الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل الرَّابِع فِي اكْتِسَاب الْعُلُوم
وَفِيه مسَائِل جملَة نلخص مِنْهَا مَا يَلِيق بالموضع ويكمل قَصده وغرضه
الْمَسْأَلَة الأولى أَن الْعلم والتعليم طبيعي فِي الْعمرَان البشري لَان الانسان إِنَّمَا يتَمَيَّز عَن سَائِر الْحَيَوَان بالفكر المهتدى بِهِ لصلاح دينه ودنياه وَذَلِكَ بِتَصْدِيق الْأَنْبِيَاء وتعاوه بابناء جنسه وترديده فِي ذَلِك دَائِما إِذْ لَا يفتر عَنهُ طرفَة عين فتنشأ الْعُلُوم والصنائع ثمَّ لأجل مَا جبل عَلَيْهِ من ذَلِك يرغب فِي تَحْصِيل مَا لَيْسَ عِنْده من المدركات فؤرجع إِلَى من سبقه بِهِ أَو اخذه عَن نَبِي مشافهة أَو بِوَاسِطَة فيتلقى ذَلِك عَنهُ ويحرص على استفادته مِنْهُ ثمَّ أَن فكره فِي ذَلِك يتَوَجَّه إِلَى وَاحِد من الْحَقَائِق نَاظرا فِي عوارضه الذاتية حَتَّى يصير الحاقها بِهِ ملكة لَهُ وَعلمه بذلك علما مَخْصُوصًا تتشوف نفوس الجيل الثَّانِي تَحْصِيله بِالرُّجُوعِ إِلَى ذَوي الخصوصية بِهِ وَيَجِيء التَّعْلِيم لَا محَالة
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَن تَعْلِيم الْعلم من جملَة الصَّنَائِع لامرين
أَحدهَا أَن الملكة فِي الْعلم غير الْفَهم فِيهِ لوُجُود فهم مَسْأَلَة وَاحِدَة من فن وَاحِد مُشْتَركا بَين الشادي فِي ذَلِك الْفَنّ والمبتدي فِيهِ وَبَين الْعَاميّ والعالم النحرير والملكة إِنَّمَا هِيَ للْعَالم أَو الشادي فَقَط وَلما كَانَت الملكات كلهَا جسمانية والجسمانيات بأسرها محسوسة فيفتقر إِلَى التَّعْلِيم ضَرُورَة
الثَّانِي أَن اخْتِلَاف الاصطراحات فِيهِ كَمَا لكل امام مِمَّا اخْتصَّ بِهِ شَأْن الصَّنَائِع كلهَا وكما بَين الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين فِي علم الاصول وَالْفِقْه والعربة ي يدل على أَن ذَلِك لَيْسَ من الْعلم وَألا لَكَانَ وَاحِدًا عِنْد الْجَمِيع فالعلم وَاحِد وَتلك الاصطلاحات صناعات
رِعَايَة
قَالَ ابْن خلدون وَلِهَذَا كَانَ السَّنَد فِي التَّعْلِيم فِي كل علم أَو صناعَة يفْتَقر إِلَى مشاهير المعلمين فِيهَا مُعْتَبرا عِنْد أهل كل فن وجيل
قلت قَالَ ابْن الاكفاني كل تَعْلِيم وَتعلم فَإِنَّمَا يكون بِعلم سَابق فِي مَعْلُوم مَا من عَالم لمن لَيْسَ بِمَعْلُوم وَلما قرر نَحوه الشَّيْخ الْأَمَام أَبُو اسحاق الشاطبي رحمه الله قَالَ وان كَانَ النَّاس قد اخْتلفَا هَل يُمكن حُصُول الْعلم دون معلم أَو لَا بُد لَا مَكَانَهُ من معلم وَلَكِن الْوَاقِع فِي مجاري الْعَادَات أَن لَا بُد من الْمعلم وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَة وان اخْتلفُوا فِي بعض التفاصيل كإختلاف الْجُمْهُور والامامية فِي اشْتِرَاط الْعِصْمَة وَقد قَالُوا كَانَ الْعلم فِي صُدُور الرِّجَال ثمَّ انْتقل إِلَى الْكتب وَصَارَت مفاتحه بأيدي الرِّجَال
قلت قَالَ ابْن الاكفاني لم تزل سنة الْعلمَاء القدماء جَارِيَة فِي تَعْلِيم الْعلم مشافهة دون كتاب فَلم يصل علم إِلَى غير مُسْتَحقّه ولكثرة المشتغلين بالعلوم حِينَئِذٍ وحرصهم على تَحْصِيلهَا استمرت اليهم فَلَمَّا ضعفت الهمم وَقصرت انقرض بعض الْعُلُوم فَأخذ من بَقِي من الْعلمَاء فِي تدوين الْعُلُوم
فِي الْكتب لتبقى وَلَا تبيد
فَائِدَة
ذكرُوا فِي الشُّرُوط الدَّالَّة على حُصُول الملكة فِي الْعلم امورا وَهِي الْمعرفَة بأصول أَي علم كَانَ وَمَا يَبْنِي عَلَيْهِ ذَلِك الْعلم وَمَا يلْزم عَنهُ وَالْقُدْرَة على التَّعْبِير عَن مَقْصُوده وعَلى دفع الشّبَه الْوَارِدَة عَلَيْهِ فِيهِ
تَعْرِيف ذكر ابْن خلدون مَا حَاصله أَن سير التَّعْلِيم لعهده لَهُ بِحَسب الْوَاقِع حالتان
الْحَالة الأولى
واشرافه على الِانْقِطَاع فِي قطر الْمغرب كُله لنَقص الصَّنَائِع فِيهِ باختلال عمرانه وتناقص دوله عِنْد خراب القيروان وقرطبة وانقراض دولة الْمُوَحِّدين بعد ذَلِك بمراكش لَكِن فِي اواسط الْمِائَة السَّابِعَة رَحل إِلَى المشرع من افريقية القَاضِي أَبُو الْقَاسِم ابْن زيتون فادرك أَصْحَاب الْأَمَام فَخر الدّين واخذ عَنْهُم ولقن تعليمهم وحذق فِي العقليات والنقليات وَرجع إِلَى تونس
يعلم كثير وَتَعْلِيم حسن وَجَاء على اثره من الْمشرق أَبُو عبد الله ابْن شُعَيْب الدكالي كَانَ ارتحل اليه من الْمغرب فَأخذ من مشيخة مصر وَرجع إِلَى تونس وَاسْتقر بهَا وَكَانَ تَعْلِيمه مُفِيدا فَأخذ عَنْهُمَا أهل تونس واتصل سَنَد تعليمهما فِي اصحابهما جيلا بعد جيل حَتَّى انْتهى إِلَى ابْن عبد السَّلَام شَارِح ابْن الْحَاجِب واصحابه وانتقل من تونس إِلَى تلمسان من ابْن الْأَمَام واصحابه فَإِنَّهُ قَرَأَ مَعَ ابْن عبد السَّلَام واصحابه على مشيخة وَاحِدَة وَفِي مجَالِس بِأَعْيَانِهَا واصحاب ابْن عبد السَّلَام بتونس وَابْن الْأَمَام بتلمسان لهَذَا الْعَهْد إِلَّا انهم من الْقلَّة بِحَيْثُ يخْشَى انْقِطَاع سندهم
ثمَّ ارتحل من زواوة فِي آخر الْمِائَة السَّابِعَة أَبُو عَليّ نَاصِر الدّين
المشذالي وادرك أَصْحَاب ابْن الْحَاجِب واخذ عَنْهُم وَأقر تعليمهم وَقَرَأَ مَعَ شهَاب الدّين الْقَرَافِيّ فِي مجَالِس مُخْتَلفَة وحذق فِي العقليات والنقليات وَرجع إِلَى الْمغرب بِعلم كثير وَتَعْلِيم مُفِيد وَنزل بجاية وَاصل سَنَد تَعْلِيمه بطلبتها وَرُبمَا انْتقل إِلَى تلمسان عمرَان المشذالي من اصحابه واوطنها وَبث طَرِيقَته فِيهَا وصحابه لهَذَا الْعَهْد ببجاية وتلمسان قَلِيل أَو اقل من الْقَلِيل
تنزيلان
أَحدهَا قَالَ وَبقيت فاس وَسَائِر اقطار الْمغرب خلوا من حسن التَّعْلِيم من لدن انْقِرَاض تَعْلِيم قرطبة والقيروان وَلم يتَّصل سَنَد التَّعْلِيم فيهم فعسر عَلَيْهِم حُصُول الملكة والحذق فِي الْعُلُوم إِذْ ايسر طرقها إِنَّمَا هُوَ بالمحاورة والمناظرة فَهُوَ الَّذِي يقرب شَأْنهَا وطالب الْعلم مِنْهُم تَجدهُ بعد ذهَاب الْكثير م عمره ملازما الْمجَالِس العلمية ساكتا لَا ينْطق وَلَا يُعَارض وعنايته بِالْحِفْظِ اكثر من الْحَاجة فَلَا جرم لَا يحصل على طائل من
ملكة التصرفي الْعلم والتعليم
وَمن يرى مِنْهُم انه قد حصل تَجِد ملكته قَاصِرَة أَن نَاظرا أَو عَارض وَمَا اتاهم الْقُصُور إِلَّا من قبل التَّعْلِيم وَانْقِطَاع تمهيده وَألا فحفظهم ابلغ من حفظ سواهُم لشدَّة عنايتهم بِهِ وظنهم انه الْمَقْصُود من الملكة العلمية وَلَيْسَ كَذَلِك
شَهَادَة
قَالَ وَمِمَّا شهد بذلك فِي الْمغرب أَن الْمدَّة الْمعينَة لسكنى طلبة الْعلم بالمدارس عِنْدهم سِتّ عشرَة سنة وَهِي بتونس خمس سِنِين
قَالَ وَهَذِه الْمدَّة على الْمُتَعَارف هِيَ اقل مَا يَتَأَتَّى فِيهَا للطَّالِب حُصُوله مبتغاه من الملكة العلمية أَو الْيَأْس من تَحْصِيلهَا فطال امدها بالمغرب بِشدَّة الْقُصُور أجل عسرها من قلَّة الْجَوْدَة فِي التَّعْلِيم خَاصَّة لَا مِمَّا سوى ذَلِك
