتَّى يظْهر اثر ذَلِك عَلَيْهِم فيباهي بهم بهم الدول المسالمة ويرهب الدول الْمُحَاربَة

نِهَايَة قَالَ ابْن خلدون وَهَذَا الطّور آخر اطوار الاستبداد من أَصْحَاب الدولة لانهم فِي هَذِه الاطوار كلهَا مشتغلون بآثارهم بانون أَمرهم موضحون الطّرق لمن بعدهمْ

الطّور الرَّابِع طور القنوع والمسالمة

وَيكون فِيهِ قانعا بمباني سلفه مسالما لانظاره من الْمُلُوك مُقَلدًا للماضين من ابائه يتبع أثارهم حَذْو النَّعْل بالنعل وَيتبع طرقهم بِأَحْسَن مناهج الِاقْتِدَاء وَيرى أَن فِي الْخُرُوج عَن تقليدهم فَسَاد آمره وانهم ابصر بِمَا بنوا من مجده

الطّور الْخَامِس طور الاسراف والتبذير

طور الاسراف والتبذير

يكون فِيهِ متلفا لما جمع اولوه فِي الشَّهَوَات وَالْكَرم على البطانة واصطناع اخوان السوء وخضراء الدمن وتقليدهم عظيمات الْأُمُور الَّتِي لَا يستقلون بحملها مستفسدا لكبار الْأَوْلِيَاء من قومه وصنائع سلفه حَتَّى يحقدوا عَلَيْهِ ويتخاذلون عَن نصرته مضيفا على جنده بِمَا انفق من اعطياتهم فِي شهواته وحجب عَنْهُم وَجه مُبَاشَرَته وتفقده

ص: 262

منذرة بوار

قَالَ ابْن خلدون وَفِي هَذَا الطّور تحصل فِي الدولة طبيعة الْهَرم ويستولى عَلَيْهَا الْمَرَض المزمن الَّذِي لَا تكَاد تخلص مِنْهُ وَلَا يكون لَهَا مَعَه برْء إِلَى أَن تنقرض وَالله خير الْوَارِثين

الْمَسْأَلَة عشرَة أَن اثار الدولة على نِسْبَة قوتها فِي اصلها

وَذَلِكَ أَن الاثار إِنَّمَا تحدث عَن الْقُوَّة الَّتِي بهَا كَانَت أَولا وعَلى قدرهَا يكون الاثر وَهُوَ ظافر

قلت وتقتصر فِي تَلْخِيص مَا قرر من ذَلِك على اثرين اختصارا

الاثر الأول المباني الشامخة والهياكل الْعَظِيمَة

لَا تُوجد من ذَلِك إِلَّا على نِسْبَة قُوَّة الدولة فِي اصلها إِذْ لَا يتم إِلَّا بِكَثْرَة الفعلة واجتماع الْأَيْدِي على التعاون فِي الْعَمَل فَإِذا كَانَت الدولة فسيحة الجوانب كَثِيرَة الممالك والرعايا كثر وجود الفعلة وحشدوا من افاقها فتم الْعَمَل على عظم هياكله

شَهَادَة عيان قَالَ ابْن خلدون وَانْظُر بِالْمُشَاهَدَةِ ايوان كسْرَى وَمَا اقتدر بِهِ الْفرس وَقد عزم الرشيد على هَدمه فشرع فِيهِ ثمَّ ادركه الْعَجز وَقَضِيَّة استشارته يحيى بن خَالِد مَعْرُوفَة

ص: 263

قلت وَقد تقدّمت الاشارة إِلَى ذَلِك فَانْظُر كَيفَ تقدر دولة على بِنَاء لَا تَسْتَطِيع أُخْرَى على هَدمه مَعَ بون مَا بَين الْهدم وَالْبناء فِي السهولة تعرف من ذَلِك بون مَا بَين الدولتين

