المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في اختيار المنازل الحضرية الاجتماع - بدائع السلك في طبائع الملك - جـ ٢

[ابن الأزرق]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌فِي التحذير من تِلْكَ الْمَحْظُورَات

- ‌الْمَحْظُور الأول

- ‌اتِّبَاع الْهوى

- ‌الْمَحْظُور الثَّانِي

- ‌الترفع عَن المداراة

- ‌الْمَحْظُور الثَّالِث

- ‌قبُول السّعَايَة والنميمة

- ‌الْمَحْظُور الرَّابِع

- ‌اتِّخَاذ الْكَافِر وليا

- ‌الْمَحْظُور الْخَامِس

- ‌الْغَفْلَة عَن مُبَاشرَة الْأُمُور

- ‌فِي جَوَامِع مَا بِهِ السياسة الْمَطْلُوبَة من السُّلْطَان وَمن يَلِيهِ

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌فِي سياسة السُّلْطَان

- ‌السياسة الأولى

- ‌الْجُمْلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِي

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة

- ‌شَهَادَة عيان

- ‌الْجُمْلَة الثَّانِيَة

- ‌الْحق الأول

- ‌الْفَائِدَة الأولى

- ‌الْفَائِدَة الثَّانِيَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّالِثَة

- ‌الْحق الثَّانِي

- ‌تحذير

- ‌الْحق الثَّالِث

- ‌الْحق الرَّابِع

- ‌الْحق الْخَامِس

- ‌الْإِشَارَة الثَّانِيَة

- ‌الْإِشَارَة الثَّالِثَة

- ‌السياسة الثَّانِيَة

- ‌سياسة الْأُمُور الْعَارِضَة

- ‌ الْجِهَاد

- ‌الْعَارِض الأول

- ‌الْمَسْأَلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعشْرُونَ

- ‌الْعَارِض الثَّانِي

- ‌السّفر

- ‌الْمَسْأَلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة

- ‌الْعَارِض الثَّالِث

- ‌الشدائد النَّازِلَة

- ‌التَّذْكِير الأول

- ‌التَّذْكِير الثَّانِي

- ‌التَّذْكِير الثَّالِث

- ‌التَّذْكِير الرَّابِع

- ‌التَّذْكِير الْخَامِس

- ‌الْحِكَايَة الأولى

- ‌الْحِكَايَة الثَّانِيَة

- ‌الشدَّة الأولى

- ‌الشدَّة الثَّانِيَة

- ‌الشدَّة الثَّالِثَة

- ‌فَائِدَة فِي تَنْبِيه

- ‌الْعَارِض الرَّابِع

- ‌الرسَالَة

- ‌الرِّعَايَة الأولى تحقق أَن موقع الرَّسُول من السُّلْطَان موقع الدَّلِيل من الْمَدْلُول وَالْبَعْض من الْكل فَفِي سياسة أرسطو اعْلَم أَن الرَّسُول يدل على عقل من أرْسلهُ إِذْ هُوَ عينه فِيمَا لَا يرى وَأذنه فِيمَا لَا يسمع وَلسَانه عِنْدَمَا غَابَ عَنهُ وَقَالُوا الرَّسُول قِطْعَة من الْمُرْسل

- ‌الرِّعَايَة الثَّانِيَة

- ‌الرِّعَايَة الثَّالِثَة

- ‌الرِّعَايَة الرَّابِعَة

- ‌الرِّعَايَة الْخَامِسَة

- ‌الرِّعَايَة السَّادِسَة

- ‌الرِّعَايَة السَّابِعَة

- ‌الرِّعَايَة الثَّامِنَة

- ‌الرِّعَايَة التَّاسِعَة

- ‌الرِّعَايَة الْعَاشِرَة

- ‌الْعَارِض الْخَامِس

- ‌الْوُفُود

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌فِي سياسة الْوَزير

- ‌السياسة الأولى

- ‌سياسة لنَفسِهِ

- ‌الضَّرْب الأول

- ‌المعتقدات العلمية

- ‌المعتقد الأول

- ‌المعتقد الثَّانِي

- ‌المعتقد الثَّالِث

- ‌المعتقد الرَّابِع

- ‌المعتقد الْخَامِس

- ‌الضَّرْب الثَّانِي

- ‌العزائم العلمية

- ‌الْعَزِيمَة الأولى

- ‌الْعَزِيمَة الثَّانِيَة

- ‌الْعَزِيمَة الثَّالِثَة

- ‌الْعَزِيمَة الرَّابِعَة

- ‌الْعَزِيمَة الْخَامِسَة

- ‌السياسة الثَّانِيَة

- ‌سياسة السُّلْطَان

- ‌الْأَدَب الرَّابِع

- ‌الْأَدَب السَّادِس

- ‌الْأَدَب السَّابِع

- ‌الْأَدَب الثَّامِن

- ‌الْأَدَب التَّاسِع

- ‌الْأَدَب الْعَاشِر

- ‌النَّوْع الثَّانِي

- ‌المتقي

- ‌السياسة الثَّالِثَة لخواص السُّلْطَان

- ‌وَسَائِر أَرْبَاب الدولة

- ‌الطَّبَقَة الأولى المسالمون

- ‌المدارة الأولى

- ‌المدارة الثَّانِيَة

- ‌المدارة الثَّالِثَة

- ‌المدارة الرَّابِعَة

- ‌المدارة الخانسة

- ‌الطَّبَقَة الثَّانِيَة

- ‌المتطلعون إِلَى مَنْزِلَته

- ‌الْمُقَابلَة الأولى

- ‌الْمُقَابلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمُقَابلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمُقَابلَة الْخَامِسَة

- ‌فِي سياسة سَائِر الْخَواص والبطانة

- ‌فِي صُحْبَة السُّلْطَان وخدمته

- ‌الْمُقدمَة الأولى

- ‌فِي التَّرْهِيب من مخالطته

- ‌الْمُقدمَة الثَّانِيَة

- ‌التحذير من صحبته

- ‌خَاتِمَة إِفَادَة

- ‌فِي وَاجِبَات مَا يلْزم السُّلْطَان سياسة الْقيام بهَا وَفَاء بعهدة مَا تحمله وطولب مِنْهُ وَالْمَذْكُور مِنْهَا جملَة

- ‌الْوَاجِب الثَّالِث

- ‌إِقَامَة الْحُدُود

- ‌الْوَاجِب الرَّابِع

- ‌عُقُوبَة الْمُسْتَحق وتعزيزه

- ‌الْوَاجِب الْخَامِس

- ‌رِعَايَة أهل الذِّمَّة

- ‌الْكتاب الرَّابِع

- ‌فِي عوائد الْملك وعوارضه

- ‌فِي عوائق الْملك الْمَانِعَة من دَوَامه

- ‌النّظر الأول

- ‌فِي التَّعْرِيف بالعوائق المنذرة بِمَنْع دوَام الْملك

- ‌النّظر الثَّانِي

- ‌فِي التَّعْرِيف بكيفية طروق الْخلَل إِلَى الدول

- ‌بَيَان طروق الْخلَل فِي المَال

- ‌فِي عوارض الْملك اللاحقة لطبيعة وجوده

- ‌ فِي عوارض الْملك من حَيْثُ هُوَ

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌فِي اخْتِيَار الْمنَازل الحضرية الِاجْتِمَاع

- ‌الْفَصْل الثَّالِث

- ‌فِي اكْتِسَاب المعاش بِالْكَسْبِ والصنائع وَفِيه مسَائِل

- ‌الْفَصْل الرَّابِع فِي اكْتِسَاب الْعُلُوم

- ‌الخاتمة فِي سياستي الْمَعيشَة وَالنَّاس

- ‌الْمُقدمَة الأولى فِي التَّقْوَى

- ‌وفيهَا مسَائِل

- ‌الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِي حسن الْخلق

- ‌السياسة الأولى

- ‌سياسة الْمَعيشَة

- ‌المطلع الأول

- ‌فِي كليات مِمَّا تدبر بِهِ الْمَعيشَة من جَانب الْوُجُود وَفِيه انارات

- ‌المطلع الثَّانِي

- ‌فِي أُمَّهَات مِمَّا تحفظ بِهِ من جَانب الْعَدَم وَفِيه اضاءات

- ‌السياسة الثَّانِيَة

- ‌سياسة النَّاس

- ‌وَقبل التَّلْخِيص لَهَا فَهُنَا مُقَدمَات

- ‌مسكة الختام

الفصل: ‌في اختيار المنازل الحضرية الاجتماع

قَالَ وَهَذَا الْعُمر للدولة بِمَثَابَة عمر الشَّخْص من الْمَزِيد إِلَى سنّ الْوُقُوف إِلَى سنّ الرُّجُوع وَلِهَذَا يجْرِي على السّنة النَّاس فِي الْمَشْهُور أَن عمر للدولة مائَة سنة وَهَذَا مَعْنَاهُ فَاعْتبر انْتهى

