الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة فِي سياستي الْمَعيشَة وَالنَّاس
وَقبل الْخَتْم بهما فَهُنَا مقدمتان
إِحْدَاهمَا فِي التَّقْوَى والاخرى فِي حسن الْخلق إِذْ برعاية هَاتين الخصلتين صَلَاح المعاش والمعاد وَمن ثمَّ تأكدت عناية النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِالْوَصِيَّةِ بهما فَعَن أبي ذَر رضي الله عنه قَالَ قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اتَّقِ الله حَيْثُ مَا كنت وَاتبع السَّيئَة الْحَسَنَة تمحها وخالق النَّاس بِخلق حسن
الْمُقدمَة الأولى فِي التَّقْوَى
وفيهَا مسَائِل
الْمَسْأَلَة الأولى سبق فِي مُقَدمَات الْكتاب أَن الْمَقْصُود بالخلق لَيْسَ مُجَرّد الدُّنْيَا فَقَط بل الدّين المتكفل بنيل سَعَادَة الابد فِي الدَّار الاخرة وَحِينَئِذٍ بِحَسب الِاعْتِبَار فالدنيا وَضعهَا لأخذ الزَّاد مِنْهَا فِي السَّعْي للفوز بِهَذِهِ السَّعَادَة وَهُوَ التَّقْوَى الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} فَمن انْقَضى عَلَيْهِ نفس من انفاس عمره لَا يشْتَغل فِيهِ بِأخذ الزَّاد فقد أخل بِمَا قصد بِهِ وضيع
مَا لَا قيمَة لَهُ فِي اعتداده بِمَا لَيْسَ بِشَيْء وَهُوَ الخسران الْمُبين وَمن ثمَّ قَالَ الْحجَّاج واعجب ذَلِك الْحسن رضي الله عنه أَن امْرَءًا تمْضِي هَل سَاعَة فِي غير مَا خلق لَهُ لجدير أَن تطول عَلَيْهَا حسرته إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَفِي مَعْنَاهُ قَالَ الْبَاجِيّ رحمه الله
(إِذا كنت اعْلَم علما يَقِينا
…
بِأَن جَمِيع حَياتِي كساعة)
(فَلم لَا اكون ضنينا بهَا
…
وَاجْعَلْهَا فِي صَلَاح وَطَاعَة)
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة
مِمَّا يدل على أَن هَذِه الْخصْلَة الْعَظِيمَة اشرف غايات الْوُجُود الانساني وارفع مَا يترقى بِهِ لاحراز تِلْكَ السَّعَادَة إِنَّهَا وَصِيَّة الله تَعَالَى للاولين والآخرين من عباده قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد وصينا الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَإِيَّاكُم أَن اتَّقوا الله}
قَالَ الْغَزالِيّ لَو كَانَت فِي الْعَالم خصْلَة هِيَ أصلح للْعَبد من هَذِه الْخصْلَة الْأَمر بهَا عباده ووصى خواصه فَلَمَّا اقْتصر عَلَيْهَا علمنَا إِنَّهَا الْغَايَة الَّتِي لَا تجَاوز والخصلة الجامعة لخير الدُّنْيَا والاخرة
قلت ولأمر مَا تكَرر الحض عَلَيْهَا فِي الْكتاب الْعَزِيز تَصْرِيحًا وتلويحا
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ ذكرهَا فِي كِتَابه تَعَالَى نصا فِي نَحْو مائَة وَتِسْعين موضعا وَوَقعت بِالْمَعْنَى فِيمَا لَا يُحْصى قَالَ
ولكثرة ذكر الله تَعَالَى لَهَا لم تجر على لِسَان النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَّا قَلِيلا
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة
من فوائدها الجامعة بَين خير الدُّنْيَا والاخرة امور يَكْفِي مِنْهَا عشرَة
الْفَائِدَة الأولى