قَالَ وَانْظُر إِلَى بِنَاء الْوَلِيد بِدِمَشْق وجامع بني أُميَّة بقرطبة والقنطرة الَّتِي على واديها وَكَذَا بِنَاء الحنايا لجلب المَاء إِلَى قرطجنة فِي الْقَنَاة الراكبة عَلَيْهَا واثار شرشال بالمغرب والاهرام بِمصْر وَكثير من هَذِه الاثار الماثلة للعيان وَمِنْهَا مصانع قوم وَثَمُود وَمَا قصَّة الْقرَان عهنا انْتهى

وَهنا تَنْبِيهَانِ

التَّنْبِيه الأول أَن تِلْكَ الْأَفْعَال للاقدمين إِنَّمَا كَانَت بالهندام وَكَثْرَة الفعلة واجتماع الْأَيْدِي عَلَيْهَا فبذلك شيدت تِلْكَ الهياكل والمصانع وَلَا يَصح مَا تتوهمه الْعَامَّة أَن ذَلِك لعظم اجسام الْأَوَّلين إِذْ لَيْسَ بَين الْبشر فِي ذَلِك بون الهياكل والاثار

قَالَ ابْن خلدون وَلَقَد اولع الْقصاص بذلك وتغالوا فِيهِ وسطروا فِيهِ عَن عَاد وَثَمُود والعمالقة إِخْبَار عريقة فِي الْكَذِب من اغربها زعمهم أَن عوج بن عنَاق من العمالقة كَانَ لطوله يتَنَاوَل السّمك من الْبَحْر ويشويه إِلَى الشَّمْس فزادوا إِلَى جهلهم بأحوال الْبشر الْجَهْل بأحوال الْكَوَاكِب لما اعتقدوا أَن للشمس حرارة تشتد فِيمَا قرب مِنْهَا وَالْحر إِنَّمَا هُوَ الضَّوْء

ص: 264

قَالَ وَهَذَا وَجه لَا رَأْي لَهُ إِلَّا التحكم وَلَيْسَ لَهُ عِلّة وَلَا طبيعة وَلَا سَبَب برهاني وَنحن نشاهد مسَاكِن الْأَوَّلين وأبوابهم مَا احدثوه من الْبُنيان والهياكل والديار والمساكن كديار ثَمُود المنحوتة فِي الصلد من الصخر بُيُوتًا صغَارًا وابوابا ضيقَة وَقد اشار ص صلى الله عليه وسلم إِلَى إِنَّهَا دِيَارهمْ وَنهى عَن اسْتِعْمَال مِيَاههمْ وَطرح مَا عجن بِهِ

وَقَالَ لَا تدْخلُوا مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم إِلَّا أَن تَكُونُوا باغين أَن يُصِيبكُم مثل مَا اصابهم وَكَذَلِكَ ارْض عَاد ومصر وَالشَّام وَسَائِر بقاع الأَرْض شرقا وغربا وَالْحق مَا قَرَّرْنَاهُ انْتهى

الاثر الثَّانِي وَقد سبقت إِلَيْهِ الاشارة الْأَمْوَال المرتفعة إِلَى خَزَائِن الْملك فان كثرتها بِحَسب قُوَّة الدولة أَيْضا وَقد نقل المؤرخون من ذَلِك مَا يهول سَمَاعه خُصُوصا مَا رفع مِنْهُ إِلَى بَيت المَال بِبَغْدَاد من جَمِيع النواحي أَيَّام الْمَأْمُون حَسْبَمَا حَكَاهُ كتاب خراج الدولة

قَالَ ابْن خلدون واما الأندلس فَالَّذِي ذكره الثِّقَات من مؤرخيها أَن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر خلف فِي بيُوت امواله مَا جملَته بالقناطير خَمْسَة آلَاف قِنْطَار وَخَمْسمِائة قِنْطَار فِي كل سنة

قَالَ وَرَأَيْت فِي بعض تواريخ الرشيد أَن الْمَحْمُول الي بَيت المَال فِي أَيَّامه سَبْعَة آلَاف قِنْطَار وَخَمْسمِائة قِنْطَار فِي كل سنة