قلت تقدم لَهُ هَذَا قبل أَن طول امد الدولة على نِسْبَة القائمين بهَا فِي الْقلَّة وَالْكَثْرَة وَاسْتظْهر على ذَلِك بِشَهَادَة الْوَاقِع من طول امد كثير من الدول ثمَّ هُوَ هُنَا يُقرر عمرها بِمَا ذكر ويجعله طبيعيا فَانْظُر فِيهِ متأملا

‌الْفَصْل الثَّانِي

‌فِي اخْتِيَار الْمنَازل الحضرية الِاجْتِمَاع

وَفِيه مسَائِل

الْمَسْأَلَة الأولى أَن الدول اقدم من المدن والأمصار لامرين

أَحدهَا أَن الْبناء واختطاط الْمنَازل إِنَّمَا هُوَ من مُنَازع الحضارة يَدْعُو اليها الترف والدعة وَذَلِكَ مُتَأَخّر على البداوة ومذاهبها

الثَّانِي أَن المدن والأمصار ذَات هياكل واجرام عِظَام وَبِنَاء كثير فَيحْتَاج إِلَى اجْتِمَاع الْأَيْدِي وَكَثْرَة التعاون وَلَيْسَت من الضروريات الَّتِي تعم بهَا الْبلوى حَتَّى يكون النُّزُوع إِلَيْهَا شرطا واضطراريا بل لَا بُد من تعم بهَا الْبلوى على ذَلِك وسوق النَّاس إِلَيْهِ مضطرين بعصا الْملك أَو مرغبين فِي

ص: 273

الاجر الَّذِي لَا يَفِي لكثرته إِلَّا الْملك فَإِذا لابد من تمصير الامصار واختطاط المدن من الدولة وَالْملك فَوَائِد مركبة

إِحْدَاهمَا إِذا بنيت وكمل تشييدها بِحَسب نظر من شيدها وَبِمَا اقتضته الْأَحْوَال السماوية والارضية فِيهَا فعمر الدولة حِينَئِذٍ عمر لَهَا فان كَانَ امد الدولة قَصِيرا ووقف الْحَال فِيهَا عِنْد انْتِهَاء الدولة وتراجع عمرانها وَخَربَتْ وان كَانَ امد الدولة طَويلا فَلَا تزَال المصانع فِيهَا تشيد والمنازل الرحيبة تكْثر وتتعدد ونطاق الأسوار بتباعد وينفسخ إِلَى أَن تتسع الخطة وتبعد الْمسَافَة كَمَا وَقع لبغداد وأمثالها حكى الْخَطِيب فِي تَارِيخه أَن الحمامات بلغ عَددهَا بِبَغْدَاد عهد الْمَأْمُون خَمْسَة وَسِتِّينَ ألف حمام كَانَت مُشْتَمِلَة على مدن وامصار متلاصقة ومتقاربة تجَاوز الْأَرْبَعين وَلم تكن مَدِينَة وَاحِدَة جمعهَا سور وَاحِد لافراط الْعمرَان

قَالَ ابْن خلدون وَكَذَا حَال القيروان وقرطبة والمهدية ومصر الْقَاهِرَة

ص: 274

الْفَائِدَة الثَّانِيَة مَا تقدم من أَن عمر الدولة للمدينة المتوقف تأسيسها عَلَيْهَا هُوَ حَيْثُ تكون تِلْكَ الْمَدِينَة لَا مَادَّة لَهَا تفيدها حفظ الْعمرَان بترادف النُّزُول فِيهَا مِمَّن الْبَوَادِي فهناك يكون انْقِرَاض الدولة انقراضها لَهَا فيتناقض عمرانها شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن تفقر من الساكنين وتخرب

قَالَ كَمَا وَقع فِي بَغْدَاد ومصر والكوفة بالمشرق والقيروان والمهدية وقلعة ابْن حَمَّاد بالمغرب وامثالها فتفهمه واما أَن كَانَت لَهَا تِلْكَ الْمَادَّة فهناك يَدُوم لَهَا حفظ الْوُجُود وَيسْتَمر عمرها بعد الدولة

قَالَ كَمَا ترَاهُ بفاس وبجاية من الْمغرب وَالْعراق الْعَجم من الْمشرق لَان أهل البدو إِذا انْتَهَت أَحْوَالهم إِلَى غايتها فِي الرفه وَالْكَسْب تداعوا إِلَى الدعة والسكون الَّذِي فِي طبيعة الْبشر فينزلون المدن والأمصار ويتأهلون فِيهَا

الْفَائِدَة الثَّالِثَة قَالَ وَرُبمَا تنزل الْمَدِينَة بعد انْقِرَاض من اختطفها دولة ثَانِيَة تتخذها قرارا وكرسيا وتستغني بهَا عَن اتِّخَاذ غَيرهَا فتحفظ تِلْكَ الدولة سياجها وتتزايد مبانيها ومصانعها بتزايد احوال الدولة

الثَّانِيَة وتستجد بعمرانها عمرا آخر كَمَا وَقع بفاس والقاهرة لهَذَا الْعَهْد فَاعْتبر ذَلِك وافهم سر الله فِي خليقته

قلت وَبعد انْقِرَاض الدولة فِي اواسط هَذِه الْمِائَة التَّاسِعَة بفاس

ص: 275

كرْسِي ملكهم خَلفهم الشريف ابْن عمار فِيهَا نَاسخ دولتهم ثمَّ الشَّيْخ ابْن يحي الوطاسي منتزع ذَلِك من يَده إِلَى هَذَا الْعَهْد وان كَانَ بهَا خراب كثير حَسْبَمَا شهدناه والبقاء لله وَحده

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَن الْملك يَدْعُو إِلَى نزُول الامصار لامرين

أَحدهمَا مَا ينْزع إِلَيْهِ بعد اسْتِقْرَار حُصُوله من الدعة والراحة واستكمال مَا كَانَ نَاقِصا فِي البدو من احوال الْعمرَان

الثَّانِي دفع مَا يتَوَقَّع عَلَيْهِ من مطالبات المتنازعون لَا سِيمَا حَيْثُ يكون الْمصر ملْجأ لمن يروم بنزاعه سلف مَا حصل مِنْهُ فيضطر صَاحبه إِلَى الْجد فِي الِاسْتِيلَاء على ذَلِك الْمصر ليأمن الْمَحْذُور بِسَبَبِهِ

ص: 276

قَالَ وان لم يكن هُنَاكَ مصر استحدثوه ضَرُورَة لتكميل عمرانهم أَولا وليكون شجا فِي حلق من يروم الِامْتِنَاع فِيهِ من الْخَوَارِج ثَانِيًا

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة أَن الَّذِي تجب مراعاته فِي اوضاع المدن اصلان مهمان دفع المضار وجلب الْمَنَافِع

الأَصْل الأول دفع المضار وَهِي نَوْعَانِ

أَحدهمَا ارضية وَدفعهَا بإدارة سياج الأسوار على الْمَدِينَة ووضعها فِي مَكَان مُمْتَنع امام على هضبة متوعرة من الْجَبَل أَو باستدارة بَحر أَو نهر بهَا حَتَّى لَا يُوصل إِلَيْهَا إِلَّا بعد العبور على جسر أَو قنطرة فيصعب منالها على الْعَدو ويتضاعف تحصينها

