المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وقبل التلخيص لها فهنا مقدمات - بدائع السلك في طبائع الملك - جـ ٢

[ابن الأزرق]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌فِي التحذير من تِلْكَ الْمَحْظُورَات

- ‌الْمَحْظُور الأول

- ‌اتِّبَاع الْهوى

- ‌الْمَحْظُور الثَّانِي

- ‌الترفع عَن المداراة

- ‌الْمَحْظُور الثَّالِث

- ‌قبُول السّعَايَة والنميمة

- ‌الْمَحْظُور الرَّابِع

- ‌اتِّخَاذ الْكَافِر وليا

- ‌الْمَحْظُور الْخَامِس

- ‌الْغَفْلَة عَن مُبَاشرَة الْأُمُور

- ‌فِي جَوَامِع مَا بِهِ السياسة الْمَطْلُوبَة من السُّلْطَان وَمن يَلِيهِ

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌فِي سياسة السُّلْطَان

- ‌السياسة الأولى

- ‌الْجُمْلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِي

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة

- ‌شَهَادَة عيان

- ‌الْجُمْلَة الثَّانِيَة

- ‌الْحق الأول

- ‌الْفَائِدَة الأولى

- ‌الْفَائِدَة الثَّانِيَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّالِثَة

- ‌الْحق الثَّانِي

- ‌تحذير

- ‌الْحق الثَّالِث

- ‌الْحق الرَّابِع

- ‌الْحق الْخَامِس

- ‌الْإِشَارَة الثَّانِيَة

- ‌الْإِشَارَة الثَّالِثَة

- ‌السياسة الثَّانِيَة

- ‌سياسة الْأُمُور الْعَارِضَة

- ‌ الْجِهَاد

- ‌الْعَارِض الأول

- ‌الْمَسْأَلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعشْرُونَ

- ‌الْعَارِض الثَّانِي

- ‌السّفر

- ‌الْمَسْأَلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة

- ‌الْعَارِض الثَّالِث

- ‌الشدائد النَّازِلَة

- ‌التَّذْكِير الأول

- ‌التَّذْكِير الثَّانِي

- ‌التَّذْكِير الثَّالِث

- ‌التَّذْكِير الرَّابِع

- ‌التَّذْكِير الْخَامِس

- ‌الْحِكَايَة الأولى

- ‌الْحِكَايَة الثَّانِيَة

- ‌الشدَّة الأولى

- ‌الشدَّة الثَّانِيَة

- ‌الشدَّة الثَّالِثَة

- ‌فَائِدَة فِي تَنْبِيه

- ‌الْعَارِض الرَّابِع

- ‌الرسَالَة

- ‌الرِّعَايَة الأولى تحقق أَن موقع الرَّسُول من السُّلْطَان موقع الدَّلِيل من الْمَدْلُول وَالْبَعْض من الْكل فَفِي سياسة أرسطو اعْلَم أَن الرَّسُول يدل على عقل من أرْسلهُ إِذْ هُوَ عينه فِيمَا لَا يرى وَأذنه فِيمَا لَا يسمع وَلسَانه عِنْدَمَا غَابَ عَنهُ وَقَالُوا الرَّسُول قِطْعَة من الْمُرْسل

- ‌الرِّعَايَة الثَّانِيَة

- ‌الرِّعَايَة الثَّالِثَة

- ‌الرِّعَايَة الرَّابِعَة

- ‌الرِّعَايَة الْخَامِسَة

- ‌الرِّعَايَة السَّادِسَة

- ‌الرِّعَايَة السَّابِعَة

- ‌الرِّعَايَة الثَّامِنَة

- ‌الرِّعَايَة التَّاسِعَة

- ‌الرِّعَايَة الْعَاشِرَة

- ‌الْعَارِض الْخَامِس

- ‌الْوُفُود

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌فِي سياسة الْوَزير

- ‌السياسة الأولى

- ‌سياسة لنَفسِهِ

- ‌الضَّرْب الأول

- ‌المعتقدات العلمية

- ‌المعتقد الأول

- ‌المعتقد الثَّانِي

- ‌المعتقد الثَّالِث

- ‌المعتقد الرَّابِع

- ‌المعتقد الْخَامِس

- ‌الضَّرْب الثَّانِي

- ‌العزائم العلمية

- ‌الْعَزِيمَة الأولى

- ‌الْعَزِيمَة الثَّانِيَة

- ‌الْعَزِيمَة الثَّالِثَة

- ‌الْعَزِيمَة الرَّابِعَة

- ‌الْعَزِيمَة الْخَامِسَة

- ‌السياسة الثَّانِيَة

- ‌سياسة السُّلْطَان

- ‌الْأَدَب الرَّابِع

- ‌الْأَدَب السَّادِس

- ‌الْأَدَب السَّابِع

- ‌الْأَدَب الثَّامِن

- ‌الْأَدَب التَّاسِع

- ‌الْأَدَب الْعَاشِر

- ‌النَّوْع الثَّانِي

- ‌المتقي

- ‌السياسة الثَّالِثَة لخواص السُّلْطَان

- ‌وَسَائِر أَرْبَاب الدولة

- ‌الطَّبَقَة الأولى المسالمون

- ‌المدارة الأولى

- ‌المدارة الثَّانِيَة

- ‌المدارة الثَّالِثَة

- ‌المدارة الرَّابِعَة

- ‌المدارة الخانسة

- ‌الطَّبَقَة الثَّانِيَة

- ‌المتطلعون إِلَى مَنْزِلَته

- ‌الْمُقَابلَة الأولى

- ‌الْمُقَابلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمُقَابلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمُقَابلَة الْخَامِسَة

- ‌فِي سياسة سَائِر الْخَواص والبطانة

- ‌فِي صُحْبَة السُّلْطَان وخدمته

- ‌الْمُقدمَة الأولى

- ‌فِي التَّرْهِيب من مخالطته

- ‌الْمُقدمَة الثَّانِيَة

- ‌التحذير من صحبته

- ‌خَاتِمَة إِفَادَة

- ‌فِي وَاجِبَات مَا يلْزم السُّلْطَان سياسة الْقيام بهَا وَفَاء بعهدة مَا تحمله وطولب مِنْهُ وَالْمَذْكُور مِنْهَا جملَة

- ‌الْوَاجِب الثَّالِث

- ‌إِقَامَة الْحُدُود

- ‌الْوَاجِب الرَّابِع

- ‌عُقُوبَة الْمُسْتَحق وتعزيزه

- ‌الْوَاجِب الْخَامِس

- ‌رِعَايَة أهل الذِّمَّة

- ‌الْكتاب الرَّابِع

- ‌فِي عوائد الْملك وعوارضه

- ‌فِي عوائق الْملك الْمَانِعَة من دَوَامه

- ‌النّظر الأول

- ‌فِي التَّعْرِيف بالعوائق المنذرة بِمَنْع دوَام الْملك

- ‌النّظر الثَّانِي

- ‌فِي التَّعْرِيف بكيفية طروق الْخلَل إِلَى الدول

- ‌بَيَان طروق الْخلَل فِي المَال

- ‌فِي عوارض الْملك اللاحقة لطبيعة وجوده

- ‌ فِي عوارض الْملك من حَيْثُ هُوَ

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌فِي اخْتِيَار الْمنَازل الحضرية الِاجْتِمَاع

- ‌الْفَصْل الثَّالِث

- ‌فِي اكْتِسَاب المعاش بِالْكَسْبِ والصنائع وَفِيه مسَائِل

- ‌الْفَصْل الرَّابِع فِي اكْتِسَاب الْعُلُوم

- ‌الخاتمة فِي سياستي الْمَعيشَة وَالنَّاس

- ‌الْمُقدمَة الأولى فِي التَّقْوَى

- ‌وفيهَا مسَائِل

- ‌الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِي حسن الْخلق

- ‌السياسة الأولى

- ‌سياسة الْمَعيشَة

- ‌المطلع الأول

- ‌فِي كليات مِمَّا تدبر بِهِ الْمَعيشَة من جَانب الْوُجُود وَفِيه انارات

- ‌المطلع الثَّانِي

- ‌فِي أُمَّهَات مِمَّا تحفظ بِهِ من جَانب الْعَدَم وَفِيه اضاءات

- ‌السياسة الثَّانِيَة

- ‌سياسة النَّاس

- ‌وَقبل التَّلْخِيص لَهَا فَهُنَا مُقَدمَات

- ‌مسكة الختام

الفصل: ‌وقبل التلخيص لها فهنا مقدمات

‌السياسة الثَّانِيَة

‌سياسة النَّاس

‌وَقبل التَّلْخِيص لَهَا فَهُنَا مُقَدمَات

الْمُقدمَة الأولى

قَالَ الْغَزالِيّ الالفة ثَمَرَة حسن الْخلق والتفرق ثَمَرَة سوء الْخلق فَحسن الْخلق يُوجب التحبب والتآلف والتوافق وَسُوء الْخلق يُثمر التباغض والتحاسد والتناكر

قلت مِمَّا يدل على حمد الثَّمَرَة الأولى تَعْظِيم الْمِنَّة بهَا على الْخلق فِي قَوْله تَعَالَى لَو انفقت مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم فأصبحتم بنعمته اخوانا وعَلى سوء مغبة الثَّانِيَة صَرِيح الزّجر عَنْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا} والشواهد على الْأَمريْنِ من السّنة الْكَرِيمَة لَا تَنْحَصِر

الْمُقدمَة الثَّانِيَة الاستكثار من الاصدقاء مَذْمُوم لوَجْهَيْنِ

أَحدهمَا ندور من يصلح مِنْهُم للحصبة المعتد بهَا وَحِينَئِذٍ فالتوسع فِيهَا خلاف التوقي والحذر فَفِي الحَدِيث تَجِدُونَ النَّاس كإبل مائَة لَيْسَ فِيهَا رَاحِلَة قَالَ الْخطابِيّ الرَّاحِلَة الْبَعِير الذلول الَّذِي يركب عَلَيْهِ

ص: 430

ويرحل عَلَيْهِ فَاعل بِمَعْنى مفعول كَقَوْلِهِم سر كاتم أَي مَكْتُوم وَمَاء دافق أَي مدفوق وَالَّذِي يُرِيد وَالله اعْلَم أَن الْوَاحِد من الْمِائَة من النَّاس لَا يصلح أَن يصحب كَمَا أَن الْوَاحِد من الْمِائَة من النَّاس لَا يصلح أَن يصحب كَمَا أَن الاحد من الْمِائَة من الابل لَا يصلح أَن يركب يُشِير بِهِ إِلَى الاقلال من صُحْبَة النَّاس والحذر مِنْهُم وَالثَّانِي اداؤه إِلَى الْعَدَاوَة آخر الْأَمر فَعَن بَعضهم انه قَالَ الاستكثار من الاخوان وَسِيلَة الهجران قَالَ الْخطابِيّ يُرِيد انهم إِذا كَثُرُوا كثرت حُقُوقهم فَلم يسعهم برك وان تَأَخَّرت حُقُوقهم عَنْهُم استبطئوك فهجروك وعادوك لَهُ وَمَا احسن مَا عبر ابْن الرُّومِي عَن هَذَا حِين قَالَ