التَّنْزِيل الثَّانِي
قَالَ واما أهل الاندلس فَذهب رسم التَّعْلِيم من بَينهم وَذَهَبت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمرَان الْمُسلمين بهَا مُنْذُ مئين من السنين وَلم يبْق من رسم الْعلم فيهم إِلَّا فن الْعَرَبيَّة والادب لاقتصارهم عَلَيْهِ ومحافظتهم على سنَن تَعْلِيمه واما الْفِقْه فرسم خَال واثر بعد عين واما العقليات فَلَا اثر وَلَا عين لانْقِطَاع سَنَد التَّعْلِيم فِيهَا بتناقص الْعمرَان وتغلب الْعَدو على عامتها إِلَّا قَلِيلا بِسيف الْبَحْر شغلهمْ بمكاسبهم اكثر من شغلهمْ بِمَا بعْدهَا وَالله غَالب على امْرَهْ انْتهى
الْحَالة الثَّانِيَة
بَقَاؤُهُ بالمشرق نَافق الاسواق زاخر ببحور الْعِنَايَة بِحِفْظ اتِّصَال الْعمرَان الموفور وان خرجت امصاره الَّتِي كَانَت معادن الْعلم كبغداد والكوفة وَالْبَصْرَة فَإِن الله تعلى قد ادال مِنْهَا بامصارها اعظم مِنْهَا وانتقل الْعلم مِنْهَا إِلَى عراق الْعَجم وَمَا وَرَاء النَّهر من الْمشرق ثمَّ إِلَى الْقَاهِرَة وَمَا يَليهَا من الْمغرب فَلم تزل موفورة الْعمرَان مُتَّصِلَة بِسَنَد التَّعْلِيم
تَحْصِيل وَاقع
قَالَ فَأهل الْمشرق على الْجُمْلَة ارسخ فِي صناعَة تَعْلِيم الْعلم بل فِي سَائِر الصَّنَائِع حَتَّى انه ليظن أَن عُقُولهمْ على الْجُمْلَة ونفوسهم الناطقة اكمل من عقول أهل الْمغرب ونفوسهم وان حَقِيقَة الانسانية بَيْننَا وَبينهمْ تفاوتة لما يرى من كيسهم فِي الْعُلُوم والصنائع وَلَيْسَ كَذَلِك إِذْ لَا تفَاوت بَين الْمشرق وَالْمغْرب بِهَذَا الْمِقْدَار وانما ذَلِك فِي الاقاليم المنحرفة كالاول وَالسَّابِع واما الَّذِي فضل بِهِ أهل الْمشرق فَهُوَ مَا يحصل فِي النَّفس من آثَار الحضارة من الْعقل الْمَزِيد فِي الصَّنَائِع
مزِيد تَحْقِيق
قَالَ ويزيده تدقيقا أَن الْحَضَر لَهُم فِي احوال الدّين وَالدُّنْيَا اداب يُوقف عِنْدهَا اخذا وتركا كَأَنَّهَا حُدُود لَا تتعدى وَهِي مَعَ ذَلِك صنائع يتلقاها الآخر عَن الأول وكل صناعَة مركبة فَيرجع فِيهَا إِلَى النَّفس ويكسبها عقلا مزيدا تستعد بِهِ لقبُول صناعَة أُخْرَى يتهيأ بهَا الْعقل لسرعة ادراك المعارف وَحسن الملكات فِي التَّعْلِيم والصنائع وَسَائِر الاحوال العادية
تزيد الانسان ذكاء فِي عقله واضاءة فِي فكره فيزدادون بذلك كيسا لم يرجع إِلَى النَّفس من الاثار العلمية فيظنه الْعَاميّ تَفَاوتا فِي الْحَقِيقَة الانسانية وَلَيْسَ كَذَلِك
دلَالَة
قَالَ إِلَّا ترى إِلَى أهل الْحَضَر مَعَ أهل البدو وَكَيف تَجِد الحضري متحليا بالذكاء ممتلئا من الْكيس لاجادته من الملكات الصناعية والاداب والادراكات فِي العوائد الحضرية مَالا يعرفهُ البدوي فَلَمَّا امْتَلَأَ من ذَلِك فَكل من قصر عَنهُ ظَنّه انه لكَمَال فِي عقله وان نفوس أهل البدو قَاصِرَة فطرتها وَعَن فطرته وَلَيْسَ كذكل فَإِن فيهم من هُوَ فِي أَعلَى رُتْبَة من الْفَهم والكمال فِي عقله وفطرته لَكِن فاقه أَو فَاتَهُ الحضري بِظُهُور رونق الحضارة والصنائع والتعليم عَلَيْهِ لرجوع آثارها إِلَى النَّفس
انعطاف
قَالَ وَكَذَا اله الْمشرق لما كَانُوا فِي الْعلم والصنائع ارْفَعْ رُتْبَة وَكَانَ أهل الْمغرب اقْربْ إِلَى البداولة ظن المغفلون فِي بَادِي الرَّأْي انه لكَمَال فِي حَقِيقَة الانسانية اختصوا بِهِ عَن أهل الْمغرب وَلَيْسَ ذَلِك بِصَحِيح فتفهمه وَالله زيد فِي الْخلق مَا يَشَاء انْتهى
تعريفان
أَحدهَا قَالَ ابْن خلدون واكثر من عَنى بالصنف الأول فِي الاجيال الْمَعْرُوفَة اخبارهم الامتان العظيمتان فِي ضخامة الدولة قبل الْإِسْلَام فَارس
وَالروم فَكَانَت علومهم بحورا زواخر فِي آفاقهم واعصارهم فتوفر عمرانهم وشماخة دولهم وَكَانَ قبلهم للكلدانيين والسرايانيين والقبط عناية بالحسر والنجامة والطلسمات وعنهم اخذوا ذَلِك
قلت قَالَ ابْن الاكفاني فِي السحر مَنْفَعَة أَن يعلم ليحذر لَا ليعْمَل بِهِ
قَالَ وَلَا نزاع فِي تَحْرِيم عمله إِمَّا مُجَرّد علمه فَظَاهر الاباحة بل ذهب بعض النظار إِلَى فرض كِفَايَة لجَوَاز ظُهُور سَاحر يدعى النبوءة فَيكون فِي الْأمة من يكشفه وينقض مقَالَته فَيعْمل بِهِ قصاصا
قلت قَالَ الطرطوشي تعلمه أَو تَعْلِيمه كفر عِنْد مَالك رحمه الله
قَالَ الْقَرَافِيّ وَهُوَ فِي غَايَة الاشكال
واجاب ابْن الشَّاط بِأَنَّهُ على وَجْهَيْن
أَحدهَا لتعرف حَقِيقَته لتجتنب أَو لغير ذَلِك قَالَ وَهَذَا لَيْسَ بِكفْر
الثَّانِي لقصد تَحْصِيل اثره مَتى احْتَاجَ لَك
قَالَ وهاذ هُوَ الَّذِي اقْتضى ظَاهر الْكتاب انه كفر يَعْنِي وَهُوَ الْحجَّة لمَالِك رَحمَه الله
قلت وَعَلِيهِ فَقَوله بالتكفير لَيْسَ على الاطلاق
قَالَ ابْن الشَّاط وَالْقَوْل بِطَلَب تعلمه للْفرق بَينه وَبَين المعجزة صَحِيح
انعطاف قَالَ وَلَقَد يُقَال أَن هَذِه الْعُلُوم إِنَّمَا وصلت إِلَى يونان قبل الْفرس إِذْ كَانَ شَأْنهَا عِنْدهم عَظِيما وَذَلِكَ حِين قتل الاسكندر دَارا وَغلب على مملكة الكينية فاستولى على كتب علمهمْ والمسلمون لما فتحُوا بِلَادهمْ اصابوا من صَحَائِف تِلْكَ الْعُلُوم مَا لَا يحده الْحصْر فَكتب سعد بن أبي وَقاص إِلَى عمر رضي الله عنه يَسْتَأْذِنهُ فِي شَأْنهَا فَكتب اليه أَن اطرحوها فِي المَاء فان كَانَ فِيهَا هدى فقد هدَانَا الله بأهدى مِنْهُ وان يكن ضَلَالَة فقد كفانا الله فطرحوها فِي المَاء أَو فِي النَّار
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة أَن الْعُلُوم وانما تكْثر حَيْثُ يكثر الْعمرَان وتعظم الحضارة وَذَلِكَ لَان تعلم الْعلم من جملَة الصَّنَائِع كَمَا تقرر والصنائع كَمَا تقدم قبل ذَلِك انمما تكْثر فِي الامثار المستجدة الْعمرَان بطول امد الدول المتعاقبة عَلَيْهَا
قَالَ وَمن تشوف بفطرته إِلَى الْعلم مِمَّن نَشأ فِي الْقرى والامصار غير المستبحرة الْعمرَان فَلَا يجد فِيهَا التَّعْلِيم الصناعي واذ ذَاك فَلَا بُد لَهُ من الرحلة فِي طلبه كشأن الصَّنَائِع كلهَا
شَاهد اعْتِبَار
قَالَ وَاعْتبر مَا قَرَّرْنَاهُ بِحَال بَغْدَاد وقرطبة والقيروان وَالْبَصْرَة والكوفة وامثالها لما كثر عمرانها صدر الْإِسْلَام واستوفت فِيهَا الحضارة كَيفَ زخرت فِيهَا بحار الْعلم وتفننوا فِي اصْطِلَاحَات التَّعْلِيم واصناف الْعُلُوم حَتَّى اربوا على الْمُتَقَدِّمين وفاتوا الْمُتَأَخِّرين وَلما تناقص عمرانها انطوى ذَلِك الْبسَاط جملَة وفقد بهَا الْعلم والتعليم وانتقل إِلَى غَيرهَا من اقطار الْإِسْلَام
تَعْرِيف
قَالَ وَنحن الْيَوْم نرى لهَذَا الْعَهْد أَن الْعلم والتعليم إِنَّمَا هـ بِالْقَاهِرَةِ من بِلَاد مصر لاستبحار عمرانها استحكام حضارتها مُنْذُ آلَاف من السنين فاستحكمت فِيهَا الصَّنَائِع وتفننت وَمن جُمْلَتهَا تعليمالعلم