الثَّانِي سَمَاوِيَّة وَدفعهَا بِاخْتِيَار الْمَوَاضِع الطّيبَة الْهَوَاء لَان مَا خبث مِنْهُ بركود أَو تعفن لمجاورته لمياه فَاسِدَة أَو مَنَافِع متعفنة أَو مروج خبيثة يسْرع الْمَرَض فِيهِ للحيوان الْكَائِن فِيهِ لَا محَالة كَمَا هُوَ مشَاهد بِكَثْرَة

قَالَ ابْن خلدون وَقد اشْتهر بذلك فِي قطر الْمغرب بلد قابس من بِلَاد الجريد بأفريقية فَلَا يكَاد سكانها أَو طارقها يخلص من حمة العفن بِوَجْه وَقد يُقَال أَن ذَلِك حَادث فِيهَا

تَوْجِيه نقل الْبكْرِيّ فِي سَبَب حُدُوثه انه وَقع فِيهَا حفر ظهر فِيهِ أناء من النّحاس مختوم عَلَيْهِ بالرصاص فَلَمَّا فض ختامه صعد مِنْهُ دُخان إِلَى الجو وَانْقطع وَكَانَ ذَلِك بَدْء امراض الحميات فِيهِ

قَالَ وَأَرَادَ بذلك أَن الْإِنَاء كَانَ فِيهِ بعض أَعمال الطلسمات لوبائه وانه ذهب سره بذهابه فَرجع إِلَى العفن والوباء

قَالَ وَهَذِه الْحِكَايَة من مَذَاهِب الْعَامَّة ومباحثهم الرَّكِيكَة والبكري لم

ص: 277

يكن من شَأْنه الْعلم واستنارة البصيرة بِحَيْثُ يدْفع مثل هَذَا فنقله كَمَا سَمعه

تَحْقِيق قَالَ وَالَّذِي يكْشف الْحق فِي ذَلِك أَن الاهوية العفنة اكثر مَا يهيئها لتعفن الْأَجْسَام وامراض الحميات ركودها فَإِذا تخللها الرّيح وتفاشت وَذهب بهَا يَمِينا وَشمَالًا خف شَأْن العفن وَمرض الْحَيَوَان مِنْهُ والبلد ذَا كثر ساكنه وَكَثُرت حركاتهم تموج الْهَوَاء وَحدث الرّيح المتخلل للهواء الراكد وَلَا كَذَلِك إِذا بَقِي الْهَوَاء على حَالَة ركوده بقلة الْحَرَكَة لخفة السَّاكِن فان ضَرَره بِالْحَيَوَانِ كثير وبلد قابس كَانَت عِنْد استجار الْعمرَان بأفريقية كَثِيرَة السَّاكِن فَكَانَ ذَلِك معينا على تموج الْهَوَاء وَتَخْفِيف الاذى مِنْهُ فَلم يكن فِيهَا كثير عفن وَلَا مرض وعندما خف وَتَخْفِيف الاذى مِنْهُ فَلم يكن فِيهَا كثير عفن وَلَا مرض وعندما خف ساكنها ركد هواؤها المتعفن بِفساد مياهها فَكثر العفن وَالْمَرَض هَذَا وَجهه لَا غير

دلَالَة عكس قَالَ وَقد رَأينَا عكس ذَلِك فِي بِلَاد وضعت وَلم يراع بهَا طيب الْهَوَاء وَكَانَت امراضها كَثِيرَة لقلَّة سكانها وعندما كَثُرُوا انْتقل حَالهَا عَن ذَلِك كدار الْملك بفاس لهَذَا الْعَهْد الْمُسَمّى بفاس الْجَدِيد وَكثير من ذَلِك فِي الْعَالم

الأَصْل الثَّانِي جلب الْمَنَافِع والمرافق وَذَلِكَ بمراعاة أُمُور

أَحدهَا المَاء كَأَن يكون الْبَلَد على نهر أَو بازائه عُيُون عذبة ولان وجوده كَذَلِك يسهل الْحَاجة إِلَيْهِ وَهِي ضَرُورِيَّة

الثَّانِي طيب مرعى السَّائِمَة وقربه إِذْ لَا بُد لكل ذِي قَرَار من دواجن الْحَيَوَان للنتاج والضرع وَالرُّكُوب وَمَتى كَانَ المرعى الضَّرُورِيّ لَهَا كَذَلِك كَانَ اوفر من معاناة الْمَشَقَّة فِي بعده

ص: 278

الثَّالِث قرب الْمزَارِع الطّيبَة لَان الزَّرْع هُوَ الْقُوت الضَّرُورِيّ وَكَونهَا كَذَلِك اسهل فِي اتِّخَاذه واقرب فِي تَحْصِيله

الرَّابِع الشُّعَرَاء للحطب والخشب فالحطب لعُمُوم البلوي بِهِ فِي وقود النيرَان والخشب للمباني وَكَثِيرًا مَا ستعمل فِيهِ ضَرُورِيًّا وكماليا

الْخَامِس وَلَيْسَ بِمَثَابَة مَا قبله قربه من الْبَحْر لتسهيل الْحَاجَات القاصية من الْبِلَاد النائية وَلَا خَفَاء أَن هَذِه الْأُمُور تَتَفَاوَت بِحَسب الْحَاجة وَمَا تدعوا إِلَيْهِ ضَرُورَة السَّاكِن

تَنْبِيه قَالَ ابْن خلدون وَقد يكون الْوَاضِع غافلا عَن نفس الِاخْتِيَار الطبيعي وانما يُرَاعِي مَا هُوَ اهم على نَفسه أَو قومه من غير الْتِفَات لحَاجَة غَيرهم كَمَا فعله الْعَرَب فِي أول الْإِسْلَام فِي المدن الَّتِي اختطوها بالعراق والحجاز وإفريقيا فانهم لم يرعوا فِيهَا إِلَّا المهم عِنْدهم من مرَاعِي الْإِبِل وَمَا يصلح لَهَا من الشّجر وَالْمَاء الْملح وَلم يراعوا المَاء وَلَا الْمزَارِع والحطب والمراعي كالقيروان والكوفة وَالْبَصْرَة وسجلسماسة وامثالها

قَالَ وَلِهَذَا كَانَت اقْربْ إِلَى الخراب لما لم تراع فِيهَا الْأُمُور الطبيعية

اعلام فَمَا يُرَاعِي فِي الْمَدِينَة المبنية على الْبَحْر امران أَن تكون فِي جبل وان تكون بَين امة موفودة الْعدَد وَمَتى لم تكن كَذَلِك طرقها الْعَدو البحري أَي وَقت أَرَادَ لَا مِنْهُ من اجابه الصَّرِيخ لَهَا وَعدم غناء خفرها المتعودين للدعة فِي الدفاع

قَالَ ابْن خلدون وَهَذَا كالإسكندرية من الْمشرق وطرابلس وبونه وسلا من الْمغرب

ص: 279

قَالَ وَمَتى كَانَت متوعرة المسالك وحولها الْقَبَائِل بِحَيْثُ يبلغهَا الصَّرِيخ تمنعت بذلك من الْعَدو رَئِيس من طروقها كَمَا فِي سبتة وبجاية وبلد القل على صغرها

فهم حَقِيقَة

قَالَ فَافْهَم ذَلِك واعتبره فِي اخْتِصَاص الْإسْكَنْدَريَّة باسم الثغر من لدن الدولة العباسية مَعَ أَن الدعْوَة كَانَت من وَرَائِهَا ببرقة وإفريقيا اعْتِبَارا للمخافة المتوقعة فِيهَا من الْبَحْر لسُهُولَة وَضعهَا

قَالَ وَلذَلِك وَالله اعْلَم كَانَ طروق الْعَدو لَهَا ولطرابلس فِي الْملَّة مَرَّات مُتعَدِّدَة

المسالة الرَّابِعَة أَن الهياكل الْعَظِيمَة لَا تستقل ببنائها الدولة الْوَاحِدَة وَذَلِكَ لأمور مرجحة وشاهدة

أَحدهَا أَن الْبناء يحْتَاج إِلَى النعاون عَلَيْهِ بِجمع الْأَيْدِي الْكَثِيرَة ومضاعفة الْقدر البشرية وَحِينَئِذٍ تبلغ مِمَّا عظم مِنْهُ الْغَايَة الْمَقْصُودَة