(عَدوك من صديقك مُسْتَفَاد

فَلَا تستكثرن من الصحاب)

(فَإِن الدَّاء اكثر مَا ترَاهُ

يكون من الطَّعَام أَو الشَّرَاب)

الْمُقدمَة الثَّالِثَة

الْوَصِيَّة من التحذير من قرناء السوء متكررة الْوُرُود وَيَكْفِي مِنْهَا اثْنَتَانِ

أَحدهَا مَا فِي الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْمَرْء على دين خَلِيله فَلْينْظر الْمَرْء من يخالل

قَالَ الْخطابِيّ مَعْنَاهُ لَا تخالل إِلَّا من رضيت دينه وأمانته فَإنَّك إِذا خاللته قادك إِلَى دينه ومذهبه فَلَا تغرر بِدينِك وَلَا تخاطر بِنَفْسِك فتخالل

ص: 431

من لَيْسَ يُرْضِي فِي دينه ومذهبه قَالَ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَقد ذكر هَذَا الحَدِيث انْظُر إِلَى سُلَيْمَان بن عبد الْملك صَحبه رَجَاء بن حَيْوَة فقومه وسدده انْظُر إِلَى فِرْعَوْن مَعَه هامان انْظُر إِلَى الْحجَّاج مَعَه يزِيد بن أبي مُسلم شَرّ مِنْهُ

الثَّانِيَة مَا روى عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قَالَ عَلَيْك باخوان الصدْق تعش فِي اكنافهم فَإِنَّهُم زِينَة فِي الرخَاء وعدة فِي الشدَّة وَالْبَلَاء وضع أَمر اخيك على احسنه حَتَّى يجبك مَا يعلمك مِنْهُ وَاعْتَزل عَدوك واحضر صديقك إِلَّا الامين الامين من خشِي الله وَلَا تصْحَب الْفَاجِر فَتَتَعَلَّمُ من فجوره وَلَا تطلعه على سرك وَاسْتَشِرْ فِي امرك الَّذين يَخْشونَ الله

قلت قد سبق فِي الرُّكْن الرَّابِع عشر من اركان الْملك شَيْء من هَذَا الْمَعْنى وَمن المروى فِيهِ عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه منظوما قَوْله

(وَلَا تصْحَب اخا الْجَهْل

واياك واياه)

(فكم من جَاهِل اردى

حكيما حِين آخاه)

(يُقَاس الْمَرْء بِالْمَرْءِ

إِذا مَا هُوَ مَا شاه)

(وللشيء على الشَّيْء

مقاييس واشباه)

(وللقلب على الْقلب

دَلِيل حِين تَلقاهُ)

الْمُقدمَة الرَّابِعَة التَّحَرُّز من عوام النَّاس مَطْلُوب من جِهَات واهمها اثْنَتَانِ

ص: 432

أَحدهمَا اساءة الظَّن بهم فَعَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه احترسوا من النَّاس بِسوء الظَّن وَعَن حُصَيْن الرقاشِي وَقد سُئِلَ مَا بَقِي من رَأْيك فَقَالَ سوء الظَّن

الثَّانِيَة قلَّة الثِّقَة بهم وقديما وَردت الْوَصِيَّة بذلك فقد رى أَن عبد الْملك بن مَرْوَان وجد حجرا فِيهِ مَكْتُوب بالعبرانية فَبعث إِلَى وهب بن مُنَبّه فَإِذا فِيهِ مَكْتُوب إِذا كَانَ الْغدر فِي النَّاس طباعا فالثقة بِكُل أحد عجز وَقد قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رضي الله عنه لمُحَمد بن كَعْب الْقرظِيّ أَي خِصَال الرجل اوضع لَهُ قَالَ كَثْرَة كَلَامه وافشاء سره والثقة بِكُل وَاحِد

تَنْبِيه

تقدم فِي الْقَاعِدَة الْخَامِسَة عشر من قَوَاعِد الْملك أَن اساءة الظَّن إِنَّمَا هِيَ حَيْثُ يُؤَدِّي تحسينه إِلَى مفْسدَة راجحة على مصْلحَته وَمَتى رجحت مصْلحَته فَهِيَ الْمُعْتَبرَة فِي النَّهْي عَن هَذِه الاساءة لقَوْله تَعَالَى اجتنوا كثيرا من الظَّن وَمن ثمَّ قَالَ ابْن قيم الجوزية الْفرق بَين الِاحْتِرَاز وَسُوء الظَّن أَن المحترز كَرجل خرج مُسَافِرًا بِمَالِه ومركوبه فَهُوَ يحْتَرز جهده من مَكْرُوه مَا يتَوَقَّع فِي السّفر والسيء الظَّن ممتليء الْقلب بالظنون السَّيئَة بِالنَّاسِ حَتَّى يظْهر على لِسَانه وجوارحه فيبغضهم ويبغضونه ويحذر مِنْهُم ويحذرونه

ص: 433

قَالَ فَالْأول يخالطهم ويحترز مِنْهُم وَالثَّانِي يتجنبهم ويلحقه اذاهم الأول فيهم دَاخل بِالنَّصِيحَةِ والاحسان مَعَ الِاحْتِرَاز وَالثَّانِي خَارج مِنْهُم مَعَ الْغِشّ والدغل والبغض انْتهى مُلَخصا

قلت وَقد ذكر الْخطابِيّ أَن اكثر مَا يعرض هَذَا لمن يحس من نَفسه بتهمة وَيعرف عِنْد النَّاس بريبة كوصف الْمُنَافِقين بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {يحسبون كل صَيْحَة عَلَيْهِم} قَالَ وَمَا احسن قَول المتنبي فِي أهل هَذِه الصّفة حَيْثُ يَقُول

(إِذا سَاءَ فعل الْمَرْء ساءت ظنونه

وَصدق مَا يعتاده من توهم)

(وعادى محبيه بقول عداته

واصبح فِي ليل من الشَّك مظلم)

الْمُقدمَة الْخَامِس ترك الِاعْتِدَاد بالعوام وَقلة الاكتراث بهم مَطْلُوب من وَجْهَيْن

أَحدهمَا أَن رضاهم كَمَا قيل غَايَة لَا تدْرك روى اكثر من صَيْفِي قَائِلا بعده وَلَا يكره سخط من رِضَاهُ الْجور وَعَن يُونُس بن عبد الاعلى قَالَ لي الشَّافِعِي يَا أَبَا مُوسَى رضَا النَّاس غَايَة لَا

ص: 434

تدْرك لَيْسَ إِلَى السَّلامَة من النَّاس سَبِيل فَانْظُر مَا فِيهِ اصلاح نفس فالزمه ودع النَّاس وَمَا هم فِيهِ انْتهى وَفِي مَعْنَاهُ انشد أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب

(دع النَّاس مَا شاؤوا يَقُولُونَ فإنني

لأكْثر مَا يَحْكِي عَليّ حمول)

(فَمَا كل من اغضبته انا معتب

وَمَا كل مَا يرْوى عَليّ اقول)

الثَّانِي أَن الاغترار رُبمَا يصدر مِنْهُم فَمَا الشَّأْن أَن يعْتَبر مِمَّن سواهُم منَاف لكَمَال البصيرة بهم قَالَ الْخطابِيّ الْوَاجِب على الْعَاقِل أَن لَا يغتر بِكَلَام الْعَوام وثنائهم وان لَا يَثِق بعهودهم واخائهم فانهم يقبلُونَ مَعَ الطمع ويدبرون مَعَ الْغنى ويطيرون مَعَ كل ناعق كَانَ الْحسن يَقُول إِذا رَآهُمْ هَؤُلَاءِ قتلة الْأَنْبِيَاء

وَكَانَ بَعضهم يَقُول إِذا رَآهُمْ قَاتل الله هَذِه الْوُجُوه الَّتِي لَا ترى إِلَّا عِنْد الشَّرّ

وَقَالَ آخر إِذا اجْتَمعُوا غلبوا وَإِذا تفَرقُوا لم يعرفوا وَقيل إِذا اجْتَمعُوا ضروا وَإِذا تفَرقُوا نفعوا قَالَ يُرِيد انهم إِذا تفَرقُوا رَجَعَ كل وَاحِد مِنْهُم إِلَى صناعته فيخرز الاسكاف ويخصف الْحذاء وينسج الحائك ويخيط الخائط فينتفع النَّاس بهم انْتهى

ثمَّ انشد لِابْنِ عَائِشَة

ص: 435

(جربت النَّاس واخراقهم

فصرت استأنس بالوحدة)

(مَا اكثر النَّاس لعمري وَمَا

اقلهم فِي ملتقى الْعدة)

فَائِدَة

يُطلق الغوغاء على هَؤُلَاءِ الَّذين لَا عِبْرَة بهم قَالَ الاصمعي والغوغاء الْجَرَاد إِذا ماج بعضه فِي بعض قَالَ وَبِه سمي الغوغاء من النَّاس

قلت وَمن علاماتهم مَا تضمنته الْخطابِيّ عَن أبي عَاصِم النَّبِيل وَذَلِكَ أَن رجلا أَتَاهُ فَقَالَ أَن امْرَأَتي قَالَت لي يَا غوغاء فَقلت لَهَا أَن كنت غوغاء فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا فَقَالَ لَهُ أَبُو عَاصِم هَل أَنْت مِمَّن يحضر المناطحة بالكباش والمناقرة بالديوك فَقَالَ لَا فَقَالَ لَهُ فَهَل أَنْت مِمَّن يحضر يَوْم يعرض السُّلْطَان أهل السجون يَقُول فلَان اجلد من فلَان فَقَالَ لَا فَقَالَ هَل أَنْت الرجل الَّذِي إِذا خرج الْأَمِير يَوْم الْجُمُعَة جَلَست على ظهر الطَّرِيق حَتَّى يمر ثمَّ تقيم بمكانك حَتَّى يُصَلِّي وينصرف فَقَالَ لَا قَالَ أَبُو عَاصِم لست بغوغاء إِنَّمَا الغوغاء من يفعل هَذَا

ص: 436

الْمُقدمَة السَّادِسَة

من اخلاق الْعَامَّة الْمُوجبَة لندور السَّلامَة مِنْهُم مَا ركب فيهم من الْخلاف الْمُقْتَضِي لذَلِك طبعا بِإِذن الله ومشيئة وَمرَاده وَيدل على امران