قَالَ واكد بذلك فِيهَا مَا وَقع لهَذِهِ العصور بهَا مُنْذُ مِائَتَيْنِ من السنين فِي دولة التّرْك من ايام صَلَاح الدّين بن ايوب إِلَى هَلُمَّ جرا وَذَلِكَ لَان الامراء من التّرْك يَخْشونَ عَادِية سلطانهم على من يخلفونه من ذُرِّيتهمْ لما لَهُ عَلَيْهِم من الرّقّ وَالْوَلَاء وَلما يخْشَى من معاطب الْملك ونكباته فاستكثروما من بِنَاء الْمدَارِس والزوايا والربط ووقفوا عَلَيْهَا الاوقاف المغلة يجْعَلُونَ فِيهَا شُرَكَاء لولدهم ونصيبا ينظر عَلَيْهَا ويصيب مِنْهَا مَعَ مَا فيهم غَالِبا من الجنوح إِلَى الْخَيْر والتماس الاجور فِي الْمَقَاصِد والافعال فكثرت الاوقاف لذَلِك وَكثر وطالب الْعلم ومعلمه ومتعلمه بِكَثْرَة جرايتهم مِنْهَا وارتحل النَّاس اليها فِي طلب الْعلم من الْعرَاق وَالْمغْرب ونفقت فِيهَا اسواق الْعُلُوم وزخرت بحارها وَالله يخلق مَا يَشَاء
قلت وَقع هَذَا التَّأْكِيد بِمَا ذكر فقد لوحظ فِيهِ امور اخر وَهُوَ مَا يخْشَى من رفع الْعلم الْحَقِيقِيّ فِيهِ حَيْثُ يَجْعَل غَايَة طلبه
قَالَ ابْن الاكفاني من تعلم علما للاحتراف لم يَأْتِ عَالما إِنَّمَا جَاءَ شَبِيها بالعلماء وَلَقَد كوشف عُلَمَاء مَا وَرَاء النَّهر بذلك ونطقوا بِهِ لما بَلغهُمْ بِنَاء الْمدَارِس بِبَغْدَاد اقاموا مآتم الْعلم وقالوما كَانَ يشْتَغل بِهِ ارباب الهمم الْعلية والانفس الْكَرِيمَة الزكية الَّذين يقصدون الْعلم لشرفه والكمال بِهِ فَيَأْتُونَ عُلَمَاء ينْتَفع بهم وبعلمهم وَإِذا صَارُوا عَلَيْهِ اجرة تدانى اليه الاخساء وارباب الكسل فَيكون ذَلِك سَببا لارتفاعه
المسالة الرَّابِعَة أَن الْعُلُوم الَّتِي يَخُوض فِيهِ الْبشر صنفان
أَحدهمَا طبيعي للْإنْسَان يَهْتَدِي اليه بفكره وَهُوَ الْعُلُوم الْحكمِيَّة وَلذَلِك لَا تخْتَص بِملَّة لِاسْتِوَاء جَمِيع الْعُقَلَاء فِي مداركها على أَي مِلَّة كَانُوا وَهِي مَوْجُودَة فِي النَّوْع الانسان مذ كَانَ عمرَان الخليقة
قلت قَالَ ابْن الاكفاني المُرَاد بالحكمة هُنَا استكمال النَّفس النَّاطِق فِي قوتها النظرية والعملية بِحَسب الطَّاقَة الانسانية والاول لحُصُول الاعتقادات اليقينية فِي معرفَة الموجودات واحوالها وَالثَّانِي بتزكية النَّفس باقتناء الْفَضَائِل وَاجْتنَاب الرذائل
قلت وَمَعَ مُوَافقَة الشَّرِيعَة فِي الالهي مِنْهَا فحكمته جَهَالَة مضرَّة
الثَّانِي نقلي يوخذ عَن وَاضعه وَهُوَ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة لَا مجَال لِلْعَقْلِ فِيهَا إِلَّا فِي الحاق الْفُرُوع بالأصول لعدم اندراج الجزئيات الْحَادِثَة تَحت النَّقْل
الْكُلِّي بِمُجَرَّد الْوَضع وَلما كَانَ هَذَا الالحاق القياصي يتَفَرَّع عَن الْأَخْبَار بِثُبُوت الحكم فِي الأَصْل وَهُوَ نقلي رَجَعَ إِلَى النَّقْل بذلك لَا محَالة
قلت قَالَ ابْن الاكفاني مقررا لمَنْفَعَة هَذَا الصِّنْف من الْعُلُوم وَمن الْمَعْلُوم أَن ارسال الرُّسُل عليهم السلام إِنَّمَا هُوَ لطف من الله تَعَالَى لخلقه وَرَحْمَة لَهُم ليتم أَمر معاشهم وَيبين مآل مُرَادهم بِحَال الشَّرِيعَة ضَرُورَة على المعتقدات الصَّحِيحَة الَّتِي يجب التَّصْدِيق بهَا والعبادات المقربة من الله تَعَالَى مِمَّا يجب الْقيام بهَا والمواظبة عَلَيْهَا
قَالَ وَالْأَمر بالفضائل وَالنَّهْي عَن الرذائل مِمَّا يجب قبُوله
قلت إِمَّا شرعا فَنعم واما عقلا فَفِيهِ مَا هُوَ مَعْلُوم فِي مَوْضِعه
قَالَ واما الرّوم فَكَانَت الدولة فيهم اولا ليونان وَكَانَ لهَذِهِ الْعُلُوم بَينهم مجَال رحم وَحملهَا مشاهير من رِجَالهمْ وَغَيرهم إِلَى أَن انْتَهَت الرياسة فِيهَا إِلَى أرسطو الْمُسَمّى بالمعلم الأول وَعند مصير الْأَمر إِلَى لاقياصرة هجروا تِلْكَ الْعلم كَمَا تَقْتَضِيه الْملَل والشرائع وَبقيت فِي صحفها مخلدة فِي خزائنهم إِلَى أَن ملكوا الشَّام وَهِي بَاقِيَة فيهم
تَارِيخ قَالَ ثمَّ جَاءَ الله بِالْإِسْلَامِ المستولى على ملك الرّوم وَغَيرهم ابْتَدَأَ أمره بالسذاجة والغفلة عَن الصَّنَائِع إِلَى أَن اخذت الدولة من الحضارة بالحظ الَّذِي لم يكن لغَيرهم من الامم وتفننوا فِي الصَّنَائِع والعلوم فتوجهوا إِلَى الِاطِّلَاع على هَذِه الْعُلُوم الْحكمِيَّة لما سمعُوا من اساقفة المعاهدين وَبِمَا تسموا اليه فطْرَة الانسان فِيهَا فَبعث أَبُو جَعْفَر
الْمَنْصُور إِلَى ملك الرّوم أَن يبْعَث اليه من يكْشف لَهُ عَلَيْهَا أَو يكْتب التعاليم مترجمة فَبعث اليه بِكِتَاب اقليدس وَبَعض كتب الطبيعيات واطلع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ فازدادوا حرصا على الظفر بِمَا بَقِي مِنْهَا
وَجَاء الْمَأْمُون بعد ذَلِك وَكَانَت لَهُ فِي الْعلم رَغْبَة فانبعث لهَذِهِ الْعُلُوم واوفد الرُّسُل على ملك الرّوم وطالب فِي اسْتِخْرَاج عُلُوم اليونانيين وانتساخها بالخط الْعَرَبِيّ وَبعث المترجمين لذَلِك فأوعب مِنْهَا واستوعب وَعَكَفَ عَلَيْهَا النظار من أهل الْإِسْلَام وبلغوا فِيهَا الْغَايَة وخالفوا كثيرا من آراء الْمعلم الأول واختصوه بِالرَّدِّ وَالْقَبُول لوقوف الشُّهْرَة عِنْده وَكَانَ من اكابرهم فِي الْملَّة الفارابي وَابْن سينا بالمشرق وَابْن الصَّائِغ بالأندلس وَاقْتصر كثير على انتحال التعاليم وَمَا يتبعهَا من النجامة وَالسحر والطلسمات وَوَقعت الشُّهْرَة فِي هَذَا المتنحل على مسلمة بن احْمَد المجريطي من أهل الاندلس واصحابه
دَاخِلَة فَسَاد
قَالَ وَدخل من هَذِه الْعُلُوم دَاخِلَة واستهوت الْكثير النَّاس بِمَا جنحوا اليها وقلدوا آراءها والذنب فِي ذَلِك لمن ارْتَكَبهُ وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ
قلت ذكر فِي فصل ابطال الفلسفة وَفَسَاد منتحلها أَن ضررها فِي الدّين كثير ثمَّ خَتمه بقوله فَلْيَكُن النَّاظر فِيهَا متحرزا جهده من معاطبها وَليكن نظر من ينظر فِيهَا بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التَّفْسِير
وَالْفِقْه واصله وَألا فَقل أَن يسلم وَالله الْمُوفق للحق وَالْهَادِي اليه انْتهى مخلصا
خَاتِمَة اعلام
ثمَّ أَن الْمغرب والاندلس لما ركدت ريح الْعمرَان بِهِ وتناقصت الْعُلُوم بتناقصه اضمحل ذَلِك مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا من رسومه تجدها فِي تفاريق من النَّاس وَتَحْت رَقَبَة من عُلَمَاء السّنة ويبلغنا عَن أهل الْمشرق أَن بضائع هَذِه الْعُلُوم عِنْدهم لم تزل موفورة وخصوصا فِي عراق الْعَجم وَمَا وَرَاء النَّهر وانهم على نهج من الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية لتوفر عمرانهم واستحكام حضارته
