الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي التَّقْوَى] [
النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي فَضِيلَة التَّقْوَى]
ثَالِثُ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ الْأَبْوَابِ الثَّلَاثَةِ لِلْكِتَابِ وَسَيُبَيِّنُ تَعْرِيفَهَا (وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ) بَيَانُ فَضْلِهَا وَبَيَانُ حَقِيقَتِهَا وَمَوْضِعُ جَرَيَانِهَا (النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي فَضِيلَتِهَا) الْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ بَيَانَ حَقِيقَتِهَا؛ لِأَنَّ تَصَوُّرَ الشَّيْءِ يُقَدَّمُ عَلَى أَحْوَالِهِ وَأَوْصَافِهِ لَعَلَّ الْفَضْلَ كَالْمُقَدَّمَةِ وَقِيلَ قَدَّمَهُ زِيَادَةَ شَوْقٍ إلَى مَعْرِفَتِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ تَأْخِيرَهَا لِيَكُونَ مَعَ الثَّالِثِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ جَرَيَانِهَا (اعْلَمْ أَوَّلًا) أَيُّهَا السَّالِكُ إلَى اللَّهِ (أَنِّي أَرَدْت أَنْ أُورِدَ جَمِيعَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضِيلَةِ التَّقْوَى) إمَّا اسْتِقْرَاءٌ تَامٌّ فَالْجَمِيعِيَّةُ حَقِيقِيَّةٌ إذْ يُمْكِنُ ذَلِكَ أَوْ نَاقِصٌ فَالْجَمِيعِيَّةُ عَلَى اعْتِقَادِ الْمُصَنِّفِ وَجْهُ إتْيَانِ الْجَمِيعِ لِوُفُورِ فَضْلِهَا وَلِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهَا وَقُوَّةِ فَوَائِدِهَا وَلِزِيَادَةِ التَّمْكِينِ فِي الْخَاطِرِ؛ لِئَلَّا يَنْفَكَّ السَّالِكُ عَنْهَا؛ وَلِتَكُونَ مَلَكَةً رَاسِخَةً لَا يَحْتَاجُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إلَى طَلَبِ فَضْلِهَا وَكَذَا إظْهَارُهُ مَوْضِعَ الْإِضْمَارِ (فَوَجَدْتهَا تَجَاوَزَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ) أَيْ الْمُطْلَقُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّقْوَى عَلَى صُورَةِ الْأَمْرِ أَوَّلًا (وَوَجَدْت صَرِيحَ الْأَمْرِ) أَيْ صِيغَتَهُ الَّتِي الْأَصْلُ فِيهَا الْوُجُوبُ (فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ فَاقْتَصَرْت عَلَى الْمُكَرَّرَاتِ) وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا (عَلَى) آيَةٍ (وَاحِدَةٍ) لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْكُلِّ وَاحِدًا فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ اشْتِمَالُ الْقُرْآنِ عَلَى التَّكْرَارِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِوَاحِدَةٍ فَمَا وَرَاءَهَا عَبَثٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ كِتَابٌ حَكِيمٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ كَوْنَ كُلِّ تَكْرِيرٍ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ كَيْفَ وَمِنْ أَنْوَاعِ الْإِطْنَابِ التَّكْرِيرُ لِنُكْتَةٍ كَالتَّأْكِيدِ وَزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ وَالْإِيقَاظِ لِيَكْمُلَ تَلَقِّي الْكَلَامِ بِالْقَبُولِ، وَأَنَّ كُلًّا قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ خَاصَّةٌ لِذَلِكَ كَمَا قَالُوا فِي تَكَرُّرِ قَصَصِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام وَفِرْعَوْنَ مَثَلًا وَفِي نَحْوِ - {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13]- كَمَا فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ وَالْإِتْقَانِ (وَلَمْ أُرَاعِ تَرْتِيبَ الْمُصْحَفِ كَمَا رَاعَيْت فِيمَا سَبَقَ) فِي فَصْلِ الِاعْتِصَامِ وَغَيْرِهِ (تَقْدِيمًا لِلْمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ) إمَّا لِكُلِّ آيَةٍ مَعَ آيَةٍ أُخْرَى أَوْ بِحَسَبِ قُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ لَكِنَّ عَدَمَ مُرَاعَاةِ هَذَا الْجَانِبِ فِيمَا سَبَقَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَجْهٍ وَمُوجِبُ رِعَايَةِ هَذَا هُنَا أَيْضًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَجْهٍ وَالْقَوْلُ أَنَّهُ لِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالْجَانِبَيْنِ اخْتَارَ فِي أَحَدِ الْمَوَاضِعِ بِأَحَدِهِمَا.
وَفِي الْآخَرِ بِالْآخَرِ لَيْسَ بِشَيْءٍ نَافِعٍ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي الْإِتْقَانِ بِنَاءً عَلَى الْأَثَرِ الْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّ تَرْتِيبَهُ لِحِكْمَةٍ وَلَا يَتْرُكُهَا إلَّا إذَا وَرَدَ فِي أَثَرٍ، وَإِنْ جَازَ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ نَعَمْ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا لِأَجَلِ الْقِرَاءَةِ وَبَيْنَ مَا لِأَجَلِ الِاحْتِجَاجِ (الْآيَاتُ) فِي الْحُجُرَاتِ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فَالسَّابِقُ فِي التَّقْوَى هُوَ السَّابِقُ فِي الْفَضْلِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ التَّقْوَى بِهَا تَكْمُلُ النُّفُوسُ وَتَتَفَاضَلُ الْأَشْخَاصُ فَمَنْ أَرَادَ شَرَفًا فَلْيَلْتَمِسْ مِنْهَا كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ» قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ» وَفِي الْآثَارِ أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ وَفِيهَا أَيْضًا أَكْرَمُ الْكَرَمِ التَّقْوَى وَسَتَعْرِفُ تَفْصِيلَ مَعْنَى التَّقْوَى مِنْ الْمُصَنِّفِ
ثُمَّ وَجْهُ تَقْدِيمِ هَذِهِ الْآيَةِ قُوَّةُ دَلَالَتِهَا عَلَى فَضْلِ التَّقْوَى عَلَى وَجْهٍ لَا فَضْلَ فَوْقَ فَضْلِهَا إذْ الْفَرْدُ السَّابِقُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْفَضْلِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْبِقَهُ شَيْءٌ آخَرُ فِي الْكَرَمِ عِنْدَ اللَّهِ وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجَمِيعِ حَيْثُ نَزَلَ - {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل: 17]{الَّذِي} [الليل: 18]- الْآيَةَ فِي حَقِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَأَبُو بَكْرٍ أَتْقَى بِهَذَا الْآيَةِ وَكُلُّ أَتْقَى أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ بِتِلْكَ الْآيَةِ فَأَبُو بَكْرٍ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْأَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ.
وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَرْتُكُمْ فَضَيَّعْتُمْ مَا عَهِدْت إلَيْكُمْ فِيهِ وَرَفَعْت أَنْسَابَكُمْ فَالْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأَضَعُ أَنْسَابَكُمْ أَيْنَ الْمُتَّقُونَ - {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] » وَفِي الْمَائِدَةِ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] عَنْ الْكُفْرِ أَوْ سَائِرِ الْمَعَاصِي فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَالْحَصْرُ حَقِيقِيٌّ، وَإِنْ الثَّانِي فَإِضَافِيٌّ أَوْ ادِّعَائِيٌّ فَالْقَوْلُ أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا مِنْ مُؤْمِنٍ مُتَّقٍ بِظَاهِرِهِ لَيْسَ بِحَسَنٍ بِدُونِ مُلَاحَظَةِ مَا عَرَفْت فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى قَبُولِ عَمَلِ الْمُتَّقِينَ؛ وَلِهَذَا تَرَى قَبُولَ دَعَوَاتِ الصَّالِحِينَ أَكْثَرَ لَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَخَدَّامُهُ الْخَوَاصُّ
وَفِي الْأَنْفَالِ {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ} [الأنفال: 34] أَيْ مَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ {إِلا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] مِنْ الشِّرْكِ الَّذِينَ لَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ فَيَشْكُلُ بِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ هُنَا مِنْ التَّقْوَى فِي الْمَطْلُوبِ هُوَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ عِنْدَ إطْلَاقِ الشَّرْعِ مِنْ نَحْوِ الِاجْتِنَابِ مِنْ كُلِّ حَرَامٍ وَمَكْرُوهٍ عَلَى مَا سَيُفْهَمُ مِنْ الْمُصَنِّفِ فَالتَّقْرِيبُ لَيْسَ بِتَامٍّ أَوْ تَفْسِيرُ الْبَيْضَاوِيِّ بِالِاتِّقَاءِ مِنْ الشِّرْكِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَهُوَ مُشْكِلٌ أَيْضًا فَالْوَجْهُ الْأَسْلَمُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَوَّلِ وَلَا يُعْبَأُ بِمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ مَا أَمْكَنَ إرَادَتُهُ مِنْ اللَّفْظِ بِنَاءً عَلَى الْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَبَادِرِ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْوَاحِدِيِّ التَّفْسِيرُ بِالِاتِّقَاءِ عَنْ الْكُفْرِ وَالْفَوَاحِشِ، فَإِذَا قَصُرَتْ وِلَايَةُ اللَّهِ عَلَى الِاتِّقَاءِ فَالِاتِّقَاءُ لَهُ زِيَادَةُ فَضْلٍ وَغَايَةُ شَرَفٍ
فَإِنْ قِيلَ الرَّاجِحُ مِنْ كَلَامِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ رُجُوعُ ضَمِيرِ أَوْلِيَاؤُهُ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمَطْلُوبِ وَقَدْ قِيلَ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْوِلَايَةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِوِلَايَةِ اللَّهِ بَلْ إنَّمَا تَصِيرُ الْوِلَايَةُ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لَهُ تَعَالَى وَفِي الْجَاثِيَةِ {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] أَيْ نَاصِرُ الْمُوَحِّدِينَ النَّاصِرِينَ أَوْ الَّذِينَ اتَّقَوْا الشِّرْكَ كَمَا فَسَّرُوا بِهِ فَالْكَلَامُ كَمَا سَمِعْت وَفِي بَرَاءَةٍ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] فِي أَدَاءِ فَرَائِضِ اللَّهِ وَالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ كَمَا نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ وَفِي نَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَفِي النَّجْمِ {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] فَلَا تُثْنُوا عَلَيْهَا بِزَكَاءِ الْعَمَلِ وَزِيَادَةِ الْخَيْرِ أَوْ بِالطَّهَارَةِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ أَوْ لَا تَدْعُوَا بِلَا عَمَلٍ أَوْ لَا تُخْبِرُوا بِخَبَرٍ عَمِلْتُمُوهُ
رُوِيَ أَنَّ «زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ سُمِّيتُ بَرَّةً فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالْبَرِّ مِنْكُمْ» .