أَحدهمَا ورد الْخَبَر بِهِ فَفِي الحَدِيث أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ جَالِسا ذَات يَوْم وقدامه قوم يصنعون شَيْئا كرهه من كَلَامهم وَلَفْظهمْ فَقيل يَا رَسُول الله إِلَّا تنهاهم فَقَالَ لَو نهيتم عَن الْحجُون لَا وَشك بَعضهم أَن يَأْتِيهِ وَلَيْسَ لَهُ حَاجَة قَالَ الْخطابِيّ قد اخبر صلى الله عليه وسلم بِهَذَا القَوْل أَن الشَّرّ طباع فِي النَّاس وان الْخلاف عَادَة لَهُم وحض بذلك على شدَّة الحذر مِنْهُم وَقلة الثِّقَة بهم

الثَّانِي وجود ذَلِك بالعيان قَالَ بعض الْعلمَاء أَن من النَّاس من يولع بِالْخِلَافِ أبدا حَتَّى يرى انه افضل الْأُمُور وان لَا يُوَافق احدا وَلَا يجمع مَعَه على أَمر وَرَأى وَلَا يواتيه على صُحْبَة وَمن كَانَ هَذِه عَادَته فَإِنَّهُ لَا ينصر الْحق وَلَا يَعْتَقِدهُ دينا ومذهبا إِنَّمَا يتعصب لرأيه وينتقم لنَفسِهِ وَيسْعَى فِي مرضاتها حَتَّى انك أَن رمت تترضاه وتوخيت أَن توافقه على الرَّأْي الَّذِي يَدْعُوك اليه تعمد إِلَى خِلافك فِيهِ وَلَا يرضى حَتَّى ينْتَقل لنقيض قَوْلك وَقَوله الأول

فَإِن عدت فِي ذَلِك إِلَى وفاقه عَاد فِيهِ إِلَى خِلافك قَالَ الْخطابِيّ فَمن كَانَ فِي هَذِه الْحَال فَعَلَيْك بمباعدته والنفار عَن قربه فَإِن رِضَاهُ غَايَة لَا تدْرك ومدى شأوه لَا يلْحق

ص: 437

حِكَايَة قَالَ الزّجاج كُنَّا عِنْد الْمبرد فَوقف علينا رجل فَقَالَ أَسأَلك عَن مَسْأَلَة من النَّحْو قَالَ لَا فَقَالَ اخطأت فَقَالَ يَا هَذَا كَيفَ اكون مخطئا أَو مصيبا وَلم اجبك عَن الْمَسْأَلَة فَأقبل عَلَيْهِ اصحابه يعنفونه فَقَالَ لَهُم خلوا سَبيله وَلَا تعرضوا لَهُ انا اخبركم بِقِصَّتِهِ هَذَا الرجل وَهُوَ انه يحب الْخلاف وَخرج من بَيته وقصدني على أَن يخالفني فِي كل شَيْء اقوله ويخطئني فَسبق لِسَانه بِمَا كَانَ فِي ضَمِيره

عاطفة

من اثر الشَّرّ الطبيعي فِي النَّاس تعدِي الظُّلم بِهِ والاذاية إِلَى الابرياء وَذَوي الْحُقُوق عَلَيْهِم

قَالَ بعض الْحُكَمَاء الشَّرّ فِي النَّاس طباع وَحب الْخلاف لَهُم عَادَة والجور فيهم سنة وَلذَلِك تراهم يُؤْذونَ من لَا يؤذيهم ويظلمون من لَا يظلمهم ويخالفون من ينصحهم

وَقَالَ الاصمعي قيل لرجل لم توذي جيرانك قَالَ فَمن اوذي أَو اوذي من لَا اعرف وانشد الْخطابِيّ لبَعْضهِم

(وَمَا أَنْت إِلَّا ظَالِم وَابْن ظَالِم

لانك من اولاد حوا وآدَم)

(فَلَو كنت مثل الْقدح الفيت قَائِلا

أَلا مَا لهَذَا الْقدح لَيْسَ بقائم)

(وَلَو كنت مثل النصل الفيت قَائِلا

إِلَّا مَا لهَذَا النصل لَيْسَ بصارم)

قَالَ وَسُئِلَ بَعضهم مَتى يسلم الانسان من النَّاس قَالَ إِذا لم يكن فِي خير وَلَا شَرّ قيل وَمَتى يكون كَذَلِك قَالَ إِذا مَاتَ قَالَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَهُوَ حَيّ إِمَّا أَن يكون خيرا فالاشرار يعادونه واما أَن يكون شريرا

ص: 438

فالاخيار يمقتونه والمثل فِي قديم الدَّهْر مَا لَقِي النَّاس من النَّاس

(وَمن ذَا الَّذِي ينجو من النَّاس سالما

وَلِلنَّاسِ قيل بالظنون وَقَالَ)

قلت وَمن ثمَّ تعد السَّلامَة مِنْهُم أَن امكنت على اغرب نَادِر سَعَادَة مُعجلَة فقد رُوِيَ عَن حسان انه قَالَ احْفَظُوا عني هَذَا الْبَيْت

(وان امرء امسى واصبح سالما

من النَّاس إِلَّا مَا جنى لسَعِيد)

الْمُقدمَة السَّابِعَة

فَسَاد الزَّمَان واهله مشهود بِهِ من جِهَتَيْنِ

الْجِهَة الأولى مَجِيء الاعلام بِهِ وَهُوَ نَوْعَانِ

أَحدهمَا الْأَخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِق المصدوق كَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم يذهب الصالحون الأول فَالْأول وَتبقى حثالة كحثالة الشّعير لَا يُبَالِي الله بهم

قَالَ الْخطابِيّ حثالة الشّعير رذالته وَمَا لَا خير فِيهِ مِنْهُ يَقُول كَمَا لَا يُؤْكَل مَا يبْقى من حثالة الشّعير كَذَلِك لَا يصحب من يبْقى من النَّاس فِي آخر الزَّمَان

وَالثَّانِي آثَار عَن السّلف الْكَرِيم كَقَوْل أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه ذهب النَّاس وَبَقِي النسناس فَقيل لَهُ وَمَا النسناس قَالَ يشبهون بِالنَّاسِ وَلَيْسوا بناس وكتمثيل عَائِشَة رضي الله عنها بقول لبيد

ص: 439

(ذهب الَّذين يعاش فِي اكنافهم

بقيت فِي خلف كَجلْد الاجرب)

(يتحدثون مجانة وملاذة

ويعاب قَائِلهمْ وان لم يشغب)

ثمَّ تَقول وَيْح لبيد لَو اِدَّرَكَ هَذَا الزَّمَان وَكَذَا قَالَ الرَّاوِي عَنْهَا ثمَّ كَذَلِك مسلسلا

حِكَايَة

التشكي من ذَلِك روى الْخطابِيّ عَن أبي داحة قَالَ خرج الينا يَعْقُوب بن دَاوُود وَزِير الْمهْدي وَنحن على بَابه فَقَالَ مَا صدر هَذَا الْبَيْت

(ومحترس من مثله وَهُوَ حارس

)

فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ سَأَلَ عَنهُ فَلم يكن عِنْد وَاحِد منا جَوَاب قَالَ قلت انا اخبرك بِهِ قَالَ ابْن داحة

(اقلي على اللوم يَا أم مَالك

وذمي زَمَانا سَاد فِيهِ الفلافس)

(وساع مَعَ السُّلْطَان لَيْسَ بناصح

ومحترس من مثله وَهُوَ حارس)

قَالَ والفلافس رجل من أهل الْكُوفَة من بني نهشل بن دارم وَكَانَ على شَرط القباع بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ فِيهِ الاشهب بن رميلة النَّهْشَلِي

ص: 440

(يَا جَارة يَا ابْن أبي ربيعَة انه

يَخْلُو إِذا اخْتَلَط الظلام وَيشْرب)

(جعل الفلافس حاجبين لبابه

سُبْحَانَ من جعل الفلافس يحجب)

الْجِهَة الثَّانِيَة

وُقُوع اثره وجودا من ابلغ مَا يعرف بِهِ وصفان

الْوَصْف الأول قَالَ الْخطابِيّ قَرَأت لمنصور بن عمار فِي صفة الزَّمَان قَالَ تغير الزَّمَان حَتَّى كل عَن وَصفه اللِّسَان وامسى خربا بعد حداثته شرسا بعد لينه يَابِس الضَّرع بعد غزارته ذابل الفرغ بعد نضارته ناحل الْعود بعد رطوبته بشع المذاق بعد عذوبته فَلَا تكَاد ترى لبيبا إِلَّا ذَا كمد وَلَا ظريفا واثقا بِأحد وَلَا أصبح لَهُ حليفا إِلَّا جَاهِل وَلَا امسى بِهِ قرير الْعين إِلَّا غافل فَمَا بَقِي من الْخَيْر إِلَّا الِاسْم وَلَا من الدّين إِلَّا الرَّسْم وَلَا من التَّوَاضُع إِلَّا المخادعة وَلَا من الزهادة إِلَّا الانتحال وَلَا من الْمُرُوءَة إِلَّا غرور اللِّسَان وَلَا من الْأَمر بالمعورف وَالنَّهْي عَن الْمُنكر إِلَّا حمية النَّفس وَالْغَضَب لَهَا فَيطلع الْكبر مِنْهَا وَلَا من الاستفادة إِلَّا التعزز والتبجيل والتحلي وَلَا من الافادة إِلَّا الترأس والتجلل فالمغرور المائق والمذموم عِنْد الْخَلَائق والنادم من العواقب

ص: 441

المحطوط عَن الْمَرَاتِب من اغْترَّ بِالنَّاسِ وَلم يحسم رجاؤه باليأس وَلم يطْلب قلبه بِشدَّة الاحتراس فالحذر الحذر من النَّاس فقد اقل النَّاس وَبَقِي النسناس ذئاب عَلَيْهِم ثِيَاب أَن استردفتهم حرموك وان استنصرتهم خذلوك وان استنصحتهم غشوك وان عاملتهم غبنوك وان غبت عَنْهُم اغتابوك أَن كنت شريفا حسدوك وان كنت وضيعا حقروك وان كنت عَالما ضللوك وبدعوك وان كنت جَاهِلا عيروك وَلم يرشدوك وان نطقت قَالُوا مهذار حَدِيد وان سكت قَالُوا عيي بطيء بليد وان تعقت قَالُوا متكلف متعمق وان تغافلت قَالُوا جَاهِل احمق فمعاشرتهم دَاء وشقاء ومزايلتهم دَوَاء وشفاء وَلَا بُد أَن يكون فِي الدَّوَاء كَرَاهَة ومرارة فاختر الدَّوَاء بمرارته وكراهته على الدَّاء بغائلته وآفاته وَالله الْمُسْتَعَان