التأييد والنصرة أَن الله مَعَ الَّذِي اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ قَالَ الْعلمَاء الْمَعِيَّة معيتان عَامَّة وَهِي معية الاحاطة وَالْعلم وَهُوَ مَعكُمْ اينما كُنْتُم وخاصة وَهِي معية المعونة والنصرة {إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا}
قَالَ صَاحب مشارع الاشواق وَهَذِه معية منوطة بالعبودية الْخَالِصَة من شوائب المخالفات فَمن كَانَ عبد الله حَقًا فَلَا غَالب لَهُ إِذْ الله مَعَه وَهُوَ ناصره ومؤيده {ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين آمنُوا وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم} من الله
الْفَائِدَة الثَّانِيَة
الحراسة من الاعداء وان تصبروما وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فَإِن فعلموها يَعْنِي الصَّبْر وَالتَّقوى لَا يصل اليكم كيدهم شَيْئا فَإِن الله مُحِيط بعلمهم ويمكر لكل ماكر امسكه الله أَو ارسله وان ادركتم قَوْله {فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تشكرون} أَي اتَّقوا الله أَن تدفعوها بنخوة تخَالف الشَّرِيعَة أَو بكبر يضاد الْملَّة وخذوها بامتثال الْحُدُود وَالْقِيَام تَحت جَرَيَان الْمَقَادِير تَكُونُوا من الشَّاكِرِينَ
واجل الشُّكْر مَا كَانَ على المصائب انْتهى
الْفَائِدَة الثَّالِثَة
النجَاة من الشدائد وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ إِذا صدق العَبْد فِي تقواه سَله من الْمعاصِي كالشعرة من الْعَجِين تقيا نقيا وَكَفاهُ المهم وَلم يبتله بِالشغلِ وَلَا كلفه طلب الرزق وَلَا مكن مِنْهُ الْخلق وجلى عَنهُ الظُّلم وَيسر لَهُ العسير كَمَا قَالَ وَمن {يتق الله يَجْعَل لَهُ من أمره يسرا} وان سبق مِنْهُ تَفْرِيط وَعَاد إِلَى التَّقْوَى كفر عَنهُ مَا مضى وَذَلِكَ قَوْله يكفر سيئاته انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ
الْفَائِدَة الرَّابِعَة
حُصُول الْعَاقِبَة الْحسنى وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ يَعْنِي الَّذين استعانوا بِاللَّه وصبروا على بلَاء الله وَرَضوا بِقَضَاء الله وَلم يُؤثر فيهم الْخُرُوج من الوطن وَلَا تعذر الزَّمن
الْفَائِدَة الْخَامِسَة
اصلاح الاعمال {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدا يصلح لكم أَعمالكُم}
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ قيل سددوا اقوالكم تسدد اعمالكم وَلَقَد رفع عَنْك الْحَرج من رَضِي عَنْك بِحَالَة وقالة فالحالة ترك الشّرك والقالة كلمة الشَّهَادَة فَإِذا فَعلْتُمْ ذَلِك اصلح الله اعمالكم الدُّنْيَوِيَّة من الْخلَل وَغفر لكم فِي الْآخِرَة الزلل فحصلت لكم سَعَادَة الدَّاريْنِ
قَالَ وَمن فَوَائِد أبي سعيد الشَّهِيد ذكر الاعمال بِالْجمعِ وقدمها على الغفران لِأَنَّهُ مَا لم تصلح اعمالك وَلم تكفك اشغالك لم تتفرغ لحَدِيث آخرتك
الْفَائِدَة السَّادِسَة
