المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في اكتساب المعاش بالكسب والصنائع وفيه مسائل - بدائع السلك في طبائع الملك - جـ ٢

[ابن الأزرق]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌فِي التحذير من تِلْكَ الْمَحْظُورَات

- ‌الْمَحْظُور الأول

- ‌اتِّبَاع الْهوى

- ‌الْمَحْظُور الثَّانِي

- ‌الترفع عَن المداراة

- ‌الْمَحْظُور الثَّالِث

- ‌قبُول السّعَايَة والنميمة

- ‌الْمَحْظُور الرَّابِع

- ‌اتِّخَاذ الْكَافِر وليا

- ‌الْمَحْظُور الْخَامِس

- ‌الْغَفْلَة عَن مُبَاشرَة الْأُمُور

- ‌فِي جَوَامِع مَا بِهِ السياسة الْمَطْلُوبَة من السُّلْطَان وَمن يَلِيهِ

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌فِي سياسة السُّلْطَان

- ‌السياسة الأولى

- ‌الْجُمْلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِي

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة

- ‌شَهَادَة عيان

- ‌الْجُمْلَة الثَّانِيَة

- ‌الْحق الأول

- ‌الْفَائِدَة الأولى

- ‌الْفَائِدَة الثَّانِيَة

- ‌الْفَائِدَة الثَّالِثَة

- ‌الْحق الثَّانِي

- ‌تحذير

- ‌الْحق الثَّالِث

- ‌الْحق الرَّابِع

- ‌الْحق الْخَامِس

- ‌الْإِشَارَة الثَّانِيَة

- ‌الْإِشَارَة الثَّالِثَة

- ‌السياسة الثَّانِيَة

- ‌سياسة الْأُمُور الْعَارِضَة

- ‌ الْجِهَاد

- ‌الْعَارِض الأول

- ‌الْمَسْأَلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة عشرَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعشْرُونَ

- ‌الْعَارِض الثَّانِي

- ‌السّفر

- ‌الْمَسْأَلَة الأولى

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّادِسَة

- ‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة

- ‌الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة

- ‌الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة

- ‌الْعَارِض الثَّالِث

- ‌الشدائد النَّازِلَة

- ‌التَّذْكِير الأول

- ‌التَّذْكِير الثَّانِي

- ‌التَّذْكِير الثَّالِث

- ‌التَّذْكِير الرَّابِع

- ‌التَّذْكِير الْخَامِس

- ‌الْحِكَايَة الأولى

- ‌الْحِكَايَة الثَّانِيَة

- ‌الشدَّة الأولى

- ‌الشدَّة الثَّانِيَة

- ‌الشدَّة الثَّالِثَة

- ‌فَائِدَة فِي تَنْبِيه

- ‌الْعَارِض الرَّابِع

- ‌الرسَالَة

- ‌الرِّعَايَة الأولى تحقق أَن موقع الرَّسُول من السُّلْطَان موقع الدَّلِيل من الْمَدْلُول وَالْبَعْض من الْكل فَفِي سياسة أرسطو اعْلَم أَن الرَّسُول يدل على عقل من أرْسلهُ إِذْ هُوَ عينه فِيمَا لَا يرى وَأذنه فِيمَا لَا يسمع وَلسَانه عِنْدَمَا غَابَ عَنهُ وَقَالُوا الرَّسُول قِطْعَة من الْمُرْسل

- ‌الرِّعَايَة الثَّانِيَة

- ‌الرِّعَايَة الثَّالِثَة

- ‌الرِّعَايَة الرَّابِعَة

- ‌الرِّعَايَة الْخَامِسَة

- ‌الرِّعَايَة السَّادِسَة

- ‌الرِّعَايَة السَّابِعَة

- ‌الرِّعَايَة الثَّامِنَة

- ‌الرِّعَايَة التَّاسِعَة

- ‌الرِّعَايَة الْعَاشِرَة

- ‌الْعَارِض الْخَامِس

- ‌الْوُفُود

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌فِي سياسة الْوَزير

- ‌السياسة الأولى

- ‌سياسة لنَفسِهِ

- ‌الضَّرْب الأول

- ‌المعتقدات العلمية

- ‌المعتقد الأول

- ‌المعتقد الثَّانِي

- ‌المعتقد الثَّالِث

- ‌المعتقد الرَّابِع

- ‌المعتقد الْخَامِس

- ‌الضَّرْب الثَّانِي

- ‌العزائم العلمية

- ‌الْعَزِيمَة الأولى

- ‌الْعَزِيمَة الثَّانِيَة

- ‌الْعَزِيمَة الثَّالِثَة

- ‌الْعَزِيمَة الرَّابِعَة

- ‌الْعَزِيمَة الْخَامِسَة

- ‌السياسة الثَّانِيَة

- ‌سياسة السُّلْطَان

- ‌الْأَدَب الرَّابِع

- ‌الْأَدَب السَّادِس

- ‌الْأَدَب السَّابِع

- ‌الْأَدَب الثَّامِن

- ‌الْأَدَب التَّاسِع

- ‌الْأَدَب الْعَاشِر

- ‌النَّوْع الثَّانِي

- ‌المتقي

- ‌السياسة الثَّالِثَة لخواص السُّلْطَان

- ‌وَسَائِر أَرْبَاب الدولة

- ‌الطَّبَقَة الأولى المسالمون

- ‌المدارة الأولى

- ‌المدارة الثَّانِيَة

- ‌المدارة الثَّالِثَة

- ‌المدارة الرَّابِعَة

- ‌المدارة الخانسة

- ‌الطَّبَقَة الثَّانِيَة

- ‌المتطلعون إِلَى مَنْزِلَته

- ‌الْمُقَابلَة الأولى

- ‌الْمُقَابلَة الثَّالِثَة

- ‌الْمُقَابلَة الرَّابِعَة

- ‌الْمُقَابلَة الْخَامِسَة

- ‌فِي سياسة سَائِر الْخَواص والبطانة

- ‌فِي صُحْبَة السُّلْطَان وخدمته

- ‌الْمُقدمَة الأولى

- ‌فِي التَّرْهِيب من مخالطته

- ‌الْمُقدمَة الثَّانِيَة

- ‌التحذير من صحبته

- ‌خَاتِمَة إِفَادَة

- ‌فِي وَاجِبَات مَا يلْزم السُّلْطَان سياسة الْقيام بهَا وَفَاء بعهدة مَا تحمله وطولب مِنْهُ وَالْمَذْكُور مِنْهَا جملَة

- ‌الْوَاجِب الثَّالِث

- ‌إِقَامَة الْحُدُود

- ‌الْوَاجِب الرَّابِع

- ‌عُقُوبَة الْمُسْتَحق وتعزيزه

- ‌الْوَاجِب الْخَامِس

- ‌رِعَايَة أهل الذِّمَّة

- ‌الْكتاب الرَّابِع

- ‌فِي عوائد الْملك وعوارضه

- ‌فِي عوائق الْملك الْمَانِعَة من دَوَامه

- ‌النّظر الأول

- ‌فِي التَّعْرِيف بالعوائق المنذرة بِمَنْع دوَام الْملك

- ‌النّظر الثَّانِي

- ‌فِي التَّعْرِيف بكيفية طروق الْخلَل إِلَى الدول

- ‌بَيَان طروق الْخلَل فِي المَال

- ‌فِي عوارض الْملك اللاحقة لطبيعة وجوده

- ‌ فِي عوارض الْملك من حَيْثُ هُوَ

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌فِي اخْتِيَار الْمنَازل الحضرية الِاجْتِمَاع

- ‌الْفَصْل الثَّالِث

- ‌فِي اكْتِسَاب المعاش بِالْكَسْبِ والصنائع وَفِيه مسَائِل

- ‌الْفَصْل الرَّابِع فِي اكْتِسَاب الْعُلُوم

- ‌الخاتمة فِي سياستي الْمَعيشَة وَالنَّاس

- ‌الْمُقدمَة الأولى فِي التَّقْوَى

- ‌وفيهَا مسَائِل

- ‌الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِي حسن الْخلق

- ‌السياسة الأولى

- ‌سياسة الْمَعيشَة

- ‌المطلع الأول

- ‌فِي كليات مِمَّا تدبر بِهِ الْمَعيشَة من جَانب الْوُجُود وَفِيه انارات

- ‌المطلع الثَّانِي

- ‌فِي أُمَّهَات مِمَّا تحفظ بِهِ من جَانب الْعَدَم وَفِيه اضاءات

- ‌السياسة الثَّانِيَة

- ‌سياسة النَّاس

- ‌وَقبل التَّلْخِيص لَهَا فَهُنَا مُقَدمَات

- ‌مسكة الختام

الفصل: ‌في اكتساب المعاش بالكسب والصنائع وفيه مسائل

‌الْفَصْل الثَّالِث

‌فِي اكْتِسَاب المعاش بِالْكَسْبِ والصنائع وَفِيه مسَائِل

الْمَسْأَلَة الأولى أَن الانسان مفتقر بالطبع إِلَى مَا يحفظ بِهِ وجوده من لدن نشوئه إِلَى مُنْتَهى تطويره وَالله الْغَنِيّ وانتم الْفُقَرَاء وَمن مظَاهر غناهُ تَعَالَى خلق جَمِيع مَا فِي الْعَالم لجبر هَذَا الْفقر تفضلا وامتناعا {وسخر لكم مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ} لِكَثْرَة تفاصيل ذَلِك اشعارا بسعة الْجُود نبه على عجز الْوُقُوف عَلَيْهَا {وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها}

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة انه مَتى تجَاوز طور الضعْف قَادِرًا على افتناء المكاسب سعي فِيهِ بِدفع الْعِوَض عَمَّا حصل بيد غَيره مِمَّا خلق للْجَمِيع كَمَا أَمر بِهِ اظهارا لما وضع الْوُجُود عَلَيْهِ فابتغوا عِنْد الله الرزق وَمَا يحصل مِنْهُ بِغَيْر سعي كالمطر المصلح للزِّرَاعَة فَهُوَ معِين وَالسَّعْي لَا بُد مِنْهُ وَلَو فِي تنَاوله على حسب مَا قدره قل كل من عِنْد الله