الثَّانِي أَن المباني قد تكون لعظمها اكثر من الْقدر مُفْردَة أَو مضاعفة بالهندام لتحتاج إِلَى معاودة أُخْرَى فِي ازمنة متعاقبة إِلَى أَن تتمّ كَمَا يَحْكِي أَن سد مأرب بناه وسَاق إِلَيْهِ سبعين وَاديا وعاقه الْمَوْت عَن اتمامه فأتمه مُلُوك حمير من بعده

الثَّالِث أَن الْملك الْوَاحِد تَجدهُ يشرع فِي تأسيس المباني الضخمة فَإِذا لم يُتمهَا من بعده من الْمُلُوك بقيت بِحَالِهَا من غير تَمام

الرَّابِع أَن كثيرا من المباني الهائلة عجز عَن هدمها من قصرت مقدرته عَن الْهدم مَعَ انه اسهل من الْبناء لانه رُجُوع إِلَى الأَصْل الَّذِي هُوَ الْعَدَم وَالْبناء على خلاف الأَصْل وَعند ذَلِك تعلم أَن الْقدر الَّذِي أسسته مفرطة الْقُوَّة وانها اثر دوَل عديدة

ص: 280

شَهَادَة عيان قَالَ عَن حنايا الْمُعَلقَة إِنَّهَا لعهده يحْتَاج أهل تونس إِلَى انتخاب الْحِجَارَة لبنائهم ويستجيد الصناع حجارتها يتحالون على هدمها الْأَيَّام العديدة وَلَا يسْقط الصَّغِير جدارنها إِلَّا بعد جهد جهيد وتجتمع لَهُ المحافل الْمَشْهُورَة

قَالَ شهِدت مِنْهَا فِي أَيَّام صباي كثيرا وَالله على كل شَيْء قدير

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة أَن الامصار والمدن بإفريقيا وَالْمغْرب قَليلَة وَذَلِكَ لامرين

أَحدهمَا أَن هَذِه الاقطار كَانَت للبربر مُنْذُ الآلاف من السنين قبل الْإِسْلَام وعمرانهم إِنَّمَا هُوَ بدوي والدول الَّتِي ملكتهم من الإفرنجة وَالْعرب لم يطلّ امدها فيهم حَتَّى تنْتَقل إِلَيْهِم حضارتها فَلم تكْثر مبانيهم لذَلِك

الثَّانِي أَن المباني إِنَّمَا تتمّ بالصنائع والصنائع الَّتِي هِيَ من تَوَابِع الحضارة لَا تنتحلها البربر لَا عراقهم فِي البدو فَإِذا لَا تتَّخذ المباني وَلَا تتشوف اليها فضلا عَن المدن وَأَيْضًا فهم عصبيات وانساب والأنساب والعصبية اجنح إِلَى البدو وَلَا يَدعُوهُم إِلَى سُكْنى المدن إِلَّا الترف والغنى وَقَلِيل مَا هُوَ فِي النَّاس

تتجه قَالَ ابْن خلدون لذَلِك كَانَ عمرَان بِلَاد الْعَجم كُله أَو اكثره قرى وظواعن وقياطن وكنن فِي الجيال وَكَانَ عمرَان بِلَاد الْعَجم كُله أَو اكثره قرى وامصارا ورساتيق كالأندلس وَالشَّام ومصر وعراق الْعَجم وامثالها لَان الْعَجم فِي الْغَالِب لَيْسُوا بذوي انساب يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا إِلَّا فِي الْأَقَل واكثر مَا يكون سُكْنى البدو أهل الْأَنْسَاب لَان لحْمَة النّسَب اقْربْ واشد عصبية كَذَلِك فتنزع بصاحبها إِلَى التَّجَافِي عَن الْمصر الَّذِي يذهب بالبسالة ويصيره عيالا على غَيره

ص: 281

قَالَ فافهمه وَقس عَلَيْهِ

الْمَسْأَلَة أَن المباني والمصانع فِي الْملَّة الاسلامية قَليلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى قدرتها والى من كَانَ قبلهَا من الامم وَذَلِكَ لامرين

أَحدهمَا مَا ذكر على البربر بِعَيْنِه لَان الْعَرَب اعرق فِي البدو وابعد عَن الصنائه

الثَّانِي انهم كَانُوا قبل الْإِسْلَام اجانب من الممالك الَّتِي استوالوا عَلَيْهَا وَلما تمالكوا لم ينفسح الْأَمر حَتَّى تستوفي رسوم الحضارة مَعَ انهم استغنوا بِمَا وجدوا من ذَلِك لغَيرهم

زاجر دين قَالَ ابْن خلدون لاخفاء أَن الدّين إِذْ ذَاك كَانَ مَانِعا لَهُم من المغلاة فِي الْبُنيان والاسراف فِيهِ وَفد عهد لَهُم عمر رضي الله عنه حِين استأذنوه فِي بِنَاء الْكُوفَة بِالْحِجَارَةِ وَقد وَقع الْحَرِيق فِي الْقصب الَّذِي كَانُوا بنوا بِهِ من قبل فَقَالَ افعلوا وَلَا يزدن احدكم على ثَلَاثَة ابيات وَلَا تطاولوا فِي الْبُنيان والزموا السّنة تلزمكم الدولة وعهد للوفد وَتقدم إِلَى النَّاس إِلَّا يرفعوا بنيانا فَوق الْقدر قَالُوا الْقدر مَالا يقربكم من السَّرف وَلَا يخرجكم عَن الْقَصْد

تَغْيِير حَال قَالَ وَلما بعد بِالدّينِ والتحرج فِي امثال هَذِه الْمَقَاصِد وغلبت طبيعة الْملك والترف واستخدام الْعَرَب امة الْفرس واخذوا عَنْهُم الصنائه والمباني فَحِينَئِذٍ شيدوا المباني والمصانع وَكَانَ عهد ذَلِك قَرِيبا بانقراض الدولة وَلم يفسح الْأَمر لِكَثْرَة الْبناء واختطاط المدن والأمصار إِلَّا قَلِيلا

وَلَيْسَ كَذَلِك غَيرهم من الامم فالفرس والقبط والنبط وَالروم طَالَتْ

ص: 282

امادهم الافا من السنين وَكَذَلِكَ الْعَرَب الأولى من عَاد وَثَمُود والعمالقة والتبابعة طَالَتْ امادهم ورسخت فيهم الصَّنَائِع فَكَانَت مبانيهم وهياكلهم اكثر عددا وابقى على الْأَيَّام اثرا وَالله وَارِث وَمن عَلَيْهَا

الْمَسْأَلَة السَّابِعَة أَن المباني الَّتِي تختطها الْعَرَب يسْرع اليها الخراب إِلَّا فِي الْأَقَل وَذَلِكَ لامرين

أَحدهمَا شَأْن البداوة والبعد عَن الصَّنَائِع كَمَا تقدم فَلَا تكون مبانيهم وَثِيقَة التشييد

الثَّانِي وَهُوَ امس بِهِ قلَّة مُرَاعَاتهمْ لحسن الِاخْتِيَار فِي اختطاف المدن بمراعاة مَا تقدم من ذَلِك فَإِنَّهُ بالتفاوت فِيهِ تَتَفَاوَت جودة الْمصر أَو رداءته من حَيْثُ الْعمرَان الطبيعي وَالْعرب بمنعزل عَن ذَلِك إِنَّمَا تراعي مرَاعِي الْإِبِل خَاصَّة لَا تبالي بِالْمَاءِ طَابَ أَو خبث وَلَا قل اكثر وَلَا يسْأَلُون عَن زكي الْمزَارِع والاهوية لانتقالهم فِي الأَرْض ونقلهم الْحُبُوب من الْبَلَد الْبعيد والظعن كَفِيل لَهُم بِطيب الرِّيَاح لَا سِيمَا فِي القفر الْمُخْتَلف لِأَنَّهَا نما تخبث مَعَ الْقَرار وَكَثْرَة الفضلات