الْوَصْف الثَّانِي

روى الْخطابِيّ عَن الْحسن انه قَالَ اعلموا أَن النَّاس شَجَرَة لظى وفراش نَار ودبان طمع أَن الدُّنْيَا فتحت على أَهلهَا كلبوا وَالله عَلَيْهَا اسوا الْكَلْب حَتَّى عدا بَعضهم على بعض بِالسُّيُوفِ واستحل بَعضهم حُرْمَة بعض تخالفوا على شجنه كسببوها من كل

ص: 442

حرَام وانفقوها فِي كل شَرّ وطبقوا الأَرْض ظلما قَاتلهم الله وَهُوَ قَاتلهم اتَّخذُوا عباد الله خولا وَاتَّخذُوا هَذَا المَال دولا سُبْحَانَ الله مَا لقِيت هَذِه الْأمة من مُنَافِق قهرهم واستأثر عَلَيْهِم وَمن صَاحب بِدعَة خرج عَلَيْهِم بِسَيْفِهِ صنفان حثيثان قد عَمَّا على كل مُؤمن من اعلاج عجم واعرابي لَا فقه لَهُ وَلَا دين ومنافق مكذب وامير مترف نعق بهم ناعق وَخَرجُوا يسعون مَعَه فرَاش نَار وذبان طمع يَبِيع اقوام دينهم بِثمن بخس من مَاتَ إِلَى النَّار وَمن عَاشَ عَاشَ فِي شَرّ ظهر الْجفَاء وَقل الْعلمَاء وَذهب الْحيَاء وفشت النكراء ذهب الصالحون وَبَقِي خشارة كخشارة الشّعير لَا يُبَالِي الله بهم باله انْتهى

الْمُقدمَة الثَّامِنَة

اخْتِلَاف طَبَقَات النَّاس فِي الْخلق والسجايا ناشيء عَن مُقْتَضى مَا خلقُوا مِنْهُ ونسبوا اليه وَيدل عَلَيْهِ خبران

أَحدهمَا قَوْله صلى الله عليه وسلم أَن الله تَعَالَى خلق آدم من قَبْضَة قبضهَا من جَمِيع الأَرْض فجَاء بَنو آدم على قدر الأَرْض مِنْهُم الاحمر والاسود والابيض والسهل والحزن والخبيث وَالطّيب

ص: 443

قَالَ الْخطابِيّ قد بَين صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا القَوْل أَن النَّاس اصناف وطبقات وانهم إِلَى تفَاوت فِي الطباع والاخلاق فيهم الْخَيْر الْفَاضِل الَّذِي ينْتَفع بِصِحَّتِهِ وَمِنْهُم الرَّدِيء النَّاقِص الَّذِي يتَضَرَّر بِقُرْبِهِ وعشرته كَمَا أَن الأَرْض مُخْتَلفَة الْأَجْزَاء وَالتُّرَاب فَمِنْهَا العذاة الطّيبَة الَّتِي يطيب نباتها ويزكو ربيعها وَمِنْهَا السباخ الخبيثة الَّتِي تضيع بذرها ويبيد زرعه وَمَا بَين ذَلِك حسب مَا يُوجد مِنْهَا حسا ويشاهد عيَانًا

الثَّانِي قَوْله صلى الله عليه وسلم النَّاس معادن قَالَ

ص: 444

الْخطابِيّ وَفِي هَذَا القَوْل أَيْضا بَيَان أَن اخلاق النَّاس غرائز فيهم كَمَا أَن الْمَعَادِن ودائع مركوزة فِي الأَرْض فَمِنْهَا الْجَوْهَر النفيس وَمِنْهَا الفلز الخسيس كَذَلِك ظواهر النَّاس وطباعهم مِنْهَا الزكي الرضى وَمِنْهَا النَّاقِص الدني وَإِذا كَانُوا كَذَلِك كَانَ الْأَمر فِي العيان مِنْهُم مُشكلا اَوْ اسْتِبْرَاء الْعَيْب فيهم متعذرا فالحزم إِذا الامساك عَنْهَا والتوقف عَن مداخلتهم إِلَى أَن تنكشف المحنة أَن اسرارهم وبواطن امورهم فَيكون عِنْد ذَلِك اقدام على خبْرَة وماحجام عَن بَصِيرَة

قَالَ ولعلك إِذا خبرتهم قليتهم وَإِذا عرفتهم انكرتهم إِلَّا من يخصهم الثَّنَاء وَقَلِيل مَا هم

استظهار

أورد هُنَا اسْتِدْلَالا على مَا ذكر مَا روى بِسَنَدِهِ إِلَى أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم اخبر تقله

ص: 445

وثق النَّاس رويدا ثمَّ قَالَ سَمِعت شَيخنَا أَبَا بكر الْقفال يَقُول لَوْلَا انه قد قيل اخبر تقله لَقلت انا اقله تخبر

تَفْرِيع

ترَتّب على هَذِه الْمُقدمَة مَا سبقت الاشارة اليه فِي صُورَة الْبَاب الأول من الْكتاب الثَّانِي أَن الَّذِي تسهل بِهِ صُحْبَة الْخلق انزالهم منزلَة الْحَيَوَان الْمُشبه بهم فِي الْخلق ليحلق بِهِ الْمُعَامَلَة وان اصل التَّنْبِيه على ذَلِك لِسُفْيَان ابْن عُيَيْنَة فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم} كَمَا يشْهد لَهُ الخبران المتقدمان

ص: 446

قَالَ عَنهُ الْخطابِيّ مَا فِي الأَرْض آدَمِيّ إِلَّا وَفِيه شبه من شبه الْبَهَائِم فَمنهمْ من يهتصر اهتصار الاسد وَمِنْهُم من يعدو عَدو الذِّئْب وَمِنْهُم من ينبح نباح الْكلاب وَمِنْهُم من يتطوس كَفعل الطاووس وَمِنْهُم من يشبه الْخَنَازِير الَّتِي لَو القى اليها الطَّعَام الطّيب عافته فَإِذا قَامَ الرجل عَن رجيعه ولغت فِيهِ وَكَذَلِكَ تَجِد الادميين من لَو سمع خمسين كلمة لم يحفظ وَاحِدَة مِنْهَا وان اخطأ رجل عَن نَفسه أَو حكى خطأ غَيره ترواه وَحفظه

تَسْلِيم

قَالَ الْخطابِيّ مَا احسن مَا تَأَول أَبُو مُحَمَّد هَذِه الاية واستنبط مِنْهَا هَذِه الْحِكْمَة

قَالَ وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَاعْلَم يَا اخي انك إِنَّمَا تعاشر الْبَهَائِم وَالسِّبَاع فَلْيَكُن حذرك مِنْهُم ومباعدتك اياهم على حسب ذَلِك

قَالَ وَلأَجل ذَلِك رأى الْحُكَمَاء أَن السَّلامَة من آفَات السبَاع الضارية والخلاص مِنْهَا اسهل من السَّلامَة من شَرّ النَّاس ثمَّ انشد للشَّافِعِيّ رَحمَه الله

ص: 447

(لَيْت الْكلاب لنا كَانَت مجاورة

واننا لَا نرى مِمَّن نرى احدا)

(أَن الْكلاب لتهدي فِي مواطنها

وَالنَّاس لَيْسَ بهاد شرهم أبدا)

(فاحتل لنَفسك فِي تغريدها أبدا

تعش سعيدا إِذا مَا كنت مُنْفَردا)

قَالَ وَنَحْو هَذَا قَوْله

(شَرّ السبَاع الضواري دونه وزر

وَالنَّاس شرهم مَا دونه وزر)

(كم معشر سلمُوا لم يؤذهم سبع

وَلم نرا بشرا لم يوذه بشر)

ص: 448

قَالَ روينَا عَن الشَّافِعِي انه قَالَ مَا اشبه هَذَا الزَّمَان إِلَّا بِمَا قَالَ تأبط شرا

(عوى الذِّئْب فاستأنست بالذئب إِذْ عوى

وَصَوت انسان فكدت مِنْهُ اطير)

فَائِدَة

قَالَ وسأفيدك يَا أخي فَائِدَة يجل نَفعهَا وتعظم عائدتها وَمَا اقولها إِلَّا عَن ودك وشفقة عَلَيْك فَإِن الْبلوى ف يمعاشرة أهل زَمَانك عَظِيمَة فَاسْتَعِنْ بِاللَّه على مَا يلقاك من اذاهم فَإنَّك لن تَخْلُو من قَلِيله وان سلمت من كَثِيره وَذَلِكَ انك قد ترى الْوَاحِد بعد الوماحد مِنْهُم يتكالب على النَّاس ويتسفه على اعراضهم وينبح فيهم نباح الْكلاب فيهمك من شَأْنه مَا يهمك وتود مِنْهُ أَن لَا يكون رجلا فَاضلا يُرْجَى خَيره ويؤمن شَره فَيطول فِي امْرَهْ فكرك ويدوم بِهِ شغل قَلْبك فازح هَذَا الْعَارِض عَن نَفسك بِأَن تعده على الْحَقِيقَة كَلْبا خلقَة وجهلة وزد بِهِ فِي عدد الْكلاب وَاحِدًا أَو لَعَلَّك قد مَرَرْت مرّة من

ص: 449

المرات بكلب من الْكلاب ينبح ويعوي وَرُبمَا كَانَ أَيْضا قد تساور وتقهقر فَلم تحدث نَفسك فِي امْرَهْ أَن يعود انسانا ينْطق وينبح وَلم تتأسف لَهُ أَن لَا يكون دَابَّة تركب أَو شَاة تحلب فَاجْعَلْ هَذَا المتكلب كَلْبا مثله واسترح من شغله وارح مئونة الْفِكر فِيهِ وَكَذَلِكَ فَلْيَكُن عنْدك بِمَنْزِلَة من جهل حَقك وَكفر مَعْرُوفك فاحسبه حمارا أَو زد بِهِ فِي عدد الْحمير وَاحِدًا فبمثل هَذَا تتخلص من آفَة هَذَا الْبَاب وغائلته وَكَثْرَة الْمَلَامَة وَالله الْمُسْتَعَان

الْمُقدمَة التَّاسِعَة

فَسَاد الْخَاصَّة من النَّاس وَاقع بِحَسب الانذار بِهِ لَا محَالة وَذَلِكَ فِي صنفين

الصِّنْف الأول الْعلمَاء المسممون لاستحكام فسادهم بعلماء السوء وَمن الْوَارِد بذلك مِنْهُم خبران