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة أَن تِلْكَ المكاسب أَن كَانَت بِمِقْدَار الضَّرُورَة فَهِيَ معايش وان زَادَت عَلَيْهِ فَهُوَ مُتَمَوّل ورياش وَكِلَاهُمَا أَن انْتفع بِهِ سمى رزقا وان لم ينْتَفع بِهِ سمى كسبا كالتراث يُسمى بِاعْتِبَار الْهَالِك كسبل لعدم انتفاعه بِهِ وبحسب الْوَارِث أَن انْتفع بِهِ يُسمى رزقا فالرزق مَا انْتفع بِهِ

ص: 297

منتفع وَلَو بتعمد فِيهِ خلافًا للمعتزلة فِي اشْتِرَاطه صِحَة التَّمَلُّك اخراجا لِلْحَرَامِ عَن مُسَمَّاهُ لَان الله تَعَالَى يرْزق الظَّالِم وَالْغَاصِب وَالْمُؤمن وَالْكَافِر وَيخْتَص بهدايته من يَشَاء

قلت وَلَا يَصح مِنْهُ التَّمَلُّك كَالْبَهَائِمِ وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة أَن الله تَعَالَى خلق حجري ذهب وَالْفِضَّة من المعدنيات قيمَة جَمِيع المتمولات وقنية أهل الْعَالم من الذَّخَائِر النفسية واقتناء غَيرهَا فِي بعض الاوقات الْقَصْد بِهِ تَحْصِيلهَا بِمَا يقه فِيهِ من حِوَالَة الاسواق الَّتِي هِيَ لَا يترصد فِيهَا فهما إِذا اصل المكاسب والقنية والذخيرة

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة أَن الْكسْب هُوَ قيمَة الاعمال الانسانية إِمَّا بالصانع فَظَاهر واما مَا يَنْضَم لبعضها كالخشب مَعَ النجارة والغزل مَعَ الحياكة فَالْعَمَل فِيهِ اكثر فَقيمته ازيد واما بغَيْرهَا فَلَا بُد فِي قِيمَته من قيمَة الْعَمَل الَّذِي بِهِ حُصُوله نعم رُبمَا يخفي ملاحظته كَمَا فِي اسعار الأقوات فِي الاقطار الَّتِي لَا خطر لعلاج الفلح فِيهَا لخفة مؤونته فَلَا يشْعر بهَا إِلَّا الْقَلِيل من أهل الفلح

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة أَن الاعمال إِذا فقدت أَو قلت بانتقاص الْعمرَان اذن الله تَعَالَى يرفع الْكسْب بِدَلِيل قلَّة الرزق فِي الامصار القليلة السَّاكِن أَو فَقده لقلَّة الاعمال فِيهَا وَمن هُنَا تَقول الْعَامَّة فِي الْبِلَاد إِذا تناقص

ص: 298

عمرانها قد ذهب رزقها حَتَّى الْعُيُون يَنْقَطِع جريها لَان وفورها إِنَّمَا هُوَ بالأنماط والامتراء الَّذِي هُوَ الْعَمَل الانساني كالحال فِي ضروع الْأَنْعَام فَمَا لم يكن امتراء وَلَا انباط نضبت وَغَارَتْ وجفت كَمَا يجِف الضَّرع إِذا ترك امتراؤه

قَالَ وَانْظُر فِي الْبِلَاد الَّتِي تعهد فِيهَا الْعُيُون لايام عمرانها ثمَّ يَأْتِي عَلَيْهَا الخراب كَيفَ يفوز مياهها جملَة كَأَن لم تكن انْتهى

الْمَسْأَلَة السَّابِعَة أَن الْحُكَمَاء قَالُوا وتبعهم الادباء كالحريري وَغَيره اصول المعايش اربعة الامارة لاخذ مَا بيد الْغَيْر بقهرها على قانون مُتَعَارَف وَهُوَ المغرم والجباية وَالتِّجَارَة وَهِي اعداد البضائع لطلب اعواضها بالتقلب بهَا فِي الْبِلَاد أَو احتكارها لترصد بهَا حِوَالَة الاسواق والفلاحة وَهِي اسْتِخْرَاج فضول الْحَيَوَان الدَّاجِن كاللبن وَالْحَرِير وَالْعَسَل وَثَمَرَة النَّبَات من الزَّرْع ولشجرة والصناعة وَهِي عمل فِي مواد مُعينَة كالكتابة والفروسية أَو غير مُعينَة وَهِي جَمِيع المهن والتصرفات

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة أَن الطبيعي مِنْهَا للمعاش مَا عدا الْإِمَارَة وأقدمها بِالذَّاتِ الفلاحة لبساطتها وإدراكها للفطرة وَإِلَى هَذَا تنْسب إِلَى آدم أبي الْبشر والصناعة ناشئة عَنْهَا لتركيبها وَتَعْلِيمهَا بالفكرة وَالنَّظَر وَمن ثمَّة لَا تُوجد

ص: 299

غَالِبا إِلَّا فِي الْحَضَر الْمُتَأَخِّرين عَن البدو وتنسب إِلَى ادريس الاب الثَّانِي للخليفة وَالتِّجَارَة وان كَانَت طبيعية فاكثر طرقها تحيلات فِي تَحْصِيل مَا بَين الْقِيمَتَيْنِ فِي الشِّرَاء وَالْبيع واباحها الشَّارِع لَان اخذ المَال فِيهَا من الْغَيْر لَيْسَ مجَّانا

الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة أَن خدمَة النَّاس لَيست من المعاش الطبيعي إِمَّا للسُّلْطَان فَلَا ندراجها فِي الامارة واما لغيره فَلِأَن ترفع اكثر المترفين عَن مُبَاشرَة حاجاته أَو عَجزه عَنْهَا حَتَّى يتَّخذ من يتَوَلَّى ذَلِك لَهُ ويقطعه عَلَيْهِ جُزْءا من مَاله غير مَحْمُود فِي الرجولية الطبيعية إِذا الثِّقَة بِكُل أحد عجز مَعَ زيادتها فِي المؤونة لَكِن العوائد تغلب طبائع الانسان إِلَى مالوفها فَهُوَ ابْن عوائدة لَا بن نِسْبَة

الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة أَن الخديم الَّذِي يستكفي بِهِ ويرثق بغنائه كالمفقود إِذْ هُوَ اربعة مضطلع بأَمْره موثوق بِهِ فِيمَا يحصل بِيَدِهِ وَبِالْعَكْسِ فيهمَا أَو فِي أَحدهمَا فَقَط

فَالْأول لَا يُمكن أحد اسْتِعْمَاله لانه باضطلاعه وثقته غَنِي عَن أهل الرتب القاصرة ومحتقر لاجر الْخدمَة فَلَا يَسْتَعْمِلهُ إِلَّا الْأُمَرَاء لعُمُوم الْحَاجة إِلَى الجاه

وَالثَّانِي لَا يَنْبَغِي لعاقل اسْتِعْمَاله لَان من لَيْسَ بمضطلع وَلَا موثوق بِهِ يجحف بمخدومه بتضييع عَم اضطلاعه وخيانته وفقد ثقته

وَالثَّالِث وَهُوَ الموثوق بِهِ غير المضطلع

وَالرَّابِع عَكسه وَهُوَ المضطلع غير الموثوق بِهِ

للنَّاس فِي التَّرْجِيح بَينهمَا مذهبان قَالَ وَلكُل من الترجحين وَجه إِلَّا أَن المضطلع وَلَو كَانَ غير موثوق ارجح للنَّاس من تضييعه ومحاولة

ص: 300

التَّحَرُّز من خيانته والمضيع الْمَأْمُون ضَرَره بالتصنيع اكثر من نَفعه فَاعْلَم ذَلِك واتخذه قانونا فِي الاستكفاء بِالْخدمَةِ وَالله قَادر على مَا يَشَاء

الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة أَن ابْتِغَاء الرزق من الدفائن والكنوز لَيْسَ بمعايش طبيعي لَان العثور عَلَيْهَا اتفاقي ونادر واعتقاد ضعفاء الْعُقُول العاجزين عَن المعاش الطبيعي أَن أَمْوَال الامم السالفة مختزنة تَحت الأَرْض لَا تستخرج إِلَّا بِحل طلاسمها السحرية هوس ووسواس والحكايات المتناقلة فِي ذَلِك أَحَادِيث خرافة لَان إخفاء المَال للإتلاف والهلاك أَو لمن لَا يعرف مِمَّن سَيَأْتِي لَيْسَ من مَقَاصِد الْعُقَلَاء والختم عَلَيْهَا بِالْأَعْمَالِ السحرية أَن صَحَّ مِمَّن سَيَأْتِي لَيْسَ من مَقَاصِد الْعُقَلَاء والختم عَلَيْهَا بِالْأَعْمَالِ السحرية أَن صَحَّ ذَلِك مُبَالغَة فِي السّتْر وَنصب الإمارات عَلَيْهِ مُنَاقض لذَلِك الْقَصْد واموال الامم الغابرة إِنَّمَا هِيَ الات ومكاسب والعمران يوفرها أَو ينقصها وَرُبمَا تنْتَقل من قطر إِلَى قطر وَمن دولة إِلَى أُخْرَى مَعَ أَن المعدنيات يُدْرِكهَا الْبلَاء كَسَائِر الموجودات

تَوْجِيه

قَالَ وَمَا يُوجد من ذَلِك فِي مصر فسببه أَن القبط الَّذين ملكوها مُنْذُ دهور كانو يدفنون موتاهم بموجودهم من الذَّهَب وَالْفِضَّة والجواهر النفسية فقبورهم مَظَنَّة لوُجُوده وَمن هُنَاكَ عَنى أهل مصر بالبحث عَنْهَا حَتَّى انهم حِين ضربت المكوس عَن الاصناف آخر الدول ضربت على أهل المطالب وَصَارَت ضريبة على من يشغل بذلك من الحمقاء والمهوسين