اعْتِبَار قَالَ وَانْظُر لما اختطفوا الْكُوفَة وَالْبَصْرَة والقيروان لم يراعوا فِي اختطاطها ار مرَاعِي الْإِبِل وَمَا يقرب من الْفقر ومسالك الظعن فَكَانَت بعيدَة عَن الْوَضع الطبيعي للمدن وَلم تكن لَهَا مُدَّة يَمْتَد عمرانها من بعدهمْ لما تقرر انه يحْتَاج إِلَيْهِ فِي حفظ الْعمرَان بِأول وهلة لانحلال أَمرهم وَذَهَاب عصبيتهم الَّتِي كَانَت سياجا لَهَا اتى عَلَيْهَا الخراب والانحلال كَأَن لم تكن وَالله يحكم لَا معقب لحكمه

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة أَن الْمصر إِذا استجر عمرانه رخصت فِيهِ اسعار الضَّرُورِيّ من الاوقوات وغلت اسعار الحاجي والكمالي من الْفَوَاكِه وَغَيرهَا وَإِذا ضعف عمرانه كَانَ الْأَمر بِالْعَكْسِ

ص: 283

بَيَان الأول باعتبارين

أَحدهمَا رخص الضَّرُورِيّ وَغَلَاء الحاجي

الِاعْتِبَار الأول وَهُوَ أَن توفر الدَّوَاعِي على السَّعْي فِي اتِّخَاذ الْحُبُوب الَّتِي هِيَ من ضرورات الْقُوت توجب كَثْرَة وجودهَا فِي ذَلِك الْمصر بِكَثْرَة مَا يفضل مِنْهَا عَن كل متخذ لَهَا عَن نَفسه أَو عِيَاله وَإِذا كثرت رخص سعرها فِي الْغَالِب إِلَّا أَن تصيبها افة سَمَاوِيَّة وَلَوْلَا احتكارها لما يتَوَقَّع من ذَلِك لبذلت دون لكثرتاه بِكَثْرَة الْعمرَان

الِاعْتِبَار الثَّانِي وَهُوَ أَن عدم عُمُوم الْبلوى بِمَا هُوَ حاجي يقْضِي بقلة وجوده وَإِذا قل مَعَ شدَّة الطّلب عَلَيْهِ من قبل المترفين غلت اسعاره لَا محَالة كآلام والفواكه فان استكثار عوائد الترف مِنْهَا مَعَ قلتهَا بانصراف همة الْكثير لاتخاذ مَا هُوَ اهم من مِنْهَا مُوجب لغلاء سعرها كَمَا هُوَ مشَاهد وتلحق بِهِ الصَّنَائِع والأعمال لِكَثْرَة المترفين وَكَثْرَة حاجاتهم إِلَى امتهان غَيرهم إِلَى اسْتِعْمَال الصناع فِي مهنهم فيبذلون أهل الاعمال اكثر من قيمتهَا مُنَافَسَة فِي الاستئثار بهَا فتغز لفعلة والصناع وتغلو اعمالهم وتكثر نفقات أهل المصمر فِي ذَلِك

الْبَيَان الثَّانِي أَن الْمصر الصَّغِير نقل اقواته لقلَّة الْعَمَل فِيهِ ويتوقع عدمهَا لذَلِك فَيمسك مَا يحصل مِنْهَا ويحتكر ويعز وجوده ويغلو ثمنه على طَالبه وَلَا كَذَلِك مرافقه من الاشياء الَّتِي لَا تَدْعُو اليها الْحَاجة لقلَّة السَّاكِن وَضعف الْحَال فتختص برخص لَا محَالة

تَنْبِيه قد يدْخل فِي قيمَة الأقوات امران موجبان لغلاء سعرها فِي الامصار

ص: 284

أَحدهمَا مَا يفْرض عَلَيْهَا من المكوس والمغارم فِي الاسواق وَفِي ابواب الْمصر امما السُّلْطَان أَو لجباتها من قبله لَا سِيمَا فِي اواخر الدول كَمَا تقدم والبادية لما قل فِيهَا لذَلِك رخص سعرها بِالنِّسْبَةِ إِلَى الامصار

الثَّانِي قيمَة علاج فلحها إِذْ هُوَ محافظ عَلَيْهِ فِي سعرها قَالَ ابْن خلدون كَمَا وَقع بالأندلس لهَذَا الْعَهْد لَا بهم لما ألجأهم النَّصَارَى إِلَى سيف الْبَحْر وبلاده المتوعرة الخبيثة الزِّرَاعَة وملكوا عَلَيْهِم الأَرْض الزاكية والبلد الطّيب احتاجوا إِلَى علاج الْمزَارِع لاصلاح نباتها وفلاحتها باعمال ذَات قيم فاعتبروها فِي السّعر وَصَارَ قطر الأندلس مَخْصُوصًا بالغلاء أجل ذَلِك

قَالَ ويحسب النَّاس إِذا سمعُوا ذَلِك انه لقلَّة الْحُبُوب والاقوات لديهم وَلَيْسَ كَذَلِك فهم اكثر أهل الْمَعْمُور فلحا واقواهم عَلَيْهِ

وَقل أَن يَخْلُو مِنْهُم سُلْطَان أَو سوقة عَن الزِّرَاعَة إِلَّا قَلِيلا من أهل الصناعات والمهن والطراء على الوطن من الْغُزَاة الْمُجَاهدين وَلِهَذَا يخصهم السُّلْطَان فِي عطاياهم بالعولة وَهِي الْقُوت والعلف من الزَّرْع

قَالَ وَلما كَانَت بِلَاد البربر بِالْعَكْسِ من ذَلِك فِي زكاء المنبت وَطيب الاراضي ارْتَفَعت عَنْهُم مُؤنَة الفلح جملَة مَعَ كثرته وعمومه فَلَا جرم رخصت اقواتهم ببلدهم وَالله مُقَدّر اللَّيْل وَالنَّهَار

الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة أَن تأثل الْعقار الْكثير أهل الامصار لَا يكون دفْعَة بل بتدرج وان مستغلاته لَا تفي بحاجة مَالِكه

بَيَان الأول أَن الثورة لَا تفي بتملك مَا يخرج من ذَلِك عَن الْحَد وَلَو بلغت فِي الْكَثْرَة مَا عَسى أَن تبلغ وانما يحصل ذَلِك على التدريج إِمَّا بالوراثة

ص: 285

من ابائه وَذَوي رَحمَه أَو بحوالة الاسواق فِيهِ إِذا حلت الْغِبْطَة بِهِ وتملك لذَلِك بابخس ثمن لما ينزل من الْعَوَارِض الْمُوجبَة لذَلِك

بَيَان الثَّانِي أَن الْحَاجة إِلَى التَّوَسُّع فِي عوائد الترف لَا تحصل لمَالِك الْعقار من مستغلاته فَقَط لِأَنَّهَا فِي الْغَالِب إِنَّمَا هِيَ لسد الْخلَّة وضرورة المعاش فَحسب

قَالَ ابْن خلدون وَالَّذِي سمعناه من مشيخة الْبَلَد أَن الْقَصْد باقتناء الْعقار والضياع إِنَّمَا هُوَ الخشية على من يتْرك خَلفه من الذُّرِّيَّة الضِّعَاف ليتمسكوا بفوائدها مَا داموا عاجزين عَن الِاكْتِسَاب فَإِذا اقتدروا عَلَيْهِ سمعُوا فِيهِ لانفسهم وَرُبمَا يكون مِنْهُم الْعَاجِز عَن الْكسْب لضعف بدنه أَو آفَة فِي عقله المعاشي فَيكون ذَلِك الْعقار قواما لحاله هَذَا قصد المترفين فِي افتنائه واما المتمول مِنْهُ اجراء احوال الترف عَلَيْهِ فَلَا

تَصْوِير نَادِر قَالَ وَقد يحصل ذَلِك مِنْهُ للقليل أَو النَّادِر بحوالة الاسواق وَحُصُول الْكَثْرَة الْبَالِغَة مِنْهُ إِلَّا أَن ذَلِك إِذا حصل رُبمَا امتدت إِلَيْهِ اعين الْأُمَرَاء والولاة واغتصبوه فِي الْغَالِب أَو ارادوه على بَيْعه مِنْهُم ونالت اصحابه مِنْهُ مضار ومعاطب وَالله غَالب على آمره

الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة أَن المتوملين من أهل الامصار يَحْتَاجُونَ إِلَى الحماة والمدافعة وَذَلِكَ لَان الحضري إِذا عظم تموله وَكثر للعقار والضياع تأثله انفسحت أَحْوَاله فِي الترف حَتَّى يزاحم فِيهَا الْأُمَرَاء والملوك واذ ذَاك يغصون بِهِ وتمتد اعينهم إِلَى تملك مَا بِيَدِهِ ويتحيلون على ذَلِك بِكُل مُمكن يحصل بِهِ فِي ربقة حكم سلطاني ينْزع بِهِ مَا لَهُ لَا سِيمَا واكثر الْأَحْكَام

ص: 286

السُّلْطَانِيَّة جَائِزَة فِي الْغَالِب إِذْ الْعدْل الْمَحْض إِنَّمَا هُوَ فِي الْخلَافَة الشَّرْعِيَّة وَقد انقلبت ملكا عَضُوضًا وَعند ذَلِك لَا بُد لَهُ من حماية تذود عَنهُ وجاه ينسحب عَلَيْهِ من ذَوي قرَابَة للْملك أَو خَالِصَة لَهُ أَو عصبية يتحاماها السُّلْطَان ليأمن من ذَلِك من طوارق التَّعَدِّي وَا اصبح نهبا بِوُجُوه التحيلات واسباب الحكم الْجَائِز

الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة أَن البدوي يقصر عَن سُكْنى الْمصر الْكثير الْعمرَان

وَذَلِكَ لَان المص الْكثير الْعمرَان يحْتَاج فِيهِ إِلَى مُدَّة من الْعَمَل يُقَابل بهَا طلب الْوَفَاء بعوائد ترفه الَّذِي انْقَلب بِهِ الحاجي ضَرُورِيًّا والبدوي ضَعِيف مَادَّة المعاش لسكناه بمَكَان سوق الْعَمَل الَّذِي هُوَ سَبَب الْكسْب فَلَا يَفِي بمطالب الْمصر بذلك وَكَذَلِكَ يتَعَذَّر عَلَيْهِ سكناهُ لَا محَالة وَهَكَذَا يتشوف إِلَيْهِ فسريعا مَا يظْهر عَجزه ويفتضح عَمَّا قريب

تَخْصِيص قَالَ ابْن خلدون إِلَّا من يقدم مِنْهُم بتأثل المَال وَحصل لَهُ مِنْهُ قوق الْحَاجة وَيجْرِي إِلَى الْغَايَة الطبيعية أهل الْعمرَان من الدعة والترف فَحِينَئِذٍ ينْتَقل إِلَى الْمصر وينتظم حَاله مَعَ احوال أهل الْمصر فِي عوائد ترفهم

قَالَ وَهَكَذَا شَأْن بداية الامصار وَالله بِكُل شَيْء مُحِيط

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة أَن الحضارة فِي الامصار من قبل الدول فَإِنَّهَا ترسخ باتصال الدولة ورسوخها

وَذَلِكَ لَان الدولة تجمع امول الرّعية وتنفقها فِي بطانتها والبطانة فِيمَا

ص: 287

تعلق بهم وهم الْأَكْثَر من أهل الْمصر فتعظم بذلك الثروة وتزيد عوائد الترف وتستحكم الصَّنَائِع فِي سَائِر فنونه وَهَذِه هِيَ الحضارة وَلذَلِك تَجِد الامصار القاصية وَلَو توفر عمرانها يغلب عَلَيْهِ احوال البداوة فِي جَمِيع مذاهبها بِخِلَاف مدن الاقطار الَّتِي هِيَ مَرْكَز الدولة ومقرها وَذَلِكَ لمجاورة السُّلْطَان وفيض امواله فيهم كَالْمَاءِ يخضر مَا يقرب مِنْهُ إِلَى أَن يَنْتَهِي فِي الْبعد مِنْهُ إِلَى الجفوف ثمَّ إِذا اتَّصَلت تِلْكَ الدولة وتعاقب مُلُوكهَا على ذَلِك الْمصر وَاحِدًا بعد وَاحِد استحكمت الحضارة فيهم وزادت رسوخا واستقرارا

شَوَاهِد اعْتِبَار

أَحدهَا أَن الشَّام لما طَال فِيهِ ملك الْيَهُود نَحوا من ألف واربع مائَة سنة رسخت فِيهِ حضارتهم وتحذقوا فِي عوائد المعاش والتفنن فِي صنائعه من المطاعم والملابس وَسَائِر احوال الْمنزل

قَالَ ابْن خلدون حَتَّى إِنَّهَا لتؤخذ عَنْهُم فِي الْغَالِب إِلَى الْيَوْم

الثَّانِي أَن مصر لما دَامَ فِيهَا ملك القبط ثَلَاثَة آلَاف سنة رسخت أَيْضا عوائد الحضارة فِي بلدهم واعقبهم فِيهَا ملك الْإِسْلَام النَّاسِخ فَلم تزل عوائد الحضارة بهَا مُتَّصِلَة

الثَّالِث أَن الْيمن لما اتَّصَلت بِهِ دولة الْعَرَب مُنْذُ عهد العمالقة والتبابعة الافا من السنين واعقبهم ملك مُضر رسخت فِيهِ أَيْضا عوائد الحضارة

الرَّابِع أَن الْعرَاق لما توالت فِيهِ دوَل النبط وَالْفرس من لدن الكلدانين والكينية والكسروية وَالْعرب بعدهمْ الافا من السنين رسخت الحضارة أَيْضا

ص: 288

قَالَ ابْن خلدون فَلم يكن على وَجه الأَرْض لهذ 1 ااحضر من الشَّام ومصر وَالْعراق

الْخَامِس أَن الأندلس لما امتدت فِيهَا الدولة الْعَظِيمَة للقوط ثمَّ مَا اعقبها من ملك بني أُميَّة الافا من السنين

قَالَ ابْن خلدون وكلتا الدولتين عَظِيم اتَّصَلت فيهمَا عوائد الحضارة واستحكمت

السَّادِس أَن إفريقية لما صَارَت الاغالبة كَانَ لَهُم فِيهَا من الحضارة بعض الشَّيْء لما حصل لَهُم من ترف الْملك وَكَثْرَة عمرَان القيروان وَورث ذَلِك عَنْهُم كتامة وصنهاجة

قَالَ وَذَلِكَ كُله قَلِيل لم يبلغ أَرْبَعمِائَة سنة وانصرمت دولتهم واستحالت صبغة الحضارة لعدم استحكامها وتغلب بَدو الْعَرَب الهلاليين عَلَيْهَا وَبَقِي اثر حضارة الْعمرَان

قَالَ والى هَذَا الْعَهْد يؤنس مِمَّن لَهُ بالقلعة والقيروان أَو المهدية سلف فتجد لَهُ من احوال الحضارة فِي شؤون منزله وعوائد أَحْوَاله اثارا متلبسة بغَيْرهَا يميزها الحضري الْبَصِير بهَا وَكَذَا فِي اكثر امصار إفريقية

السَّابِع أَن الْمغرب انْتقل إِلَيْهِ مُنْذُ دولة الْمُوَحِّدين من الأندلس حَظّ كثير من الحضارة بِمَا كَانَ لدولتهم من الِاسْتِيلَاء على بلادها وانتقال الْكثير من أَهلهَا إِلَيْهِم طَوْعًا وَكرها

ص: 289

قَالَ ثمَّ انْتقل أهل الْمشرق الأندلس عِنْد جالية النَّصَارَى إِلَى افريقيا فابقوا بهَا من الحضارة اثارا ومعظمعا بتونس امتزجت بحضارة مصر وَمَا يَنْقُلهُ المسافرون من عوائدها فَكَانَ بذلك للمغرب وافريقية حَظّ من الحضارة صَالح عفى عَلَيْهِ الْخَلَاء وَرجع إِلَى أعقابه وَعَاد البربر إِلَى أديانهم من البدواة والخشونة