وَعَنْ الْخَازِنِ عَلِمَ اللَّهُ حَالَكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ رِيَاءً وَخُيَلَاءَ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ تَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُ أَنَا خَيْرٌ مِنْك أَوْ أَنَا أَزْكَى مِنْك أَوْ أَتْقَى مِنْك فَإِنَّ الْعِلْمَ عِنْدَ اللَّهِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى وُجُوبِ خَوْفِ الْخَاتِمَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ عَاقِبَةَ مَنْ هُوَ عَلَى التَّقْوَى {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] بِمَنْ بَرَّ وَأَطَاعَ وَأَخْلَصَ الْعَمَلَ لَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ لَيْسَتْ بِوَاضِحَةٍ إلَّا بِلُزُومٍ خَفِيٍّ.
وَفِي الْبَقَرَةِ {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] فِي قَبُولِ طَاعَاتِهِمْ وَاسْتِجَابَةِ دَعَوَاتِهِمْ وَالْعَوْنِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ وَفِي إسْكَانِهِمْ فِي أَعْلَى غُرَفِ جِنَانِهِ فَانْظُرْ مَا فِي هَذِهِ مِنْ رُتْبَةِ الْمَعِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَتَقْدِيمِ الْأَمْرِ وَإِيثَارِ كَلِمَةِ التَّحْقِيقِيَّةِ وَالْإِظْهَارِ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ هَذِهِ عَلَى مَا قَبْلَهَا كَمَا فِي تَرْتِيبِهِ الْأَصْلِيِّ وَفِي طَه {وَالْعَاقِبَةُ} [طه: 132] الْحَمِيدَةُ مِنْ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ {لِلتَّقْوَى} [طه: 132] لِذَوِي التَّقْوَى كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَفِي الْقَصَصِ {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِقَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَدَاءِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ.
وَعَنْ الْكَلْبِيِّ الْكَبَائِرُ وَالْفَوَاحِشُ وَفَسَّرَ الْعَاقِبَةَ بِالثَّوَابِ أَوْ الْجَنَّةِ وَفِي الزُّخْرُفِ {وَالآخِرَةُ} [الزخرف: 35] أَيْ ثَوَابُهَا أَوْ سَلَامَتُهَا أَوْ الْجَنَّةُ {عِنْدَ رَبِّكَ} [الزخرف: 35] مُخْتَصَّةٌ {لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35] لِتَقْوَاهُمْ وَتَرْكِ دُنْيَاهُمْ لِنَيْلِ أُخْرَاهُمْ وَفِي ص {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 49] مَرْجِعٍ أَيْ أَحْسَنُ مَرْجِعٍ وَمُنْقَلَبٍ وَفِي آلِ عِمْرَانَ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} [آل عمران: 133] عَظِيمَةٍ {مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] فَلْيُسْرِعْ عِنْدَ الذَّنْبِ إلَى الرُّجُوعِ لِلْمَغْفِرَةِ وَإِلَى التَّوْبَةِ مِنْ الْمَعَاصِي.
وَعَنْ الْبَغَوِيّ بَادِرُوا وَسَابِقُوا إلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَوْ إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَفِي الْبَيْضَاوِيِّ سَارِعُوا إلَى مَا تَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْمَغْفِرَةَ كَالْإِسْلَامِ وَالتَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ {وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] عَنْ الْخَازِنِ الْمَغْفِرَةُ إزَالَةُ الْعِقَابِ وَالْجَنَّةُ حُصُولُ الثَّوَابِ، وَفِيهِ إشْعَارٌ إلَى لُزُومِ مُسَارَعَةِ مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ نَحْوِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَى الصَّالِحَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْجَنَّةِ {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران: 133] أَيْ عَرْضُهَا كَعَرْضِهِمَا.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - كَسَبْعِ سَمَوَاتٍ وَسَبْعِ أَرَضِينَ لَوْ وُصِلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يُرِيدُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهِ.
وَعَنْ ابْنِ جَمِيلٍ أَيْ لَوْ جُعِلَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ طَبَقًا طَبَقًا بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ سَطْحًا وَوُصِلَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ كَانَ ذَلِكَ مِثْلُ عَرْضِ الْجَنَّةِ وَتَخْصِيصُ الْعَرْضِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الطُّولَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَنَّ الطُّولَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ {أُعِدَّتْ} [آل عمران: 133] هُيِّئَتْ {لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] لِتَقْوَاهُمْ عَنْ الشِّرْكِ وَالْكَبَائِرِ وَإِصْرَارِ الصَّغَائِرِ اُحْتُجَّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً الْآنَ إذْ النُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا لِإِمْكَانِهَا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَعَنْ الْبَيْضَاوِيِّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الْجَنَّةِ وَكَوْنِهَا خَارِجَةً عَنْ هَذَا الْعَالَمِ.
لَعَلَّ وَجْهَ دَلَالَتِهَا عَلَيْهِ عَظَمَتُهَا مِنْ هَذَا الْعَالَمِ وَفِي مَرْيَمَ {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63] أَيْ نَجْعَلُهَا ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ بَاقٍ بَعْدَ فَانٍ؛ وَلِأَنَّهُ أَطْيَبُ الْمَالِ وَأَهْنَؤُهُ وَقِيلَ؛ لِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَا أُعِدَّ لِلْكُفَّارِ لَوْ آمَنُوا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَوْتٌ وَتَقْوَاهُمْ أَوْرَثَهُمْ إيَّاهَا وَفِي الزُّمَرِ {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ} [الزمر: 73] إسْرَاعًا بِهِمْ إلَى دَارِ الْكَرَامَةِ، وَقِيلَ سِيقَ مَرَاكِبُهُمْ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَقِيلَ السَّوْقُ حَقِيقَةً لِلْإِسْرَاعِ فِي وُصُولِ دَارِ الْكَرَامَةِ كَمَا فِي الْكَافِرِ لِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ فَيَنْدَفِعُ أَنَّ السَّوْقَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَلَى خِلَافِ الطَّبِيعَةِ وَيُوهِمُ الزَّجْرَ فَلَا حَاجَةَ أَنَّهُ لِلْمُشَاكَلَةِ لِسَوْقِ أَهْلِ النَّارِ {زُمَرًا} [الزمر: 73] جَمْعُ زُمْرَةٍ جَمَاعَةً قَلِيلَةً أَوْ أَفْوَاجًا مُتَفَرِّقَةً بَعْضُهَا فِي إثْرِ بَعْضٍ عَلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِمْ {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] جَوَابُ إذَا وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ وَقِيلَ لِلْحَالِ أَوْ جَاءُوهَا مُفَتَّحَةً لَا يَقِفُونَ وَقِيلَ وَاوُ الثَّمَانِيَةِ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ أَيْ فَازُوا أَوْ نَالُوا الْمُنَى {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73] طَهُرْتُمْ مِنْ الْمَعَاصِي أَوْ طَابَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ أَوْ أَبْشِرُوا بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ آفَةٍ طِبْتُمْ أَوْ طَابَ لَكُمْ الْمُقَامُ أَوْ طِبْتُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ أَوْ عَنْ الْخَبَائِثِ أَوْ طَابَتْ أَعْمَالُكُمْ فَطَابَ مَثْوَاكُمْ {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ وَالْفَاءُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ طِبْتُمْ سَبَبٌ لِدُخُولِهِمْ وَخُلُودِهِمْ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ دُخُولَ الْعَاصِي بِالْعَفْوِ؛ لِأَنَّهُ يُطَهِّرُهُ.