ص: 301

قلت وَكَذَا فِي بِلَادنَا الأندلسية ادراجا لَهَا فِي الضريبة الْمُسَمَّاة لديهم بِمَنْفَعَة الغرباء وهم أهل الكدية بجيل الدعاوي الكاذبة

موعظة

قَالَ فَيحْتَاج من ابتلى بِهَذَا الوسواس أَن يتَعَوَّذ بِاللَّه من الْعَجز والكسل فِي طلب معاشه كَمَا تعوذ من ذَلِك رَسُول الله ص صلى الله عليه وسلم وَلَا يشغل نَفسه بالمحالات والمكاذب من الحكايات وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب

اسْتِدْرَاك

يَكْفِي من شوم الِاشْتِغَال بذلك امران

أَحدهمَا سوء حَال الْمَعْرُوف بِهِ زَائِدا على تعرضيه لنيل الْعُقُوبَات ومضايقة المطالبات فقد قَالَ ابْن الْحَاج الْغَالِب على أهل هَذَا الشَّأْن شظف الْعَيْش وَقلة ذَات الْيَد لَان الْبركَة فِي امْتِثَال السّنة حَيْثُ كَانَ

الثَّانِي تسببه فِي التسليط على هدم دور الْمُسلمين ومساجدهم حَتَّى من نَاحيَة عداة الدّين فقد حكى ابْن الْحجَّاج وُقُوعه بالديار المصرية يكْتب من أَرَادَ مِنْهُم تخريب مَسْجِد أَو دَار مُسلم معاد لَهُ أَن فِي الْموضع الْفُلَانِيّ كذ وَكَذَا مؤرخا بتاريخ قديم على صُورَة تشعر بعتاقة الْمَكْتُوب وَقدمه ثمَّ يلقيه فِي مَوضِع من يعلم قدرته على فعل ذَلِك بِالْقُوَّةِ أَو الْحِيلَة فيخرب ذَلِك الْموضع لَا محَالة

دلَالَة قَالَ وَيدل على ذَلِك أَن اكثر الْيَهُود وَالنَّصَارَى قل أَن تحفر لَهُم دَار أَو بيعَة أَو كَنِيسَة وَالْكل فِي بلد وَاحِد ثمَّ قرر حكم العثور عَلَيْهِ أَن اتّفق فِي ارْض العنوة أَو الصُّلْح أَو فيا فِي الْعَرَب بِمَا هُوَ مَعْرُوف فِي الْفِقْه إِلَى أَن قَالَ فَالْحَاصِل أَن واجده لَا شَيْء لَهُ فِيهِ إِلَّا التَّعَب وشغل

ص: 302

المنحى وَلِهَذَا كُنَّا كَلَامهم فِيهَا الغازا حذرا من انكار الشَّرَائِع على السحر لَا لَان ذَلِك ضنانة بهَا كَمَا هُوَ رَأْي من لم يذهب إِلَى التَّحْقِيق فِي ذَلِك

قَالَ واكثر مَا يحمل عَن انتحالها الْعَجز عَن الطّرق الطبيعية للمعاش فيروم الْحُصُول على الْكثير من المَال دفْعَة بهَا وبغيرها من الْوُجُوه غير الطبيعية

لحاق شُؤْم قَالَ واكثر من يعتني بذلك الْفُقَرَاء حَتَّى فِي الْحُكَمَاء ابْن سينا الْقَائِل باستحالها كَانَ من عَلَيْهِ الوزراء ذَوي الثروة والغنى والفارابي الْقَائِل بإمكانها كَانَ من الْفُقَرَاء الَّذين يعوزهم ادنى بلغَة من الْعَيْش وَهِي تُهْمَة ظَاهِرَة فِي انظار النُّفُوس المولعة بانتحالها وَالله الرازق ذُو الْقُوَّة المتين انْتهى مُلَخصا من مَوَاضِع فِي كَلَامه

بَيَان ثَانِي

إِنَّهَا كَانَت خَارِجَة عَن الصَّنَائِع الطبيعية وَلذَلِك لَا يحصل فِيهَا على حَقِيقَة وَلَا ثَبت على طول الاختبار كَانَ الِاشْتِغَال بهَا ضائعا

ص: 304

وفساده فِي الْخلق شَائِعا واذ ذَاك فَوجه الْمَنْع من التَّلَبُّس بِهِ وضاح الاسرة وَقد ركب الشُّيُوخ عَلَيْهَا احكاما جملَة

أَحدهَا منع نَقله القلشاني عَن القَاضِي أبي مهْدي عِيسَى الغبريني قَائِلا لانه أَن لم يبين غش وان بَين لم يُعَامل بهَا وَحكى ابْن نَاجِي انه نَقله عَن بعض المغاربة أخذا عَن قَول الشَّيْخ فِي الرسَالَة وَلَا أَن يكتم من أَمر سلْعَته شَيْئا مَا إِذا ذكره كرهه الْمُبْتَاع

الثَّانِي رد شَهَادَة المشتغل بهَا قَالَه ابْن عَرَفَة فِي فصل مَا يُنَافِي الْعَدَالَة

الثَّالِث منع امامته حَكَاهُ عَن الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح ابي الْحُسَيْن الْمُنْتَصر مفتيا بِهِ

الرَّابِع كَرَاهَة صُحْبَة أهل الْفضل مِمَّن يشْتَغل بهَا أَو يطْلب الْكُنُوز

ص: 305

وَقَالَ ابْن الْحَاج يتَعَيَّن على من تعلق بالإرادة الْهَرَب الْكُلِّي مِمَّن يشار إِلَيْهِ بِشَيْء ذَلِك لَان حَال المريد نظيف والنظيف يتأثر بِأَقَلّ شَيْء يُقَابله من الْوَسخ

تَنْبِيه على مفْسدَة

قرر ابْن الْحَاج أَن من مفاسدها على فرض إِنَّهَا لَا تَغْيِير على طول الْمدَّة إِنَّهَا تداوي الأَرْض النافع فِيهَا التَّدَاوِي بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وَهِي لَيست فِيهَا فِي الأَصْل قُوَّة أَن ذادت فِي مرض العليلاو قَضَت عَلَيْهِ قَالَ وَعَلِيهِ فَمن تعاطى شَيْئا مِنْهَا يثقل بأموال النَّاس وَدِمَائِهِمْ

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة أَن الجاه مُفِيد لِلْمَالِ لَان صَاحبه مخدوم بِالْأَعْمَالِ فِي جَمِيع مطالبه من ضَرُورِيّ أَو حاجي أَو تكميلي لضَرُورَة الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ فَيحصل لَهُ قيم تِلْكَ الْأَعْمَال من عير عوض مَعَ قيم مَا يسْتَعْمل فِيهِ النَّاس كَذَلِك وَهِي لصَاحب الجاه كَثِيرَة فتفيد الْغَنِيّ لاقرب وَقت ويزداد مَعَ الْأَيَّام يسارا وثروة وَمن ثمَّ كَانَت الامارة أحد اسباب المعاش وفاقدة بِالْكُلِّيَّةِ وَلَو كَانَ ذَا مَال لَا يكون يسَاره إِلَّا بِمِقْدَار مَاله على نسبه سعية وهم اكثر التُّجَّار وَلِهَذَا يُوجد مِنْهُم ذُو الجاه ايسر بِكَثِير

شَهَادَة

قَالَ وَمِمَّا يشْهد لذَلِك أَنا نجد كثيرا من الْعلمَاء أهل الدّين إِذا اشْتهر حسن الظَّن بهم واعتقد الْجُمْهُور مُعَاملَة الله تَعَالَى فِي أرفادهم فاخلصوا فِي أعانتهم والاعتمال فِي مصالحهم اسرعت إِلَيْهِم الثروة واصبحوا

ص: 306

مياسير لما يتَحَصَّل من قيم الْأَعْمَال الَّتِي اعينوا بهَا وهم قعُود فِي مَنَازِلهمْ وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة أَن السَّعَادَة فِي الْكسْب وَغَيره لما تحصل غَالِبا أهل الخضوع وللتملق لَان الجاه لما كَانَ مُفِيدا لِلْمَالِ كَمَا سبق وَكَانَ موزعا فِي النَّاس بِحَسب طبقاتهم كَانَ بذله من اعظم النعم واجلها واذ ذَاك لَا يبذله صَاحبه لمن دونه إِلَّا عَن يَد عالية فَيحْتَاج مبتغيه إِلَى خضوع وملق وَألا فيتعذر حُصُوله وَإِذا حصل بتواضع متواضع هَذَا الْخلق حظى بالسعادة فِي كَسبه وَغَيره كَمَا يفوت المترفع عَن هَذَا التَّوَاضُع

برهَان وجود

قَالَ وَلِهَذَا نجد الْخلق الْكثير لمن يتَخَلَّف بالترفع عَن هَذَا التَّوَاضُع لَا يحصل لَهُم عرض من الجاه فيقتصرون فِي التكسب على أَعْمَالهم ويصيرون إِلَى الْفقر والخصاصة