قَالَ فَاعْتبر ذَلِك فِي نسب الدول بَعْضهَا من بعض وَلَا تنكرن مَا لَيْسَ بمعهود عنْدك وَلَا فِي عصرك شَيْء من امثاله فتضيق حوصلتك عَن ملتقط الممكنات فكثير من الْخَواص إِذا سمعُوا امثال هَذِه الْأَخْبَار عَن

ص: 266

الدول السَّابِقَة بَادرُوا بالإنكار وَلَيْسَ بصواب أَن احوال الْوُجُود والعمران مُتَفَاوِتَة وَكثير مِنْهَا فِي غَايَة الشُّهْرَة والوضوح بل فِيهَا مَا يلْحق بالمستيفض والمتواترة وفيهَا المعاين والمشاهد من اثار الْبناء وَغَيره

قلت ختم هَذَا الْفَصْل بَان النقول عَن الدول من الْأَحْوَال يُؤْخَذ مِنْهُ مراتبها فِي الْقُوَّة والضعف وَاعْتبر ذَلِك بِمَا حَكَاهُ عَن ابْن بطوطة مِمَّا حدث بِهِ عَن ملك الْهِنْد وَذَلِكَ فِي رحلته فَلَا نطول بِهِ لَكِن ذكر بعد ذَلِك كلَاما لَا يسع الِاسْتِغْنَاء عَنهُ وَهُوَ أَن الانسان يرجع فِي قبُول الْأَخْبَار أَو ردهَا إِلَى التَّمْيِيز بَين طبيعة الْمُمكن والممتنع بِصَرِيح عقله ومستقيم فطرته مِمَّا دخل فِي نطاق الْإِمْكَان قبله وَمَا خرج عَنهُ رفضه

قَالَ وَلَيْسَ المُرَاد الْإِمْكَان الْعقلِيّ فان نطاقه اوسع شَيْء فَلَا يفْرض حدا بَين الْوَاقِعَات بل الْإِمْكَان بِحَسب الْمَادَّة الَّتِي للشَّيْء فَإِذا نظر اصله وجنسه وفصله وَمِقْدَار عظمه وقوته اجرى الحكم من نِسْبَة ذَلِك على احواله بالامتناع على مَا خرج عَن نطاقه {وَقل رب زِدْنِي علما}

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة أَن المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب فِي شعاره وزيه وَسَائِر احواله وعوائده

وَسَببه اعْتِقَاد النَّفس كَمَال من غلبها بِمَا وقر عِنْدهم من تَعْظِيمه فتنحل جَمِيع مذاهبه وتتشبه بِهِ فِي ملبسه ومركبه وسلاحه وَسَائِر أَحْوَاله وَلذَلِك تَجِد الْأَبْنَاء يتشبهون بآبائهم دَائِما لاعتقادهم الْكَمَال فيهم

ص: 267

شَهَادَة قَالَ ابْن خلدون وَانْظُر إِلَى كل قطر من الاقطار كَيفَ يغلب على اهله زِيّ الحامية وجند السُّلْطَان فِي الْأَكْثَر لانهم الغالبون لَهُم حَتَّى انه إِذا كَانَت امة تجاور أُخْرَى وَلها الغلب عَلَيْهَا فيسرى إِلَيْهِم من هَذَا التَّشْبِيه والاقتداء حَظّ كَبِير كَمَا فِي الأندلس لهَذَا الْعَهْد مَعَ امم الجلالقة فانك تجدهم يتشبهون بهم فِي ملابسهم وشاراتهم وَالْكثير من عوائدهم حَتَّى فِي رسم التماثيل فِي الجدارن والبيوت حَتَّى لقد يستشعر من ذَلِك النَّاظر بِعَين الْحِكْمَة انه عَلامَة الِاسْتِيلَاء وَالْأَمر لله

قلت وَصدق فِي ذَلِك وَالله تَعَالَى المسؤول فِي الْعِصْمَة مِمَّا يدل عَلَيْهِ ذَلِك