وَعَنْ الْخَازِنِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا سِيقُوا إلَى الْجَنَّةِ فَإِذَا انْتَهَوْا إلَيْهَا وَجَدُوا عِنْدَ بَابِهَا شَجَرَةً يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِهَا عَيْنَانِ فَيَغْتَسِلُ الْمُؤْمِنُ مِنْ إحْدَاهُمَا فَيَطْهُرُ ظَاهِرُهُ وَيَشْرَبُ مِنْ الْأُخْرَى فَيَطْهُرُ بَاطِنُهُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ لَهُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ (الْآيَتَيْنِ) كَمِّلْ الْآيَتَيْنِ - {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ - وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 74 - 75]- وَفِي يُوسُفَ {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} [يوسف: 109] أَيْ الْجَنَّةُ {خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} [يوسف: 109] عَنْ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يوسف: 109] بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ وَفِي يُوسُفَ أَيْضًا {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} [يوسف: 57] أَيْ أَفْضَلُ مِنْ أَجْرِ الدُّنْيَا {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 57] أَيْ يَخَافُونَ وَيُطِيعُونَ وَلَا يَعْصُونَ وَفِي الشُّعَرَاءِ {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90] عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرُبَتْ الْجَنَّةُ لِأَوْلِيَائِي وَقِيلَ الْجَنَّةُ قَرِيبَةٌ مِنْ مَوْقِفِ السُّعَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْظُرُونَ إلَيْهَا.
وَفِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {مَثَلُ} [محمد: 15] صِفَةُ {الْجَنَّةِ} [محمد: 15]{الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد: 15] وَهُمْ
أُمَّةُ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام خَبَرُهُ قَوْلُهُ فِيهَا الْآيَةَ وَفِي النَّحْلِ {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30] دَارُ الْآخِرَةِ فَحُذِفَتْ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهَا وَقَوْلُهُ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} [النحل: 31] خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ.
وَعَنْ الْحَسَنِ هِيَ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ التَّقْوَى يَتَزَوَّدُونَ فِيهَا إلَى الْآخِرَةِ {يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [النحل: 31] تَحْتَ دُورِ أَهْلِهَا وَقُصُورِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} [النحل: 31] مِمَّا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ مَعَ زِيَادَاتٍ لَمْ تَرَ الْعَيْنُ وَلَمْ تَسْمَعْ الْأُذُنُ وَلَمْ تَخْطِرْ عَلَى قَلْبِ أَحَدٍ وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجِدُ جَمِيعَ مَا أَرَادَهُ إلَّا فِي الْجَنَّةِ {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 31] هَكَذَا يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الْخَائِفِينَ {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32] طَاهِرِينَ مِنْ الشِّرْكِ عَنْ مُجَاهِدٍ زَاكِيَةً أَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ وَقِيلَ طَيِّبِينَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ حَسَنٍ فَتَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَوَامِرِ وَفِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَاجْتِنَابَ كُلِّ الْمَنَاهِي وَالْمَكْرُوهَاتِ مَعَ الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالْخِصَالِ الْمُرْضِيَةِ وَالْمُبَاعِدَةِ عَنْ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ وَالْخِصَالِ الْمَكْرُوهَةِ.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَفَاتُهُمْ طَيِّبَةٌ سَهْلَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ يُبَشَّرُونَ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ بِالرِّضْوَانِ وَالْجَنَّةِ وَالْكَرَامَةِ فَيَحْصُلُ فَرَحٌ وَسُرُورٌ فَيَطِيبُ لَهُمْ الْمَوْتُ نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَقِيلَ فَرِحِينَ بِبِشَارَةِ الْمَلَائِكَةِ إيَّاهُمْ بِالْجَنَّةِ أَوْ طَيِّبِينَ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ لِتَوَجُّهِ نُفُوسِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ إلَى حَضْرَةِ الْقُدْسِ {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل: 32] مِنْ أَنْفُسِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ لَا يُخِيفُكُمْ بَعْدَ مَكْرُوهٍ {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] فِي الدُّنْيَا مِنْ صَالِحَاتِ الْأَعْمَالِ بِمَعْنَى السَّبَبِ الْعَادِيِّ التَّفَضُّلِيِّ لَا الْعَقْلِيُّ الْإِيجَابِيُّ كَمَا يَزْعُمُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» الْحَدِيثُ لَيْسَ بِمُتَعَارِضٍ وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَاتِ دُخُولُ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ التَّوْفِيقُ لِلْأَعْمَالِ الْهِدَايَةُ لِلْإِخْلَاصِ فِيهَا وَقَبُولِهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ فَلَمْ يَدْخُلْ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ، وَهُوَ مُرَادُ الْحَدِيثِ وَيَصِحُّ أَنَّهُ دَخَلَ بِالْأَعْمَالِ أَيْ بِسَبَبِهَا، وَهِيَ مِنْ الرَّحْمَةِ وَفِي الدُّخَانِ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ} [الدخان: 51] مَوْضِعِ إقَامَةٍ {أَمِينٍ} [الدخان: 51] ذِي أَمَانَةٍ لَا ضَيَاعَ وَلَا آفَةَ فِيهِ وَلَا انْتِقَالَ أَوْ أَمِينٌ صَاحِبُهُ مِنْ الْمَوْتِ وَالْحَوَادِثِ أَوْ مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ مِنْ كُلِّ مِحَنٍ وَبُؤْسٍ وَشِدَّةٍ {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان: 52] بَدَلٌ مِنْ مَقَامٍ جِيءَ بِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى نَزَاهَتِهِ وَاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا يَسْتَلِذُّ بِهِ مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَشَارِبِ {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الدخان: 53] السُّنْدُسُ مَا رَقَّ مِنْ الْحَرِيرِ وَالْإِسْتَبْرَقُ مَا غَلُظَ مِنْهُ وَالْإِسْتَبْرَقُ مُعَرَّبٌ مِنْ سَتَبَرُّهُ وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ كَوْنَ الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا؛ لِأَنَّهُ بِالتَّعْرِيبِ يَخْرُجُ عَنْ الْعَجَمِيَّةِ وَلِذَا جَرَى عَلَيْهِ جَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ الْعَرَبِيَّةِ {مُتَقَابِلِينَ} [الدخان: 53] يُقَابِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِلْأُنْسِ وَالصُّحْبَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ.
{كَذَلِكَ} [الدخان: 54] كَمَا أَكْرَمْنَاهُمْ بِمَا وَصَفْنَا مِنْ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ وَاللِّبَاسِ أَكْرَمْنَاهُمْ {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54] أَيْ قَرَنَّاهُمْ بِهِمْ قَالُوا ذَلِكَ لَيْسَ بِعَقْدِ التَّزْوِيجِ بَلْ مُجَرَّدُ الْمُقَارَنَةِ قُلْت لَا مَانِعَ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَا دَاعِي لِلصَّرْفِ عَنْ حَقِيقَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْحُورُ النَّقِيَّاتُ الْبَيَاضِ وَقِيلَ شَدِيدَاتُ بَيَاضِ الْعَيْنِ وَقِيلَ عَظِيمَةُ الْعَيْنَيْنِ {يَدْعُونَ فِيهَا} [الدخان: 55] يَطْلُبُونَ {بِكُلِّ فَاكِهَةٍ} [الدخان: 55] بِكُلِّ مَا يَشْتَهُونَ مِنْ الْفَوَاكِهِ {آمِنِينَ} [يوسف: 99] مِنْ انْقِطَاعِهَا وَمَضَرَّتِهَا أَوْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ مِنْ كُلِّ مَخُوفٍ أَوْ مِنْ الشَّيْطَانِ {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان: 56] فِي الدُّنْيَا فَلِذَا قِيلَ لَفْظُ إلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ {وَوَقَاهُمْ} [الدخان: 56] .
حَفِظَهُمْ {عَذَابَ الْجَحِيمِ - فَضْلا مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 56 - 57] لَا وُجُوبًا عَلَيْهِ وَلَا اسْتِحْقَاقًا مِنْ الْعَبْدِ {ذَلِكَ} [الدخان: 57] أَيْ هَذَا الْأَمْرُ الْعَظِيمُ الشَّأْنُ {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان: 57] لَا غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطْرُقُهُ فَنَاءٌ وَلَا مُزَاحِمٌ وَلَا احْتِمَالُ زَوَالٍ وَنُقْصَانٍ وَفِي الطُّورِ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور: 17] بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ {فَاكِهِينَ} [الطور: 18] نَاعِمِينَ مُتَلَذِّذِينَ {بِمَا آتَاهُمْ} [الطور: 18] أَعْطَاهُمْ {رَبُّهُمْ} [الطور: 18] مِنْ كَرَامَةِ الْجَنَّةِ {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الطور: 18]{كُلُوا} [الطور: 19] أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ لِتَقْوَاكُمْ فِي الدُّنْيَا {وَاشْرَبُوا} [الطور: 19] مِنْ أَيِّ طَعَامٍ وَشَرَابٍ اشْتَهَيْتُمْ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ {هَنِيئًا} [الطور: 19] مَأْمُونُ الْعَاقِبَةِ مِنْ التُّخَمَةِ وَالسَّقَمِ أَوْ مَأْمُونُ الْآفَاتِ كَمَا فِي الدُّنْيَا {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 19] بِسَبَبِهِ أَوْ بَدَلَهُ وَقِيلَ الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَمَا فَاعِلُ هَنِيئًا وَالْمَعْنَى هَنَّأَكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ جَزَاؤُهُ.
{مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} [الطور: 20] صُفَّ بَعْضُهَا إلَى جَنْبِ بَعْضٍ {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: 20] أَيْ صَيَّرْنَاهُمْ أَزْوَاجًا بِسَبَبِهِنَّ وَفِي الْمُرْسَلَاتِ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ} [المرسلات: 41] أَيْ التَّرَفُّهِ وَالنِّعَمِ وَالرَّاحَةِ كَمَا عِنْدَ ظِلِّ الْأَشْجَارِ وَقْتَ شِدَّةِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ {وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] مِيَاهٌ جَارِيَةٌ {وَفَوَاكِهَ} [المرسلات: 42] مِنْ أَنْوَاعٍ مُتَفَرِّقَةٍ {مِمَّا يَشْتَهُونَ} [المرسلات: 42] مِمَّا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [المرسلات: 43] يُقَالُ ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ بِالذَّاتِ أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إكْمَالًا لِلْمَسَرَّةِ وَتَلْذِيذًا بِلَذَّةِ الْخِطَابِ الْإِكْرَامِيِّ {هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات: 43] فِي الدُّنْيَا مِنْ اكْتِسَابِ الصَّالِحَاتِ {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات: 44] فِي الدُّنْيَا بِقَبُولِ الْأَوَامِرِ وَانْزِجَارِ الْمَنَاهِي، وَقِيلَ الْمَقْصُودُ تَذْكِيرُ الْكُفَّارِ مَا فَاتَهُمْ مِنْ الْفُرْصَةِ الَّتِي أُمْكِنَتْ لَهُمْ ازْدِيَادًا لِمُسَاءَتِهِمْ وَعُقُوبَتِهِمْ
وَفِي النَّبَأِ {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ: 31] مَوْضِعُ الْفَوْزِ وَالظَّفَرِ وَالنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} [النبأ: 32] بَيَانُ مَفَازًا أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ أَيْ بَسَاتِينَ مَحُوطَةً بِالْجُدُرِ فِيهَا أَشْجَارُ الْجَنَّةِ وَثِمَارُهَا {وَكَوَاعِبَ} [النبأ: 33] جَمْعُ كَاعِبٍ امْرَأَةٌ تَكَعَّبَ ثَدْيُهَا وَنَهَدَ وَارْتَفَعَ وَفَلَكَ {أَتْرَابًا} [النبأ: 33] أَوْ مُسْتَوِيَاتٍ فِي السِّنِّ أَوْ عَذَارَى أَقْرَانًا مُتَصَافِيَاتٍ مُتَوَاخِيَاتٍ وَقِيلَ لُدَّاتٍ عَلَى ثَمَانِي عَشَرَةَ سَنَةً {وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34] مَمْلُوءَةً أَوْ مُتَتَابِعَةً أَوْ صَافِيَةً {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا} [النبأ: 35] فِي الْجَنَّةِ أَوْ حَالَ شُرْبِهِمْ {لَغْوًا} [النبأ: 35] بَاطِلًا {وَلا كِذَّابًا} [النبأ: 35] تَكْذِيبًا أَيْ لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا خِلَافُ شُرْبِ خَمْرِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ التَّكَلُّمِ بِالْبَاطِلِ {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} [النبأ: 36] فَضْلًا وَثَوَابًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى {عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 36] كَافِيًا أَوْ كَثِيرًا مِمَّا عَمِلُوا وَفِي الْبَقَرَةِ {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] حَصِّلُوا لِمَعَادِكُمْ زَادًا وَذُخْرًا يَعْنِي التَّقْوَى فَإِنَّهُ خَيْرُ زَادٍ وَقِيلَ عَنْ الْخَازِنِ أَيْ كُلُّ سَفَرٍ يُوجِبُ زَادًا فِي الطَّرِيقِ وَأَعْظَمُ السَّفَرِ مَا يَكُونُ مِنْ الدُّنْيَا إلَى الْآخِرَةِ فَزَادُهُ تَقْوَى اللَّهِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا الزَّادُ أَفْضَلُ مِنْ زَادِ سَفَرِ الدُّنْيَا مِنْ نَحْوِ الْمَأْكَلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوَصِّلُ إلَى مُرَادِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا وَزَادُ الْآخِرَةِ إلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ {وَاتَّقُونِ} [البقرة: 197] خَافُوا عِقَابِي وَاشْتَغِلُوا بِتَقْوَايَ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى كَمَالِ عَظَمَةِ اللَّهِ.
{يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197] الَّذِينَ يَعْمَلُونَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ أَوْ يَا صَاحِبِي الْعُقُولِ الصَّافِيَةِ عَنْ شَوَائِبِ الْهَوَى وَكَدَرِ النَّفْسِ وَفِي الْأَعْرَافِ {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف: 26] لِبَاسُ الْوَرَعِ وَالْخَشْيَةِ أَوْ الْإِيمَانِ أَوْ السِّيرَةِ الْحَسَنَةِ أَوْ لِبَاسُ الْحَرْبِ أَوْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَوْ الْعَفَافِ أَوْ التَّوْحِيدِ أَوْ الْحَيَاءِ أَوْ السَّكِينَةِ أَوْ لِبَاسُ أَهْلِ الزُّهْدِ مِنْ الصُّوفِ وَخَشِنِ الثِّيَابِ {ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ أَعْنِي: قَوْلَهُ لِبَاسُ يَعْنِي لِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرٌ مِنْ لِبَاسِ الزِّينَةِ وَالْجَمَالِ الَّذِي هُوَ لِبَاسُ أَهْلِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ يُعِدُّ صَاحِبَهُ إلَى لِقَاءِ مَوْلَاهُ وَفِي الْحُجُرَاتِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3] أَخْلَصَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَنَقَّاهَا مِنْ الشَّهَوَاتِ إظْهَارًا لِلتَّقْوَى أَوْ جَرَّبَ قُلُوبَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمِحَنِ وَالتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ لِأَجْلِ التَّقْوَى وَفِي الْحَجِّ {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32]، وَهِيَ الْهَدْيُ وَالْبُدْنُ وَتَعْظِيمُهَا اسْتِحْسَانُهَا لِلنَّحْرِ أَوْ هِيَ دِينُ اللَّهِ أَوْ فَرَائِضُ الْحَجِّ وَمَوَاضِعُ نُسُكِهِ أَوْ الْهَدَايَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَعَالِمِ الْحَجِّ وَتَعْظِيمُهَا أَنْ يَخْتَارَهَا حِسَانًا سِمَانًا غَالِيَةَ الْأَثْمَانِ {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] نَاشِئَةٌ مِنْ تَقْوَاهُمْ قُلُوبُهُمْ فَذَكَرَ الْقُلُوبَ؛ لِأَنَّهَا مَنْشَأٌ لِلتَّقْوَى كَمَا لِلْفُجُورِ أَيْضًا وَالْآمِرَةُ بِهِمَا
وَفِي التَّوْبَةِ {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} [التوبة: 109] أَيْ بُنْيَانَ دِينِهِ {عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 109] خَشْيَةَ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ {وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} [التوبة: 109] وَالتَّأْسِيسُ إحْكَامُ أَسَاسِ الْبِنَاءِ وَالْأَسَاسُ أَصْلُهُ وَالْمَعْنَى أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَ دِينِهِ عَلَى قَاعِدَةٍ قَوِيَّةٍ مُحْكَمَةٍ هِيَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَرِضْوَانُهُ خَيْرٌ {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109] يَعْنِي أَمْ مَنْ أَسَّسَ دِينَهُ عَلَى أَضْعَفِ الْقَوَاعِدِ وَأَقَلِّهَا بَقَاءً، وَهُوَ الْبَاطِلُ وَالنِّفَاقُ الَّذِي مِثْلُهُ مِثْلُ بِنَاءٍ عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ ثَابِتٍ وَقَوْلُهُ شَفَا بِمَعْنَى الطَّرَفِ وَجُرُفٍ جَانِبُ وَادٍ مُنْحَرِفٍ أَصْلُهُ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ فِيهِ وَهَارٍ مُتَصَدِّعٌ مَائِلٌ إلَى السُّقُوطِ {فَانْهَارَ بِهِ} [التوبة: 109] أَيْ سَقَطَ مَعَ بَانِيهِ {فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109] وَفِي الْأَعْرَافِ {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] مِنْ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا {فَسَأَكْتُبُهَا} [الأعراف: 156] فَسَأُثْبِتُهَا فِي الْآخِرَةِ وَأَخُصُّهَا {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِي فِي الْآخِرَةِ.
قِيلَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ إبْلِيسُ أَنَا مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي وَسِعَتْهُ رَحْمَتُهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ {فَسَأَكْتُبُهَا} [الأعراف: 156] وَقِيلَ لِلْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ الْكَافِرَ يُرْزَقُ وَيُدْفَعُ عَنْهُ بِبَرَكَةِ الْمُؤْمِنِ لِسِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَجَبَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً وَفِي الْبَقَرَةِ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] يَعْنِي الْقُرْآنُ نُورٌ وَبَيَانٌ لِأَهْلِ التَّقْوَى وَفِي الْبَقَرَةِ {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] أَيْ تَدْعُوهُمْ إلَى الشُّكْرِ وَالْخَوْفِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَفِي الْأَنْبِيَاءِ {وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] وَخُصَّ الْمُتَّقُونَ؛ لِأَنَّهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ.
وَفِي الْبَقَرَةِ
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] قِيلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَعَنْ عَلْقَمَةَ الْأَوَّلُ مَكِّيٌّ وَالثَّانِي مَدَنِيٌّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْعِبَادَةِ فَبِمَعْنَى التَّوْحِيدِ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: النَّاسُ لِلْمَوْجُودِينَ وَقْتَ النُّزُولِ لَفْظًا وَلَيْسَ لِمَنْ سَيُوجَدُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَفِي أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ مِثْلُ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] لَيْسَ خِطَابًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ إلَّا بِدَلِيلٍ خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ وَشَامِلٌ لِلنَّبِيِّ وَلَوْ مَعَ الْأَقَلِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَكَذَا يَا عِبَادِي وَيَشْمَلُ الْعَبْدَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ.