ص: 307

كشف حَقِيقَة

قَالَ وَهَذَا الترفع إِنَّمَا يحصل من توهم الْكَمَال واحتياج النا إِلَيْهِ كالعالم المتجر وَالْكَاتِب الماهر الْمجِيد والشاعر البليغ وكل محسن فِي صناعته كَمَا يتَوَهَّم ذَوُو الْأَنْسَاب فِي تعززهم بِمَا رَأَوْهُ أَو سَمِعُوهُ من حَال ابائهم استمساكا فِي الْحَاضِر بالمعدوم إِذْ الْكَمَال لَا يُورث وكما يتخيل ذَوُو الحنكة والتجربة فِي الِاحْتِيَاج إِلَيْهِم وكل هَؤُلَاءِ تجدهم مرتفعين لَا يخصمون لذِي جاه وَلَا يتملقون لمن هُوَ اعلى مِنْهُم ويستصغرون من سواهُم لاعتقادهم الْفضل عَلَيْهِ وَيُحَاسب أحدهم النَّاس فِي معاملتهم اياه بِمِقْدَار مَا يسر فِي نَفسه ويحقد على من قصر لَهُ فِي شَيْء من ذَلِك وَرُبمَا يدْخل على نَفْيه الهموم والاحزان من تقصيرهم مَعَه وَيبقى فِي عناء عَظِيم من ايجاب الْحق لنَفسِهِ واباية النَّاس لَهُ من ذَلِك وكل هَذَا فِي ضمن الجاه فَإِذا فَقده بِهَذَا الْخلق مقته النَّاس بِهِ وَلم يحصل لَهُ حَظّ من احسانهم وَقعد عَن تعاهد من فَوْقه بغشيان مَنَازِلهمْ ففسد معاشه وَبَقِي فِي خصَاصَة وفقر وَفَوق ذَلِك بِقَلِيل واما الثورة فَلَا تحصل لَهُ أصلا

قَالَ وَمن هَذَا اشْتهر بَين النَّاس أَن الْكَامِل فِي الْمعرفَة محروم من الْحَظ وانه قد حُوسِبَ بِمَا رزق مِنْهَا واقتطع لَهُ ذَلِك من الْحَظ وَمن خلق لشَيْء يسر لَهُ انْتهى مُلَخصا

ص: 308

مَحْذُور وَاقع

قَالَ وَلَقَد فِي الدول اضْطِرَاب فِي الْمَرَاتِب من أهل الْخلق ويرتفع بِسَبَبِهِ كثير من السفلة وَينزل كثير من الْعلية وَذَلِكَ لَان الدول إِذا بلغت عَادَتهَا من التغلب وَانْفَرَدَ مِنْهَا منبت الْملك بسلطانهم وشمخ عَن الدولة باستمرارها تَسَاوِي حِينَئِذٍ عِنْد السُّلْطَان كل من انْتَمَى إِلَى خدمته وتقرب إِلَيْهِ بنصيحته فيسعى كثير من السوقة فِي الْقرب إِلَيْهِ بجده ونصحه ويستعين على ذَلِك بعظيم من الخضوع والتملق إِلَيْهِ بجده ونصحه ويستعين على ذَلِك بعظيم من الخضوع والتملق إِلَيْهِ ولحاشيته وَذَوي نسبه حَتَّى ترسخ قدمه مَعَهم فَيحصل لَهُ بذلك حَظّ عَظِيم من السَّعَادَة وينتظم فِي عداد أهل الدولة وناشئتها حِينَئِذٍ من ابناء قَومهَا الَّذين ذللوا صعابها مغترون بأثر ابائهم شامخة بهَا نُفُوسهم فيمقتهم بذلك السُّلْطَان ويباعدهم ويميل إِلَى هَؤُلَاءِ المصطنعين الَّذين لَا يعتدون بقديم وَلَا يذهبون إِلَى دَالَّة وَلَا ترفع وأنما دأيهم الخضوع لَهُ والتملق والاعتمال فِي غَرَضه فيتسع جاههم وتعلة مَنَازِلهمْ وتبقي ناشئة الدولة فِيمَا هم فِيهِ من الترفع والاعتداد بالقديم لَا يزيدهم ذَلِك إِلَّا بعدا من السُّلْطَان ومقتا وايثار لهَؤُلَاء المصطنعين عَلَيْهِ إِلَى أَن تنقرض الدولة

قَالَ وَهَذَا أَمر طبيعي فِي الدول وَمِنْه جَاءَ شَأْن الاصطناع فِي الْغَالِب وَالله فعال لما يُرِيد

ص: 309

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة أَن القائمين بِأُمُور الدّين من الْقَضَاء وَالشَّهَادَة والقتيا والتدريس والإمامة والخطابة والآذان وَنَحْو ذَلِك لَا تعظم ثروتهم غَالِبا وَذَلِكَ لأمور

أَحدهَا أَن الْكسْب قيمَة الْأَعْمَال كَمَا تقدم وَهِي مُتَفَاوِتَة بِحَسب الْحَاجة اليها لعُمُوم الْبلوى بهَا وَقيمتهَا على تِلْكَ النِّسْبَة أهل هَذِه الصَّنَائِع الدِّينِيَّة لَا تضطر إِلَيْهِم الْعَامَّة بل مَا احْتَاجَ إِلَى مَا عِنْدهم مِمَّن اقبل على دينه والاحتياج إِلَى التيا وَالْقَضَاء لَيْسَ على وَجه الِاضْطِرَار والعموم وَحِينَئِذٍ فيستغني عَنْهُم غَالِبا وانما يهتم بِإِقَامَة مَرَاتِبهمْ صَاحب الدولة لما هُوَ نَاظر فِي الْمصَالح فَيقسم لَهُم حظا من الرزق على نِسْبَة الْحَاجة إِلَيْهِم لَا يساويهم بِأَهْل الشَّوْكَة وَلَا بذوي الصَّنَائِع الضرورية وان كَانَت بضاعتهم اشرف فَلَا يطير فِي سهمهم إِلَّا الْقَلِيل

قلت وَمِمَّا ينْسب لِابْنِ حبيب فِي التشكي من ذَلِك

(صَلَاح امري وَالَّذِي ابْتغِي

هَين على الرَّحْمَن فِي قدرته)

(ألف من الصفر واقلل بهَا

لعالم أربى على بغيته)

(رياب يَأْخُذهَا دفْعَة

وصنعتي أشرف من صَنعته)

وَيَعْنِي بزرياب المعني الشهير

ص: 310

الثَّانِي انهم لشرف بضاعتهم اعزه على الْخلق وَعند أنفسهم فَلَا يخضعون أهل الجاه وَلَا يسعهم التذلل أهل الدُّنْيَا فيفوتهم بذلك حَظّ عَظِيم من وُجُوه التمول

قلت وَفِي ذَلِك يَقُول القَاضِي أَبُو الْحسن الْجِرْجَانِيّ الأبيات الْمَشْهُور لَهُ

(يَقُولُونَ لي فِيك انقباض وانما

رَأَوْا رجلا عَن موقف الذل اجحما)

(يرى النَّاس من داناهم هان عِنْدهم

وَمن اكرمته عزة النَّفس اكراما)

(وَمَا كل برق لَاحَ لي يستفزني

وَلَا كل من لاقيت ارضاه منعما)

ص: 311

(وَمَا زَالَت منحازا بعرضي جانبا

من الدَّم اعْتد الصيانة مغنما)

(إِذا قيل هَذَا منهل قلت قد ارى

وَلَكِن نفس الْحر تحْتَمل الظما)

(واني إِذا مَا فَاتَنِي الْحَظ لم ابت

اقلب كفي اثره متندما)

(وَلكنه أَن جَاءَ عفوا قبلته

وان مَال لم اتبعهُ هلا وليتما)

(واقبض خطوى عَن حظوظ قرينه

إِذا لم انلها وافر الْعرض مكرما)

(واكرم نَفسِي أَن اضاحك عَابِسا

وان اتلقى بالمديح مذمما)

(انهنهها عَن بعض مَا لَا يشينها

مَخَافَة أَقْوَال العدا فِيمَا أولما)

(وَلم اقْضِ حق الْعلم أَن كنت كلما

بذا طمع صيرته لي سلما)

(وَلم ابتذل فِي خدمته الْعلم مهجتي

لَا خدم من لاقيت لَكِن لَا خدما)

(اغرسه عزا واجنيه ذلة

إِذا فاتباع الْجَهْل قد كَانَ احزما)

ص: 312

(فان قلت جد الْعلم كَاف فَإِنَّمَا كفى

حِين لم يحفظ حماه واسلما)

(وَلَو أَن أهل الْعلم صانوه صانهم

وَلَو عظموه فِي النُّفُوس لعظما)

الثَّالِث انهم لما هم فِيهِ من الشّغل بِهَذِهِ الصَّنَائِع الشَّرِيفَة الْمُشْتَملَة على الْفِكر وَالْبدن لَا تفرغ اوقاتهم للمساعي العائدة بادرار الارزاق فَلذَلِك لَا تعظم ثروتهم غَالِبا

عِبْرَة بَالِغَة

قَالَ ابْن خلدون وَلَقَد باحثت بعض الْفُضَلَاء فانكر ذَلِك على فَوَقع بيَدي اوراق مخرمَة من حسابات الدَّوَاوِين بدار الْمَأْمُون تشْتَمل على كثير من الدخل والخرج يؤمئذ وَكَانَ فِيمَا طالعت فِيهَا أرزاق الْقُضَاة والائمة والمؤذنين فوفقته عَلَيْهِ وَعلم مِنْهُ صِحَة مَا قلته وَرجع إِلَيْهِ وقضيت الْعجب من اسرار الله فِي خلقه وحكمته فِي عوالمه واله الْخَالِق الْمُقدر

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عشرَة أَن الفلاحة من معاش الْمُسْتَضْعَفِينَ أهل الْعَافِيَة من البدو وَذَلِكَ لامرين

أَحدهَا أَن كيفيتها سهلة التَّنَاوُل ولبساطتها واصلها فِي الطبيعة وَذَلِكَ لَا ينتحلها أهل الْحَضَر فِي الْغَالِب وَلَا المترفون

ص: 313

الثَّانِي أَن منتحلها مَخْصُوص بالهوان والذلة فَفِي الحَدِيث انه ص صلى الله عليه وسلم قَالَ وَقد رأى السِّكَّة بِبَعْض دور الانصار مَا دخلت هَذِه دَار قوم إِلَّا دخله الذل لَكِن حمله البُخَارِيّ على الاستكثار مِنْهَا

قلت وَقد ذكر ابْن الْحَاج لحاق هَذَا الذل لمنتحلها فِي الديار المصرية قَالَ كَأَنَّهُ عبد لبَعْضهِم اسير ذليل صَغِير لَا مَال لَهُ وَلَا روح لما فِيهَا من الذل فِي هَذَا الزَّمَان