قَالَ وتامل فِي هَذَا سر قَوْلهم النَّاس على دين الْملك فانه من بَابه إِذا الْملك غَالب لمت تَحت يَده والرعية مقتدون بِهِ لاعتقاد كَمَاله اقْتِدَاء الابناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم وَالله الْعَلِيم الْحَكِيم

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة أَن الْأمة إِذا غلبت وَصَارَت فِي ملكة غَيرهَا أسْرع إِلَيْهَا الفناء والسر فِيهِ وَالله اعْلَم امران

أَحدهَا أَن النَّفس إِذْ ملك عَلَيْهَا امرها وَصَارَت بالاستبعاد الة لسواها حصل فِيهَا من التَّكَلُّف مَا يقْتَصر بِهِ الامل الَّذِي بِهِ التناسل والاعتمار لما يحدث عَنهُ من نشاط القوى الحيوانية فَإِذا ذهب الامل وَتَبعهُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ من الْأَحْوَال مَعَ ذهَاب العصبية بالغلب عَلَيْهَا تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم وَسَوَاء كَانُوا

ص: 268

قد حصلوا على غَايَة من الْملك أَو لم يحصلوا

الثَّانِي أَن الانسان رَئِيس بالطبع بِمُقْتَضى استخلاصه والرئيس غلب على رياسته تكاسل حَتَّى عَن شبع بَطْنه وري كبده كَمَا هُوَ مَوْجُود فِي اخلاق الاناسي وَلَقَد يُقَال مثله فِي الْحَيَوَان المفترس وانه لَا يسافد إِذا كَانَ فِي ملكه الادمي فَلَا تزَال الْأمة المغلوبة فِي تناقص واصمحلال إِلَى أَن يَأْخُذهُمْ الفناء والبقاء لله وَحده

اعْتِبَار قَالَ ابْن خلدون وَاعْتبر ذَلِك فِي الرس فقد كَانُوا ملارا الْعَالم كَثْرَة وَلما فنيت حاميتهم بَقِي مِنْهُم اكثر من الْكثير فقد احصى سعد بن أبي وَقاص رضي الله عنه من وَرَاء الْمَدَائِن مِنْهُم فَكَانُوا مائَة ألف وَسَبْعَة وَثَلَاثِينَ الْفَا وَلما تحصلوا فِي ملكة الْعَرَب وقبضة قهرهم لم يكن بقاؤهم إِلَّا قَلِيلا ودثروا كَأَن لم يَكُونُوا

تَنْبِيه قَالَ وَلَا تحسبن أَن ذَلِك لظلم نزل بهم فمملكة الْإِسْلَام فِي الْعدْل كَمَا علمت وانما طبيعة فِي الانسان إِذا غلب على آمره وَصَارَ الة لغيره

قَالَ وَلِهَذَا فَإِنَّمَا يذعن للرق من الامم فِي الْغَالِب صنفان

أَحدهَا امم السودَان لنُقْصَان الانسانية فيهم وقربهم من عرض الْحَيَوَانَات الْعَجم

الثَّانِي من يَرْجُو بانتظامه فِي ربقة الرّقّ حُصُول رُتْبَة أَو افادة مَال

ص: 269

قَالَ كَمَا وَقع للترك بالمشرق والعلوج بالأندلس لما تعودوا من استخلاص الدولة لَهُم فَلَا يأنفون من الرّقّ لما يؤملونه من ذَلِك

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة أَن اواخر الدول يتَوَقَّع فِيهَا الْعمرَان وَيكثر فِيهَا وُقُوع الموتان والمجاعات