قَالَ وَلَقَد وقفت بِمصْر على تواليف فِي الْمَعْقُول مُتعَدِّدَة لرجل من عُلَمَاء هراة من بلد خُرَاسَان يشهر بِسَعْد الدّين التَّفْتَازَانِيّ بلغ مِنْهَا الْغَايَة فِي عُلُوم الْكَلَام واصول الْفِقْه وَالْبَيَان تشهد بِأَن لَهُ ملكة راسخة فِي هَذِه الْعُلُوم وَفِي اثنائها مَا يدل على أَن لَهُ اطلاعا على الْعُلُوم الْحكمِيَّة أَيْضا وقدما راسخة عالية فِي سَائِر الْفُنُون الفلسفية كَذَلِك بلغنَا لهَذَا الْعَهْد أَن هَذِه الْعُلُوم الفلسفية بِبِلَاد الافرنجة من ارْض رومة وَمَا يَليهَا من العدوة الشمالية نافقة الاسواق ومتعددة بمجالس التَّعْلِيم وَالله اعْلَم بِمَا هُنَالك وَهُوَ يخلق مَا يَشَاء ويختار
التَّعْرِيف الثَّانِي
قَالَ فالنصف الثَّانِي وَهُوَ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة إِنَّهَا قد نفقت اسواقها فِي الْملَّة بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ وانتهت فِيهَا مدارك المناظرين إِلَى الْغَايَة الَّتِي لَا فَوْقهَا بِشَيْء وهذبت اصطلاحاتها وزينت فنونها فَجَاءَت من وَرَاء الْغَايَة فِي الْحسن والتنميق وَكَانَ لكل فن رجال يرجع اليهم فِيهِ واوضاع يُسْتَفَاد مِنْهَا التَّعْلِيم واختص الْمشرق من ذَلِك وَالْمغْرب بِمَا هُوَ مَشْهُور مِنْهَا
قَالَ وَقد كسدت اسواق الْعلم لهَذَا الْعَهْد بالمغرب لتناقص عمرانه وَانْقِطَاع سَنَد التَّعْلِيم وَالله مُقَدّر اللَّيْل وَالنَّهَار انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة
أَن كَثْرَة التواليف فِي الْعُلُوم عائقة عَن التَّحْصِيل
قَالَ اعْلَم انه مِمَّا اضر بِالنَّاسِ فِي تَحْصِيل الْعلم وَالْوُقُوف على غَايَته كَثْرَة التواليف وَاخْتِلَاف الاصطلاحات فِي التَّعْلِيم ثمَّ مُطَالبَة المتعلم باستحضار ذَلِك وَحِينَئِذٍ يسلم لَهُ منصب التَّحْصِيل فَيحْتَاج إِلَى حفظ
كلهَا أَو اكثرها وَلَا يَفِي عمره بِمَا كتب مِنْهَا فِي صناعَة وَاحِدَة إِذا تجرد لَهَا فَيَقَع الْقُصُور وَلَا بُد دون رُتْبَة التَّحْصِيل
التَّمْثِيل الأول
مُطَالبَة المشتغل بِالْمذهبِ الْمَالِكِي بِكِتَاب الْمُدَوَّنَة وَمَا كتب عَلَيْهَا من الشروحات ككتاب ابْن يُونُس وللخمي وَابْن بشير
والتنبيهات والمقدمات وَكتاب الْعُتْبِيَّة وَالْبَيَان والتحصيل وَكتاب أَن الْحَاجِب وَمَا كتب عَلَيْهِ مَعَ احْتِيَاجه إِلَى تَمْيِيز الطَّرِيقَة القيروانية من الطَّرِيقَة القرطبية والبغدادية والمصرية وطرق الْمُتَأَخِّرين عَنْهُم والاحاطة بذلك كُله وَحِينَئِذٍ يسلم لَهُ منصب الْفتيا وَهِي كلهَا متكررة وَالْمعْنَى وَاحِد والعمر يَنْقَضِي فِي وَاحِد مِنْهَا
قلت قد نصوا على قريب من هَذَا فاللمازري فِي تعقيبه على احياء الْغَزالِيّ وَقد قرر أَن التَّعْلِيم لَا بُد فِيهِ من مؤونة عَظِيمَة وَهَذِه الْمُدَوَّنَة تشْتَمل على سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف مسئلة وَمِائَتَيْنِ لَيْسَ فِي الْعَصْر من يسامح المقتصر عَلَيْهَا بالفتوى وَلَا يصفه بامامة أَو الْفتيا حَتَّى يضيف اليها الِاطِّلَاع على امثال هَذِه الْمسَائِل
قَالَ ابْن خلدون وَلَو اقْتصر المعلمون المتعلمين على الْمسَائِل المذهبية
فَقَط لَكَانَ سهلا وَكَانَ التَّعْلِيم دون ذَلِك بِكَثِير ومأخذه قَرِيبا وَلكنه دَاء لَا يرْتَفع لاستقرار العوائد عَلَيْهِ فَصَارَت كالطبيعة الَّتِي لَا تتبدل
التَّمْثِيل الثَّانِي
مُطَالبَة النَّاظر فِي الْعَرَبيَّة بِكِتَاب سبويه وطرق الْبَصرِيين والكوفيين والبغداديين والاندلسيين وطرق الْمُتَأَخِّرين كَابْن الْحَاجِب وَابْن مَالك والعمر يَنْقَضِي دون ذَلِك فَلَا يطْمع أحد فِي الْغَايَة مِنْهُ
إِلَّا الْقَلِيل النَّادِر لتشعبه بِمَا ذكر وصعوبته هَذَا وَهِي آلَة ووسيلة فَكيف يكون الْحَال فِي الْقَصْد الَّذِي هُوَ الثَّمَرَة
تَنْبِيه
تَكْثِير التواليف لمريدها من طلبة الْعلم لَا يُقَال فِيهِ انه عائق عَن التَّحْصِيل بل هُوَ كَفِيل بِكَمَالِهِ وَمن ثمَّ قَالَ ابْن حزم الاستكثار من الْكتب من دعائم الْعلم إِذْ لَا يَخْلُو كتاب من فَائِدَة وَزِيَادَة علم وَقد كشف الْخَلِيل عَن فَائِدَة جمعهَا وغاياته فَقَالَ اقلوا من الْكتب لتحفظوا واكثروا مِنْهَا لِتَعْلَمُوا
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة أَن كَثْرَة الاختصارات الموضوعية فِي الْعُلُوم مخلة بالتعليم
قَالَ ذهب كثير من الْعلمَاء الْمُتَأَخِّرين إِلَى اخْتِصَار الطّرق والانحاء فِي الْعُلُوم بِوَضْع مختصرات مُشْتَمِلَة على حصر مسائلها وادلتها بِاخْتِصَار فِي الالفاظ وحشو الْقَلِيل مِنْهَا بالمعاني الْكَثِيرَة أَو بِاخْتِصَار مَا وضع من المطولات للتفسير وَالْبَيَان تَقْرِيبًا للْحِفْظ كَمَا فعل ابْن الْحَاجِب فِي الْفِقْه واصوله وَابْن مَالك فِي الْعَرَبيَّة والخونجي فِي الْمنطق وَهُوَ فَسَاد فِي التَّعْلِيم واخلال فِي التَّحْصِيل
قلت وَحَاصِل مَا ينشأ عَن ذَلِك مَعَ اخلاله بالبلاغة امور
أَحدهَا أَن فِيهِ تَخْلِيطًا على الْمُبْتَدِئ بالقاء الغايات اليه وَهُوَ لم يستعد بعد لقبولها وَهُوَ من سوء التَّعْلِيم كَمَا سَيَأْتِي أَن شَاءَ الله تَعَالَى
الثَّانِي أَن فِيهِ مَعَ ذَلِك شغلا كَبِيرا على التَّعْلِيم بتتبع الالفاظ العويصة للفهم لتزاحم الْمعَانِي عَلَيْهَا واستخراج الْمسَائِل من بَينهَا وَلَا يتَخَلَّص من ذَلِك إِلَّا بعد ذهَاب حَظّ صَالح من الْوَقْت
الثَّالِث أَن الملكة الْحَاصِلَة بعد ذَلِك كُله من التَّعَلُّم مِنْهَا إِذا تمّ سداده وَلم تعقبه آفَة قَاصِرَة عَن الملكات الْحَاصِلَة من الموضوعات البسيطة لِكَثْرَة مَا يَقع فِيهَا من التّكْرَار والاطالة المفسدين لحُصُول الملكة التَّامَّة
ثمَّ قَالَ فقصدوا إِلَى تسهيل الْحِفْظ على المتعلم فاركبوه صعبا يقطعهُ عَن تَحْصِيل الملكات النافعة وتمكنها وَمن يهد الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ
قلت وَمِمَّا يعاب بِهِ سرعَة تقلب الْفَهم لَهَا لتعذر استحضار مَا يفِيدهُ ويعسر عَلَيْهِ دَائِما وَقد ذكر لنا عَن ابْن الْحَاجِب انه رُبمَا رَاجع بعض الْمَوَاضِع من مختصرة الفقهي فَلم يفهمهُ واذ ذَاك فَمَا الظَّن بسواه
عاطفة تَكْمِيل
لقصد الْمَسْأَلَتَيْنِ المذكورتين آنِفا بِذكر فَوَائِد مهمة
الْفَائِدَة الأولى
قَالَ ابْن الاكفاني كتب الْعُلُوم لَا تحصر كَثْرَة لِكَثْرَة الْعُلُوم وَاخْتِلَاف الاغراض فِي الْوَضع والتأليف لَكِنَّهَا من جِهَة الْمِقْدَار ثَلَاثَة مختصرة فِي لَفظهَا وجزء مَعْنَاهَا
وَهَذِه تجْعَل تذكرة لرؤوس المشاكل ينْتَفع بهَا المتهي للاستحضار وَرُبمَا افادت بعض المبتدئين الأذكياء لسرعة جرأتهم على الْمعَانِي الْعبارَات الدقيقة ومبسوطة ينْتَفع بهَا للمطالعة ومتوسطة لَفظهَا بأزاء مَعْنَاهَا ونفعها عَام