تَوْجِيه قَالَ ابْن خلدون وَسَببه وَالله اعْلَم مَا يتبعهَا من المغرم المفضي لتَحكم الْيَد الْغَالِبَة إِلَى مذلة الْغَالِب وقهره فَفِي الحَدِيث

لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تعود الزَّكَاة مغرما إِشَارَة للْملك العضوض الَّذِي يُسمى فجوره حُقُوق الله تَعَالَى حَتَّى تصير مغارم الدول وضرائبها تسمى حقوقا

قلت وَوجه آخر وَهُوَ أَن الاكثار مِنْهَا مَظَنَّة لنسيان الْجِهَاد الَّذِي بِهِ الْغَزْو والحماية كَمَا يلوح من تَوْجِيه البُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى وَيشْهد لَهُ مَا رَوَاهُ الْأَمَام احْمَد رحمه الله عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ

ص: 314

سَمِعت رَسُول الله ص صلى الله عليه وسلم إِذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أَذْنَاب الْبَقر ورضيتم بالزرع وتركتم الْجِهَاد سلط الله عَلَيْكُم ذلا لَا يَنْزعهُ حَتَّى ترجعوا إِلَى دينكُمْ

الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عشرَة أَن معنى التِّجَارَة محاولة على التكسب لتنمية المَال فِي الشِّرَاء بالرخص وَالْبيع بالغلاء

قَالَ بعض شُيُوخ التُّجَّار لطَالب الْكَشْف عَن حَقِيقَتهَا انا اعلمكها فِي كَلِمَتَيْنِ اشْتَرِ الرخيص وبع الغالي وَقد حصلت التِّجَارَة وَالْقدر الْبَاقِي يُسمى ربحا والمحاولة لتحصيله إِمَّا بانتظار حِوَالَة الاسواق أَو نقلهَا إِلَى بلد آخر هِيَ فِيهِ انفق

وَهنا محاولتان المحاولة الأولى الاحتكار ومتعلقه ضَرْبَان أَحدهمَا مَالا يضر فِيهِ وَهُوَ جَائِز قَالَ ابْن عَرَفَة الحكرة فِي كل شَيْء طَعَام أَو غَيره جَائِزَة وَمَا اهم احتكاره بِالنَّاسِ مِنْهُ احتكاره

قلت هُوَ فِي الطَّعَام قَول الْمُدَوَّنَة

وَقَالَ اللَّخْمِيّ هُوَ احسن وَفِي ادخار الأقوات فِي الرخَاء مرتفق وَقت الشدَّة ولولاه لم يجد النَّاس فِيهَا عَيْشًا وَلَو قيل انه مستحسن لم اعبه

قَالَ ابْن عَرَفَة وَهُوَ مُقْتَضى تَعْلِيله بالإرفاق فَلِأَنَّهُ مصلحَة راجحة سَالِمَة عَن مضرَّة النَّاس إِذا كَانَ فَاعله لَا يتَمَنَّى غلاء

ص: 315

قلت وَقد صرح بِهِ ابْن الْعَرَبِيّ قَالَ فِي الْعَارِضَة أَن كثر الجالب وَكَانَ أَن لم يشتر مِنْهُ رد الطَّعَام كَانَت الحكرة مُسْتَحبَّة

الثَّانِي مَا يضر فِيهِ وَهُوَ مَمْنُوع قَالَ ابْن رشد اتِّفَاقًا

قلت لما ورد فِيهِ من الْوَعيد الزاجر عَن الْمضرَّة فَفِي الصَّحِيح من احتكر فَهُوَ خاطئ أَي اثم وَفِي سنَن ابْن مَاجَه الجالب مَرْزُوق والمحتكر مَلْعُون

مزِيد تخويف

قَالَ ابْن خلدون وَمِمَّا اشْتهر عِنْد ذَوي الْبَصَر والتجربة أَن احتكار الزَّرْع لتحين اوقات الغلاء بِهِ مشؤوم وعائد على فَائِدَته بالتلف

ص: 316

والخسران

قَالَ وَسَببه وَالله اعْلَم أَن النَّاس لحاجتهم إِلَى الأقوات مضطرون لما يبذلون فِيهَا فَتبقى النُّفُوس مُتَعَلقَة بِهِ وَفِي تعلق النُّفُوس بِمَا لَهَا شَرّ كَبِير فِيهِ وباله على من يَأْخُذهُ وَلَعَلَّه الَّذِي اعْتَبرهُ الشَّارِع فِي اخذ أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ وَهَذَا وان لم يكن مجَّانا فالنفوس مُتَعَلقَة بِهِ لاعطائه ضَرُورَة من غير سَعَة فِي الْعذر فَهُوَ كالمكره وَمَا عدا الأقوات لَا اضطرار اليها وانما يبْعَث عَلَيْهَا التفنن فِي الشَّهَوَات فَلَا يبْذل المَال فِيهَا إِلَّا بإختيار ولغرض وَلَا يبقي للنفوس تعلق بِمَا اعطى فِيهِ فَلهَذَا تَجْتَمِع القوى النفسانية على مُتَابعَة من عرف بالاحتكار بِمَا يَأْخُذهُ من أَمْوَالهم فَيفْسد وَالله اعْلَم

مُنَاسبَة

قَالَ وَسمعت فِيمَا يُنَاسب هَذَا حِكَايَة ظريفة اخبرني شَيخنَا أَبُو عبد الله الابلي قَالَ حضرت عِنْد القَاضِي بفاس لعهد السُّلْطَان أبي سعيد وَهُوَ الْفَقِيه أَبُو الْحسن الملياني وَقد عرض عَلَيْهِ أَن يخْتَار بعض الألقاب المخزنية لجرايته قَالَ فاطرق مَلِيًّا ثمَّ قَالَ لَهُم من مكس الْخمر فاستضحك الْحَاضِرين من اصحابه وتعجبوا وسألوه عَن حكمه ذَلِك فَقَالَ إِذا كَانَت الجبايات كلهَا حَرَامًا فأختار مِنْهَا مَالا تتابعه نفوس معطيها وَالْخمر قل أَن يبْذل فِيهَا أحد مَاله إِلَّا وَهُوَ

ص: 317

طرب مسرور بوجدانه غير اسف وَلَا مُتَعَلق بِهِ انْتهى

مُلَاحظَة تنظر إِلَى معجل هَذَا الْعقَاب وَفِيه شَهَادَة لَهُ مَا خرجه الاصبهاني عَن أبي يحي الْمَكِّيّ عَن فروخ مولى عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه أَن طَعَاما على بَاب الْمَسْجِد فَخرج عُثْمَان رضي الله عنه وَهُوَ أَمِير الْمُؤمنِينَ يَوْمئِذٍ فَقَالَ مَا هَذَا الطَّعَام فَقَالُوا طَعَام جلب إِلَيْنَا أَو علينا فَقَالَ بَارك الله فِيهِ وفيمن جلبه إِلَيْنَا أَو علينا فَقَالَ لَهُ بعض الَّذين مَعَه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد احتكر قَالَ وَمن احتكره قَالُوا احتكره فروخ وَفُلَان مولى عمر بن الْخطاب فَأرْسل أليهما فاتياه فَقَالَ مَا حملكهما على احتكار طَعَام الْمُسلمين قَالُوا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ نشتري بِأَمْوَالِنَا ونبيع فَقَالَ عُثْمَان رضي الله عنه سَمِعت رَسُول الله ص صلى الله عليه وسلم يَقُول من احتكر على الْمُسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس فَقَالَ عِنْد ذَلِك فروخ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأَنِّي اعاهد الله واعاهدك أَن لَا اعود فِي احتكار طَعَام ابدا فتحول إِلَى مصر واما مولى عمر فَقَالَ نشتري بِأَمْوَالِنَا ونبيع فَزعم أَبُو يحي انه رأى مولى عمر مجذوما متدوخا المحاولة الثَّانِيَة نقل السّلع من بلد إِلَى آخر وَفِيه للتاجر الْبَصِير بِالتِّجَارَة رعايات ثَلَاث

إِحْدَاهمَا نقل مَا تعم الْحَاجة إِلَيْهِ من الْغَنِيّ وَالْفَقِير وَالسُّلْطَان والسوقة إِذْ فِي ذَلِك نفَاقه وَخُرُوجه وَلَا كَذَلِك مَا يخص حَاجَة الْبَعْض إِلَيْهِ لتعذر الشِّرَاء على ذَلِك الْبَعْض وَحِينَئِذٍ فيكسد سوق الْمَنْقُول وتفسد ارباحه

ص: 318

الثَّانِيَة نقل مَا هُوَ وسط فِي صنفه فان الغالي من كل السّلع إِنَّمَا هُوَ يخْتَص بِهِ أهل الثورة وحاشية الدولة وَهُوَ الْأَقَل بِخِلَاف الْوسط فان النَّاس فِي الْحَاجة إِلَيْهِ اسوة

الثَّالِثَة وَهُوَ خَاص بِطَلَب الرِّبْح والعظيم نقل سلع الْبَلَد الْبعيد الْمسَافَة أَو الْمخوف الطَّرِيق فَإِنَّهَا لبعد مَكَانهَا وَشدَّة ضَرَر نقلهَا يقل حاملها ويعز وجودهَا واذ ذَاك فَيحصل ناقلها على ربح عَظِيم بِسَبَب ذَلِك والبلد الْقَرِيب الْمسَافَة الامن الطَّرِيق يكثر النَّاقِل مِنْهُ واليه فيكثر الْمَنْقُول وترخص أثمانه

ذلالة وجود

قَالَ وَلِهَذَا تَجِد التِّجَارَة الداخلين إِلَى بلد السودَان ارْفَعْ النَّاس وَأَكْثَرهم أَمْوَالًا لبعد طريقهم ومشقته باعتراض المفاوز المخطرة بالخوف والعطش ويقل مَا نقل إِلَيْنَا واليهم فيسرع إِلَى هَؤُلَاءِ الْغنى والثروة من اجل ذَلِك والمتمردون فِي الافق الْوَاحِد مَا بَين امصاره وبلدانه فائدتهم قَليلَة وارباحهم تافهة لِكَثْرَة السّلع بِكَثْرَة ناقلها

