الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْكتاب الثَّالِث
فِيمَا يُطَالب بِهِ السُّلْطَان تشييدا لأركان الْملك وتأسيسا لقواعده وَفِيه مُقَدّمَة وبابان
ف
المقدمة
فِي التحذير من مَحْظُورَات تخل بذلك الْمَطْلُوب شرعا وسياسة
وَالْبَاب الأول فِي جَوَامِع مَا بِهِ السياسة الْمَطْلُوبَة من السُّلْطَان وَمن يَلِيهِ
الْبَاب الثَّانِي فِي وَاجِبَات يلْزم السُّلْطَان سياسة الْقيام بهَا وَفَاء بعهدة مَا تحمله
الْمُقدمَة
فِي التحذير من تِلْكَ الْمَحْظُورَات
وَهِي جملَة
الْمَحْظُور الأول
اتِّبَاع الْهوى
وَيظْهر ذَلِك باعتبارين
الِاعْتِبَار الأول مَا يدل على ذمه فِي الْجُمْلَة وَيَكْفِي من ذَلِك أَمْرَانِ
أَحدهمَا مضادته للحق من حَيْثُ هُوَ قسيم لَهُ
قَالَ تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى}
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشاطبي فقد حصر الْأَمر فِي شَيْئَيْنِ الْوَحْي وَهُوَ الشَّرِيعَة والهوى وَلَا ثَالِث لَهما وَإِذ ذَاك فهما متضادان
الثَّانِي وَهُوَ من لَوَازِم ذَلِك كَونه أصل كل شَيْء وَقع فِي الْوُجُود
قَالَ الْغَزالِيّ إِذا نظرت وجدت أصل كل فتْنَة وفضيحة وذنب وَآفَة وَقعت فِي خلق الله تَعَالَى من أول الْخلق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من قبيل هوى النَّفس مُسْتَقلَّة أَو مُعينَة
الِاعْتِبَار الثَّانِي مَا يشْهد بذلك بِحَسب السُّلْطَان وَيَكْفِي من ذَلِك أَيْضا أَمْرَانِ
أَحدهمَا أَن الْقَصْد بالسلطان كَمَا تقدم حفظ مصَالح الِاجْتِمَاع الْمدنِي لنَوْع الْإِنْسَان وَقد علم بالتجربة أَنه لَا يحصل مَعَ الاسترسال فِي اتِّبَاع الْهوى لما ينشأ عَنهُ من التضاد الْعَائِد على الْوُجُود بِفساد النظام قَالَ تَعَالَى {وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ}
الثَّانِي أَن الْعقُوبَة عَلَيْهِ متوعد بهَا عَاجلا أَو آجلا قَالَ تَعَالَى {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله إِن الَّذين يضلون عَن سَبِيل الله لَهُم عَذَاب شَدِيد بِمَا نسوا يَوْم الْحساب} فالإضلال عَن سَبِيل الله عُقُوبَة عاجلة وَالْعَذَاب الشَّديد عُقُوبَة آجلة
اعْتِرَاف حكى الرشاطي أَن أسعد تبع بن كلكوت ولى رجلا من أَقَاربه بعض نواحي الْيمن فَأَتَاهُ عَنهُ مَا يكره من الشكايات فَأذن للنَّاس كَافَّة فَأخذُوا مَرَاتِبهمْ فِي مجْلِس فَشَا خَبره فَقَالَ أما أَنا لم أَوله إِلَّا عَن يَد كَانَت لَهُ عِنْدِي وَهوى كَانَ لي فِيهِ وقرابة كَانَت بيني وَبَينه وَهُوَ مَعَ ذَلِك حدث وَمَعَ الحداثة مترف لم تغنه التجارب وَلم تهنه المصائب فأف للهوى ثمَّ أُفٍّ لَهُ مَا أقبح إمارته وانطر أخباره وَأظْهر ضعف صَاحبه وَأشهر سخف رَاكِبه واغبط طَاعَته وَأحلى مُتَابَعَته وَأمر عاقبته لقد أضلني عَن سَوَاء السَّبِيل وكلفني حمل أَمر ثقيل وأوقعني بينقال وَقيل وألبسني ثوب غم طَوِيل
ثمَّ قَالَ أَيْن هَذَا الْكَاتِب فَقَالَ هَا أَنا ذَا أَبيت اللَّعْن قَالَ أكتب بِاسْمِك اللَّهُمَّ من الْملك الْمَغْرُور بِملكه الموقن بهلكه الْمَأْخُوذ بِذَنبِهِ الْمُرْتَهن بِكَسْبِهِ العَاصِي لرَبه الَّذِي يحْسب أَنه قد أهمل وَأَنه لذَلِك اسْتعْمل جَهَالَة مِنْهُ بِقَدرِهِ واغترارا مِنْهُ بِعُذْرِهِ
أما بعد فَإِن الله لم يولنا أَمر عبادنَا إِنَّمَا ولانا أَمر عباده وَلم
فَكتب إِلَيْهِ تبع لقد أنبأتني عَنهُ بأَشْيَاء مَا يحسن مِنْهَا شَيْء وَلَا ينشر مِنْهَا طي وَلَا يُوصف مِنْهَا غي وَلَا يكْشف مِنْهَا عي إِلَّا والتجبر شَرّ مِنْهُ لِأَن صَاحبه يُرِيد الْعِزَّة وَلَيْسَت الْعِزَّة إِلَّا لله