وَعَنْ الرَّازِيّ إنْ كَانَ الْخِطَابُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يَشْمَلُهُ وَإِلَّا فَلَا {الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مَادَّةٍ وَصُورَةٍ مِثَالِيَّةٍ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ لِلْعِبَادَةِ، فَإِنَّ كُلَّ وَصْفٍ يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ، فَهُوَ عِلَّةٌ {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] مِنْ الْأُمَمِ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي اُعْبُدُوا أَيْ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ رَاجِينَ انْخِرَاطَكُمْ فِي سِلْكِ الْمُتَّقِينَ الْفَائِزِينَ بِالْفَلَاحِ وَالْمُسْتَوْجِبِينَ لِجِوَارِ اللَّهِ تَعَالَى فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مُنْتَهَى دَرَجَاتِ السَّالِكِينَ، وَهُوَ التَّبَرِّي عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَالتَّنْزِيهُ عَمَّا يَشْغَلُ سِرَّهُ عَنْهُ وَالتَّبَتُّلُ إلَيْهِ كَمَا يَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ وَعَلَى أَنَّ الْعَابِدَ لَا يَغْتَرُّ بِعِبَادَتِهِ بَلْ يَكُونُ عَلَى خَوْفٍ وَرَجَاءٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] وَقِيلَ تَعْلِيلٌ لِلْخَلْقِ أَيْ خَلَقَكُمْ لِلِاتِّقَاءِ كَمَا فِي - {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ} [الذاريات: 56]- الْآيَةَ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ وَحْدَانِيِّتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ هُوَ النَّظَرُ فِي صُنْعِهِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَفْعَالِهِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ بِعِبَادَتِهِ ثَوَابًا، فَإِنَّهَا لَمَّا أُوجِبَتْ عَلَيْهِ شُكْرًا لِمَا عَدَّدَهُ عَلَيْهِ مِنْ النِّعَمِ السَّابِقَةِ فَهُوَ كَأَجِيرٍ أَخَذَ الْأَجْرَ قَبْلَ الْعَمَلِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ.
وَقِيلَ عَنْ الْوَاحِدِيِّ إنَّ لَعَلَّ تَكُونُ تَرَجِّيًا وَبِمَعْنَى كَيْ وَقِيلَ كَلِمَةُ تَرْجِيَةٍ وَتَطْمِيعٍ أَيْ كُونُوا عَلَى رَجَاءٍ وَطَمَعٍ أَنْ تَتَّقُوا بِعِبَادَتِكُمْ عُقُوبَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تَحِلَّ بِكُمْ وَفِي الْأَعْرَافِ {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] أَيْ الْكِتَابِ مِنْ الْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ وَالْأَحْكَامِ وَالْعِبَرِ أَوْ اعْمَلُوا بِهِ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63] لِكَيْ تَتَّقُوا الْمَعَاصِي أَوْ رَجَاءَ أَنْ تَكُونُوا مِنْ الْمُتَّقِينَ.
وَعَنْ الْبَغَوِيّ: اُذْكُرُوا اُدْرُسُوا وَقِيلَ احْفَظُوا لِكَيْ تَنْجُوا مِنْ هَلَاكِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْعُقْبَى وَفِي الْبَقَرَةِ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] بَقَاءٌ عَظِيمٌ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلِانْزِجَارِ عَنْ الْقَتْلِ، وَالِارْتِدَاعِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ قَتْلِ الْغَيْرِ {يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] ذَوِي الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ نَادَاهُمْ لِلتَّأَمُّلِ فِي حِكْمَةِ الْقِصَاصِ مِنْ اسْتِبْقَاءِ الْأَرْوَاحِ وَحِفْظِ النُّفُوسِ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] عَنْ الْقَتْلِ أَوْ عَنْ الْقِصَاصِ كَمَا فَسَّرُوا بِهِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ ضَعْفِ الدَّلَالَةِ بَلْ عَدَمُهَا عَلَى الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى الْمَقْصُودَةُ هُنَا وَفِي الْبَقَرَةِ أَيْضًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ} [البقرة: 183] أَيْ فُرِضَ {عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ قَبْلُ فَرْضُ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَنُسِخَ بِرَمَضَانَ قَبْلَ قِتَالِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ.
حُكِيَ عَنْ الْوَاحِدِيِّ {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] مِنْ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَفِيهِ تَوْكِيدٌ لِلْحُكْمِ وَتَرْغِيبٌ فِي الْفِعْلِ وَتَطْبِيبٌ عَلَى النَّفْسِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَالتَّشْبِيهُ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ لَا فِي الْكَيْفِيَّةِ وَقِيلَ كَانَ صَوْمُهُمْ فِي الْكَيْفِيَّةِ مِثْلُ صَوْمِنَا وَشَقَّ عَلَيْهِمْ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَرِّ أَوَانَ الْكُسُوبِ وَالسَّفَرِ فَتَشَاوَرُوا وَقَالُوا لِذَلِكَ عِلَاجٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِمْ وَعَرَضُوا أَمْوَالًا وَعَطَايَا فَتَشَاوَرَ عُلَمَاؤُهُمْ وَاسْتَقَرَّ رَأْيُهُمْ بِمُقَابَلَةِ ارْتِشَائِهِمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالرَّبِيعِ وَيَحْتَرِزُوا عَنْ الْحَيَوَانَاتِ وَيَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا وَيَزِيدُوا عَلَيْهَا
عَشَرَةً كَفَّارَةً لِمَا صَنَعُوا فَصَارَ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ إنَّ مَلِكًا لَهُمْ اشْتَكَى فِيهِ فَجَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ إنْ بَرِيءَ مِنْ وَجَعِهِ أَنْ يَزِيدَ فِي صَوْمِهِمْ أُسْبُوعًا فَبَرِيءَ فَزَادَ أُسْبُوعًا، ثُمَّ مَاتَ هُوَ وَوَلِيَهُمْ مَلِكٌ آخَرُ فَأَتَمَّ خَمْسِينَ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] الْمَعَاصِي بِقَهْرِ النَّفْسِ وَكَسْرِ شَهَوَاتِهَا وَقِيلَ عَنْ تَغْيِيرِ الصَّوْمِ كَمَا فَعَلَهُ النَّصَارَى وَقِيلَ لَعَلَّكُمْ تَنْتَظِمُونَ فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ أَنَّ التَّقْوَى أَمْرٌ عَظِيمٌ شُرِعَ لِأَجْلِ نَيْلِهَا قَهْرُ النَّفْسِ بِهَذَا الصِّيَامِ وَتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَفِي الْبَقَرَةِ أَيْضًا {كَذَلِكَ} [البقرة: 187] أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْبَيَانِ {يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} [البقرة: 187] مَعَالِمَ دِينِهِ وَأَحْكَامَ شَرِيعَتِهِ {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فَيُنَحُّوا مِنْ الْعَذَابِ فَإِذَا كَانَ غَايَةُ تِبْيَانِ الْآيَاتِ الْجَلِيلَةِ الشَّأْنُ لِلنَّاسِ هِيَ اتِّقَاؤُهُمْ فَالتَّقْوَى أَمْرٌ شَرِيفٌ وَلَهُ فَضْلٌ مُنِيفٌ وَفِي الْأَنْعَامِ {وَأَنْذِرْ بِهِ} [الأنعام: 51] خَوِّفْ بِالْقُرْآنِ {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] .
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُفَرِّطُونَ فِي الْعَمَلِ أَوْ الْمُجَوِّزُونَ لِلْحَشْرِ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا مُقِرًّا أَوْ مُتَرَدِّدًا فَإِنَّ الْإِنْذَارَ لَا يُفِيدُ لِمَنْ يَقْطَعُ فِي الْإِنْكَارِ، وَقِيلَ هُمْ الْكُفَّارُ {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ} [الأنعام: 51] أَيْ اللَّهِ {وَلِيٌّ} [الأنعام: 51] قَرِيبٌ يَنْصُرُهُمْ {وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] فَإِنْ قِيلَ إنْ أُرِيدَ بِهِمْ الْكُفَّارُ فَيَلْزَمُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الِاتِّقَاءِ مَا يَتَّقِي مِنْ الْكُفْرِ فَلَا تَقْرِيبَ إذْ الظَّاهِرُ كَمَا عَرَفْت أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاتِّقَاءِ هُنَا مَا يُجْتَنَبُ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغَائِرِ وَالْبِدَعِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْمُؤْمِنُونَ فَيَلْزَمُ عَدَمُ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ قُلْنَا قَدْ سَبَقَ مَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِذَلِكَ - {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3]- {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] فَيَنْزَجِرُوا عَنْ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَفِي الْأَنْعَامِ أَيْضًا {ذَلِكُمْ} [الأنعام: 153] يَعْنِي عَدَمَ اتِّبَاعِكُمْ السُّبُلَ الْمُخْتَلِفَةَ وَالْأَهْوَاءَ الْمُضِلَّةَ وَالْبِدَعَ الْمُرْدِيَةَ {وَصَّاكُمْ} [الأنعام: 153] اللَّهُ تَعَالَى {بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] الضَّلَالَ وَالتَّفَرُّقَ عَنْ الْحَقِّ وَفِي الْمَائِدَةِ {اعْدِلُوا} [المائدة: 8] فِي أَوْلِيَائِكُمْ وَأَعْدَائِكُمْ {هُوَ} [المائدة: 8] الْعَدْلُ الْمَذْكُورُ مَعْنًى {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] عَنْ النَّارِ أَوْ الْمَعَاصِي وَفِي الْبَقَرَةِ {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ يَعْنِي عَفْوُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ أَدْعَى إلَى اتِّقَاءِ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَدْبٌ وَفِي الْبَقَرَةِ أَيْضًا {وَلَوْ أَنَّهُمْ} [البقرة: 103] الْيَهُودَ {آمَنُوا} [البقرة: 103] بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقُرْآنِ {وَاتَّقَوْا} [البقرة: 103] الْكُفْرَ وَالْإِثْمَ {لَمَثُوبَةٌ} [البقرة: 103] أَيْ لَكَانَ ثَوَابُ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ خَيْرًا.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِالرَّسُولِ وَالْكِتَابِ وَاتَّقُوا بِتَرْكِ الْمَعَاصِي لَمَثُوبَةٌ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} [البقرة: 103] وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَفِي آلِ عِمْرَانَ {وَإِنْ تَصْبِرُوا} [آل عمران: 120] عَلَى مَشَاقِّ الْمُنَافِقِينَ {وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 120] مُوَالَاتِهِمْ أَوْ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] مِنْ الْمَكَارِهِ، وَهُوَ إرْشَادٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى عَلَى كَيْدِ الْأَعْدَاءِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِانْفِعَالُ قَلِيلًا وَفِي آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا {بَلَى} [آل عمران: 125] أَيْ يَكْفِيكُمْ الْإِمْدَادُ بِهِمْ {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 125] مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَمُخَالَفَةَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَيَأْتُوكُمْ} [آل عمران: 125] الْمُشْرِكُونَ {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} [آل عمران: 125] مِنْ غَضَبِهِمْ هَذَا أَوْ مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا وَأَصْلُ الْفَوْرِ غَلَيَانُ الْقِدْرِ، ثُمَّ لِلْغَضَبِ {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} [آل عمران: 125] هُمْ ثَلَاثَةُ الْآلَافِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ {مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] مُعَلَّمِينَ خُيُولَهُمْ بِالصُّوفِ الْأَبْيَضِ وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ سَوَّمُوا نُفُوسَهُمْ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ وَثِيَابٍ بِيضٍ.
وَعَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ الْمَلَائِكَةُ كَانَتْ عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بِعَمَائِمَ صُفْرٍ.
وَعَنْ عَلِيٍّ بِيضٍ أَرْسَلُوهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ.
وَعَنْ الْخَازِنِ عَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَيْنَمَا أَنَا أَمْتَحُ مِنْ قَلِيبِ بَدْرٍ جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ أَشَدُّ مِنْهَا، ثُمَّ أَشَدُّ مِنْهَا، ثُمَّ أَشَدُّ مِنْهَا فَالْأُولَى جَبْرَائِيلُ فِي أَلْفَيْنِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالثَّانِيَةُ مِيكَائِيلُ فِي أَلْفَيْنِ أَيْضًا عَنْ يَمِينِهِ عليه الصلاة والسلام وَالثَّالِثَةُ إسْرَافِيلُ فِي أَلْفٍ عَنْ يَسَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُنْت عَنْ يَسَارِهِ وَهَزَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَعْدَاءَهُ وَفِي آلِ عِمْرَانَ {وَإِنْ تَصْبِرُوا} [آل عمران: 186] عَلَى الْأَذَى وَالشَّدَائِدِ {وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 186] بِتَرْكِ الْمَعَاصِي وَالْمُعَارَضَةِ {فَإِنَّ ذَلِكَ} [آل عمران: 186] الصَّبْرَ {مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] مَعْزُومَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْكُمْ فِعْلُهَا وَتَحَمُّلُهَا أَوْ مِمَّا عَزَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَيْ أَمَرَ بِهِ وَبَالَغَ فِيهِ وَالْعَزْمُ فِي الْأَصْلِ ثَبَاتُ الرَّأْيِ عَلَى الشَّيْءِ نَحْوُ إمْضَائِهِ.
وَعَنْ الْبَغَوِيّ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أَيْ مِنْ حَقِّ الْأُمُورِ وَحَتْمِهَا وَفِي النِّسَاءِ {وَإِنْ تُصْلِحُوا} [النساء: 129] مَا كُنْتُمْ تُفْسِدُونَ {وَتَتَّقُوا} [النساء: 129] فِيمَا يُسْتَقْبَلُ {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129] وَفِي الْمَائِدَةِ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [المائدة: 65] أَيْ قَرَنُوا إيمَانَهُمْ بِعَمَلِ التَّقْوَى {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [المائدة: 65] يَشْكُلُ أَنَّ إيمَانَ الْكَافِرِ وَلَوْ لَمْ يُقَارِنْ الْعَمَلَ كَافٍ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَمَا فَائِدَةُ تَعْلِيقِ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَإِدْخَالِ الْجَنَّاتِ بِمَجْمُوعِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْحَمْلُ عَلَى مُرُورِ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ بَعْدَ الْإِيمَانِ بَعِيدٌ كَالْحَمْلِ عَلَى الِاتِّقَاءِ مِنْ الْكُفْرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَطْفَ تَفْسِيرٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ أَصْلُ الْإِيمَانِ سَبَبُ أَصْلِ الدُّخُولِ.
وَأَمَّا مَعِيَّتُه فَلِجَنَّاتِ النَّعِيمِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ وَفِي الْأَعْرَافِ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى} [الأعراف: 96] الْمَدْلُولُ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} [الأعراف: 94]- وَقِيلَ مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ وَالْقُرَى فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَدِينَةُ لَعَلَّ الْمُرَادَ مَا يَشْمَلُ الْقَرْيَةَ وَالْمَدِينَةَ وَالْبَرَارِيَ إمَّا بِعُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ {آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف: 96] الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِي.
وَعَنْ ابْنِ جَمِيلٍ أَنَّ الْمُهْلَكِينَ لَوْ أَتَوْا بِالْإِيمَانِ
وَاتَّقُوا الْمَنَاهِيَ {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96] مِنْ الْأَمْطَارِ وَالرِّيَاحِ اللَّوَاقِحِ وَمِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتَاتِ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ الْخَيْرَ وَيَسَّرْنَاهُ لَهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الْخِصْبُ وَالرَّخَاءُ وَكَثْرَةُ الْمَوَاشِي وَزِيدَ الثِّمَارُ وَالْأَرْزَاقُ وَالْأَمْنُ وَالسَّلَامَةُ وَأَصْلُ الْبَرَكَةِ ثُبُوتُ الْخَيْرِ الْإِلَهِيِّ فِي الشَّيْءِ.
وَعَنْ الْبَغَوِيّ هِيَ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْمُتَابَعَةُ سَوَاءٌ مَطَرًا أَوْ نَبَاتًا {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ} [الأعراف: 96] عَاقَبْنَاهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ كَالْقَحْطِ {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ الْأَعْمَالَ الْخَبِيثَةَ.
وَعَنْ الْعُيُونِ إذَا كَانَ الْمَرْءُ شَاكِرًا كَانَ سِعَةُ الرِّزْقِ فِيهِ مِنْ السَّعَادَةِ وَإِلَّا فَمِنْ الشَّقَاوَةِ وَفِي الْأَنْفَالِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ} [الأنفال: 29] بِطَاعَتِهِ وَتَرْكِ عِصْيَانِهِ {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] هِدَايَةً فَارِقَةً بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَوْ نَصْرًا فَارِقًا بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ بِإِعْزَازِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِذْلَالِ الْكَافِرِينَ أَوْ مَخْرَجًا مِنْ الشُّبُهَاتِ وَنَجَاةً مِمَّا يَحْذَرُونَ فِي الدَّارَيْنِ أَوْ ظُهُورًا لِيُشْهِرَ أَمْرَكُمْ وَيُثْبِتَ دِينَكُمْ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ.
وَعَنْ الْخَازِنِ فُرْقَانًا يَعْنِي نُورًا فِي قُلُوبِكُمْ تُفَرِّقُونَ بِهِ الْحَقَّ عَنْ الْبَاطِلِ وَقِيلَ {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال: 29] الصَّغَائِرَ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 29] ذُنُوبَكُمْ الْكَبَائِرَ وَقِيلَ الْمُرَادُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29] فَلَا تَطْلُبُوا الْفَضْلَ مِنْ غَيْرِهِ.
وَعَنْ الْبَيْضَاوِيِّ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا وَعَدَهُ بِمُقَابَلَتِهِ الْعَمَلَ تَفَضُّلِيٌّ لَا وُجُوبِيٌّ وَقِيلَ كَأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْحُكْمِ يَعْنِي مَنْ كَانَ صَاحِبَ فَضْلٍ عَظِيمٍ يَقْدِرُ أَنْ يُعْطِيَ مِثْلَ هَذَا الْوَعْدِ.
وَفِي النُّورِ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] بِسُكُونِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ فِيمَا بَعْدُ فَلَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَفْعَلَهُ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ لِجَمْعِهِمْ أَسْبَابَ الْفَوْزِ وَفِي الطَّلَاقِ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 2] فِي الْمَعَاصِي وَالْمُحَرَّمَاتِ {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] إلَى الْحَلَالِ وَالطَّاعَةِ.
وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ نَزَلَتْ فِي «عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَسَرَ الْعَدُوُّ ابْنًا لَهُ فَأَتَى الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَشَكَا إلَيْهِ الْفَاقَةَ أَيْضًا فَقَالَ لَهُ اتَّقِ اللَّه وَاصْبِرْ وَأَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَفَعَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ فَبَيْنَا هُوَ فِي بَيْتِهِ إذْ أَتَاهُ ابْنُهُ وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْعَدُوُّ فَأَصَابَ إبِلًا وَجَاءَ بِهَا إلَى أَبِيهِ» فَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] أَيْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ يَعْنِي يُوَسِّعُ رِزْقَهُ.
«وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَاسْتَاقَ غَنَمَهُمْ فَجَاءَ بِهَا إلَى أَبِيهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ آلَافِ شَاةٍ فَانْطَلَقَ أَبُوهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَ عَنْ حِلِّهِ فَقَالَ نَعَمْ» وَفِي الطَّلَاقِ أَيْضًا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 4] فِي أَحْكَامِهِ فَيُرَاعِي حُقُوقَهَا وَيَصْبِرْ {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ} [الطلاق: 4] أَمْرِ الدَّارَيْنِ {يُسْرًا} [الطلاق: 4] يُسَهِّلُهُ وَيُوَفِّقُهُ وَفِي الطَّلَاقِ أَيْضًا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 5] بِطَاعَتِهِ {يُكَفِّرْ عَنْهُ} [الطلاق: 5] بِالْيَاءِ وَالنُّونِ {سَيِّئَاتِهِ} [الطلاق: 5] مِنْ الصَّلَاةِ إلَى الصَّلَاةِ وَمِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5] بِالْمُضَاعَفَةِ كَعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَأَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ وَفِي الْأَحْزَابِ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [الأحزاب: 70] فِي ارْتِكَابِ مَا يَكْرَهُهُ فَضْلًا عَمَّا يُؤْذِي رَسُولَهُ {وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] قَاصِدًا إلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - صَوَابًا وَقِيلَ صِدْقًا وَقِيلَ هُوَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقِيلَ الْقَوْلُ الَّذِي يُوَافِقُ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ أَوْ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ الْغَرَضُ النَّهْيُ عَنْ الْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ وَالْحَثُّ عَلَى حِفْظِ اللِّسَانِ فِي كُلِّ بَابٍ فَإِنَّهُ رَأْسُ الْخَيْرِ كُلِّهِ وَالْمَعْنَى رَاقِبُوا اللَّهَ تَعَالَى فِي حِفْظِ أَلْسِنَتِكُمْ وَتَسْدِيدِ قَوْلِكُمْ {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 71] بِتَوْفِيقِ صَالِحِ الْأَعْمَالِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَبُولِ حَسَنَاتِكُمْ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 71] الْآيَةَ وَفِي آلِ عِمْرَانَ {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189] رَاجِينَ الْفَلَاحَ لَا الْقَطْعَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ كَذَا قِيلَ إنْ أُرِيدَ الْقَطْعُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَعْدِهِ وَعَادَتِهِ فَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْقَطْعِ فِي الْفَلَاحِ لِلْمُتَّقِي الْخَالِصِ، وَأَنَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَاتِ التَّقْوَى فَالْكَلَامُ فِي السَّبَبِ الْعَادِيِّ كَيْفَ وَخُلْفُ الْوَعْدِ وَالْكَذِبِ فِي الْخَبَرِ وَالرُّجُوعِ عَنْ الْحُكْمِ وَتَبْدِيلِ الْقَوْلِ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى كَمَا سَبَقَ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَوَقُّفِ الْفَلَاحِ عَلَى التَّقْوَى؛ وَلِهَذَا عَنْ ابْنِ جَمِيلٍ التَّقْوَى هُنَا وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّ الْفَلَاحَ تَوَقَّفَ عَلَيْهَا فَلَوْ لَمْ تَبْقَ زَالَ الْفَلَاحُ وَفِي آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123] بِصَرْفِ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ لِمَا خَلَقَ لَهُ، وَذَلِكَ بِالتَّقْوَى عَنْ عِقَابِهِ وَفِي الْحُجُرَاتِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 189] فَلَا تَعْصُوهُ وَلَا تُخَالِفُوا أَمْرَهُ أَوْ مُخَالَفَةُ حُكْمِهِ وَالْإِهْمَالُ فِيهِ {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155] رَاجِينَ رَحْمَتَكُمْ وَفِي الْمَائِدَةِ {وَتَعَاوَنُوا} [المائدة: 2] تَنَاصَرُوا {عَلَى الْبِرِّ} [المائدة: 2] اتِّبَاعُ أَمْرِ اللَّهِ وَالْعَمَلُ بِهِ أَوْ الْإِسْلَامُ أَوْ الْعَفْوُ وَالْإِعْفَاءُ {وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] اجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ أَوْ السُّنَّةِ وَمُتَابَعَتِهَا.
وَعَنْ الْخَازِنِ لِيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى كَسْبِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
وَعَنْ السُّلَمِيِّ الْبِرُّ مَا وَافَقَك عَلَيْهِ الْعِلْمُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَالتَّقْوَى مُخَالَفَةُ الْهَوَى وَقِيلَ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إلَيْهِ قَلْبُك وَقِيلَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى طَاعَةُ الْأَكَابِرِ مِنْ السَّادَاتِ وَالْمَشَايِخِ وَلَا تُضَيِّعُوا حُظُوظَكُمْ مِنْهُمْ وَمِنْ مُعَاوَنَتِهِمْ وَخِدْمَتِهِمْ وَعَنْ سَهْلٍ الْبِرُّ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى السُّنَّةُ
وَفِي الْعَلَقِ {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} [العلق: 12] بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ أَوْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي فَنَهَاهُ عَنْهُ نَقْلٌ عَنْ الْعُيُونِ وَفِي النِّسَاءِ {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} [النساء: 131] أَمَرْنَا {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 131] مِنْ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ {وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ فِي الْقُرْآنِ {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] بِأَنْ تُوَحِّدُوهُ وَتُطِيعُوهُ وَتَحْذَرُوهُ وَلَا تُخَالِفُوا أَمْرَهُ فَالتَّقْوَى شَرِيعَةٌ قَدِيمَةٌ أَوْصَى بِهَا اللَّهُ جَمِيعَ الْأُمَمِ وَحِينَ اسْتَوْصَى مِنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ قَالَ أُوصِيَك يَا وَلَدِي بِمَا أَوْصَى بِهِ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ وَكَافَّةَ أَوْلِيَائِهِ وَجُمْلَةَ أَحِبَّائِهِ وَعَامَّةَ عِبَادِهِ لِكَوْنِهِ غَايَةَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْهِ فَلَيْسَ أَعَزَّ مِنْهُ وَلَا أَفْضَلَ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] فَعَلَيْك بِبَذْلِ جُهْدِك وَغَايَةِ سَعْيِك فِي تَحْقِيقِ حَقَائِقِ التَّقْوَى وَتَدْقِيقِ أَسْرَارِهَا فَإِنَّ لَهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَحَقًّا وَحَقِيقَةً فَمَنْ بَلَغَهَا فَقَدْ مَلَكَ سُلْطَةً سَرْمَدِيَّةً انْتَهَى وَفِي الْمَائِدَةِ.
{قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 112] قَالَ عِيسَى لِلْحَوَارِيِّينَ الْقَائِلِينَ لَهُ - {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112]- الْآيَةَ {اتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 112] فِي سُؤَالِ الْمَائِدَةِ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 112] ؛ لِأَنَّهُ سُؤَالُ تَعَنُّتٍ وَقِيلَ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لِيَحْصُلَ لَهُمْ هَذَا السُّؤَالُ وَقِيلَ اسْتَعِينُوا عَلَى هَذَا بِالتَّقْوَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]-، ثُمَّ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا إذَا قَصَّهُ اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ بِلَا نَكِيرٍ
وَفِي
آلِ عِمْرَانَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] حَقَّ خَوْفِهِ بِأَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى طَرْفَةَ عَيْنٍ أَوْ بِاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي الْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ لَا مَحَالَةَ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ الْمَحَارِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِأَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا قَالُوا بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ فَاتَّقُوا اللَّه مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ «حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ عَلَى الصَّحَابَةِ حَتَّى قَالُوا لَا نُطِيقُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَقُولُوا كَمَا تَقُولُ الْيَهُودُ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وَلَكِنْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» فَنَزَلَتْ {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] فَكَانَتْ أَعْظَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأُولَى فَسَهَّلَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْزَلَ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فَصَارَتْ نَاسِخَةً فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِآيَةٍ مَنْسُوخَةٍ
وَقِيلَ إنَّ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَالسُّدِّيِّ نَعَمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى حَقَّ تُقَاتِهِ أَدَاءُ مَا كَانَ فِي طَاقَةِ الْعَبْدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ تَفْسِيرًا لَهُ لَا نَاسِخًا وَلَا مُخَصِّصًا وَالنَّسْخُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ بِكُلِّ مَا يَجِبُ لِلَّهِ وَيَسْتَحِقُّهُ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ تَحْصِيلُهُ لِلْعَبْدِ كَذَا قَالُوا لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ سَبَبِ الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ هُوَ الْقَوْلُ بِالِامْتِنَاعِ لِلْعَبْدِ فَهَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ لَا يُكَلِّفُ الْعَبْدَ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، وَأَنَّ النَّسْخَ الْأَصَحَّ أَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ بَلْ بِالسَّمْعِ، وَأَنَّك قَدْ سَمِعْت أَنَّ ذَلِكَ رَأْيٌ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآثَارِ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ أَوْ مُنْقَطِعٌ وَالرِّوَايَةُ الْوَاحِدَةُ فِي جَنْبِ الْمُتَعَدِّدَةِ أَوْ مُقَابِلِهَا لَا يُعْتَدُّ بِهَا فَافْهَمْ ذَلِكَ وَفِي التَّغَابُنِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] عَلَى قَدْرِ طَاقَتِكُمْ إذْ لَا تَكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ فَهَذِهِ لِمَا قَبْلَهَا كَمَا سَمِعْت كَمَا نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ قِيلَ نَسَخَ هَذَا قَوْلَهُ حَقَّ تُقَاتِهِ لِمَا اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْ قَامُوا حَتَّى تَوَرَّمَتْ أَقْدَامُهُمْ وَتَقَرَّحَتْ جِبَاهُهُمْ
أَقُولُ كَمَا نَبَّهَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِهِ حَقَّ تُقَاتِهِ مَا أَمْكَنَ صُدُورُهُ مِنْ الْعَبْدِ غَايَتُهُ نِهَايَةُ مَا يُتَصَوَّرُ صُدُورُهُ مِنْ الْعَبْدِ كَيْفَ، وَقَدْ رَفَعَ عَنَّا التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ كَالْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ بَلْ رَفَعَ كُلَّ مَا فِيهِ حَرَجٌ وَأَرَادَ الْيُسْرَ لَا الْعُسْرَ لَعَلَّ لِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الْبَيْضَاوِيُّ لِنَسْخِهَا.