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة عشرَة أَن رخص الاسعار مُضر بالمحترفين بالرخيص لَان الْكسْب إِنَّمَا هُوَ بالبضائع أَو التِّجَارَة وَإِذا دَامَ الرُّخص فِي المتجور فِيهِ وَلم تحصل فِيهِ حِوَالَة سوق فسد الرِّبْح بطول تِلْكَ الْمدَّة وكسد سوق ذَلِك الصِّنْف وَسَاءَتْ أَحْوَالهم

ص: 319

اعْتِبَار

قَالَ وَاعْتبر ذَلِك بالزرع إِذا استدبم رخصه كَيفَ تفْسد احوال المحترفين بزراعته لقلَّة الرِّبْح فِيهِ ويصيرون إِلَى الْفقر والخصاصة وَيتبع ذَلِك فَسَاد حَال المحترفين من لدن زراعته إِلَى مصيره مَاكُولَا وان رزق الْجند مِنْهُ يُقَوي فَسَاد حَالهم إِذْ كَانَت ارازاقهم من السُّلْطَان على أهل الفلح زرعا فَإِنَّهَا تقل جبابتهم من ذَلِك ويعجزون عَن اقامة الجندية

تَنْبِيه

إِذا افرط الغلاء فعلى مثل هَذِه الْحَالة إِلَّا فِي النَّادِر فَرُبمَا عَاد فنَاء المَال بِسَبَب احتكاره واذ ذَاك فالمعاش إِنَّمَا هُوَ فِي التَّوَسُّط من ذَلِك وَسُرْعَة حِوَالَة الاسواق

قَالَ وانما يحمد الرُّخص فِي الزَّرْع لعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ والعالة من الْخلق هم الْأَكْثَر فِي الْعمرَان فَيعم الرِّفْق بذلك

الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة عشرَة أَن النَّاس فِي التِّجَارَة صنفان المنتفع بهَا وَالَّذِي يَنْبَغِي لَهُ تَركهَا

فَالْأول من لَهُ أحد أَمريْن أَو كرهما الْكِفَايَة والجاه

وَالثَّانِي من فقد الْأَمريْنِ مَعًا

وَبَيَانه أَن محاولة التنمية لَا بُد فِيهِ من حُصُول المَال بأيدي الباعة فِي

ص: 320

شِرَاء البضائع وَبَيْعهَا وتقاضي اثمانها أهل النصفة مِنْهُم قَلِيل فَلَا بُد من الْغِشّ والمطل المجحف بِالرِّبْحِ لتعطل المحاولة فِي تِلْكَ الْمدَّة والانكار الْمَذْهَب لرأس المَال أَن لم يُقيد بِالشَّهَادَةِ وغناء الْحُكَّام فِي ذَلِك قَلِيل لبِنَاء الحكم على الظَّاهِر فيعاني التَّاجِر من ذَلِك احوالا صعبة وَلَا يكَاد يحصل على تافه من الرِّبْح إِلَّا بالمشقة الْعَظِيمَة أَو يتلاشى رَأس المَال فان كَانَت لَهُ كِفَايَة بالجرأة على الْخُصُومَة وَالْبَصَر بِالْحِسَابِ والاقدام على الْحُكَّام كَانَ إِلَى النصفة اقْربْ وَألا فَلَا بُد لَهُ من جاه يعتضد بِهِ ليوقع لَهُ الهيبة عِنْد الباعة وَيحمل الْحُكَّام على انصافه وان فقد الْأَمريْنِ عرض بِمَا لَهُ بالذهاب وصيره مأكله للباعة وَكَاد إِلَّا يَقْتَضِيهِ مِنْهُم أصلا

قلت وُجُوه التِّجَارَة كَثِيرَة قد لَا يلْزم هَذَا الْمَحْذُور فِي بعض مِنْهَا فَتَأَمّله

الْمَسْأَلَة الْعشْرُونَ أَن خلق التُّجَّار نازلة عَن خلق الرؤساء وبعيدة عَن المرؤة ذَلِك لَان التَّاجِر لَا بُد لَهُ فِي محاولة التِّجَارَة من عوارض حرفتها النَّاقِصَة عَن المرؤة والمكايسة والمضاعفة وممارسة الْخُصُومَات وَذَلِكَ مِمَّا ينطبع فِي النَّفس من اثارها المذمومة إِذْ افعال الْخَيْر تعود بآثار الْخَيْر وافعال الشَّرّ والسفسفة تعود بضد ذَلِك

ص: 321

تفَاوت اثر

قَالَ وتتفاوت هَذِه الاثار بتفاوت اصناف التُّجَّار فِي اطوارهم فالسافل مِنْهُم الْمُضْطَر لمخالطة شرار الباعة ذَوي الْغِشّ والخلابة والفجور فِي الاثمان اقرارا وانكارا تكون رداءة تِلْكَ الْخلق لَدَيْهِ اشد وتغلب عَلَيْهِ السفسقة والبعد عَن المروات وَألا فَلَا بُد لَهُ من تَأْثِير المكايسة فِي مرؤته وفقدان ذَلِك فيهم بِالْجُمْلَةِ قَلِيل

اتِّفَاق نَادِر

قَالَ وَوُجُود الصِّنْف الثَّانِي مِنْهُم وهم المجرعون بالجاه الْمُغنِي لَهُم عَن مُبَاشرَة ذَلِك كُله نَادِر واقل من النَّادِر وَذَلِكَ بَان يتوفر المَال عِنْده دفْعَة بِنَوْع غَرِيب أَو وراثة بِحَيْثُ يَسْتَغْنِي بِهِ عَن الِاتِّصَال بالدولة ويكسبه ظهورا وشهرة فيرتفع عَن تِلْكَ الْمُبَاشرَة اسْتغْنَاء بكفايته وكلائه وحشمه ويساهله الْحُكَّام فِي الاصناف من حَقه برا بِهِ وحفاية فيبعد عَن تِلْكَ الْخلق لاضطراره بمشارفة وكلائه وفَاقا وَخِلَافًا إِلَّا انه قَلِيل وَلَا يكَاد يظْهر اثره وَالله خَلقكُم وَمَا تعلمُونَ

الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة وَالْعشْرُونَ أَن الصَّانِع لَا بُد لَهُ من معلم وَذَلِكَ لَان الصِّنَاعَة هِيَ ملكة فِي أَمر عَمَلي فكري وَعند ذَلِك فاشتراط الْمعلم فِيهَا ظَاهر من وُجُوه

ص: 322

أَحدهَا أَن العملي جسماني محسوس وَيقبل احوال مَا هُوَ كَذَلِك بِالْمُبَاشرَةِ والمعلم أَو عب لَهَا واتم فَائِدَة

الثَّانِي أَن المكلة صفة راسخة بتكرار الْفِعْل وَهُوَ بالمعاينة اكمل فالمكلة الْحَاصِلَة عَنْهَا اكمل

الثَّالِث أَن صدق المتعلم فِي الصِّنَاعَة على قدر جودة التَّعْلِيم وملكة الْمعلم وَذَلِكَ من اثر المعاينة فَيكون شرطا فِي خلقه وَحُصُول ملكته

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة وَالْعشْرُونَ أَن رسوخ الصَّنَائِع فِي الامصار برسوخ الحضارة على الدول الطَّوِيلَة الامد وَقبل بَيَان ذَلِك فالصنائع إِنَّمَا تكمل بِكَمَال الْعمرَان الحضري وكثرته وَمَا لم يسْتَوْف التمدن بِهِ فَلَا تَنْصَرِف الهمم لما وَرَاء الضَّرُورِيّ وَمن المعاش وَإِذا استوفى مبالغ كَمَاله وَوقت اكماله بالضروري وَمَا يزِيد عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يصرف ذَلِك الزَّائِد إِلَى الكمالات فِي المعاش بالضروري وَمَا يزِيد عَلَيْهِ وَمِنْهَا الصَّنَائِع

إِذا تقرر هَذَا فَتلك الصَّنَائِع هِيَ العوائد الَّتِي لَا رسوخ لَهَا إِلَّا بِكَثْرَة التّكْرَار الطَّوِيل الامد وَظَاهر إِنَّهَا بعد استحكام صبغتها لذَلِك يُفْسِدهَا جملَة شَأْن الملكات الراسخة الْحُصُول

دلَالَة وجود

قَالَ وَلِهَذَا تَجِد الامصار المستحدثة الْعمرَان وَلَو بلغت مبالغها

ص: 323

فِي الْوُجُود لم يستحكم فبها رسوخ وَذَلِكَ لَان الْقَدِيمَة الْعمرَان راسخة بطول الاحقاب وتكرار الْأَحْوَال وَهَذِه لم تبلغ الْغَايَة بعد قَالَ: وَهَذَا كَحال فِي الأندلس لهَذَا الْعَهْد فتجد فها رسوم الصَّنَائِع قَائِمَة واحوالها مستحكمة الْبَهْجَة كالمباني والطبخ واصناف الْغناء وَاللَّهْو والآلات والاوتار والرقص وتنصيد الْفرش وَحسن التَّرْتِيب والأوضاع فِي الْبناء وصوغ الانية وَجَمِيع المواعين وَإِقَامَة الولائم والأعراس وَسَائِر الصَّنَائِع الَّتِي يدعوا لَهَا الترف وعوائده فتجدهم اقوم عَلَيْهَا وابصر بهَا فهم على حِصَّة موفورة من ذَلِك وحظ متميز بَين جَمِيع الامصار وان كَانَ عمرانه قَرِيبا نقص وَالْكثير مِنْهُ لَا يُسَاوِي عمرَان غَيرهَا من بِلَاد العدوة