قَالَ وعَلى كل حَال فأثر الحضارة بأفريقية اكثر مِنْهَا بالمغرب ولقرب تداول فِيهَا من الدول السالفة اكثر من الْمغرب ولقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر بِكَثْرَة المترددين بَينهم فتفظن لهَذَا السِّرّ فانه خَفِي على النَّاس انْتهى

مزِيد تَحْصِيل قَالَ وَاعْلَم إِنَّهَا أُمُور متناسبة وَهِي حَال الدولة فِي الْقُوَّة والضعف وَكَثْرَة الامو وَعظم الْمَدِينَة وَذَلِكَ أَن الْملك صور الخلقية والعمران وَكلهَا مَادَّة لَهُ من الرعايا والأمصار وامور الجباية عَائِدَة عَلَيْهِم ويسارهم غَالِبا من اسواقهم ومتاجرهم وَإِذا افاض السُّلْطَان عَطاء فِي أَهلهَا انبثت فيهم وَرجع إِلَيْهِ ثمَّ إِلَيْهِم مِنْهُ فَهُوَ ذَاهِب عَنْهُم فِي الجباية وَالْخَرَاج عَائِد عَلَيْهِم فِي الْعَطاء فعلى نِسْبَة مَال الدولة يكون يسَار الرّعية وعَلى نِسْبَة يسَار الرّعية يكون مَال الدولة

قَالَ واصله كُله الْعمرَان وكثرته فاعتبره فِي الدول تَجدهُ وَالله يحكم لَا معقب لحكمه

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة أَن الحضارة غَايَة للعمران ومؤذنة بفساده لنهاية عمره وَذَلِكَ لما تقدم الْملك غَايَة للعصبية والحضارة غَايَة للبداوة والعمران كُله من حضارة وبدواة وَملك وسوقة لَهُ عمر مَخْصُوص كَمَا لأشخاص

ص: 290

المكونات وَالْأَرْبَعُونَ للْإنْسَان غَايَة فِي تزايد قواه عِنْدهَا تقف الطبيعة عَن ذَلِك بُرْهَة ثمَّ تَأْخُذ فِي الانحطاط والحضارة فِي الْعمرَان لَا مزِيد وَرَاءَهَا لَان الترف إِذا وجد فِيهَا دَعَا بطبعه اليها تفننا فِيهَا وتأنقا فِي استجابة احوالها وَذَلِكَ هُوَ المُرَاد بهَا وَإِذا حصلت تِلْكَ الْغَايَة فِيهَا تبعها طَاعَة الشَّهَوَات وتلونت النَّفس من عوائدها بألوان كَثِيرَة لَا تستقيم بهَا أصلا فِي الدّين وَلَا فِي الدُّنْيَا

بَيَان الأول من وَجْهَيْن

أَحدهمَا من استحكام صبغة تِلْكَ العوائد النَّفس بألوان كَثِيرَة من الرذائل المخلة بالمرؤة الَّتِي هِيَ عنوان الدّيانَة وجامعها خلق الشَّرّ والسفسفة

الثَّانِي أَن من تِلْكَ الرذائل المخلة بالمرؤة مَا يقْضِي بِإِسْقَاط الدّيانَة رَأْسا كالانهماك فِي الشَّهَوَات الْمُحرمَة من الزِّنَا واللواط وَشرب الْخمر وَشبه ذَلِك

بَيَان الثَّانِي من وَجْهَيْن

أَحدهمَا أَن التفنن فِي الحضارة تعظم بِهِ النَّفَقَة المتضاعفة بغلاء الْمصر وَيخرج عَن الْقَصْد سرفها حَتَّى يذهب بطارف الْكسْب وتالده

الثَّانِي أَن الْخلق الْحَاصِل من الحضارة الْبَالِغَة النِّهَايَة فِي الترف هِيَ عين الْفساد لَان الانسان إِنَّمَا هُوَ انسان باقتداره على جلب مَنَافِعه وَدفع مضاره واستقامة خلقه للسعي فِي ذَلِك والحضري لَا يقدر على شَيْء من ذَلِك حَسْبَمَا يتَبَيَّن أَن شَاءَ الله

عاطفة بَيَان إِذا انحرف الحضري عَن استقامة دينة ودنياه بِمَا ينطبع فِي نَفسه من صبغة العوائد الْمُوجبَة لذَلِك فَظَاهر أَن ذَلِك مستلزما لفساد الْمصر وخرابه إِمَّا من جِهَة فَسَاد الدّين فَمن وَجْهَيْن

ص: 291

أَحدهمَا مَا يظْهر فِيهِ من الْفساد المخل بنظامه الْمَحْفُوظ برعاية الدّين كالكذب والغش والخلابة وَالسَّرِقَة والمقامرة والفجور فِي الْإِيمَان والمجاهرة بالفسوق واطراح الحشمة حَتَّى بَين الاقارب وَذَوي الْمَحَارِم

الثَّانِي مَا تعود بِهِ شَهْوَة الزِّنَا واللواط من فَسَاد النَّوْع الَّذِي بِهِ عمرانه إِذْ ذَلِك من جملَة مَا يسترسل فِيهِ مُطِيع هَوَاهُ فِي اتِّبَاع الشَّهَوَات مام بِالزِّنَا فبوساطة اخْتِلَاط الْأَنْسَاب بِمِائَة الْفَاسِد واما باللواط فبغير وَاسِطَة

قَالَ وَهُوَ اشد فِي فَسَاد النَّوْع إِذْ هُوَ يُؤَدِّي الى ان لَا يُوجد وَالزِّنَا إِلَى عدم مَا يُوجد مِنْهُ

قَالَ وَلذَلِك كَانَ مَذْهَب مَالك رحمه الله فِي اللواط اظهر من مَذْهَب غَيره وَدلّ انه ابصر بمقاصد الشَّرِيعَة فَافْهَم ذَلِك وَاعْتبر بِهِ أَن غَايَة الْعمرَان هِيَ الحضارة والترف وانه إِذا بلغ غَايَته انْقَلب إِلَى الْفساد بمقاصد الشَّرِيعَة واخذ فِي الْهَرم كالأعمار الطبيعية للحيوان

واما من جِهَة فَسَاد الدُّنْيَا فَمن وَجْهَيْن

أَحدهمَا أَن المترفين إِذا كَثُرُوا فِي الْمصر وفسدت أَحْوَالهم وَاحِدًا وَاحِدًا تَأذن الله فِي خراب نظامه

قَالَ وَهَذَا معنى قَول بعض أهل الحواضر أَن الْمَدِينَة إِذْ كثر فِيهَا غرس النارنج تأذنت بالخراب حَتَّى أَن كثيرا من الْعَامَّة يتحامى غرسها بالدور

وَلَيْسَ المُرَاد ذَلِك وَلَا انه خَاصَّة فِيهَا وانما مَعْنَاهُ أَن الْبَسَاتِين واجراء الْمِيَاه هُوَ من تَوَابِع الحضارة إِذْ لَا يقْصد بهَا إِلَّا اشكالها فَقَط وَلَا تغرس إِلَّا بعد هُوَ من تَوَابِع الحضارة إِذْ لَا يقْصد بهَا إِلَّا اشكالها فَقَط وَلَا تغرس إِلَّا بعد التفنن فِي مَذَاهِب الترف وَهُوَ الطّور الَّذِي يخْشَى عَلَيْهِ هَلَاك الْمصر وخرابه

قَالَ وَلَقَد قيل مثل ذَلِك فِي الدفلى وَهُوَ من هَذَا الْبَاب إِذْ لَا يقْصد

ص: 292

بهَا إِلَّا تلون الْبَسَاتِين بنورها مَا بَين احنر وابيض وَهُوَ من مَذَاهِب الترف

الثَّانِي أَن الحضري كَمَا سبقت إِلَيْهِ الاشارة لَا يقدر على مُبَاشرَة حاجاته وَلَا على دفع مضاره فَالْأول لعَجزه لما حصل لَهُ من الدعة أَو ترفعه لما ربى عَلَيْهِ من الترف وَالثَّانِي لما فقد من خلق الْبَأْس بالمربي فِي قهر التَّأْدِيب والتعليم فَهُوَ لذَلِك عِيَال على الحامية المدافعة عَنهُ