أَحدهَا قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيح أَن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا ينتزعه من النَّاس وَلَكِن يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء فَإِذا لم يبْق عَالم اتخذ النَّاس رؤوسا جُهَّالًا فسئلوا فافتوا بِغَيْر علم فضلوا واضلوا

ص: 450

قَالَ الْخطابِيّ قد اعْلَم صلى الله عليه وسلم أَن آفَة الْعلم ذهَاب اهله وانتحال الْجُهَّال لَهُ وترؤسهم على النَّاس باسمه وحذر النَّاس أَن يقتدوا بِمن كَانَ من أهل هَذِه الصّفة وَاخْبَرْ انهم ضلال مضلون

الثَّانِي قَول ابْن مَسْعُود رضي الله عنه كَيفَ بكم إِذا البستكم فتْنَة يَرْبُو فِيهَا الصَّغِير ويهرم فِيهَا الْكَبِير وتتخذ سنة فَإِن غيرت يَوْمًا قلت هَذَا مُنكر قَالُوا وَمَتى ذَلِك يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن قَالَ ذَلِك إِذا قلت امناؤكم وَكثر امراؤكم وَقلت فقهاؤكم وتفقه لغير الدّين والتمست الدُّنْيَا بِعَمَل الاخرة

تَعْرِيف روى عَن الْحسن انه قَالَ طلاب هَذَا الْعلم ثَلَاثَة اصناف من النَّاس فاعرفوهم بصفاتهم فصنف تعلموه للمراء والجدل وصنف تعلموه للاستطالة والختل وصنف تعلموه للتفقه وَالْعقل فَصَاحب المراء والجدال متعرض لِلْقِتَالِ فِي اندية الرِّجَال يذاكر الْعلم بخفة الْحلم قد تسربل الجشع وتبرأ من الْوَرع فدق الله من هَذَا خيشومه وَقطع مِنْهُ الحزم حيزومه وَصَاحب الاستطالة والختل ذُو خب وملق

ص: 451

يستطيل على اشباهه من امثاله فيختلهم بخلع حليته فَهُوَ لحلوانهم هاضم ولدينه حاطم فاعمى الله عَن هَذَا خَبره وَقطع من آثَار الْعلمَاء اثره وَصَاحب التفقه وَالْعقل ذُو كآبة وحزن قد تنحى عَن فرشه وَقَامَ اللَّيْل فِي حندسه يعْمل ويخشع قد ازكتاه يَدَاهُ واعمرتاه رِجْلَاهُ فَهُوَ مقبل على شَأْنه عَارِف بِأَهْل زَمَانه قد استوحش من كل ثِقَة من اقرانه فَشد الله من هَذَا اركانه واعطاه يَوْم الْقِيَامَة امانه

الصِّنْف الثَّانِي الامراء الموصوفون لتحَقّق فسادهم بأمراء الْجور وَمن الانذار بذلك خبران

أَحدهمَا قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيح انكم سَتَرَوْنَ بعد اثره وامورا تنكرونها قَالُوا فَمَا تَأْمُرنَا بِهِ يَا رَسُول الله قَالَ ادوا اليهم حَقهم واسألوا الله حقكم

الثَّانِي قَوْله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجْرَة اعاذك الله من امارة السُّفَهَاء فَقَالَ وَمَا امارة السُّفَهَاء قَالَ امراء يكونُونَ من بعدِي لَا يَهْتَدُونَ بهديي وَلَا يستنون بِسنتي فَمن صدقهم بكذبهم واعانهم على ظلمهم فَأُولَئِك لَيْسُوا مني وَلست مِنْهُم وَلَا يردون على حَوْضِي وَمن لم

ص: 452

يُصدقهُمْ وَلم يُعِنْهُمْ على ظلمهم فولئك مني وَأَنا مِنْهُم وسيردون على حَوْضِي يَا كَعْب بن عجْرَة النَّاس غاديان فمبتاع نَفسه فمعتقها وبائع نَفسه فموبقها رَوَاهُ الْأَمَام احْمَد وَاللَّفْظ لَهُ

اعلام

فَسَاد اخذ هذَيْن الصِّنْفَيْنِ ملازم فِي الْوُجُود لفساد الصِّنْف الآخر غَالِبا وَمن ثمَّ يتضاعف بهما محنة النَّاس وافاتهم فَمن كَلَام أبي مَرْوَان بن حَيَّان فِي ذَلِك وَلم تزل آفَة النَّاس مُنْذُ خلقُوا فِي صنفين مِنْهُم هم كالملح فيهم الامراء وَالْفُقَهَاء قَلما تتنافر فِي اشكالهم بصلاحهم يصلحون وبفسادهم يردون

قَالَ فقد خص الله سُبْحَانَهُ هَذَا الْقرن الَّذِي نَحن فِيهِ من اعوجاج هذَيْن الصِّنْفَيْنِ لدينا بِمَا لَا كفاء لَهُ وَلَا مخلص مِنْهُ فالامراء القاسطون قد نكبوا بهم عَن نهج الطَّرِيق ذيادا عَن الْجَمَاعَة وجريا إِلَى الْفرْقَة وَالْفُقَهَاء ائمتهم صموت وصرفوا عَمَّا اكده الله عَلَيْهِم من التَّبْيِين لَهُم قد اصبحوا بَين آكل من حلوائهم وخابط فِي اهوائهم وَبَين مستشعر مخافتهم اخذا بالتقية فِي صدقهم

قَالَ فَمَا القَوْل فِي ارْض فسد ملحها الَّذِي هُوَ المصلح لجَمِيع اغذيتها هَل هِيَ إِلَّا مشفية على بوارها واستئصالها

قلت قَالَ الْغَزالِيّ مُشِيرا إِلَى مَا ينظر إِلَى هَذَا الْمَعْنى وَلذَلِك قيل مَا

ص: 453

فَسدتْ الرّعية إِلَّا بِفساد الْمُلُوك وَلَا فَسدتْ الْمُلُوك إِلَّا بِفساد الْعلمَاء

الْمُقدمَة الْعَاشِرَة

الْقَصْد فِي المخالطة وَالْعُزْلَة هُوَ الْمَحْمُود فِي الْجُمْلَة وَفِيه عِبَارَات تحوم على لُزُوم التَّوَسُّط بِهِ بَين طرفِي افراط ذَلِك وتفريطه

أَحدهمَا قَول اكثم بن صَيْفِي الانقباض عَن النَّاس مكسبة للعداوة ومعرفتهم مكسبة لقرين السوء فَكُن للنَّاس بَين المنقبض والمقارب فَإِن خِيَار الْأُمُور اوسطها

الثَّانِيَة قَول وهب بن مُنَبّه لَو هيب بن الْورْد وَقد قَالَ لَهُ أَنِّي أُرِيد أَن اعتزل النَّاس فَقَالَ لَهُ لَا بُد لَك من النَّاس وَلَا بُد للنَّاس مِنْك لَك اليهم حوائج وَلَهُم اليك حوائج وَلَكِن كن فيهم اصم سميعا اعمى بَصيرًا سكُوتًا ونطوقا

الثَّالِثَة قَول ابْن مَسْعُود رضي الله عنه خالط النَّاس وزايلهم وَدينك لَا تكلمنه

قَالَ الْخطابِيّ يُرِيد خالطهم ببدنك وزايلهم بقلبك

قَالَ وَلَيْسَ هَذَا من بَاب النِّفَاق بل من بَاب المدارات وَهِي صَدَقَة كَمَا فِي الحَدِيث

ص: 454

الرَّابِعَة قَول مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة رضي الله عنه من لم يعاشر بِالْمَعْرُوفِ من لَا يجد لَهُ من معاشرته بدا يَجْعَل الله لَهُ فرجا ومخرجا

قلت فِي مَعْنَاهُ قَالَ المتنبي

وَمن نكد الدُّنْيَا على الْحر أَن يرى

عدوا لَهُ مَا من صداقته بُد

الْخَامِسَة

قَالَ الْخطابِيّ الطَّرِيقَة المثلى فِي هَذَا الْبَاب أَن لَا تمْتَنع من حق يلزمك للنَّاس وان لم يطالبوك بِهِ وان لَا تنهمك لَهُم فِي بَاطِل لَا يجب عَلَيْك وان دعوك اليه وان من اشْتغل بِمَا لَا يعنيه فَاتَهُ مَا يعنيه وَمن انحل فِي الْبَاطِل جمد عَن الْحق وَكن مَعَ النَّاس فِي الْخَيْر وَكن بمعزل عَنْهُم فِي الشَّرّ وتوخ أَن تكون فيهم شَاهدا كغائب وعالما كجاهل

قَالَ وانشد أَبُو زيد فِي الْمَعْنى

(إِذا مَا عممت النَّاس بالانس لم تزل

لصَاحب سوء مستفيدا وكاسبا)

(وان تقصهم يرموك عَن سهم بغضة

فَكُن خالطا أَن شِئْت أَو كن مجانبا)

(فَلَا تدنون مِنْهُم وملا تقصينهم

وَلَكِن امرا بَين ذَاك مقاربا)

عاطفة رُجُوع

إِذا تقررت هَذِه الْمُقدمَات فَقَالُوا مَنْفَعَة هَذِه السياسة فِي امرين

أَحدهمَا السَّلامَة من النَّاس والاخرة اسْتِخْرَاج الْمَنَافِع مِنْهُم وجوامع مَا يحصل بِهِ ذَلِك ملخص فِي مسَائِل

ص: 455

الْمَسْأَلَة الأولى

فِي ملك اللِّسَان وملاكه عَن خطرين قَاتل كَمَا قيل اللِّسَان كالسبع أَن لم توثقه عدا عَلَيْك وَقَالَ

(واحفظ لسَانك ايها الانسان

لَا يلدغنك انه ثعبان)

(كم فِي الْمَقَابِر من قَتِيل لِسَانه

كَانَت تهاب لقاءه الشجعان)

ومفسدكما قيل لَا تفسدن لسَانك فَيفْسد عَلَيْك شَأْنك

وَقَالَ

0 -

احفظ لسَانك أَن تَقول فتبتلي

أَن الْبلَاء مُوكل بالْمَنْطق)

الْخطر الأول الْقَاتِل واسرعه بذلك امران كَلَام فِي الشَّرْع بِمَا يُخَالِفهُ وخوض فِي السُّلْطَان بِمَا يغضبه

الْأَمر الأول الْكَلَام فِي الشَّرْع وَذَلِكَ باحدى مَحْظُورَات أَحدهَا مُخَالفَة السّنة اعتقادا أَو عملا على وَجه قريب أَو بعيد