بَيَان الأول أَن الدول فِي بدايتها لَا بُد من الرِّفْق فِي ملكتها إِمَّا من الدّين أَن كَانَت دعوتها دينية أَو من المكارمة الَّتِي تقتضيها بداوتها الطبيعة وَعند ذَلِك تنبسط امال الرّعية فِي الْعمرَان واسبابه فيتوفر وَيكثر التناسل وَلما كَانَ ذَلِك بالتدريج فأثره إِنَّمَا يظْهر بعد جيل أَو جيلين فِي الْأَقَل وَبعد ذَلِك تشرف الدولة على نِهَايَة عمرها الطبيعي فَيكون الْعمرَان حِينَئِذٍ فِي غَايَة الوفور والنماء لَا يُقَال قد تقدم أَن اواخر الدول يكون فِيهَا الاجحاف بالرعية وَسُوء الملكة لَهَا لانا نقُول الاجحاف وان حدث حِينَئِذٍ وَقلت الجباية فَإِنَّمَا يظْهر اثره فِي تنَاقض الْعمرَان بعد حِين على حسب التدريج فِي الْأُمُور الطبيعية فَلَا تعَارض بَين الْمَوْضِعَيْنِ

بَيَان الثَّانِي أَن كَثْرَة وُقُوع المجاعات إِمَّا من الْعدوان فِي الجبايات وَالْأَمْوَال والفتن الْحَادِثَة من انتفاض الرعايا أَو كَثْرَة الْخَوَارِج لهرم الدولة فيقل فِي كَثْرَة احتكار الزَّرْع غَالِبا وصلاحه لَا يتسم على وتيرة وَاحِدَة إِذْ طبيعة الْعَالم فِي كَثْرَة الامطار وقلتها مُخْتَلفَة وَالزَّرْع وَالثِّمَار والضرع على نِسْبَة ذَلِك

وثقة النَّاس فِي الأقوات إِنَّمَا هِيَ بالاحتكار فَإِذا فقد عظم توقعهم للمجاعات فغلا الزَّرْع وَعجز عَنهُ اولو الْخَصَاصَة فهلكوا أَو كَانَ الْقَحْط والاحتكار مفقودا فَشَمَلَ النَّاس الْجُوع

بَيَان الثَّالِث أَن كَثْرَة حُدُوث الموتان إِمَّا من شدَّة المجاعات أَو كَثْرَة

ص: 270

الْفِتَن لاختلال الدول وَوُقُوع الوباء وَسَببه فِي الْغَالِب فَسَاد الْهَوَاء بِكَثْرَة الْعمرَان لِكَثْرَة مَا يخالطه من العفن والرطوبات الْفَاسِدَة وَإِذا فسد الْهَوَاء وَهُوَ غذَاء الرّوح الحيواني وملابسه دَائِما فيسري الْفساد إِلَى مزاجه فان قوي وَقع الْمَرَض فِي الرئة وَهَذِه هِيَ الطواعين والاكثر العفن بِهِ وتضاعف الحميات الْمهْلكَة وَكَثْرَة الْعمرَان هِيَ سَبَب التعفن والرطوبة الْفَاسِدَة

رِعَايَة حِكْمَة قَالَ وَلِهَذَا تبين فِي الْحِكْمَة أَن تخَلّل الْخَلَاء والفقر بَين الْعمرَان ضَرُورِيّ ليَكُون تموج الْهَوَاء يذهب بِمَا يحصل فِي الْهَوَاء من الْفساد والعفن بمخالطة الْحَيَوَانَات وَيَأْتِي بالهواء الصَّحِيح وَلِهَذَا يكون الموتان فِي المدن الموفورة الْعمرَان اكثر من غَيرهَا بِكَثِير كمصر فِي الْمشرق وفاس بالمغرب وَالله يقدر مَا يَشَاء

قلت مَا ذَكرْنَاهُ من أَن فَسَاد الْهَوَاء غَالِبا سَبَب الوباء هُوَ قَول الاطباء

وَنقل الشَّيْخ شهَاب الدّين بن حجر ابطال الشَّيْخ شمس الدّين بن قيم الجوزية لَهُ من وُجُوه سنة قَالَ اثر تقريرها عَنهُ وَلذَلِك اعيا الاطباء دواؤهم حَتَّى يسلم حذاقهم انه لَا دَوَاء لَهُ وَلَا دَافع لَهُ إِلَّا الَّذِي خلقه وَقدره