الرزق الْحَلَال {وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} خرج ابْن الْمُبَارك عَن الْحسن قَالَ لزم رجل بَاب عمر رَضِي الله عخنه كلما خرج رَآهُ بِالْبَابِ فَقَالَ يَوْمًا انْطلق فأقرأ الْقُرْآن فَإِنَّهُ سيغنيك عَن بَاب عمر فَانْطَلق الرجل فَقَرَأَ الْقُرْآن فَفَقدهُ عمر فَجعل يَطْلُبهُ إِذْ رَآهُ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ يَا فلَان لقد فقدناك فَمَا الَّذِي حَبسك عَنَّا فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمرتنِي أَن اقْرَأ الْقُرْآن فَقَرَأته فإنني عَن بَاب عمر فَقَالَ لَهُ وَمَا قَرَأت قَالَ {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} فَقَالَ عمر رضي الله عنه فقه الرجل فلأجل هَذَا قيل فِي هَذَا الْمَعْنى من تحقق بالتقوى هون الله عَلَيْهِ الاعراض عَن الدُّنْيَا
الْفَائِدَة السَّابِعَة
فتح ابواب البركات الكفيلة باتمام النِّعْمَة وَحسن عَاقبَتهَا {وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض}
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَلَو اتَّقوا مَا حذرناهم مِنْهُ واعتبروا بِمن سلف قبلهم من الامم لمكناهم من امالهم الدُّنْيَوِيَّة وعصمناهم من الافات
قَالَ وَلَيْسَ الْعبْرَة فِي النِّعْمَة وانما الْعبْرَة فِي الْبركَة فِيهَا وَلَيْسَت الْعبْرَة فِي الْبركَة إِنَّمَا الْعبْرَة فِي الْعَاقِبَة وَهِي الرِّضَا
الْفَائِدَة الثَّامِنَة
الْكَرَامَة والعزة {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم}
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَذَلِكَ من أعظم مراتبها واكثر فوائدها وَأجل ثمراتها فَأكْرم الْخلق عِنْد اله أَكْثَرهم وقاية وَمن استوفاها فَهُوَ اقْربْ إِلَى الله وارفع مرتبَة لَدَيْهِ
قَالَ فِي احكامه وَفِي الحَدِيث الْحسب يُسَاوِي المَال وَالْكَرم يُسَاوِي التَّقْوَى
الْفَائِدَة التَّاسِعَة
الْبشَارَة فِي الدُّنْيَا وَعند الْمَوْت الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُم الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْأُخْرَى
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ الَّذين قَالُوا لَا اله إِلَّا الله ووفوا بذلك فِي الاعتقادات والتحرز من الغفلات والتوقي من الشُّبُهَات دع عَنْك الْمُحرمَات لَهُم الْبُشْرَى قطعا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا بالمعيشة الطّيبَة وَفِي الْأُخْرَى بالحالة المرضية
الْفَائِدَة الْعَاشِرَة
رَجَاء الرَّحْمَة وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ ترحمون
قَالَ الاستاذ أَبُو سعيد التَّقْوَى على كمالها عزيزة الْوُجُود واجتماع خصالها مُتَعَذر وَرَحْمَة الله تَعَالَى لَا تَنْحَصِر فيستقيم حمل
الْأَمر بهَا مَعَ الترجية على انه فِي كل خصْلَة مِنْهَا على انفرادها مَعَ قطع النّظر عَن غَيرهَا لِأَن الاية لَيست نصا فِي عُمُوم التَّقْوَى وَلَا فِي عُمُوم الرَّحْمَة لِأَن اتَّقوا وترحمون فعلان فِي الاثبات لَا عُمُوم لَهما وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث الْبَغي فِي البُخَارِيّ وَحَدِيث غُصْن الشوك فِي الْمُوَطَّأ
قَالَ وَمن هَذَا الْبَاب خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا ثمَّ رجام برحمة التَّوْبَة عَلَيْهِم أجل عَمَلهم الصَّالح وان كَانَ مشوبا بِشَيْء