قلت إِمَّا الْقَرِيب وخصوصا فِي القطعيات فَظَاهر والنظريات قد يَنْتَهِي بشؤم الانحراف فِيهَا عَن نهج الطّرق السّنيَّة إِلَى توقع ذَلِك الْمَحْظُور وَفِي الْوَاقِع من ذَلِك مَا فِيهِ عِبْرَة الثَّانِي دَقِيق الْكَلَام فِي تَفْسِير قُرْآن أَو حَدِيث وخصوصا أَن كَانَ مذهبا لِذَوي ضَلَالَة

ص: 456

قلت وَلَيْسَ هَذَا لأجل السَّلامَة من النَّاس فَقَط بل ولمفسدة الْكَلَام مَعَهم بِمَا لَا يفهمون وَالنَّهْي عَنهُ مُقَرر فِي موَاضعه واقل مَا فِيهِ حَدِيث السَّلامَة من الْقدح فِي الدّيانَة مَا اشار اليه ابْن الرُّومِي فِي قَوْله

(غموض الْأَمر حِين يذب عَنهُ

يقلل نَاظر القَوْل المحق)

(تجل عَن الدَّقِيق عقول قوم

فَيَقْضِي للمجل من المدق)

الثَّالِث ذكر أَسمَاء الفلاسفة فضلا عَن الْخَوْض فِي شَيْء فِي علومهم فِي مَلأ من النَّاس أَو مَعَ وَاحِد مِنْهُم

قلت وَلَا يفهم من هَذَا التحفظ انه لمُجَرّد سد بَاب التُّهْمَة خَاصَّة بل الْحق أَن الفلسفة مَعَ مضرتها بِالدّينِ بَاطِلَة فِي نَفسهَا لما تقرر إِنَّهَا غير وافية بِالْقَصْدِ الْمُدَّعِي فِيهَا وَلَا كَافِيَة فِي معرفَة السَّعَادَة الْمَوْعُود بهَا بعد الْمَوْت والناظر فِيهَا بِشَرْطِهِ لَهُ غَرَض آخر غير مَا يظنّ من حسن فِيهَا الِاعْتِقَاد وضل بهَا عَن سَوَاء السَّبِيل وَبسط ذَلِك لَا يَلِيق بالموضع

الْأَمر الثَّانِي الْخَوْض فِي السُّلْطَان وَذَلِكَ بِأحد اسباب مهلكة

ص: 457

أَحدهَا ذكره بِسوء فِي نَفسه أَو فِيمَا هُوَ من سَببه أَن كَانَ حَقًا وَمن مُبَالغَة التحفظ فِي ذَلِك أَن يعلم مِنْك انك لَا تَأْخُذ فِي شَيْء من ذمه كَأَنَّهُ لَيْسَ فِي طباعك إِلَّا مَعَ ثِقَة وَقَلِيل مَا هم الثَّانِي مُشَاهدَة المواطن الْمَذْكُور فِيهَا بِمَا يكره وَمن الْوَاجِب فِي ذَلِك أَن يبعد فِي الْهَرَب والبعد على الْمُشَاركَة طلبا للسلامة

الثَّالِث مصاحبة الْمُتَّهم عِنْده باضمار الانحراف عَنهُ أَو يتَوَقَّع مصيره إِلَى ذَلِك خوف أَن يظنّ بِهِ مثل ذَلِك إِذْ الْمَرْء على دين خَلِيله

الْخطر الثَّانِي الْمُفْسد وَذَلِكَ امران أَحدهَا وَهُوَ اشهدهما سبّ النَّاس والتعرض لَهُم فَإِنَّهُ جالب عدواتهم ومثير مطالبتهم بالمعارضة عَلَيْهَا

قلت وَمن كَلَام مَالك رحمه الله ادركت اقواما كَانَت لَهُم عُيُوب فَسَكَتُوا عَن عُيُوب النَّاس فَسكت النَّاس عَن عيوبهم وادركت اقواما لم تكن لَهُم عُيُوب فتكلموا فِي النَّاس فأحدث النَّاس لَهُم عيوبا

وَصِيَّة

قَالُوا وَلَا تقارض عَلَيْهِ من واجهه بِهِ فالدنيا احقر والعمر اقصر من اشْتِغَال رفيع الهمة بعداوة من السب ارْفَعْ مِنْهُ بعداوة من واجهه بِمَا يكره

قلت وَقد سبق فِي الْمُقدمَة الثَّامِنَة مَا قرر الْخطابِيّ فِي ذَلِك

الثَّانِي كلمة سخيفة يسْقط بهَا قَائِلهَا وان لم يعد على أحد والسلامة مِنْهَا وَمن كل كَلَام ضار إِنَّمَا هُوَ بأمرين قِرَاءَة الاداب الدَّالَّة على فرق مَا

ص: 457

بَين الْكَلَام الغث والسمين وتعود ترك الْكَلَام إِلَّا بعد التروي فِيمَا يَلِيق أَن يتَكَلَّم بِهِ أَو يمسك عَنهُ

فَائِدَة

مِمَّا يستعان بِهِ على السَّلامَة من اللِّسَان طلبا للسلامة من النَّاس مُلَاحظَة امرين أَحدهمَا النجَاة من ملك مَا يتَكَلَّم بِهِ فَعَن الشَّافِعِي انه قَالَ للربيع من اصحابه يَا ربيع لَا تَتَكَلَّم فِيمَا لَا يَعْنِيك فَإنَّك إِذا تَكَلَّمت بالكلة مَلكتك وَلم تَملكهَا

الثَّانِي ستر الْعُيُوب عَنْهُم بِالصَّمْتِ قَالَ النَّوَوِيّ بلغنَا أَن قس بن سَاعِدَة واكثم بن سَاعِدَة واكثم بن صَيْفِي اجْتمعَا فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه كم وجدت فِي ابْن آدم من الْعُيُوب قَالَ هِيَ اكثر من أَن تحصى وَالَّذِي احصيته ثَمَانِيَة الاف عيب وَوجدت خصْلَة وَاحِدَة أَن استعملها سترت الْعُيُوب كلهَا قَالَ وَمَا هِيَ قَالَ حفظ اللِّسَان

قلت وَفِي مَعْنَاهُ قَالَ ابْن الجزار

(اياك من زلل اللِّسَان فَإِنَّمَا

عقل الْفَتى من لَفظه المسموع)

(فالمرء يختبر الاناء بنقره

فَيرى الصَّحِيح بِهِ من المصدوع)

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة

فِي ملك الْحَواس واهمها العينان لوَجْهَيْنِ

أَحدهمَا اسْتِدْلَال النَّاس خَاصَّة وَعَامة على مُضْمر النَّاظر بهما كنظره إِلَى الْوُجُوه الحسان من ذكر أَو أُنْثَى وَلَو كالتفاتة لحظ

ص: 459

الثَّانِي وَهُوَ سَبَب عَن ذَلِك حكمهم عَلَيْهِ بِمَا كَانَ فِي غنى عَنهُ ومستورا فِيمَا ينطوي عَلَيْهِ جنانه

قلت وَاقْتصر هُنَا على ملك هَذِه الحاسة دون اخواتها لَان غَرَض هَذِه السياسة إِنَّمَا هُوَ اصلاح الظَّاهِر فَقَط ومدركات بَاقِي الْحَواس لَا يكون بِحَضْرَة النَّاس فَلَا جرم لم تقع بِهِ عناية فِي الْموضع

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

فِي صُورَة الانسان بَاطِنا وظاهرا وَالْمرَاد بذلك رِعَايَة امور

أَحدهَا ملك قواه النفسانية فالغضبية عَن الحدة والحرج وَالْكبر وَجب الاستعلاء وَظُهُور الْحَسَد والعداوة والمضرة وَشبه ذَلِك والشهوانية عَن السَّبق والاستهتار واطلاق الْحَواس فِي الملاذ وترديد خسائس الشَّهَوَات على اللِّسَان وَنَحْو ذَلِك

الثَّانِي تَحْسِين مُعَامَلَته بِالْعَدْلِ والانصاف وَترك اسْتِعْمَال الْخبث وفرط الدهاء إِلَّا لحَاجَة وَاجْتنَاب الْكَذِب والمرآء والجدال والمزاح المفرط وَنَحْو ذَلِك

الثَّالِث ضبط حركاته عَمَّا يشين كالاشارة بِالْيَدِ أَو الرَّأْس أَو غير ذَلِك عِنْد الْكَلَام والعبث بنتف اللِّحْيَة وفتلها وتنقية الانف وَقتل مَا يخرج مِنْهُ بَين الاصابع وَشبه ذَلِك

الرَّابِع توسطه فِي احوال نَفسه وبدنه بَين طرفِي الافراط والتفريط باتيان الاقتصاد والميل إِلَى التستر وكتم سره والترسل فِي الْكَلَام باعتدال وَاجْتنَاب الحشو فِيهِ كسمعت وَنَحْو ذَلِك من الْكَلِمَات الْمعينَة والهذي فِي الحركات وَالْوَقار والتؤدة واتقاء مَوَاضِع الريب وتقليل الْكَلَام وَتَقْدِيره فِي كل

ص: 460

مقَام بِمَا يَلِيق بِهِ واعتدال حَرَكَة الْعين والجوارح بَين الحدة والخمود وَنَحْو ذَلِك

الْخَامِس تَزْيِين ظَاهره بِمَا يدل على المرؤة وَشرف النَّفس كنظافة الْجِسْم والاطراف والفم وقص الشَّارِب وَالظفر وَشبه ذَلِك

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

فِي احواله الْخَارِجَة عَنهُ وَالْمَذْكُور من ذَلِك سيرة اللبَاس والاولى مِنْهُ فِي اعْتِدَال التحسين لَهُ مَا جمع امور

أَحدهَا تَخْصِيص الدرجَة بِهِ أَو ترفيع الْقدر خُصُوصا أَن ترفع بِنَفسِهِ أَو كَانَ فِي دَار غربَة فَإِن الْغَرِيب ابْن ثَوْبه

الثَّانِي عدم اخلاله بمقدرة مَا لَهُ لَيْلًا يعاب من حَيْثُ قصد الْجمال فِي اعين النَّاس وتوهم السَّلامَة مِنْهُم

وَالثَّالِث توسطه فِي مرتبَة مثله وجريه على مُعْتَاد الزَّمَان وَالْمَكَان فَإِن الْخُرُوج عَن المألوف منفر وَأَيْضًا من شَأْن الْعَامَّة أَن لَا تفضل من الموجودات إِلَّا الْأَجْسَام الدُّنْيَوِيَّة والسائس يترفع فيهم بِمَا هُوَ رفيع عِنْدهم عَظِيم الْمحل فِي اعينهم فيفوز مِنْهُم بالكرامة وَقَضَاء الْحَوَائِج مَعَ السَّلامَة مِنْهُم إِذْ الضَّرُورَة دافعته اليهم