الْفَائِدَة الثَّانِيَة
قَالَ أَيْضا المصنفون الْمُعْتَبرَة تصانيفهم فريقان
أَحدهمَا من لَهُ فِي التَّعْلِيم ملكة تَامَّة ورؤية كَافِيَة وتجارب وَثِيقَة وحدس صائب واستخبار قريب وتصانيفهم عَن قُوَّة تبصرة ونفاذ فكر وسداد رَأْي يجمع إِلَى تَحْرِير الْمعَانِي بتهذيب الالفاظ وَهَذِه لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا أحد من الْعلمَاء فَإِن نتائج الافكار لَا تقع عِنْد حد بل لكل عَالم ومتعلم مِنْهَا حَظّ وَهَؤُلَاء احسنوا
إِلَى النَّاس كَمَا احسن الله تَعَالَى اليهم زَكَاة عَن علومهم لبَقَاء الذّكر فِي الدُّنْيَا وجزيل الاجر فِي الاخرة
الثَّانِي من لَهُ ذهن ثاقب وَعبارَة طَلْقَة وَوَقعت لَهُ كتب جَيِّدَة جمة الْفَوَائِد لَكِنَّهَا غير انيقة التَّأْلِيف وَالنّظم فاستخرج دررها واحسن نظمها وَهَذِه ينْتَفع بهَا المبتدؤون والمتوسطون وَهَؤُلَاء مشكورون على ذَلِك شكر الله سَعْيهمْ
الْفَائِدَة الثَّالِثَة
شَرط الشَّيْخ الْأَمَام أَبُو اسحاق الشاطبي فِي الِانْتِفَاع بمطالعة الْكتب العلمية شرطين
أَحدهمَا تقدم فهم مَقَاصِد علمهَا وَمَعْرِفَة اصطلاحاته قَالَ وَذَلِكَ يحصل من مشافهة الْعلمَاء أَو بِمَا هُوَ رَاجع اليه إِذْ الْكتب وَحدهَا لَا تفِيد الطَّالِب مِنْهَا شَيْئا دون فتح الْعلمَاء كَمَا هُوَ مشَاهد
الثَّانِي تحرى كتب الْمُتَقَدِّمين من أهل الْعلم المُرَاد تَحْصِيله فَإِنَّهُم اقعد بِهِ من الْمُتَأَخِّرين
قَالَ وَاصل ذَلِك التجربة الْمُشَاهدَة فِي أَي علم كَانَ فالمتأخر لَا يبلغ من الرسوخ فِيهِ مَا بلغه الْمُتَقَدّم وَالْخَبَر الدَّال على ذَلِك فَمِنْهُ خير الْقُرُون قَرْني الحَدِيث وَهُوَ يُشِير أَن كل قرن مَعَ مَا بعده كَذَلِك ثمَّ ذكر من الْأَخْبَار مَا يَقْتَضِي الاعلام بِنَقص الدّين وَالدُّنْيَا واعظم ذَلِك الْعلم فَهُوَ إِذا فِي نقص بِلَا شكّ فَلذَلِك صَار تحرى كتب الْمُتَقَدِّمين وَكَلَامهم
وسيرهم انفع لمن اراد الْأَخْذ بِهِ للِاحْتِيَاط فِي الْعلم أَي نوع كَانَ وخصوصا علم الشَّرِيعَة الَّذِي هُوَ العروة الوثقى والوزر الاحمى انْتهى مُلَخصا
قلت قد سبقه لهَذَا الْمَعْنى غير وَاحِد من الشُّيُوخ فقد حكى أَبُو الْحسن الشاري فِي تَارِيخه عَن بعض شُيُوخه انه كَانَ يُبَالغ فِي الْوَصِيَّة بالاعتماد على كتب الْمُتَقَدِّمين حَتَّى انه كَانَ لَا يقتني كتابا من كتب الْمُتَأَخِّرين
قَالَ وَلَقَد كَانَ بعض من لقيناه من الْمُحَقِّقين يمِيل إِلَى هَذِه الطَّرِيقَة
وَحكى عَن ابْن خروف انه كَانَ لَا يقْرَأ من كتب النَّحْو حاشا كتاب سِيبَوَيْهٍ وَيرى انه يطْرَح مَا سواهُ كمفصل الزَّمَخْشَرِيّ وَغَيره
قَالَ وَكَانَ يسمح فِي بعض الاوقات فِي الاصول لِابْنِ السراج والتبصرة المنسوبة للصيمري انْتهى
قلت وَلابْن عَرَفَة ع بعض الشُّيُوخ فِيمَا يخص كتاب ابْن الْحَاجِب الفرعي كَلَام هُوَ اشد من هَذَا فَرَاجعه فِي مَوْضِعه
الْمَسْأَلَة السَّابِعَة أَن وَجه الصَّوَاب فِي تَعْلِيم الْعلم وطرقاته أَن يلقى للمتعلم على التدريج فِي مَرَّات ثَلَاث
إِحْدَاهمَا يلقِي عَلَيْهِ اولا مسَائِل فِي كل بَاب من الْفَنّ هِيَ اصول ذَلِك الْبَاب فِيهِ وَيقرب لَهُ فِي شرحها على سَبِيل الاجمال ومراعاة قُوَّة عقله واستعداده حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى آخر الْفَنّ ومنذ ذَلِك تحصل لَهُ ملكة ضَعِيفَة غايتها تهيئته لفهمه وتحصيله
الثَّانِيَة يرفعهُ فِي التَّلْقِين عَن تِلْكَ الرُّتْبَة بِاسْتِيفَاء الْبَيَان الْخَارِج عَن الاجمال واعلامه بِمَا هُنَاكَ من الْخلاف وَوَجهه إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى آخر الْفَنّ فتجود ملكته
الثَّالِثَة يرجع بِهِ وَقد شدا فَلَا يتْرك عويصا وَلَا مُبْهما إِلَّا اوضحه وَفتح لَهُ مقفله فيتخلص من الْفَنّ وَقد استولى على ملكته
قَالَ وَقد يحصل للْبَعْض فِي اقل من ذَلِك بِحَسب مَا يخلق لَهُ وييسر عَلَيْهِ
مُخَالفَة صَوَاب
قَالَ وَقد شاهدنا كثيرا من المعلمين يغفلون عَن طَرِيق هَذَا التَّعْلِيم بالقاء الْمسَائِل المقفلة فِي أول وهلة ثمَّ مُطَالبَة المتعلم باحضار ذهنه فِي حلهَا وَحفظ مَا تلقى مِنْهَا اعتقادا أَن ذَلِك مران على التَّعْلِيم وصواب فِيهِ فَيَخْلِطُونَ عَلَيْهِ بالقاء الغايات فِي المبادئ وَقبل استعداده للفهم فَإِن قبُول الْعلم والاستعداد لفهمه ينشأ تدريجيا والمتعلم أول الْأَمر عَاجز عَن الْفَهم فِي الْجُمْلَة إِلَّا فِي الاقل وعَلى سَبِيل التَّقْرِيب والاجمال ثمَّ لَا يزَال استعداده يتدرج بمخالطة مسَائِل ذَلِك الْفَنّ وتكرارها عَلَيْهِ والانتقال فِيهَا من التَّقْرِيب إِلَى الاسهاب حَتَّى تتمّ الملكة فِي الاستعداد ثمَّ فِي
التَّحْصِيل وَإِذا القيت عَلَيْهِ الْغَايَة فِي ابْتِدَائه وَهُوَ عَاجز عَن الْفَهم والوعي وبعيد عَن الاستعداد كل ذهنه وَحسب ذَلِك من صعوبة الْعلم فِي نَفسه فتكاسل عَن قبُوله وَتَمَادَى فِي هجرانه
فَقَالَ وانما أَتَى ذَلِك من صعوبة التَّعْلِيم وسوءه
وَصَايَا نافعة
أَحدهَا يَنْبَغِي للمغلم أَن يزِيد المتعلم على فهم كِتَابه الَّذِي اكب على التَّعْلِيم مِنْهُ بِحَسب طاقته وقبوله مبتدئا أَو منتهيا وَلَا يخلط مسَائِل الْكتاب بغَيْرهَا حَتَّى يعيه من اوله إِلَى آخِره ويستولي مِنْهُ على ملكة بِهِ ينفذ فِي غَيره لَان المتعلم إِذا حصل ملكة مَا استعد بهَا لقبُول مَا بَقِي حَتَّى يستولي على الْغَايَة وَإِذا خلط عَلَيْهِ الْأَمر عجز عَن الْفَهم وادركه الْملَل وانطمس وآيس من التَّحْصِيل وهجر الْعلم والتعليم وَالله يهدي من يَشَاء
الثَّانِيَة يَنْبَغِي لَهُ أَن لَا يطول على المتعلم فِي الْفَنّ الْوَاحِد أَو الْكتاب الْوَاحِد بتقطيع وتفريق مَا بَينهمَا لانه ذَرِيعَة النسْيَان وَانْقِطَاع مسَائِل الْفَنّ بَعْضهَا عَن بعض لعسر حُصُول الملكة بذلك وَإِذا كَانَت اوائل الْعلم واواخره حَاضِرَة عِنْد الْفِكر كَانَت الملكة الناشئة ايسر حصولا وماحكم صبغة لَان الملكة إِنَّمَا تحصل بتتابع الْفِعْل وتكرره وَمَتى تنوسي الْفِعْل فالملكة الناشئة عَنهُ كَذَلِك وَالله علمكُم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ
الثَّالِثَة يَنْبَغِي إِلَّا يخلط على المتعلم علمين مَعًا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ قل أَن يظفر
بِوَاحِد مِنْهُمَا لتقسم البال وانصرافه عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى تفهم الآخر فيستغلقان مَعًا ويستصعبان وَيعود مِنْهُمَا بالخيبة