قَالَ ثمَّ هُوَ أَيْضا فَاسد فِي دينه غَالِبا بِمَا افسدت مِنْهُ العوائد وَمَا تلونت بِهِ النَّفس من ملكتها إِلَّا فِي الْأَقَل النَّادِر

قَالَ إِذْ فسد الانسان فِي قدرته ثمَّ فِي اخلاقه وَدينه فقد فَسدتْ انسانيته وَصَارَ عل الْحَقِيقَة

فَائِدَة قَالَ وَبِهَذَا الِاعْتِبَار كَانَ الَّذين يقربون من جند السُّلْطَان إِلَى البداوة والخشونة انفع نم الَّذين يربون على الحضارة وخلقها وَهُوَ مَوْجُودَة فِي كل دولة

مزِيد ايضاح من مفاسد الحضارة أَن كثيرا من ناشئة الدولة وولدانهم مِمَّن اهمل عَن التأذيب وَغلب عَلَيْهِ خلق الْجوَار والصحاب يجاري السفلة فِي الْخلق الذميمة وان كَانُوا ذَوي اسناب وبيوت

قَالَ لَان الانسان بشر متماثلون وانما تفاضلوا باكتساب الْفَضَائِل وَاجْتنَاب الرذائل فَمن استحكمت فِيهِ صبغة الرذيلة وفسدت خلق الْخَيْر فِيهِ لم يَنْفَعهُ زكاء نَفسه وَلَا طيب منتبه

برهَان وجود قَالَ وَلِهَذَا تَجِد كثيرا من اعقاب البيوتات وَذَوي الاحساب أهل الدول منطرحين فِي الغمار منتحلين للحرف الدينة لما فسد من اخلاقهم وَلما تلونوا بِهِ من صبغة الشَّرّ السفسفة

ص: 293

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة أَن الامصار الَّتِي هِيَ كراسي الْملك تخرب بخراب الدول

قَالَ قد استقرينا فِي الْعمرَان أَن الدولة إِذا انتقصت فان الْمصر الَّذِي يكون كرسيا لسلطانها ينتقص عمرانه وَرُبمَا يَنْتَهِي إِلَى الخراب وَلَا يكَاد ذَلِك يتَخَلَّف ثمَّ اسْتدلَّ بِأُمُور نذكرها ملخصة من كَلَامه

أَحدهَا أم مصير هَذَا الْكُرْسِيّ فِي ملكة الدولة المتجدد يذهب بالكثير من احوال الرفه لرجوع اهله إِلَى خلق تِلْكَ الدولة فِي تقليل تِلْكَ النَّفَقَة لما توجبه بداوة بدايتها فينقص بذلك حضارته وَكثير من عوائد ترفه وَهُوَ المُرَاد بخرابه من تِلْكَ الْجِهَة

الثَّانِي أَن عوائد أهل الدولة السَّابِقَة وخصوصا احوال الترفه ينكرها أهل الدولة لَكمَا بَينهم من المنافسات الناشئة عَن الْعَدَاوَة المتمكنة وَإِذا كَانَت مُنكرَة لديهم صَارَت لذَلِك مفقودة إِلَى أَن تنشأ لَهُم بالتدريج عوائد أُخْرَى تكون عَنْهَا حضارة مستأنفة وَضعهَا بَين ذَلِك قُصُور الحضارة الأولى ونقضها وَهُوَ المُرَاد أَيْضا باختلال عمرَان الْمصر

الثَّالِث أَن الدولة إِذا اتَّخذت كرسيا لملكها غير مَا كَانَ للدولة السَّابِقَة تسارع النَّاس بالانتقال إِلَيْهِ وخف لذَلِك عمرَان الْكُرْسِيّ الأول فنقصت حضارته وتمدنه كَمَا وَقع للْعَرَب فِي الْعُدُول عَن الْمَدَائِن إِلَى الْكُوفَة وَالْبَصْرَة ولبني الْعَبَّاس فِي التَّحَوُّل عَن دمشق إِلَى بَغْدَاد وللسلجوقية فِي الْخُرُوج عَن بَغْدَاد إِلَى اصبهان وَبني مرين فِي الْعُدُول عَن مراكش إِلَى فاس

الرَّابِع أَن الدولة المتجددة لَا بُد فِيهَا من تتبع أهل الدولة السَّابِقَة ذَا غلبت عَلَيْهَا بتحويلهم إِلَى مصر آخر يُؤمن فِيهِ غائلتهم وهم اكثر

ص: 294

أهل الْمصر وَإِذا نقلوا على وَجه التَّغْرِيب وَالْحَبْس أَو الْكَرَامَة والتلطف بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي إِلَى نفرة حَتَّى لَا يبقي فِيهِ إِلَّا الباعة والهمل وَإِذا ذهب من الْمصر اعيانه على طبقاتهم نقص سَاكِنة وَهُوَ معنى اختلال عمرانه

قلت وَمن ثمَّ قيل إِذا ولت قلت امة وَإِذا اتت دولة نسخت امهِ

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة أَن لُغَات أهل الامصار إِنَّمَا تكون بِلِسَان الْأمة والجيل الغالبين عَلَيْهَا أَو المختطفين لَهَا وَشَاهد ذَلِك من الْوَاقِع فِي الممالك الاسلامية امران

أَحدهمَا أَن لُغَات أهل الامصار شرقا وغربا عَرَبِيَّة وان كَانَ اللِّسَان العصري مِنْهَا قد فَسدتْ فِي الْجَمِيع ملكته وتغيير اعرابه بمخالطة الاعاجم وَسَببه مَا وَقع للدولة الاسلامية من الغلب على الامم وَالنَّاس تبع لسلطان الدولة وعَلى دينه وَأَيْضًا فدين الْإِسْلَام مُسْتَفَاد من الشَّرِيعَة وَهِي بِلِسَان الْعَرَب لَان النَّبِي ص صلى الله عليه وسلم عَرَبِيّ فَوَجَبَ هجرها سوى اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَعند ذَلِك فاستعماله من شَعَائِر الْإِسْلَام وَطَاعَة الْعَرَب القائمين بِهِ

الثَّانِي انه تملك الْعَجم جَمِيع الممالك الاسلامية كَانَ لديلم والسلجوقية بالمشرق وزنانة وَجمع البربر بالمغرب وَفَسَد اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَكَاد يذهب لَوْلَا حفظه لعناية الْمُسلمين للسّنة فبذلك اسْتمرّ بَقَاؤُهُ وترجحت الْمُحَافظَة عَلَيْهِ وان كَانَ عَرَبيا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تحول إِلَيْهِ من اللُّغَات العجمية

ص: 295

تَعْرِيف قَالَ وَلما ملك التتر بالمشرق وَلم يَكُونُوا على دين الْإِسْلَام ذهب ذَلِك الْمُرَجح وفسدت اللُّغَة الْعَرَبيَّة على الاطلاق وَلم يبْق لَهَا رسم فِي الممالك الاسلامية بالعراق وخراسان وبلاد فَارس وَارْضَ الْهِنْد والسند وَمَا وَرَاء النَّهر وبلاد الشمَال وبلاد الشمَال وبلاد الرّوم وَذَهَبت اساليب اللُّغَة الْعَرَبيَّة من التَّعْبِير وَالْكَلَام إِلَّا قَلِيل ليَقَع تَعْلِيمه صناعيا بالقوانين المتدارسة من عُلُوم الْعَرَب وَحفظ كَلَامهم لمن يسره الله لذَلِك

اثر عناية قَالَ وَرُبمَا بقيت اللُّغَة الْعَرَبيَّة مصر وَالشَّام والأندلس وَالْمغْرب لبَقَاء الدسن طلبا لَهَا فانخفظت بعض الشَّيْء واما فِي ممالك الْعرَاق وَمَا وَرَاءه فَلم يبْق لَهَا اثر وَلَا عين حَتَّى أَن كتب الْعُلُوم تكْتب بِاللِّسَانِ العجمي وَكَذَا تدريسه فِي الْمجَالِس وَالله مُقَدّر اللَّيْل وَالنَّهَار

ص: 296