قلت وَمن المنظوم فِي الحض على استجادة الثِّيَاب فِي الْجُمْلَة قَوْله

ص: 461

(اجد الثِّيَاب إِذا اكتسيت فَإِنَّهَا

زين الرِّجَال بهَا تهاب وتكرم)

(ودع التَّوَاضُع فِي اللبَاس تحريا

فَالله يعلم مَا تكن وتكتم)

(فدنى ثَوْبك لَا يزيدك زلفة

عِنْد الْإِلَه وانت عبد مجرم)

(وبهاء ثَوْبك لَا يَضرك بعد أَن

تخشى الْإِلَه وتتقي مَا يحرم)

جَامع بَيَان

قَالُوا وقطب هَذَا الْمدَار معوله مِنْك النَّفس واعتياد التروي فِي الْأَقْوَال والافعال فَمَا وَجب اطلاقه أَو صرفه عمل عَلَيْهِ وقانون ذَلِك اطلاق الحركات لمَنْفَعَة أَو رَاحَة لَا تعقب الما أَو تستلزمه فاللذة راجحة عَلَيْهِ

قلت وعَلى شَرط مُوَافقَة الشَّرْع بِبَرَاءَة الذِّمَّة من تَبعته

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

فِي الاخوان وَالصديق مِنْهُم بِاعْتِبَار مَا لاجله الصداقة ثَلَاثَة صديق التَّعْلِيم والراحة وَالْمَنْفَعَة

الصّديق الأول صديق التَّعْلِيم وَشَرطه جودة الْفَهم معلما أَو مرافقا أَو متعلما والسلامة من الْحَسَد وَحب الْغَلَبَة وخبث الطباع والغدر والتلون والملق

قلت وَقد مر فِي رَوْضَة الاعلام من آدَاب هَذِه الصداقة مَا فِيهِ بَلَاغ واطناب بَيَان

الصّديق الثَّانِي صديق الرَّاحَة وَيَنْبَغِي فِيهِ الظّرْف وخفة الرّوح وسلامة الْجِهَة وكتم الاسرار والمحبة ولبراءة من الْحَسَد والمساعدة وَحسن الْخلق

ص: 462

قلت وَيجب على المتدين تَقْيِيد الرَّاحَة وطريقها بِمُقْتَضى مَا تبيحه الشَّرِيعَة وتطلقه وَلَا اعْتِبَار هُنَا بِكَلَام من لَا يَنْضَبِط بدي فليحذر مِنْهُ وَنحن نستعيذ بِاللَّه تَعَالَى أَن نزيد ذَلِك بتصريح أَو تلويح

الصّديق الثَّالِث صديق الْمَنْفَعَة وَيطْلب فِيهِ الْأَمَانَة والنصيحة وَالِاجْتِهَاد والمعرفة بالمنتفع بِهِ فِيهِ وَلَا احْتِيَاج إِلَى مَا وَرَاء ذَلِك مَتى احرزه وَجمعه

قلت وَتقدم أَن الخديم المستكفي بِهِ مَعَ الوثوق بغنائه كالمفقود وان المستكفي وان كَانَ غير مَأْمُون ارجح من عَكسه

تَعْمِيم الْقدر الْمُحْتَاج اليه فِي الْجَمِيع اطراح الْحَسَد والخبث والعداوة وَسُوء النِّيَّة وَالظَّن وَحب الاضرار وَالْغَلَبَة والغبن والمكالبة والاستنقاص وأصل ذَلِك كُله خبث لانفس واخفها سوء الظَّن والجميع لَهَا سم قَاتل لَا تفي بِهِ الصداقة بالعداوة وَلَا الْمَنْفَعَة بالمضرة

تَخْصِيص وَقع للخطابي فِيمَا يرجع لمعاني الصداقة الأولى تحذير بَالغ من الاغترار فِيهَا بِصُحْبَة شرار المتعلمين

ولخصه الغزال بِمَا نَصه دع الراغبين فِي صحبتك والتعليم مِنْك فَلَيْسَ لَك مِنْهُم مَال وَلَا جمال اخوان الْعَلَانِيَة اعداء السريرة إِذا لقوك تملقوك وَإِذا غبت عَنْهُم سفهوك وَمن اتاك مِنْهُم كَانَ عَلَيْك رقيبا وَإِذا

ص: 463

خرج عَلَيْك كَانَ خَطِيبًا أهل نفاق ونميمية وغل وخديعة وَلَا تغتر بإجتماعهم عَلَيْك فَمَا غرضهم الْعلم بل المَال والجاه أَن يتخذوك سلما إِلَى اوطارهم وَحِمَارًا فِي حوائجهم وان قصرت فِي غَرَض من اغراضهم كَانُوا اشد اعدائك ثمَّ يعدون ترددهم اليك دَالَّة عَلَيْك ويرونه حَقًا وَاجِبا لديك ويفرضون عَلَيْك أَن تبذل عرضك وجاهك وَدينك لَهُم فتعادي عدوهم وَتَنصر قريبهم وخادمهم ووليهم وتنتهض لَهُم سَفِيها وَقد كنت فَقِيها وَتَكون لَهُم تَابعا خسيسا بعد أَن كنت متبوعا رَئِيسا وَلذَلِك قيل اعتزال الْعَامَّة مرؤة تَامَّة

قَالَ الْغَزالِيّ وَصدق فَإنَّك ترى المدرسين فِي رق دَائِم وَتَحْت حق لَازم مِمَّن تردد إِلَيْهِم كَأَنَّهُ يرى حَقه وَاجِبا عَلَيْهِم ثمَّ مضى فِي تَقْرِير ذَلِك بِمَا فِيهِ بَلَاغ فَرَاجعه من هُنَاكَ

ارشاد الْمُسْتَعْمل مَعَ الاخوان عملان تفصيلي واجمالي

الْعَمَل التفصيلي بِحَسب طَبَقَات الصداقة فَمَعَ صديق التَّعْلِيم اسْتِعْمَال حركات س حَرَكَة الْمعلم ج // س المعلمين من غير انبساط وَلَا ميل كثير عَمَّا يلم بِهِ من ذَلِك أَن

ص: 464

سلمت طباعه وان كَانَ ساذجا سلك سَبيله فِي وقاره وَملك نَفسه عَن سَائِر قوى النَّفس وَمَعَ صديق الرَّاحَة اسْتِعْمَال مَا لَا يُبَالِي بِهِ أَن نقل عَنْك وَلَا يحصل ذَلِك إِلَّا مَعَ التحفظ ومزجه بحركات الشَّرْع

قلت وعَلى شطر مَا تقدم من التَّقْيِيد بِمُقْتَضى الشَّرْع واذ ذَاك يكون المزح بِهِ حَقِيقَة لَا لمُجَرّد التَّحَرُّز خَاصَّة وَمَعَ صديق الْمَنْفَعَة اسْتِعْمَال صُورَة الْوَقار مَعَه مَعَ اطراح قوى النَّفس ومشاركته مَا يُشَارك فِيهِ من غير مزِيد عَلَيْهِ

الْعَمَل الثَّانِي الاجمالي بإعتبار الْجَمِيع وَذَلِكَ تَحْسِين النِّيَّة فِي الْمُعَامَلَة وتوسط الظَّن وَالْمَنْفَعَة بِمِقْدَار التَّوَسُّع وَالْوَفَاء واللقاء بِالْبرِّ والبشاشة وَقَضَاء الحومائج وَحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ فِي الْغَيْب وَالشَّهَادَة ومشاهدة فَرَحهمْ وَلُزُوم التَّوَسُّط فِي النَّفَقَة مَعَ الْكَرم والبراءة من التملق بذلك وَاجْتنَاب الْكبر وَالْكذب والترأس واظهار انه افضل وافهم وَاعْلَم وَالسُّكُوت عَن عيب هُوَ فِيهِ فَلَا يذكرهُ لَهُ وَلَا لغيره وَاحْتِمَال سَائِر الْعُيُوب مَتى صفي مِنْهُ الْأَكْثَر وتمهيد يذكرهُ لَهُ وَلَا لغيره وَالِاحْتِمَال خُصُوصا مَتى كَانَت عوارض زائلة وَالِاعْتِبَار بهَا عَمَّا لَا يرضاه مِنْك أَو سيقبلها أَن صحت الصداقة

ص: 465

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

فِي المعارف وهم صنفان

أَحدهمَا المطبوع على غائلة الشَّرّ وخبث النَّفس وفسادها وعلاجه مداراته بِالسَّلَامِ والبعد من خلطته ومعاملته بالوقار والسكون مَتى تسور عَلَيْهَا حَتَّى يثقل عَلَيْهِ وَالثنَاء عَلَيْهِ بالجميل والتحيل فِي عدم لِقَائِه حَتَّى ينساك ويشتغل بغيرك

الثَّانِي سَائِر من لَا يَنْتَهِي إِلَى ذَلِك ومعاملتهم بِالسَّلَامِ عَلَيْهِم وَالسُّؤَال عَن حَالهم والبشاشة عِنْد اللِّقَاء وَترك الانبساط وَالْكَلَام مَعَهم وتقليل خلطهم إِلَّا بعد التجربة الطَّوِيلَة أحد الْمَقَاصِد الْمُتَقَدّمَة

تَكْمِلَة بَيَان ذكر الْغَزالِيّ فِي تَقْرِير هَذَا الْبَاب جملتين لكثير من آدَاب الْمَعيشَة والمعاشرة نذكرها تَمامًا لهَذَا الْغَرَض

الْجُمْلَة الأولى قَالَ وَهِي الجامعة أَن لَا تصغر مِنْهُم احدا حَيا أَو مَيتا فتهلك إِذْ لَا تَدْرِي لَعَلَّه خير مِنْك للختم لَهُ بالصلاح وان كَانَ فَاسِقًا وَلَا تنظر إِلَيْهِم بالتعظيم لَهُم فِي حَال دنياهم فَإِن الدُّنْيَا صَغِيرَة عِنْد الله تَعَالَى صَغِير مَا فِيهَا وَمهما عظم أهل الدُّنْيَا فِي نَفسك فقد عظمت الدُّنْيَا فَتسقط عِنْد الله تَعَالَى وَلَا تبذل لَهُم دينك لتنال من دنياهم فتصغر فِي اعينهم ثمَّ تحرم دنياهم فَإِن لم تحرم كنت قد استبدلت الَّذِي هُوَ ادنى بِالَّذِي هُوَ خير وَلَا تعاديهم