قلت من كَلَام ابْن رشد الْحَكِيم مقررا لهَذَا الْمَعْنى من احب أَن يتَعَلَّم اكثر من شَيْء وَاحِد فِي وَقت وَاحِد لم يتَعَلَّم وَاحِد مِنْهُمَا وقديما وَردت الْوَصِيَّة بذلك وَعَن بَعضهم انه قَالَ لمؤدب وَلَده لَا تخرجهم من علم إِلَى علم حَتَّى يحكموه فَإِن اصطكاك الْعلم فِي السّمع وازدحامه فِي الْوَهم مضلة مغلقة للفهم
الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة
أَن الْعُلُوم الالية لَا توسع فِيهَا الافكار وَلَا تفرع الْمسَائِل وَذَلِكَ لَان الْعُلُوم صنفان
أَحدهمَا مقصو لذاته كالتفسير والْحَدِيث وَالْفِقْه وَعلم الْكَلَام من الشرعيات والطبيعيات والالهيات من الحكميات وَهَذِه فَلَا حرج من توسيع الْكَلَام فِيهَا وتفريع الْمسَائِل لمزيد تمكن الملكة بذلك
الثَّانِي آلَة لذَلِك الْمَقْصُود لذاته كالعربية والحساب وَغَيرهمَا للشرعيات والمنطق للحكميات وَرُبمَا كَانَ لعلم الْكَلَام واصول الْفِقْه على طَريقَة الْمُتَأَخِّرين وَهَذِه فَلَا يَنْبَغِي أَن يُوسع فِيهَا الْكَلَام وَلَا تَفْرِيع الْمسَائِل لخروجها بذلك عَن الْمَقْصُود بهَا واخلاله بِمَا هِيَ اليه وَسِيلَة لضيق الْعُمر عَن تَحْصِيل الْجَمِيع على هَذِه الصُّورَة وحقيق بِهِ الِاشْتِغَال بهَا فَذَلِك تَضْييع للعمر وخوض فِيمَا لَا يُغني
تَمْثِيل قَالَ وَهَذَا كَفعل الْمُتَأَخِّرين فِي النَّحْو والمنطق بل وَهَذَا كَفعل الْمُتَأَخِّرين فِي النَّحْو والمنطق بل واصول الْفِقْه لأَنهم اوسعوا الْكَلَام فِيهَا نقلا واستدلالا واكثروا من التَّفْرِيع بِمَا اخرجها إِلَى قبيل الْمَقْصُود لذاتها وَرُبمَا جر ذَلِك إِلَى انظار ومسائل لَا حَاجَة بهَا فِيمَا هِيَ آلَة لَهُ فَتكون لذَلِك لَغوا
قلت مثله قَول ابْن الْعَرَبِيّ من اقام عمره حسابيا أَو نحويا فقد هلك وَهُوَ بِمَنْزِلَة من اراد صَنْعَة شَيْء فشحذ الالة عمره ثمَّ مَاتَ قبل عمل صَنعته
وَقَول الشَّيْخ أبي اسحاق الشاطبي كل مَسْأَلَة مرسومة فِي أصُول الْفِقْه لَا تنبني عَلَيْهَا فروع فقهية أَو آدَاب شَرْعِيَّة وَلَا تكون عونا فِي ذَلِك فوضعها فِي اصول الْفِقْه عَارِية
لُزُوم ومامجب قَالَ ابْن خلدون فعلى المعلمين كَمَا هُوَ وَسِيلَة أَن لَا يستبحروا فِيهِ وَلَا يستكثروما من مسَائِله وقوفا بالمتعلم مَعَ الْغَرَض مِنْهُ
قلت مثله قَول الْغَزالِيّ كل مَا يطْلب لغيره فَلَا يَنْبَغِي أَن تَجِد فِيهِ الْمَطْلُوب وتستكثر مِنْهُ
وَقَالَ ابْن خلدون وَمن ترقت همته بعد ذَلِك إِلَى توغل فِيهِ وَرَأى فِي نَفسه قيَاما بذلك وانتهاضا اليه فليختر لنَفسِهِ وكل
ميسر لما خلق لَهُ
قلت وَقد قَررنَا فِي رَوْضَة الاعلام بِمَنْزِلَة الْعَرَبيَّة من عُلُوم الْإِسْلَام مَا يَتَّضِح بِهِ هَذَا الْموضع على التَّمام أَن شَاءَ الله تَعَالَى
الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة أَن مَذَاهِب أهل الامصار الاسلامية مُخْتَلفَة فِي طرق تَعْلِيم الْولدَان وَقبل بَيَان ذَلِك فتعليم الْولدَان الْقُرْآن من شَعَائِر الدّين ومراسمه أَخذ بِهِ أهل الْملَّة ودرجوا عَلَيْهِ لما يسْبق بِهِ إِلَى الْقُلُوب من رسوخ الْإِيمَان وعقائده إِذْ هُوَ اصل التَّعْلِيم الْمَبْنِيّ عَلَيْهِ مَا يحصل بعده من الملكات وَذَلِكَ لَان تَعْلِيم الصغار اشد رسوخا وَهُوَ اصل لما بعده لَان السَّابِق الأول إِلَى الْقُلُوب كالاساس للملكات وعَلى كل حَال الاساس يكون حَال كل مَا يَبْنِي عَلَيْهِ إِذا تقرر هَذَا فلاهل الامصار الاسلامية فِي هَذَا التَّعْلِيم طرق
الطَّرِيقَة الأولى لأهل الْمغرب وَمن تَبِعَهُمْ من قراء البربر
وَهِي اقتصارهم على تَعْلِيم الْقُرْآن فَقَط واخذهم اثناء ذَلِك بالرسم وَاخْتِلَاف الْقُرَّاء فِيهِ من غير مزِيد عَلَيْهِ من الحَدِيث وَالْفِقْه أَو الشّعْر أَو كَلَام الْعَرَب إِلَى أَن يحذق فِي ذَلِك قبل الْبلُوغ وَبعده إِلَى الشبيبة أَو يَنْقَطِع دونه فَيكون انْقِطَاعًا عَن الْعلم بِالْجُمْلَةِ وَكَذَا فِي إِذا
رَاجع ذَلِك بعد طَائِفَة من عمره فهم لذَلِك اقوم على رسم الْقُرْآن وَحفظه من سواهُم
الطَّرِيقَة الثَّانِيَة لأهل الاندلس
وَهِي تعليمهم للْقِرَاءَة وَالْكِتَابَة من حَيْثُ هُوَ لكنه لما كَانَ الْقُرْآن اصل ذَلِك ومنبع الدّين والعلوم جَعَلُوهُ أصلا فِي التَّعْلِيم وخلطوا بِهِ رِوَايَة الشّعْر والترسيل وَحفظ قوانين العربة ي وتجويد الْخط وَالْكِتَابَة وعنايتهم بِهِ اكثر من الْجَمِيع إِلَى أَن يخرج عَن حد الْبلُوغ إِلَى الشبية وَقد شدا بعض الشَّيْء فِي الْعَرَبيَّة وَالشعر وبرز فِي الْخط وَالْكِتَابَة وَتعلق بأذيال الْعلم على الْجُمْلَة لَو كَانَ فِيهَا سَنَد لتعليم الْعُلُوم وَلَكنهُمْ ينقطعون عِنْد ذَلِك لانْقِطَاع سَنَد التَّعْلِيم فِي أفقهم وَلَا يحصل لَهُم إِلَّا ذَلِك التَّعْلِيم الأول وَفِيه كِفَايَة واستعداد إِذا وجد الْمعلم
الطَّرِيقَة الثَّالِثَة لأهل افريقية
وَهِي خلط هَذَا التَّعْلِيم بِالْحَدِيثِ فِي الْغَالِب ومدارسة قوانين الْعُلُوم وتلقين بعض مسائلها إِلَّا أَن عنايتهم باستظهار الْقُرْآن ووقوفهم على اخْتِلَاف رِوَايَات قرائه اكثر مِمَّا سواهُ وعنايتهم بالخط تبع لذَلِك وَبِالْجُمْلَةِ فطريقتهم اقْربْ إِلَى طَريقَة أهل الاندلس لاتصال سَنَد طريقتهم بمشيخة أهل الاندلس الَّذِي جازوا عِنْد تغلب النَّصَارَى على شَرق بلدهم واستقروا بتونس وعنهم اخذ ولدانهم من بعد ذَلِك
الطَّرِيقَة الرَّابِعَة لأهل الْمشرق
وَهِي خلط التَّعْلِيم كَذَلِك فِيمَا بلغ عَنْهُم
قَالَ وَلَا أَدْرِي بِمَ عنايتهم مِنْهُ وَالَّذِي ينْقل لنا أَن عنايتهم بدراسة الْقُرْآن وصحف الْعلم فِي زمَان الشبيبة وَلَا يخلطونه بتعليم الْخط لاخْتِصَاص المنتصبين لتعليم قوانينه على انْفِرَاده كَسَائِر الصَّنَائِع فَلذَلِك لَا يتداولونه فِي الْمكَاتب وَإِذا كتبُوا لَهُم الالواح فبخط قَاصِر عَن الاجادة وَمن اراد تعلم الْخط ابتغاه من أهل صَنعته
فَائِدَة اختبار
قَالَ فَأَما أهل افريقية وَالْمغْرب فأفادهم الِاقْتِصَار على الْقُرْآن الْقُصُور عَن ملكة اللِّسَان جملَة لَان الْقُرْآن لَا ينشأ عَنهُ فِي الْغَالِب ملكة لعجز الْبشر عَن الاتيان بِمثلِهِ وَلَا ملكة لَهُم فِي غير اساليبه فَلَا ملكة لَهُم فِي اللِّسَان وحظهم الجمود على الْعبارَات وَقلة التَّصَرُّف فِي الْكَلَام وَرُبمَا كَانَ أهل افريقية اخف من أهل الْمغرب لخلطهم فِي تَعْلِيم الْولدَان بعبارات قوانين الْعُلُوم فيقتدرون على شَيْء من التَّصَرُّف فِي الْكَلَام الأول إِلَّا أَن ملكتهم فِي ذَلِك قَاصِرَة عَن البلاغة لنزول محفوظهم عَن تِلْكَ الْعبارَات مِنْهَا
قَالَ وَأما أهل الاندلس فأفادهم التفنن فِي التَّعْلِيم بِكَثْرَة رِوَايَة الشّعْر والترسيل ومدارسة الْعَرَبيَّة من أول الْعُمر حُصُول ملكة صَارُوا