وَلَيْسَت لغير الله إِلَّا عزة بذلة أَلا ترى أَنه بِكُل حَبل يخنق وَبِكُل سهم يرشق ويبغضه من لم يعرفهُ ويؤذيه من لَا يسوءه ويلعنه من لم يسمع بِهِ
وحسبه بِهَذَا حقرة وَكفى بهَا عَلَيْهِ سَيِّئَة فَإِنَّمَا استكبر ابْتِغَاء الْعِزَّة فَلم يزده الْكبر إِلَّا ذلة وَلم تزِدْه الذلة إِلَّا قلَّة لَو عقل لما استكبر وَلَو وفْق لما تجبر وَقد رأى نَفسه من ضيق فَهُوَ يرى كل الضّيق وَمَا يشوبه من الأقذار وَمَا يدوسه من الأشرار
وَكتب إِلَى الْعَامِل كتاب موعظة وتأنيب وعزله وَكَانَ فِي بعض كِتَابه إِلَيْهِ إِن لم أكن أثبت فِي عهدي إِلَيْك وكتبت فِي عقدي عَلَيْك أَنَّك عَامل مَا علمت بِالْحَقِّ فَإِذا لم تعْمل بِهِ فَأَنا بَرِيء مِمَّا تعْمل وَأَنت من ولايتي بَرِيء مَا خَالَفت الْحق وَإِنِّي لَا أقرّ أمرا إِلَّا مَا أقرته الرّعية وَلَا أسْتَعْمل إِلَّا من استعملته فَإِن أحسن فَأَنا أسعد بِهِ وَإِن أَسَاءَ فهم استعملوه وهم أَشْقَى بِهِ وَقد عزلناك بِمَا أعملتك وبالنظر مني إِلَيْك والإبقاء مني عَلَيْك خلعتك لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الْبغضَاء خير وَلَا مَعَ الشحناء صَبر وَلَا مَعَ الشكوى سَلام وَالسَّلَام انْتهى
ينزلنا بعض بِلَادنَا وَإِنَّمَا أنزلنَا بعض بِلَاده وَلم يَأْمُرنَا أَن نسيء بِعَبْدِهِ فَكيف يحسن للْعَبد أَن يسيء إِلَى عبد مثله وَمَا أرى النِّعْمَة عِنْد أحد أوفر مِنْهَا عندنَا أهل الْبَيْت وَلَا الشُّكْر على أحد أوجب مِنْهُ علينا وَلست أَرْجُو الله بقبيح الْمعْصِيَة إِنَّمَا أرجوه بِحسن الطَّاعَة وَقد أريتني بعض مَا تصنع وسأريك بعض مَا أصنع وأتاني عَنْك بعض مَا أكره وَلنْ ترى إِلَّا مثله وَقد بعثت إِلَيْك الْغَوْث بن غياث وأمرته بإيقافك للنَّاس ومجازاتك مَا أفرطت حَذْو النَّعْل بالنعل والقذة بالقذة وَمَا أُرِيد إِلَّا الْحق فَإِن جاوزته فَأَنا أَحَق بالعقوبة مِنْك وَلِأَن ألْقى الله وَأَنت ساخط بِمَا أصنع وَهُوَ رَاض بِهِ أحب إِلَيّ من أَن أَلْقَاهُ وَقد أسخطته وَأَنت عني رَاض
فَلَمَّا انْتهى الْغَوْث إِلَى الْعَامِل أَقَامَهُ النَّاس فَإِذا الَّذِي قيل عَنهُ بَاطِل وَإِذا الْعَامِل عَنهُ غافل وَذَلِكَ أَنه كَانَ صَحِيحا فِي أمره لَا يَأْخُذ فِيهِ إِلَّا بالشدة وَلَا يعرف إِلَّا بِالصِّحَّةِ وَكَانَ الْغَوْث ذَا دهاء وَنظر فَقَالَ وَالله لأنظر من أَيْن هَذِه الشكوى الَّتِي لَيْسَ لَهَا أصل يُوصف وَلَا فرع يعرف
فَسَأَلَ عَن الْعَامِل فِي السِّرّ من يخبر أمره فأخبروه بِأَنَّهُ مَمْلُوء كبرا وَأَنه لَا ينْطق إِلَّا نزرا وَلَا ينظر إِلَّا شزرا كَأَن لَهُ عَلَيْهِم منَّة أَو بَينه وَبينهمْ احنة فَقَالَ الْغَوْث من هَا هُنَا أَتَى وَكتب إِلَى تبع يُعلمهُ بذلك وأعلمه أَنه أطلق عَلَيْهِ الألسن وأشخص إِلَيْهِ الْأَعْين وألب عَلَيْهِ النَّاس
فَأتوهُ من كل أَوب يقذفونه بِكُل عيب فَلم يثبت عَلَيْهِ من ذَلِك كثير يعذب عَلَيْهِ وَلَا قَلِيل يعْزل فِيهِ سوى تكبر قد مقت لَهُ وتجبر قد عيب بِهِ وفظاظة قد أحنقت بهم عَلَيْهِ فَأَجْمعُوا لَهُ على البغض فسبوه سرا ومقتوه جَهرا ونسبوه فِي كل أَمر إِلَى غَايَة الْفَحْشَاء
وَقد تَضَمَّنت الْحِكَايَة اسْتِدْرَاك مَا أوقع فِيهِ الْهوى بعد الِاعْتِرَاف بِتَعَدُّد جناياته مَعَ الموعظة البليغة والتنبيه على سوء عَاقِبَة الْكبر والتجبر