قَالَ ابْن حجر واما كَون بعض الأوجاع فِي الطَّاعُون قد يكون من غَلَبَة بعض الطبائع فَلَا يُنَافِي كَونه من طعن الْجِنّ لاحْتِمَال أَن حُصُول ذَلِك التَّغْيِير عِنْد وجود الطعنة فينزع بدن المطعون فيفور بِهِ الدَّم وَتحصل لَهُ الْكَيْفِيَّة الرَّديئَة الَّتِي يشخصها الاطباء بِحَسب مَا اقتضيه قواعدهم وَلَا يُنَافِي ذَلِك اصب سَببه الأول وَالله اعْلَم

قلت مَا أَشَارَ إِلَيْهِ من طعن الْجِنّ هُوَ مَا صرحت بِهِ الْأَحَادِيث انه من وخز الْجِنّ وللكلام فِي ذَلِك مَحل آخر

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة أَن الدول اعمار طبيعية كَمَا للأشخاص

ص: 271

قلت هَذَا الْفَصْل سلك فِيهِ ابْن خلدون مسلكا غَرِيبا وَادّعى أَن اعمار الدول لَا تعدو فِي الْغَالِب عمر ثَلَاثَة اجيال والجيل عمر شخص وَاحِد على التَّوَسُّط وَهُوَ اربعون سنة مُنْتَهى النمو إِلَى غَايَته ومجموع ذَلِك مائَة وَعِشْرُونَ سنة الْعُمر الطبيعي للأشخاص على زعم الاطباء والمنجمين ثمَّ قرر ذَلِك بِمَا حَاصله

أَن الجيل الأول لم يزَالُوا على خلق البداوة وخشونتها من البسالة والاشتراك فِي الْمجد وَالصَّبْر على شظف الْعَيْش وَذَلِكَ حَافظ لسورة العصبية فَلَا يزَال جانبهم مرهوبا وَالنَّاس لَهُم مغلوبون

والجيل الثَّانِي يتحولون من البداوة إِلَى الحضارة وَمن الشظف إِلَى الترف وَمن الِاشْتِرَاك فِي الْمجد إِلَى انْفِرَاد الْوَاحِد بِهِ وكسل البَاقِينَ عَن السَّعْي فِيهِ وَمن عز الاستطالة إِلَى ذل الاستكانة فتنكسر من سُورَة العصبية وَتبقى لَهُم الْكثير من ذَلِك بِمَا ادركوا الجيل الأول وباشروا من أَحْوَالهم فِي سَعْيهمْ ثمَّ إِلَى الْمجد وتراميهم إِلَى الدفاع والحماية فَلَا يسعهم تَركه بِالْكُلِّيَّةِ رَجَاء فِي رُجُوع تِلْكَ الْأَحْوَال السالفة

والجيل الثَّالِث ينسون عهد البداوة كَأَن لم تكن ويبلغ الترف فيهم غَايَته وَتسقط مِنْهُم العصبية بِالْجُمْلَةِ ويعجزون عَن الحماية والمطالبة ويتلبسون بالشارة والزي وركوب الْخَيل وَحسن الثقافة وهم فِي الْأَكْثَر اجبن من النسوان على ظهروها فَإِذا جَاءَ المطالب لَهُم لم يقاموا مدافعته فيضطر صَاحب الدولة إِلَى الِاسْتِظْهَار بسواهم من أهل النجدة والاستكثار من اصطناع من يُغني عَن الدولة بعض الفناء حَتَّى يَأْذَن الله بانقراضها

قَالَ فَهَذِهِ ثَلَاثَة اجيال فَهِيَ تكون هرم الدولة إِلَّا أَن عرض عَارض من فقدان المطالب فَيكون الْهَرم حَاصِلا والمطالب لم يحضرها وَلَو جَاءَ لما وجد مدافعا فَإِذا جَاءَ اجلهم لَا يستأجرون سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ

ص: 272