قَالَ وَمَا ذَلِك إِلَّا لرسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدولة الأموية وَمَا قبلهَا من دولة القوط وَمَا بعْدهَا من دولة الطوائف إِلَى هَلُمَّ جرا

قَالَ وَكَذَا نجد بالقيروان ومراكش وقلعة ابْن حَمَّاد أثرا بَاقِيا من ذَلِك وان كَانَت هَذِه كلهَا الْيَوْم خرابا أَو فِي حكم الخراب وَلَا يتفطن لَهَا إِلَّا الْبَصِير من النَّاس فتجد من هَذِه الصَّنَائِع إثارة تدل على مَا كَانَ بهَا كأثر الْخط الممحو فِي الْكتاب وَالله الْخَالِق الْعَلِيم

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة وَالْعشْرُونَ أَن الصَّنَائِع ضَرْبَان بسيط يخْتَص بالضروريات ومركب يُرَاد للكماليات وللأول خَواص

ص: 324

إِحْدَاهمَا تقدمه بالطبع فِي التَّعْلِيم لبساطته اولا ولتوفر الدعاوي على نَقله لاختصاصه بالضروري ثَانِيًا

الثَّانِيَة نقص تَعْلِيمه لذَلِك إِلَى أَن يكمل باستخراج مركباته من الْقُوَّة إِلَى الْفِعْل بالاستنباط الفكري على التدريج

الثَّالِثَة حُصُوله فِي أزمان وأجيال لَا دفْعَة وَاحِدَة لَازِما بِالْقُوَّةِ لَا يخرج إِلَى الْفِعْل إِلَّا كَذَلِك خُصُوصا فِي الْأُمُور الصناعية فَإِذا لَا بُد لَهَا من زمَان

اعْتِبَار

قَالَ وَلِهَذَا تَجِد الصَّنَائِع فِي الامصار الصَّغِيرَة نَاقِصَة وَلَا يُوجد مِنْهَا إِلَّا الْبَسِيط فَإِذا تزايدت حضارتها ودعت امور الترف إِلَى اسْتِعْمَال الصَّنَائِع خرجت من القوى إِلَى الْفِعْل وَالله اعْلَم

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة وَالْعشْرُونَ أَن الصَّنَائِع إِنَّمَا تستجاد وتكثر إِذْ كثر طالبها لأمرين

أَحدهَا إِنَّهَا إِذا طلبت توجه اليها النِّفَاق واجتهد النَّاس فِي تعلمهَا ابْتِغَاء المعاش بهَا وَإِذا لم تطلب كسد سوقها وَرغب عَن تعلمهَا فاختصت بِالتّرْكِ والاهمال

الثَّانِي أَن الاجادة فِيهَا إِنَّمَا تطالبها الدولة الَّتِي هِيَ السُّوق الاعظم لنفاق كل شَيْء فَإِذا نفقت فِيهَا حظى صَاحبهَا بجدوى الِاشْتِغَال بهَا والسوقة

ص: 325

وان طلبوها فبدون طلب الدولة بِكَثِير وَحِينَئِذٍ فَإِذا لم يكن هُنَاكَ دولة طالبة فَلَا وجود للصنائع على كَمَال

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة وَالْعشْرُونَ أَن الامصار إِذا قاربت الخراب انتقصت مِنْهَا الصَّنَائِع لما تقدم أَن استفادتها إِنَّمَا هِيَ بِكَثْرَة طالبها فَإِذا ضعفت احوال الْمصر واخذ فِي الْهَرم بانتقاص عمرانه تناقص فِيهِ الترف وَرَجَعُوا إِلَى الِاقْتِصَار على الضَّرُورِيّ بِنَقْل الصَّنَائِع التابعة للترف لتعذر المعاش بهَا فيفر صَاحبهَا إِلَى غَيره أَو يَمُوت عَن خلف مِنْهُ فَيذْهب رسم تِلْكَ الصَّنَائِع جملَة

قلت فِي الافلاطونيات لَا تزَال الصناعات فِي الْبلدَانِ موفورة مَا وجد من أَهلهَا مطبوعون فِيهَا فَإِذا خلت مِنْهُم فسد نظامها

تَمْثِيل

قَالَ ابْن خلدون كماا يذهب النقاشون والصواغون وَالْكتاب والنساخ وامثالهم وَلَا تزَال الصِّنَاعَة فِي تناقص مَا دَامَ الْمصر فِي انحطاط إِلَى أَن يضمحل وَالله الخلاق الْعَلِيم

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة وَالْعشْرُونَ أَن الْعَرَب ابعد النَّاس عَن لاصنائع وَذَلِكَ لأَنهم اعرق فِي البدو وابعد عَن الْعمرَان وَمَا يَدْعُو اليه من الصَّنَائِع وَغَيرهَا وعجم الْمغرب من البربر بمثابتهم فِي ذَلِك لرسوخ بداوتهم مُنْذُ احقاب من السنين وعجم الْمشرق وأمم النَّصْرَانِيَّة بعدوة الْبَحْر الرُّومِي أوم

ص: 326

النَّاس عَلَيْهَا لأَنهم أعرق فِي الْعمرَان الحضري وَأبْعد عَن البدو وسذاجته

شَاهد اعْتِبَار

قَالَ وَلِهَذَا تَجِد اوطان الْعَرَب وَمَا ملكوه فِي الْإِسْلَام قَليلَة الصَّنَائِع بِالْجُمْلَةِ حَتَّى تجلب اليه من مَوضِع آخر وَكَذَا بالمغرب إِلَّا مَا كَانَ من صناعَة الصُّوف فِي نسجه وَالْجَلد فِي خرزه ودبغه فَإِنَّهُم لما استحضروا بالغوا فِيهَا المبالغ لعُمُوم البلوي بهَا وَكَون هذَيْن اغلب السّلع فِي قطرهم لما هم عَلَيْهِ من حَال البداوة

قلت فِي التحف والطرف للمقري سَمِعت بعض الْفُقَرَاء يَقُول لَو رأى ارسطو قدر الْبُرْنُس فِي اللبَاس والكسكس فِي الطَّعَام لاعترف للبربر بحكمة التَّدْبِير الدنيوي وان لَهُم قصب السَّبق فِي ذَلِك

انعطاف

قَالَ وَانْظُر بِلَاد الْعَجم من الصين والهند وَارْضَ التّرْك وأمم

ص: 327

النَّصْرَانِيَّة كَيفَ استكثرت فِيهَا الصَّنَائِع واستجلبتها الامم من عِنْدهم كَمَا رسخت فِي الْمشرق مُنْذُ ملك الامم الاقدمين من الْفرس والنبط والقبط وَبني اسرائيل ويونان وَالروم احقابا متطاولة رسخت فِيهَا احوال الحضارة وَمن جُمْلَتهَا الصَّنَائِع

قَالَ وَأما الْيمن والبحرين والحجاز والجزيرة وان ملكهَا الْعَرَب إِلَّا انهم تداولوا ملكهَا آلا من السنين واختطوا امصارها ومدنها وبلغوا المبالغ من الحضارة والترف كعاد وَثَمُود والعمالة وَتبع والاذواء فطال امد الْملك والحضارة ورسخت الصِّنَاعَة فَلم تبل بِبِلَاد الدولة فَبَقيت مستجدة حَتَّى الْآن واختصت بذلك كصناعة الوشي وَالنّصب وَمَا يستجد من حوك الثِّيَاب وَالْحَرِير وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا

الْمَسْأَلَة السَّابِعَة وَالْعشْرُونَ أَن من حصلت لَهُ ملكة فِي صناعَة لَا يجيد ملكة فِي أُخْرَى كالخياط إِذا اجاد ملكة الْخياطَة ورسخت فِي نَفسه فَلَا يجيد من بعْدهَا ملكة التِّجَارَة أَو الْبناء إِلَّا أَن تكون الأولى لم تستحكم بعد وَلم ترسخ صنعتها

تَوْجِيه

وَسبب ذَلِك أَن الملكات صِفَات للنفوس والوان فَلَا تزدحم دفْعَة وَالْبَاقِي على الْفطْرَة اسهل لقبُول الملكات واحسن اسْتِعْدَادًا لحصولها

ص: 328

فَإِذا تلونت النَّفس بالملكة خرجت عَن الْفطْرَة وَضعف استعدادها باللون الْحَاصِل من هَذِه الملكة فَكَانَ قبُولهَا للملكة الْأُخْرَى اضعف

قلت قَالَ الفارابي عسير وبعيد من هُوَ معد بالطبع للفضائل كلهَا الخلقية والنطقية اعدادا تَاما كَمَا هُوَ عسير أَن يُوجد بالطبع من هُوَ معد نَحْو الصَّنَائِع كلهَا إِلَّا أَن الْأَمريْنِ جَمِيعًا غير ممتنعين والاكثر أَن كل وَاحِد معد نَحْو فَضِيلَة مَا أَو فَضَائِل ذَات عدد مَحْدُود أَو صناعَة أَو عدَّة صنائع محدودة

شَهَادَة وَاقع

قَالَ ابْن خلدون والوجود يشْهد لَهُ فَقل أَن تَجِد صَاحب صناعَة يحكمها فَيحكم من بعْدهَا أُخْرَى وَيكون فيهمَا على رُتْبَة وَاحِدَة من الاجادة وَكَذَا فِي الْعلم وان كَانَت الملكة فِيهِ فكرية فَمن حصل فِيهِ على ملكة علم واجادها فِي الْغَايَة قل أَن يجيد ملكة علم آخر على نسبته إِلَّا فِي النَّادِر

قلت كَمَا حكى ابْن خلكان عَن كَمَال الدّين بن يُونُس أَن فُقَهَاء عصره كَانُوا يَقُولُونَ انه يدْرِي اربعة وَعشْرين فَنًّا دراية متقنة