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة
مَحل هَذَا التَّقْوَى الْقلب لقَوْله صلى الله عليه وسلم التَّقْوَى هَا هُنَا اشار إِلَى صَدره فالعناية بِهِ لذَلِك ولتوقف صَلَاح سَائِر الْجَوَارِح عَلَيْهِ متأكدة قَالَ صلى الله عليه وسلم أَن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله إِلَّا وَهِي الْقلب
قَالَ الْغَزالِيّ وصلاحه بتقدم تَطْهِيره من حب الدُّنْيَا هُوَ رَأس كل خَطِيئَة والداء العضال الَّذِي اعجز الْخلق
قَالَ وَطَرِيقه فِي ذَلِك بِمَعْرِِفَة عيب الدُّنْيَا وآفتها وَشرف الاخرة ورتبتها
قَالَ واقل آفاتها وَهُوَ مُتَيَقن للعاقل وَالْجَاهِل إِنَّهَا منقضية على الْقرب وسعادة الاخرة لَا انْقِضَاء لَهَا هَذَا أَن سلمت من الموذيات والمكدرات وهيهات لم يسلم أحد من ذَلِك
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة
قَالَ الْغَزالِيّ حَدهَا تبرئة الْقلب عَن شَرّ لم يسْبق اليك مثله بِقُوَّة الْعَزْم على تَركه حَتَّى يصير ذَلِك وقاية بَيْنك وَبَين كل شَرّ
قَالَ ثمَّ الشرور قِسْمَانِ اصلي كالمعاصي المحضرة وَغير اصلي كالمباح الْمَأْخُوذ بِشَهْوَة وتقوى الأول فرض وَهِي ادنى الدَّرَجَات وتقوى الثَّانِي ادب وَهِي اعلاها وَالْجمع بَينهمَا هُوَ الْكَمَال الْجَامِع لكل خير فِيهَا وَهُوَ الْوَرع الَّذِي هُوَ ملاك الدّين انْتهى مُلَخصا
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة
قَالَ الْعلمَاء منَازِل التَّقْوَى ثَلَاثَة عَن الشّرك وَعَن الْبِدْعَة وَعَن الْمعاصِي
قَالَ الْغَزالِيّ وَقد ذكرهَا الله تَعَالَى فِي آيَة وَاحِدَة فِي قَوْله {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ثمَّ اتَّقوا وآمنوا ثمَّ اتَّقوا وأحسنوا} فالاولى عَن الشّرك والايمان فِي مُقَابلَة التَّوْحِيد وَالثَّانيَِة عَن الْبِدْعَة والايمان الَّذِي ذكر مَعَهُمَا إِقْرَار بِالسنةِ وَالْجَمَاعَة وَالثَّالِثَة عَن الْمعاصِي الفرعية والاقرار فِيهَا مقابلها بالاحسان وَهُوَ الطَّاعَة والاستقامة عَلَيْهَا
الْمَسْأَلَة السَّابِعَة
تفْتَقر التَّقْوَى إِلَى عُلُوم ثَلَاثَة
الْعلم الأول المتقى وَهُوَ الله سُبْحَانَهُ لقَوْله تَعَالَى {وَاتَّقوا الله} فَإِذا لَا تصح إِلَّا بعد مَعْرفَته بأسمائه وَصِفَاته ووعوده ووعيده ضَرُورَة لِأَن تعبده بهَا ثَان عَن معرفَة المتعبد لَهُ بِمَا يجب لوُجُوده الْمُقَدّس جلّ جَلَاله
الْعلم الثَّانِي وَهُوَ المتقى بِهِ وَهُوَ الْعَمَل بالطاعات وَاجْتنَاب السَّيِّئَات قَالَ الاستاذ أَبُو سعيد من لَا يعرف مَا يعْمل وَلَا مَا يتْرك لَا يَصح أَن يكون متقيا وَألا فيتقي مَاذَا
وَقد قَالَ الْقَائِل
(خل الذُّنُوب صغيرها
…
وكبيرها فَهُوَ التقى)
(واصنع كماش فَوق ارْض
…
الشوك يحذر مَا يرى)
(لَا تحتقرن صَغِيرَة
…
أَن الْجبَال من الْحَصَا)
قَالَ وَلَا شكّ أَن الْأَعْمَى لَا يعرف الشوك من غَيرهَا ليتقيها فَلَا بُد لَهُ أَن يَقع فِيهَا كَذَلِك كل من لَا يعرف طرق الشَّرْع اعمى عَنْهَا حَيْثُ لَا يتَصَوَّر أَن يسلكها انْتهى