بهَا أعرف فِي اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَقصرُوا فِي سَائِر الْعُلُوم لبعدهم عَن مدارسة الْقُرْآن والْحَدِيث فَكَانُوا لذَلِك أهل خطّ وأدب بارع أَو مقصر على حسب التَّعْلِيم الْكتاب بعسر تَعْلِيم الصِّبَا
غَرِيبَة
قَالَ وَلَقَد ذهب ابْن الْعَرَبِيّ إِلَى غَرِيبَة فِي وَجه التَّعْلِيم واعاد فِي ذَلِك وأبدأ وَقدم تَعْلِيم الْعَرَبيَّة وَالشعر كَمَا هُوَ مَذْهَب أهل الاندلس
قَالَ لِأَن الشّعْر ديوَان الْعَرَب وَيَدْعُو إِلَى تَقْدِيمه مَعَ الْعَرَبيَّة فَسَاد اللُّغَة ثمَّ ينْتَقل مِنْهُ إِلَى الْحساب ليتمرن فِيهِ ثمَّ إِلَى درس الْقُرْآن واستغفل أهل بِلَاده فِي أَخذ الطِّفْل بِالْقُرْآنِ فِي أول أمره لقرَاءَته مَا لَا يفهم وَتَبعهُ فِي أَمر غَيره اهم مِنْهُ
قَالَ ثمَّ ينظر فِي أصُول الدّين ثمَّ أصُول الْفِقْه ثمَّ الجدل ثمَّ الحَدِيث وَنهي مَعَ ذَلِك عَن خلط علمين إِلَّا مَعَ قبُول المتعلم لجودة ذهنه ونشاطه
قَالَ وَهُوَ لعمري مَذْهَب حسن إِلَّا أَن العوائد لَا تساعد عَلَيْهِ وه ياملك بالاحوال
تَوْجِيه عَادَة
قَالَ وَوجه مَا اخْتصّت بِهِ العوائد من تقدم دراسة الْقُرْآن ايثار التَّبَرُّك بِهِ وخشية مَا يعرض للْوَلَد فِي جُنُون الصِّبَا من القواطع عَن الْعلم فيفوته
الْقُرْآن لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي حجر الصِّبَا منقاد للْحكم فَإِذا تجَاوز الْبلُوغ انحل من ربقة الْقَهْر فَرُبمَا عصفت بِهِ ريَاح الشبيبة فألقته بساحل البطالة فيغتنمون تَحْصِيل الْقُرْآن لَهُ قبل ذَلِك
قَالَ وَلَو حصل الْيَقِين باستمراره فِي طلب الْعلم وَقبُول تَعْلِيمه لَكَانَ هَذَا الْمَذْهَب اولى مِمَّا اخذ بِهِ أهل الْمشرق وَالْمغْرب وَلَكِن الله يحكم مَا يَشَاء لَا معقب لحكمه
الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة أَن الشدَّة على المتعلمين مضرَّة بهم
وَذَلِكَ لِأَن ارهاف الْحَد للتأديب مُضر بالمتعلم لَا سِيمَا فِي اصغار الْولدَان لانه من سوء الملكة بِدَلِيل أَن من كَانَ مرباه بالقهر من متعلم أَو مَمْلُوك أَو خديم عَاد عَلَيْهِ بِضيق النَّفس وَذَهَاب النشاط وَحُصُول الكسل وَالْحمل على الْكَذِب والخبث وَالْمَكْر والخديعة وَفَسَاد مَعَاني الانسانية من حَيْثُ الِاجْتِمَاع وَهِي الحمية والمدافعة وَالْقَبُول عَن اكْتِسَاب الْفَضَائِل والخلق الْجَمِيل حَتَّى ينقبض عَن غَايَة مَقْصُودَة فيرتكس وَيعود فِي أَسْفَل السافلين كَمَا وَقع لكل امة حصلت فِي قَبْضَة الْقَهْر والعسف
اعْتِبَار قَالَ وَاعْتبر ذَلِك فِي كل من يملك عَلَيْهِ امْرَهْ وَلَا تكون الملكة الكافلة لَهُ رَفِيقَة بِهِ تَجِد ذَلِك فيهم وَانْظُر فِي الْيَهُود وَمَا حصل فيهم بذلك من خلق السوء حَتَّى انهم يوصفون فِي كل افق وعصر بالحرج وَمَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاح المقهور والمتخابث والكيد وَسَببه مَا قُلْنَاهُ فَلذَلِك يَنْبَغِي لمعلم الْولدَان أَن لَا يشدد عَلَيْهِم فِي التَّأْدِيب
استظهار
قَالَ وَقد قَالَ مُحَمَّد ابْن أبي زيد لَا يَنْبَغِي لمؤدب الصّبيان أَن يزِيد فِي ضَربهمْ إِذا احتاجوا اليه على ثَلَاثَة اسواط وَمن كَلَام عمر رضي الله عنه من لم يؤدبه الشَّرْع لَا ادبه الله حرصا على صون النُّفُوس عَن مذلة التَّأْدِيب وعلما بِأَن الْمِقْدَار الَّذِي عينه الشَّرْع لذَلِك املك لَهُ فَإِنَّهُ اعْلَم بمصلحته
تَعْلِيم ملوكي
قَالَ وَمن أحسن مَذَاهِب التَّعْلِيم مَا تقدم بِهِ الرشيد لعلم وَلَده قَالَ خلف الاحمر بعث إِلَى الرشيد لتأديب وَلَده الامين فَقَالَ يَا أَحْمَر أَن امير الْمُؤمنِينَ قد دفع اليك مهجة نَفسه وَثَمَرَة فُؤَاده فصير يدك عَلَيْهِ مبسوطة وطاعته لَك وَاجِبَة فَكُن لَهُ بِحَيْثُ وضعك امير الْمُؤمنِينَ اقرئه الْقُرْآن وعرفه الْأَخْبَار وروه الاشعار وَعلمه السّنَن وعرفه بمواقع الْكَلَام وبدئه وامنعه من الضحك إِلَّا فِي اوقاته وخذه بتعظيم مَشَايِخ بني هَاشم إِذا دخلُوا عَلَيْهِ وَرفع مجَالِس القواد إِذا حَضَرُوا مَجْلِسه وَلَا تمرن بك سَاعَة إِلَّا وانت مغتنم تأديبة وَفَائِدَة تفيده إِيَّاهَا من غير أَن تحزنه فتميت قلبه وذهنه وَلَا تمعن فِي مسامحته فيستحلي الْفَرَاغ ويألفه وَقَومه مَا اسْتَطَعْت بالرفق والملاينة فَإِن اباهما فَعَلَيْك بالشدة والغلطة
الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة
أَن الرحلة فِي طلب الْعلم ولقاء المشيخة مزِيد كَمَال فِي التَّعْلِيم فَعَلَيْك بِهِ وَذَلِكَ لأمرين
أَحدهمَا أَن على قدر كَثِيرَة الشُّيُوخ تكن حُصُول الملكة ورسوخها لما فِي ذَلِك من تَكْرِير الْمُبَاشرَة والتلقين بِحَسب تعدد لقائهم
الثَّانِي أَن تكَرر الْأَخْذ عَنْهُم يُفِيد المتعلم تَمْيِيز الاصطلاحات لما يرى من اخْتِلَاف طرقهم فِيهَا بِمُجَرَّد الْعلم عَنْهَا وَتحقّق إِنَّهَا انحاء تَعْلِيم وطرق توصل لَا إِنَّهَا جُزْء مِنْهَا كَمَا يَعْتَقِدهُ كثير
قَالَ فالرحلة لَا بُد مِنْهَا فِي طلب الْعلم لِاكْتِسَابِ الْفَوَائِد والكمال بلقاء الْمَشَايِخ ومباشرة الرِّجَال وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم
قلت ليشاع الْعِنَايَة بهَا عِنْد المحصلين
قَالَ الْغَزالِيّ قل مَذْكُور فِي الْعلم من زمَان الصَّحَابَة رضي الله عنهم إِلَى زَمَاننَا إِلَّا وَحصل الْعلم بِالسَّفرِ وَسَار لاجله وَعَن مَالك ابْن دِينَار رضي الله عنه اوحى الله إِلَى مُوسَى عليه السلام أَن اتخذ نَعْلَيْنِ من حَدِيد وعصا من حَدِيد ثمَّ اطلب الْعلم وماصبر حَتَّى تخرق نعالك وتكسر عصاك
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَهُوَ أول من رَحل فِي طلب الْعلم من أهل الشَّرَائِع
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة
أَن الْعلمَاء من بَين النَّاس ابعد عَن السياسة ومذاهبها وَذَلِكَ لامرين أَحدهمَا انهم يعتادون النّظر الفكري والغوص على الْمعَانِي الدقيقة واتنزاعها من المحسوسات وتجريدها فِي الذِّهْن امورا كُلية يحكم عَلَيْهَا بِأَمْر على الْعُمُوم لَا بِخُصُوص مَادَّة أَو شخص أَو جنس أَو صنف من النَّاس وَبعد ذَلِك يطبقون تِلْكَ الكليات على الخارجيات
الثَّانِي انهم يقيسون الْأُمُور على اشباهها بِمَا اعتادوا من الْقيَاس الفقهي فَلَا يزَال حكم نظرهم فِي الذِّهْن وَلَا يصير إِلَى الْمُطَابقَة إِلَّا بعد الْفَرَاغ من الْبَحْث وَالنَّظَر وَلَا يصير بِالْجُمْلَةِ اليها وانما يتَفَرَّع فِي الْخَارِج عماما فِي الذِّهْن من ذَلِك كل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهَا فروع كَمَا فِي الْمَحْفُوظ من أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة فيطلب مُطَابقَة مَا فِي الْخَارِج لَهَا عكس مَا فِي الانظار فِي الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة الْمَطْلُوب فِي صِحَّتهَا مطابقتها لما فِي الْخَارِج فَإِذا هم منفردون فِي سَائِر انظارهم بالأمور الذهنية لَا يعْرفُونَ سواهَا والسياسة تحْتَاج إِلَى مُرَاعَاة مَا فِي الْخَارِج أَو مَا يلْحقهَا من الاحوال الْخفية لَا مَكَان اشتمالها على مَا يمْنَع من الحاقها بشبه أَو مِثَال أَو تنافى الْكُلِّي الَّذِي يحاول تطبيقه عَلَيْهَا وَلَا