ص: 329

قَالَ وَكَانَ فِي كل فن مِنْهَا كَأَنَّهُ لَا يعرف سواهُ

قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن مَجْمُوع مَا كَانَ يعمله من الْعُلُوم لم يسمع من أحد مِمَّن تقدمه انه كَانَ قد جمعه وَلَقَد جَاءَنَا الشَّيْخ اثير الدّين الْمفضل أَبُو عَليّ الابهري صَاحب التعليقة فِي الْخلاف والتصانيف الْمَشْهُورَة من الْموصل إِلَى اربل فِي سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وَنزل بدار الحَدِيث وَكنت اشْتغل عَلَيْهِ بِشَيْء من الْخلاف فَبَيْنَمَا انا يَوْمًا عِنْده إِذْ دخل عَلَيْهِ بعض فُقَهَاء بَغْدَاد وَكَانَ فَاضلا فتجاريا فِي الحَدِيث زَمَانا وَجرى ذكر الشَّيْخ كَمَال الدّين فَقَالَ لَهُ الاثير لما حج الشَّيْخ كَمَال الدّين وَدخل بَغْدَاد كنت هُنَاكَ فَقَالَ نعم فَقَالَ كَيفَ كَانَ اقبال الدِّيوَان الْعَزِيز عَلَيْهِ فَقَالَ ذَلِك الْفَقِيه مَا انصفوه على قدر اسْتِحْقَاقه فَقَالَ الاثير مَا هَذَا إِلَّا عجب وَالله مَا دخل بَغْدَاد مثل الشَّيْخ فاستعظمت مِنْهُ هَذَا الْكَلَام وَقلت لَهُ يَا سَيِّدي كيفتقول هَذَا فَقَالَ يَا وَلَدي مَا دخل بَغْدَاد مثل أبي حَامِد وَالله مَا بَينه وَبَين الشَّيْخ نِسْبَة

وَكَانَ الاثير على جلالة قدره فِي الْعُلُوم يَأْخُذ الْكتاب وَيجْلس بَين يَدَيْهِ يقْرَأ وَالنَّاس يَوْم ذَلِك مشتغلون فِي تعاليق الاثير وَقد شاهدت هَذَا بعيني وَهُوَ يقْرَأ عَلَيْهِ كتاب المجسطي

قَالَ وَلَقَد حكى لي بعض الْفُقَهَاء انه سَأَلَ الشَّيْخ كَمَال الدّين عَن الاثير ومنزلته فِي الْعُلُوم فَقَالَ لَا أعلم فَقَالَ وَكَيف هَذَا يَا مولَايَ وَهُوَ فِي خدمتك مُنْذُ سِنِين عديدة ويشتغل عَلَيْك فَقَالَ أَنِّي مهما قلت بحثا تَلقاهُ بِالْقبُولِ وَقَالَ نعم يَا مَوْلَانَا فَمَا راجعني فِي بحث قطّ حَتَّى اعْلَم حَقِيقَة فَضله

قَالَ ابْن خلكانن وَلَا شكّ انه كَانَ يعْتَمد هَذَا القَوْل مَعَ الشَّيْخ تأدبا وَكَانَ عِنْده بِالْمَدْرَسَةِ البدرية وَكَانَ يَقُول مَا تركت بلادي وقصدت الْموصل

ص: 330

إِلَّا للاشتغال على الشَّيْخ انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ

قلت نقلت هَذَا الْكَلَام اسْتِطْرَادًا فِي استجلاء واظهار الْفُضَلَاء وان خرجنَا بِهِ عَن الْمَقْصُود وموقعه عِنْد اهله موقعه

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة وَالْعشْرُونَ الصَّنَائِع الضرورية فِي الْعمرَان الخضري ضَرْبَان

أَحدهَا مَا هُوَ ضَرُورِيّ وَغير شرِيف بالموضوع كالفلاحة ومالبناء والخياطة والنجارة والحياكة

الثَّانِي مَا هُوَ ضَرُورِيّ وشريف بالموضوع ومراتبه صناعات ثَلَاث الصِّنَاعَة الأولى صناعَة التوليد

وَهِي الْمَعْرُوفَة باستخراج الْمَوْلُود الادمي من بطن امهِ ثمَّ مَا يصلحه بعد الْخُرُوج وموضوعها الْمَوْلُود وامه وَهِي ضَرُورَة فِي كَون الانسان إِلَّا فِي حق من اسْتغنى عَنْهَا معْجزَة أَو الهاما وتختص بِالنسَاء غَالِبا وَتسَمى العارفة بذلك قَابِلَة لقبولها مَا تعطيه النُّفَسَاء من الْجَنِين

الصِّنَاعَة الثَّانِيَة الطِّبّ

وَهُوَ حفظ صِحَة الانسان وَدفع الْمَرَض عَنهُ وموضوعه بدن الانسان ضَرُورِيَّة فِي الحواضر لِكَثْرَة الاكل وفقد الرياضة وتعفن الْهَوَاء إِلَّا الْبَوَادِي للسلامة من ذَلِك بقلة الاكل لعدم الخصب وَوُجُود الرياضة بِكَثْرَة الْحَرَكَة وَهِي ضَرُورِيَّة فِي الحواضر لِكَثْرَة الاكل وفقد الرياضة وتعفن الْهَوَاء إِلَّا الْبَوَادِي

قَالَ وَلِهَذَا لَا يُوجد طَبِيب فِي الْبَادِيَة بِوَجْه

مزِيد فَائِدَة

قَالَ ابْن الاكفاني منفعَته بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبدن وَالنَّفس فالبدن بِكَمَال

ص: 331

الصِّحَّة الَّتِي هِيَ افضل حالانه وانما يحفظ بِهِ وَالنَّفس بالتمكن من استكمالها فِي قوتها النظرية والعملية إِذْ الاسقام مَانِعَة من ذَلِك

قَالَ وَأَيْضًا فالطبيب يَسْتَفِيد بنظره فِي التشريح وَمَنَافع الاعضاء مَا يُوضح لَهُ أَن الَّذِي خلق كل شَيْء خلق الانسان فِي احسن تَقْوِيم ثمَّ إِذا اطلع على مَا يَطْلُبهُ كل عُضْو من دَاء وَمَا اعد لَهُ من دَوَاء ومصيره إِلَى الْمَوْت بعده يَتَّضِح لَهُ أَن الَّذِي يردهُ اسفل سافلين هُوَ احكم الْحَاكِمين انْتهى

الصِّنَاعَة الثَّالِثَة الْكِتَابَة

وَهِي رسوم واشكال حرفية تدل على الْكَلِمَات المسموعة الدَّالَّة على مَا فِي النَّفس وَهِي حافظة على الانسان حَاجته وحقيقتها على النسْيَان ومبلغة ضمائر النَّفس إِلَى الْبعيد الْغَائِب ومخلدة نتائج الافكار والعلوم فِي الصُّحُف ورافعة الْوُجُود للمعاني وشرفها ظَاهر من هَذِه الْوُجُوه

الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة وَالْعشْرُونَ أَن غير الضَّرُورِيّ مِنْهَا فِي الْعمرَان إِلَى اسْم الحضارة على كثرتها ضَرْبَان

أَحدهَا مَا تَدْعُو اليه عوائد الترف الْقَاصِر عَن مُجَاوزَة الْحَد فِيهِ مَانِعا فِي استجادة مَا هُوَ كمالي حَتَّى تكون فَائِدَة المشتغل بِهِ انفع من فَائِدَة مَا هُوَ ضَرُورِيّ كالدهان والصفار والطباخ والسفاج والهراس ومعلم الْغناء والرقص وقرع الطبول على التوقيع وَشبه ذَلِك

الثَّانِي مَا يَدْعُو اليه الترف الْخَارِج عَن الْحَد الَّذِي تعداه استبحار الْعمرَان كَمَا يصدر عَن أهل مصر فِي تَعْلِيم الطُّيُور والحمر وتخيل اشياء

ص: 332

من الْعَجَائِب بايهام قلب الاعيان وتعود الْمَشْي على الخيوط وَرفع الاثقال وَغير ذَلِك من الصَّنَائِع الَّتِي لَا وجود لَهَا فِي الْمغرب لنُقْصَان عمرانه عَن عمرَان تِلْكَ الديار

الْمَسْأَلَة الثَّلَاثُونَ أَن الصَّنَائِع تكسب صَاحبهَا عقلا وخصوصا الْكِتَابَة والحساب وَذَلِكَ لِأَن خُرُوج النَّفس الناطقة للْإنْسَان من الْقُوَّة إِلَى الْفِعْل إِنَّمَا هُوَ بتجدد الْعُلُوم والادراكات من المحسوسات اولا ثمَّ تكتسب القوى النظرية إِلَى أَن يصير ادراكا بِالْفِعْلِ وعقلا مخصا وَهُوَ كَمَال وجودهَا وجسدها فيجدها لذَلِك أَن كل نوع من الْعلم وَالنَّظَر يفيدها عقلا فريدا والصنائع بِلَا شكّ يحصل عَنْهَا وَعَن ملكتها قانون علمي مُسْتَفَاد من تِلْكَ الملكة فيزيد عقلا لَا محَالة

قلت هُوَ معنى قَول افلاطون الصناعات متممة لقوى النَّفس والاعضاء هِيَ تعين النَّفس على مَا لَا تصل اليه إِلَّا بأعضاء الْجَسَد

تَنْزِيل قَالَ وَالْكِتَابَة من بَينهَا اكثر افادة لذَلِك لاشتمالها على عُلُوم وانظار دون غَيرهَا وَهِي الانتقام من صور الْحُرُوف الخطية إِلَى الْكَلِمَات اللفظية فِي الْخِيَار وَمِنْهَا إِلَى الْمعَانِي الَّتِي فِي النَّفس فَيحصل لَهَا ملكة الِانْتِقَال من الْأَدِلَّة إِلَى المدلولات وَهِي ملكة من التعقل تفِيد كَمَال عقل ومزيد فطنة وصناعة الْحساب لاحقة بذلك لاحتياج تصرفها فِي الْعدَد باضلم والتفريق إِلَى اسْتِدْلَال كَبِير فَيبقى صَاحبهَا متعودا للاستدلال وَالنَّظَر وَهُوَ معنى الْعقل {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تشكرون}

ص: 333