قلت وَمن هُنَا يجب علم مَا بِهِ التَّقْوَى الْوَاجِبَة من بَاب مَا لَا يتَوَصَّل إِلَى الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب
الْعلم الثَّالِث الْبَاعِث على التَّقْوَى وَهُوَ الفكرة الْمعبر عَنْهَا بِالذكر الْخَفي وَهُوَ ذكر الله تَعَالَى عِنْد أمره وَنَهْيه
قَالَ الاستاذ أَبُو سعيد من لَا يعرف موضعهَا لَا يكون لَهُ باعث على التَّقْوَى
قَالَ وموضوعها امران
أَحدهَا فَوَائِد التَّقْوَى
قلت وَقد سبق مِنْهَا مَا فِيهِ كِفَايَة
الثَّانِي الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بأقوال الْعباد واعمالهم وَهِي خَمْسَة عشر حكما مَنْصُوصا عَلَيْهَا من علمهَا مَعَ تِلْكَ الْفَوَائِد فقد توفرت عِنْده دواعي التَّقْوَى وَعلم علومها الَّتِي تضمنها قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء}
الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة
الْأَحْكَام الَّتِي أَشَارَ اليها هِيَ الِاطِّلَاع والترقب والتلقي وَالْحِفْظ والاملاء والكتب والاتساخ والتعاقب والمقابلة وَالْعرض وَالدُّعَاء والاداء والروية وَالْوَزْن وَالْجَزَاء
فَالْأول وَهُوَ الِاطِّلَاع أَنْوَاع أَحدهَا اطلَاع الله تَعَالَى {ونعلم مَا توسوس بِهِ نَفسه} {ألم يعلم بِأَن الله يرى}
(إِذا مَا خلوت الدَّهْر يَوْمًا فَلَا تقل خلوت وَلَكِن قل على رَقِيب
…
وَلَا تحسبن الله يغْفل سَاعَة وَلَا أَن مَا يخفى عَلَيْهِ يغيب)
الثَّانِي اطلَاع الْحفظَة الْكِرَام وان عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين يعلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
قلت وَفِي الحَدِيث أَن لسَانك قلمهم وَرِيقك مدادهم وَمَا ينطوي الْقلب عَلَيْهِ قَلِيل يطلعون عَلَيْهِ وَذَلِكَ بعلامة يَجْعَلهَا الله لَهُم وَقيل يبْقى عَنْهُم مغيبا
الثَّالِث اطلَاع جَمِيع الْمَلَائِكَة لما ورد أَن الْعَرْش مرآتهم الَّتِي يرَوْنَ فِيهَا جَمِيع الْوُجُود كالادميين واحوالهم ليشهدوا لَهُم وَعَلَيْهِم فِي الاخرة
وَالثَّانِي هُوَ الترقب من الْحفظَة {مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد} أَي حَاضر فَهُوَ بِمَعْنى الْمُلَازمَة قَالَ الاستاذ أَبُو سعيد وَفِي هَذَا يُفَارق الِاطِّلَاع يُرِيد الْمُتَقَدّم الذّكر قَالَ إِذْ الْمُلَازمَة أَمر زَائِد على الْعلم
قلت وَكتب الشَّيْخ أَبُو اسحاق الشاطبي على هَذَا الْموضع وَمن خطه نقلت وَتَأمل اطلَاع ابليس وقبيله على احوال العَبْد {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم}
وَالثَّالِث وَهُوَ التلقي فِي قَوْله تَعَالَى {إِذْ يتلَقَّى المتلقيان عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد} وَمَعْنَاهَا أَخذ الْملكَيْنِ الْكَاتِبين عَنْك اقوالك وافعالك قبل أَن توخذ عَنْك وَمثله تلقي الركْبَان فَإِذا صدرت مِنْك حَسَنَة أَو سَيِّئَة بقوله أَو فعل تلقياها قبل النَّاس أَجْمَعِينَ
قَالَ الاستاذ وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُبَادرَة وَذَلِكَ أَمر زَائِد على الْمُلَازمَة وَالْعلم