يُقَاس شَيْء من احوال الْعمرَان على الآخر لاحْتِمَال اخْتِلَافهمَا فِي غير مَا اشتبها فِيهِ من وُجُوه
قَالَ فَيكون الْعلمَاء لما تعودوه من تَعْمِيم الْأَحْكَام وَقِيَاس الْأُمُور بَعْضهَا على بعض إِذا نظرُوا فِي السياسة افرغوما ذَلِك فِي قالب افكارهم وَنَوع استدلالاتهم فيقعون فِي الْغَلَط الْكثير اولا يُؤمن عَلَيْهِم
تنيبه قَالَ وَيلْحق بهم أهل الذكاء والكيس لانهم ينزعون بثقوب اذهانهم إِلَى مثل شَأْن الْفُقَهَاء من الغوص على الْمعَانِي وَالْقِيَاس والمحاكات فيقعون فِي الْغَلَط والعامي السَّلِيم الطَّبْع الْمُتَوَسّط الْكيس لقُصُور ذهنه عَن ذَلِك وَعدم الِاعْتِبَار بِهِ يقْتَصر بِكُل مَادَّة على نَص حكمهَا فِي الاحوال والاشخاص على مَا اخْتصَّ بِهِ وَلَا يتَعَدَّى فِي الحكم بتعميم قِيَاس وقوفا ي اكثر نظره مَعَ الْموَاد المحسوسة كالسابح لَا يُفَارق الموج عِنْد الْمَدّ وَلذَا قيل
(وَلَا توغلن إِذا مَا سبحت
…
فَإِن السَّلامَة فِي السَّاحِل)
قَالَ وَيكون مَأْمُونا من الْغَلَط فِي سياسته مُسْتَقِيم النّظر فِي مُعَاملَة ابناء جنسه فَيحسن معاشه وتندفع آفاته ومضاره وَفَوق كل ذِي علم عليم
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة أَن حَملَة الْعلم فِي الْإِسْلَام أَكْثَرهم الْعَجم
قَالَ وَمن الْغَرِيب الْوَاقِع أَن حَملَة الْعلم الشَّرْعِيّ أَو الْعقلِيّ فِي الْملَّة الاسلامية أَكْثَرهم الْعَجم إِلَّا فِي الْقَلِيل النَّادِر وان كَانَ مِنْهُم الْعَرَبِيّ فِي نسبه فَهُوَ اعجمي لي لغته ومرباه ومشيخته مَعَ أَن الْملَّة عَرَبِيَّة وَصَاحب شريعتها عَرَبِيّ
قلت ملخص مَا ذكر فِي ذَلِك من السَّبَب يظْهر باعتبارين وجود الْعلم بِكَثْرَة فِي الاعاجم وقلته فِي الْعَرَب
الِاعْتِبَار الأول كَثْرَة وجود الْعلم فِي الاعاجم وَذَلِكَ فِي نوعيه الشَّرْعِيّ والعقلي
النَّوْع الأول الشَّرْعِيّ وَالسَّبَب فِيهِ أَن الْملَّة فِي اولها لم يكن فِيهَا علم وَلَا صناعَة لسذاجة بداوتها إِذْ ذَاك واحكام شريعتها كَانَت لرجال ينقلونها فِي صُدُورهمْ وَقد عرفُوا مآخذها من الْكتاب وَالسّنة تلقوها عَن الشَّارِع واصحابه وَالْقَوْم يَوْمئِذٍ عرب لم يعرفوا أَمر التَّعْلِيم والتدوين وَلَا دعتهم اليه حَاجَة لجرى الْأَمر على ذَلِك من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَسموا الحاملين لذَلِك بالقراء الَّذين كَانُوا يقرأون الْكتاب وَلَيْسوا بأميين كباقي الْعَرَب فَلَمَّا بعد النَّقْل من لدن دولة الرشيد احْتِيجَ إِلَى وضع التفاسير القرآنية وَتَقْيِيد الحَدِيث مَخَافَة ضيَاعه إِلَى معرفَة الاسانيد وتعديل الروَاة ثمَّ كثر اسْتِخْرَاج احكام الْوَاقِعَات من الْكتاب وَالسّنة فَصَارَت الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة ملكات فِي الاستنباط والتنظير
واحتاجت إِلَى عُلُوم آخر وَهِي وَسَائِل اليها كقوانين الْعَرَبيَّة لفساد اللِّسَان وقوانين ذَلِك الاستنباط والذب عَن العقائد الايمانية بالأدلة لظُهُور الْبدع والالحاد
وَهَذِه كلهَا عُلُوم ذَات ملكات محتاجة إِلَى التَّعْلِيم فاندرجت فِي جملَة الصَّنَائِع واحتاجت إِلَى التَّعْلِيم وَقد تقدم أَن الصَّنَائِع من منتحل الْحَضَر وان الْعَرَب ابعد النَّاس عَنْهَا فَصَارَت الْعُلُوم لذَلِك حضرية وَبعد الْعَرَب عَنْهَا والحضر لذَلِك الْعَهْد فهم الْعَجم أَو من فِي معناهم من الموَالِي وَمن تَبِعَهُمْ فِي الحضارة من أهل الامصار فَكَانَ صَاحب صناعَة النَّحْو سِيبَوَيْهٍ والفارسي والزجاج وهم عجم فِي النّسَب لَكِن ربوا فِي
اللِّسَان الْعَرَبِيّ فاكتسبوه بالمربي ومخالطة الْعَرَب وَحَملَة الحَدِيث أَكْثَرهم عجم أَو مستعجمون باللغة والمربي وعلماء علم الْكَلَام واصول الْفِقْه كَذَلِك وَكَذَلِكَ اكثر الْمُفَسّرين فَلم يقم بفهم الْعلم وتدوينه إِلَّا الاعاجم وَظهر مصداق قَوْله صلى الله عليه وسلم لَو تعلق الْعلم بأعنان السَّمَاء لَنَالَهُ رجال من ابناء فَارس
النَّوْع الثَّانِي الْعقلِيّ وَذَلِكَ انه لم يظْهر فِي الْملَّة إِلَّا بعد أَن ظهر حَملَة الْعلم ومؤلفوه واستقرت اصنافه كلهَا صناعَة فاختصت بالعجم وَتركهَا الْعَرَب كَسَائِر الصَّنَائِع وَلم يزل فِي امصارهم طول مَا بقيت حضارتها كالعراق وخراسان وَمَا وَرَاء النَّهر فَلَمَّا خربَتْ تِلْكَ الامصار وَذَهَبت مِنْهَا الحضارة الَّتِي هِيَ سر الله فِي حُصُول الْعُلُوم والصنائع ذهب الْعلم جملَة لما شملهم فِي البداولة واختص بالامصار الموفورة الحضارة
قَالَ وَلَا اوفي الْيَوْم حضارة من مصر فَهِيَ أم الْعُلُوم وديوان الْإِسْلَام وينبوع الْعُلُوم والصنائع وَبَقِي بعض الحضارة فِيمَا وَرَاء النَّهر بالدولة الَّتِي فِيهَا فَلهم بذلك حِصَّة من الْعُلُوم والصنائع لَا تنكر وَاعْتبر ذَلِك بِمَا تقدم لَهُ من وُقُوفه على كتب التَّفْتَازَانِيّ
قَالَ واما غَيره من الْعَجم فَلم ير لَهُم بعد من بعد الْأَمَام فَخر الدّين ونصير الدّين الطوسي كَلَام يعول على نهايته فِي الاجادة
قَالَ فَاعْتبر ذَلِك وتأمله تَرَ عجبا فِي احوالك الخليقة وَالله يخلق مَا يَشَاء لَا اله إِلَّا هُوَ
الِاعْتِبَار الثَّانِي
قلَّة وجود الْعلم فِي الْعَرَب وَذَلِكَ لَان الَّذين ادركوا مِنْهُم الحضارة وَخَرجُوا اليها عَن البداوة صرفُوا عَن النّظر فِي الْعلم لامرين
أَحدهمَا اشتغالهم بالرياسة فِي الدولة العباسية وَمَا دفعُوا اليه من الْقيام بِالْملكِ ووظائف الامارة فهم كَانُوا اولياء ذَلِك والقائمين بأعبائه
الثَّانِي انفتهم من انتحال الْعلم حِينَئِذٍ لمصيره من جملَة لاصنائع وشأن الؤساء استنكافهم عَن المهنة بهَا أَو بِمَا يجر اليها فدفعوا ذَلِك إِلَى من قَامَ بِهِ من الْعَجم والمولدين لَكِن مَا زَالُوا يرَوْنَ لَهُم حق الْقيام بِهِ فَإِنَّهُ دينهم وعلومهم وَلَا يحتقرون حملتها كل الاحتقار حَتَّى إِذا خرج الْأَمر من الْعَرَب إِلَى الْعَجم صَارَت الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة غَرِيبَة النّسَب عِنْد أهل الْملك بِمَا هم عَلَيْهِ من الْبعد عَن نَسَبهَا وامتهن حملتها لبعدهم عَنْهُم واشتغالهم بِمَا لَا يجدي عَلَيْهِم فِي الْملك فِيمَا يَعْتَقِدُونَ وَعند ذَلِك فَظَاهر قلَّة وجود الْعلم فِي الْعَرَب وكثرته فِي الاعاجم