ص: 466

بِحَيْثُ تظهر العداولة فَيطول الْأَمر عَلَيْك فِي المعاداة وَيذْهب دينك ودنياك فيهم وَيذْهب دينهم فِيك إِلَّا إِذا رَأَيْت مُنْكرا فِي الدّين فتعادي افعالهم القبيحة وَتنظر إِلَيْهِم بِعَين الرَّحْمَة لتعرضهم لمقت الله تَعَالَى وعقوبته بعصيانهم فحسبهم جَهَنَّم يصلونها فَإنَّك تحقد عَلَيْهِم وَلَا تستكن إِلَيْهِم فِي مودته لَك وثنائهم عَلَيْك فِي وَجهك وَحسن بشرهم لَك فَإنَّك أَن طلبت حَقِيقَة ذَلِك لم تَجِد فِي الْمِائَة إِلَّا وماحدا وَرُبمَا لم تَجدهُ وَلَا تشك إِلَيْهِم احوالك فيكللك الله إِلَيْهِم وَلَا تطمع أَن يَكُونُوا لَك فِي الْغَيْب والسر كَمَا فِي الْعَلَانِيَة فَذَلِك طمع كَاذِب وأنى تظفر بِهِ وَلَا تطمع بِمَا فِي ايديهم فتستعجل الذل وَلَا تنَال الْغَرَض وَلَا تعل عَلَيْهِم تكبرا لاستغنائك عَنْهُم فَإِن الله تَعَالَى يلجئك إِلَيْهِم عُقُوبَة على التكبر بِإِظْهَار الِاسْتِغْنَاء وَإِذا سَأَلت اخاص مِنْهُم حَاجَة فقضاها فَهُوَ أَخ مُسْتَفَاد فَإِن لم يقضها فَلَا تعاتبه فَيصير عدوا تطول عَلَيْك مقاساته وَلَا تشتغل بوعظ من لَا ترى فِيهِ مخائل الْقبُول فَلَا يسمع مِنْك ويعاديك وَليكن وعظك عرضا وارسالا من غير تنصيص على الشَّخْص وَمهما رَأَيْت مِنْهُم كَرَامَة فاشكر الله تَعَالَى الَّذِي سخرهم لَك واستعذ بِاللَّه أَن يكلك إِلَيْهِم وان بلغك مِنْهُم غيبَة وَرَأَيْت مِنْهُم شرا أَو اصابك مِنْهُم مَا يسوءك فَكل أَمرهم إِلَى الله تَعَالَى واستعذ بِاللَّه من شرهم وَلَا تشغل نَفسك بالمكافأة فيزيد الضَّرَر بِعَمَلِهِ ويضيع الْعُمر بشغله وَلَا تقل لَهُم لم تعرفوا حَقي أَو موضعي

واعتقد انك لَو استحققت ذَلِك لجعل الله تَعَالَى لَك موضعا فِي قروبهم فَالله تَعَالَى هُوَ المحبب والمبغض إِلَى الْقُلُوب وَكن فيهم سميعا لحقهم اصم عَن باطلهم نطوقا بحقهم صموتا عَن باطلهم وَاحْذَرْ صُحْبَة اكثر النَّاس فَإِنَّهُم لَا يقيلون عَثْرَة وَلَا يغفرون زلَّة وَلَا يسترون عَورَة ويحاسبون على

ص: 467

النقير والقطمير ويحسدون على الْقَلِيل وَالْكثير ينتصفون وَلَا ينصفون وَيَأْخُذُونَ على الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَلَا يعفون يعيرون الاخوان بالنميمية والبهتان فصحبة أَكْثَرهم خسران وقطيعتهم رُجْحَان أَن رَضوا فظاهرهم الملق ومان سخطوا فباطنهم الحنق لَا يُؤمنُونَ فِي حنقهم أَو لَا يرحمون فِي قلقهم ظَاهِرهمْ ثِيَاب وَبَاطِنهمْ ذياب يقطعون بالظنون ويتغامزون بالعيون ويتربصون بصديقهم ريب الْمنون يُحصونَ عَلَيْك العثرات فِي صحبتهم ليواجهونه بهَا فِي غضبهم وَلَا تعول على مَوَدَّة من لم تختبره كل الْخِبْرَة فَإِن صحبته مُدَّة فِي دَار أَو مَوضِع فتجربه فِي عَزله وولايته وغناه وَفَقره أَو تُسَافِر مَعَه أَو تعامله فِي الدِّينَار وَالدِّرْهَم أَو تقع فِي شدَّة فتحتاج إِلَيْهِ فَإِن رضيته فِي هَذِه الْأَحْوَال فتخذه أَبَا لَك أَن كَانَ كَبِيرا أَو ابْنا لَك أَن كَانَ صَغِيرا أَو أَخا لَك أَن كَانَ مثيلا

الْجُمْلَة الثَّانِيَة قَالَ وَهِي مِمَّا حفظ من كَلَام بعض الْحُكَمَاء قَالَ أَن اردت حسن الْمَعيشَة والمجالسة فالق صديقك وعدوك بالرضى من غير ذَلِك لَهُم وَلَا هَيْبَة مِنْهُم وتوقر فِي غير كبر وتواضع فِي غير ذلة وَكن فِي جَمِيع امورك فِي اوسطها فكلا طرفِي قصد الْأُمُور ذميم وَلَا تنظر فِي عقبك وَلَا تكْثر الِالْتِفَات وَلَا تقف على الْجَمَاعَات وَإِذا جَلَست فَلَا تستوفز وَتحفظ عَن شبيك اصابعك والعبث بلحيتك وتخليل اسنانك

ص: 468

وادخال اصبعك فِي انْفَكَّ وَكَثْرَة بصاقك وتنحمك وطرد الذُّبَاب عَن وَجهك وَكَثْرَة التمطي والتثاوب ف يوجوه النَّاس وَفِي الصَّلَاة وَغَيرهَا وَليكن مجلسك هاديا وحديثك منظوما مُرَتبا واصغ إِلَى الْكَلَام الْحسن مِمَّن حَدثَك من غير اظهار عجب مفرط وَلَا تسأله اعادته واسكت عَن المضاحك فِي الحكايات وَلَا تحدث عَن عجائب ولدك أَو جاريتك أَو شعرك أَو صنيفك سَائِر مَا يخصك وَلَا تتصنع تصنع الْمَرْأَة فِي التزين وَلَا تتبذل تبذل العَبْد وتوق كَثْرَة الْكحل والاسلاف فِي الدّهن وَلَا تلح فِي الْحَاجَات وَلَا تشجع احدا على الظُّلم وَلَا تعلم اهلك وولدك فضلا عَن غَيرهم مِقْدَار مَالك فَإِنَّهُم أَن رَأَوْهُ قَلِيلا هنت عَلَيْهِم وان كَانَ كثيرا لم تبلغ قطّ رضاهم واخفهم من غير عنف وَلنْ لَهُم من غير ضعف وَلَا تهازل عَبدك وَلَا امتك فَيسْقط وقارك وَإِذا خَاصَمت فتوقر وَتحفظ من جهلك وتجنب عجلتك وتفكر فِي حجتك وَلَا تكْثر الاشارة بِيَدِك وَلَا تكْثر الِالْتِفَات لمن وَرَاءَك وَلَا تجث على ركبتيك وَإِذا هدأ غضبك فَتكلم

وَإِذا قربك السُّلْطَان فَكُن مِنْهُ على مثل حد السنان وان استرسل اليك فَلَا تأمن انقلابه عَلَيْك وارفق بِهِ رفقك بِالصَّبِيِّ وَكَلمه بِمَا يشتهيه وَلَا يحملك لطفه بك أَن تدخل بَينه وَبَين اهله وَولده وحشمه وان كنت لذَلِك مُسْتَحقّا عِنْده فَإِن سقطة الدَّاخِل بَين الْملك واهله سقطة لَا تنعش وزلة لَا تقال

واياك وصديق الْعَافِيَة فَإِنَّهُ أعدى الاعداء وَلَا تجْعَل مَالك اكرم

ص: 469

من عرضك وَإِذا دخلت مَجْلِسا فالادب فِيهِ الْبِدَايَة بِالتَّسْلِيمِ وَترك التخطي لمن سبق وَالْجُلُوس حَيْثُ اتَّسع وَحَيْثُ تكون اقْربْ إِلَى التَّوَاضُع أَن تحيي بِالسَّلَامِ من قرب مِنْك عِنْد الْجُلُوس

وَلَا تجْلِس عِنْد الطَّرِيق فَإِن جَلَست فأدبه غض الطّرف وَنصر الْمَظْلُوم واغاثة الملهوف وَعون الضَّعِيف وارشاد الضال ورد السَّلَام واعطاء السَّائِل وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والارتياد لموْضِع البصاق فَلَا تبصقن فِي جِهَة الْقبْلَة وَلَا عَن يَمِينك وَلَكِن عَن يسارك أَو تَحت قدمك الْيُسْرَى

وَلَا تجَالس الْمُلُوك فَإِن فعلت فأدبه ترك الْغَيْبَة ومجانبة الْكَذِب وصيانة السِّرّ وَقلة الْحَوَائِج وتهذيب الالفاظ والاعراب فِي الْخطاب والمذاكرة بأخلاق الْمُلُوك وَقلة المداعبة وَكَثْرَة الحذر مِنْهُم وان ظَهرت الْمَوَدَّة وَلَا تتجشأ بمحضره وَلَا تتخلل بعد الاكل عِنْده وعَلى الْملك أَن يحْتَمل كل شَيْء إِلَّا افشاء السِّرّ والقدح فِي الْملك والتعرض للحرم

وَلَا تجَالس الْعَامَّة فَإِن فعلت فأدبه ترك الْخَوْض فِي حَدِيثهمْ وَترك الاصغاء إِلَى اراجيفهم والتغافل عَمَّا يجْرِي من سوء الفاظهم وَقلة اللِّقَاء لَهُم مَعَ الْحَاجة إِلَيْهِم واياك أَن تمازح لبيبا أَو غير لَبِيب فَإِن اللبيب يحقد عَلَيْك وَالسَّفِيه يتجرأ عَلَيْك لِأَن المزح يخرق الهيبة وَيسْقط مَاء الْوَجْه وَيذْهب بحلاوة الود ويشين فقه الْفَقِيه ويجريء السَّفِيه وَيسْقط الْمنزلَة عِنْد الحكم وتمقته النُّفُوس وَيُمِيت الْقلب ويباعد عَن الرب تَعَالَى ويكسب الْغَفْلَة وَيُورث الذلة وَبِه تظلم السرائر وَتَمُوت الخواطر وَبِه تكْثر الْعُيُوب وَتبين الذُّنُوب وَقد قيل لَا يكون المزاح إِلَّا من سخف أَو بطر وَمن بلَى فِي مجْلِس بمزاح أَو لغط فليذكر الله تَعَالَى عِنْد قِيَامه ثمَّ ذكر حَدِيث كَفَّارَة الْمجْلس

ص: 470