وَالرَّابِع وَهُوَ الْحِفْظ فَمن قَوْله تَعَالَى {وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة} {وَإِن عَلَيْكُم لحافظين} وَمَعْنَاهُ خلاف النسْيَان أَي يعلمونه ثمَّ لَا ينسونه إِلَى أَن يؤدوا الشَّهَادَة يَوْم الْقِيَامَة فَيكون الْعَمَل مَكْتُوبًا فِي كتبهمْ مَحْفُوظًا فِي نُفُوسهم
وَالْخَامِس وَهُوَ الاملاء وَمَعْنَاهُ القاؤك على الْملكَيْنِ كل مَا تَقوله من خير أَو شرك فَإِن أكثرت اكثرا وَإِن اقللت قللا فمستفاد من قَوْله تَعَالَى {إِذْ يتلَقَّى المتلقيان} الاية أَي مَا يلقيه العَبْد كَانَت عَائِشَة رضي الله عنها تَقول لمن تحدث بعد الْعَتَمَة أَلا تريحون الْكتاب
السَّادِس وَهُوَ الْكتب فَفِي قَوْله {إِن رسلنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} كراما كاتبين قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه أَن لله مَلَائِكَة ينزلون كل يَوْم بِشَيْء يَكْتُبُونَ فِيهِ اعمال الْعباد
وَالسَّابِع وَهُوَ الاستنساخ فِي قَوْله تَعَالَى هَذَا كتَابنَا ينْطق عَلَيْكُم بِالْحَقِّ انا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كنت تعلمُونَ
قَالَ الاستاذ فسره ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما بِأَن الله تَعَالَى خلق النُّون وَهِي الدواة وَخلق الْقَلَم فَقَالَ اكْتُبْ قَالَ وَمَا أكتب قَالَ مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من عمل مَعْمُول برا وفجورا ورزق مقسوم من حَلَال أَو حرَام ثمَّ ألزم كل شَيْء من ذَلِك شَأْنه دُخُوله فِي الدُّنْيَا ومقامه فِيهَا وَخُرُوجه مِنْهَا كم هُوَ ثمَّ جعل على الْعباد حفظَة كتابا وعَلى الْكتاب خزانا فالحفظة ينسخون فِي كل يَوْم من الْخزَّان عمل ذَلِك الْيَوْم فَإِذا فنى ذَلِك الرزق وَانْقطع الاثر وانقضى الاجل أَتَت الْحفظَة الخزنة يلطبون عمل ذَلِك الْيَوْم فَتَقول الخزنة مَا نجد لصاحبكم عندنَا شَيْئا فترجع الْحفظَة فيجدونه قد مَاتَ
ثمَّ قَالَ ابْن عَبَّاس ري الله عَنهُ ألستم قوما عربا تَسْمَعُونَ الْحفظَة تَقول انا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تعلمُونَ وَهل يكون الاستنساخ إِلَّا من اصل قَالَ فقد اخبرك ابْن عَبَّاس أَن على الْعباد حفظَة وعَلى الْحفظَة خزانا يسمون أَيْضا حفظَة الْحفظَة
وَالثَّامِن وَهُوَ التَّعَاقُب فَالْمُرَاد بِهِ تعاقب الْمَلَائِكَة فِي الْخلق لَيْلًا وَنَهَارًا لقَوْله صلى الله عليه وسلم يتعاقبون فِيكُم مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وملائكة بِالنَّهَارِ الحَدِيث قَالَ الاستاذ وَهُوَ مُسْتَفَاد من قَوْله تَعَالَى {وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة} فهم يتعاقبون عِنْد مَا يرسلون
وَالتَّاسِع وَهُوَ الْمُقَابلَة فَهِيَ فِي الاتنساخ قَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنه فرغ الله مِمَّا هُوَ كَائِن تنسخ الْمَلَائِكَة مَا يعْمل الْعباد يَوْمًا فيوما من اللَّوْح الْمَحْفُوظ فيقابل بِهِ عمل الانسان لَا يزِيد على ذَلِك وَلَا ينقص
والعاشر وَهُوَ الْعرض فَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ تعرض الاعمال يَوْم الِاثْنَيْنِ وَيَوْم الْخَمِيس فَأحب أَن يعرض عَمَلي وَأَنا
صَائِم قَالَ الاستاذ قيل أَن المعروض مَا كتبت الْمَلَائِكَة وَألا فالاعمال مَعْلُومَة لله تَعَالَى فِي كل وَقت وَعند الْعرض ينْسَخ مِنْهَا مَا يجْرِي عَلَيْهِ من خير ويلغى سائره والمكتوب اولا هُوَ الْجَمِيع
قَالَ وَتعرض أَيْضا على ارواح المعارف الْمُؤمنِينَ وعَلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليشهدون بهَا وَقع ذَلِك فِي رقائق ابْن الْمُبَارك انْتهى
وَالْحَادِي عشر وَهُوَ الدُّعَاء فَفِي قَوْله تَعَالَى {كل أمة تدعى إِلَى كتابها} أَي إِلَى الْكتاب الَّذِي كتبته حَفظتهَا فِي الدُّنْيَا
الثَّانِي عشر وَهُوَ الاداء فَفِي قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ قرينه هَذَا مَا لدي عتيد} أَي هَذَا مَا عِنْدِي حَاضر مِمَّا كتبته عَلَيْهِ فَهُوَ أَدَاء شَهَادَة يحملهَا القرين فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ أَدَاء الاعضاء وَالْأَرْض بشهادتها يَوْم تشهد عَلَيْهِم ألسنتهم وايديهم وارجلهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ وَالْأَرْض يَوْمئِذٍ تحدث اخبارها
الثَّالِث عشر وَهُوَ الرُّؤْيَة فَفِي قَوْله تَعَالَى {ليروا أَعْمَالهم فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره}
وَالرَّابِع عشر وَهُوَ الْوَزْن فِي قَوْله تَعَالَى {وَالْوَزْن يَوْمئِذٍ الْحق فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون} الاية حمل على الموزونات أَو على انه اتى بِلَفْظ الْجمع تَعْظِيمًا لشأنه وتحذيرا من السَّيِّئَات وتحريضا على الْحَسَنَات
قَالَ بعض الشُّيُوخ وَلَو لم تسمع من الْقُرْآن إِلَّا هَذِه الاية لَكَانَ فِيهَا للعاقل كِفَايَة لاشتمالها على الْوَعيد التَّام لأهل الذُّنُوب والوعد الْجَمِيل لأهل الطَّاعَات
وَالْخَامِس عشر وَهُوَ الْجَزَاء {الْيَوْم تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} {ليجزي الله كل نفس مَا كسبت}
قلت وَمن ثمَّ سميت الْقِيَامَة بِيَوْم الْجَزَاء اعلاما بِأَن لَا تجزي نفس عَن نفس شَيْئا
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ أَي لَا تقضي وَلَا تفدى لقَوْله تَعَالَى {فاليوم لَا يُؤْخَذ مِنْكُم فديَة}
قَالَ أما انه يقْضِي بِغَيْر اخْتِيَاره من حَسَنَاته بِمَا عَلَيْهِ من الْحُقُوق
الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة
قَالَ الشَّيْخ عز الدّين النَّاس فِي رُتْبَة مشقة التَّقْوَى على ثَلَاثَة
أَحدهَا شَاب نَشأ فِي عبَادَة الله وَلَا تقع مِنْهُ إِلَّا الصَّغَائِر نَادرا فرعايتها سهلة عَلَيْهِ لمصيرها كالعادة المألوفة لَهُ وَمهما وَقعت مِنْهُ الزلة استوحش مِنْهَا وبادر إِلَى الاقلاع عَنْهَا
الثَّانِي تائب من ذنُوبه بعد مَا ألف الْمعاصِي فنفسه تذكره بشهواتها والشيطان يحثه على ذَلِك فرعايتها شاقة عَلَيْهِ لما ألف من الركون إِلَى الشَّهَوَات والاستراحة من مشقة الطَّاعَات
الثَّالِث مُسلم موحد مرتكب جَمِيع مَا يهواه من الْمعاصِي والمخالفات