وَقَالَ أَيْ اُبْذُلُوا فِي تَقْوَاهُ جُهْدَكُمْ وَطَاقَتَكُمْ لَعَلَّ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَيْضًا مَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ هَذِهِ الْآيَاتُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ آيَةً لَكِنَّ دَلَالَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى فَضْلِ التَّقْوَى الْمُرَادَةِ لَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَى بَعْضِهَا وَأَيْضًا لَا يَظْهَرُ فِي الْكُلِّ تَرْتِيبُ قُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنْ يُرَادَ فَضْلُ مُطْلَقِ التَّقْوَى مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي سَيَذْكُرُهَا الْمُصَنِّفُ
وَإِذَا عَرَفْت أَنَّ مَوَاقِعَ التَّقْوَى فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ إجْمَالًا وَعَرَفْت مَا ذَكَرْنَا تَفْصِيلًا مِنْ الثَّلَاثِ وَالسِّتِّينَ وَمَا فِي ضِمْنِهَا مِنْ الْفَضْلِ وَالْفَوَائِدِ (فَمَا مِنْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ) الْمُوجِبَةِ لِرِضَاهُ تَعَالَى مِنْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةِ (أَكْثَرُ ذِكْرًا) مِنْ حَيْثُ ذَاتِهَا (وَثَنَاءً عَلَيْهَا) مِنْ حَيْثُ فَضْلِهَا وَمَدْحِهَا (فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ التَّقْوَى) لَعَلَّ هَذَا إمَّا إضَافِيٌّ وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذِكْرَ الْإِيمَانِ وَلَفْظَ الْأَعْمَالِ وَالطَّاعَةِ أَكْثَرُ مِنْ التَّقْوَى (فَتَأَمَّلْ) أَيُّهَا الْمُشْتَاقُ إلَى لِقَاءِ اللَّهِ وَالطَّالِبُ رِضَا اللَّهِ وَالسَّالِكُ إلَى طَرِيقِ اللَّهِ (فِيمَا كَتَبْنَا مِنْ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ) عِبَارَةً أَوْ دَلَالَةً أَوْ إشَارَةً أَوْ مُقَايَسَةً (كَيْفَ كَانَ الْمُتَّقِي عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَكْرَمَ) وَأَشْرَفَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْأُولَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .
وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لِثُبُوتِ سَبْقِيَّتِهِ فِي التَّقْوَى عَلَى الْغَيْرِ بِالنَّصِّ كَانَ أَكْرَمَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ بِذَلِكَ أَفْضَلَ الْخَلَائِقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَالْفَضْلُ دَائِرٌ عَلَى التَّقْوَى فِي مَرَاتِبِهَا (وَ) كَانَ (مَقْبُولَ الطَّاعَةِ) إلَى أَنْ يَنْحَصِرَ الْقَبُولُ إلَى التَّقْوَى بِقَوْلِهِ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (وَ) كَانَ (وَلِيَّهُ) بَلْ حَصَرَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِمْ {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34]{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19](وَحَبِيبَهُ){إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] فَانْظُرْ مَقَامَ الْمَحَبَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ فَإِنَّهَا رُتْبَةُ أَوْلِيَائِهِ الْمُقَرَّبِينَ (وَكَيْفَ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَلِيًّا) بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآيَتَيْنِ (وَمُحِبًّا) بِمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا
(وَمُزَكِّيًا){فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32](وَنَاصِرًا){وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] فَانْظُرْ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ الْإِلَهِيَّةَ (وَكَيْفَ كَانَ لَهُ الْعَاقِبَةُ) الْمُرْضِيَةُ {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]
فَانْظُرْ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ مِنْ لَامِ الْمِلْكِ بَلْ لَامَيْ التَّعْرِيفَيْنِ أَيْضًا (وَالْآخِرَةُ){وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35]{وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25]{وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 49] وَعَلَى هَذَا فَقِسْ اللَّفَّ وَالنَّشْرَ الْمُرَتَّبَ (وَكَيْفَ أُعِدَّتْ لَهُ) لِلْمُتَّقِي (الْجَنَّةُ وَأُورِثَتْ) بِالْمَجْهُولِ (لَهُ وَأُزْلِفَتْ) قُرِّبَتْ (وَوُعِدَتْ لَهُ، وَكَانَتْ دَارًا) لِلْمُتَّقِينَ (وَكَيْفَ كَانَتْ التَّقْوَى لِلْآخِرَةِ زَادًا وَلِبَاسًا){فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26](وَكَيْفَ أُضِيفَتْ) التَّقْوَى (إلَى الرَّئِيس الْأَشْرَفِ) أَيْ الْقَلْبِ (وَامْتُحِنَ بِهَا وَكَيْفَ جُعِلَتْ سَبَبًا لِلْخَيْرِيَّةِ) فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ (وَكِتَابَةُ الرَّحْمَةِ) أَيْ إلْزَامُهَا (وَكَيْفَ خَصَّ لَهَا) لِأَجْلِ التَّقْوَى (كَوْنَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى هُدًى وَمَوْعِظَةً وَذِكْرَى) ؛ لِأَنَّ بِهَا يَتِمُّ الِانْتِفَاعُ وَيَكْمُلُ الِارْتِفَاعُ
(وَكَيْفَ جُعِلَتْ غَايَةً) مُنْتَهًى وَنِهَايَةً (لِلْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ وَالْقِصَاصِ وَالصِّيَامِ) مِنْ الْعِبَادِ (وَالتَّبْيِينِ) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (وَالْإِنْذَارِ) مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَالتَّوْصِيَةِ) مِنْهُ تَعَالَى (وَالْعَدْلِ وَالْعَفْوِ) مِنْ الْعِبَادِ (وَكَيْفَ كَانَتْ شَرْطًا وَسَبَبًا لِلْمَثُوبَةِ) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى (وَدَفْعِ الْكَيْدِ) مِنْ الْأَعْدَاءِ (وَالْإِمْدَادِ) بِالْمَلَائِكَةِ (وَإِتْيَانِ مَا يَجِبُ الْعَزْمُ عَلَيْهِ وَالْمَغْفِرَةُ) لِلْعِبَادِ (وَالرَّحْمَةِ) لَهُمْ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ (وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَإِدْخَالِ الْجَنَّةِ وَفَتْحِ الْبَرَكَاتِ) مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْفَوْزِ) بِوُصُولِ السَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ (وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَضَايِقِ) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَالرِّزْقِ) لِلْعَبْدِ (مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبْ وَالْيُسْرِ) عِنْدَ كُلِّ عُسْرٍ (وَإِعْظَامِ الْأَجْرِ وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ وَالْفَلَاحِ) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَالشُّكْرِ) لِلَّهِ تَعَالَى (وَكَيْفَ أَمَرَ) اللَّهُ تَعَالَى (بِالتَّعَاوُنِ عَلَيْهَا) أَيْ التَّقْوَى (وَمَدَحَ الْآمِرَ بِهَا وَوَصَّى بِهَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ وَجُعِلَتْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَأُمِرَ) بِالْمَجْهُولِ (بِتَحْصِيلِ حَقِيقَتِهَا وَكَمَالِهَا بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ) فَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ الْفَوَائِدَ الْعَظِيمَةَ وَالْمَنَافِعَ الْفَخِيمَةَ الْمُنْتَزِعَةَ وَالْمَفْهُومَةَ مِنْ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ.
(فَيَا أَيُّهَا الطَّالِبُ لِلْآخِرَةِ وَ) يَا أَيُّهَا (السَّالِكُ) الْعَابِرُ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيئَةِ إلَى الْمَنَازِلِ الْأُخْرَوِيَّةِ الْعَلِيَّةِ أَوْ التَّارِكُ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ الْفَانِيَةَ لِأَجْلِ الْمَرَاتِبِ الْبَاقِيَةِ أَوْ الْمُسَافِرِ مِنْ رَذِيلَةِ الْأَخْلَاقِ مَعَ سُوءِ الِاعْتِقَادِ وَذَمِيمَةِ الْأَطْوَارِ وَسَيِّئَةِ الْأَعْمَالِ إلَى خِلَافِهَا (فِي طَرِيقِهَا) الْآخِرَةِ
(إنْ كُنْت صَادِقًا فِي دَعْوَاك) فِي دَعْوَى الطَّلَبِ وَالسُّلُوكِ أَوْ دَعْوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَوِصَالِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَالدُّخُولِ فِي زُمْرَتِهِ وَشَفَاعَتِهِ (أَكْبِبْ) لَازِمْ (عَلَيْهَا) عَلَى التَّقْوَى فَإِنَّك قَدْ عَرَفْت أَنَّ زِمَامَ كُلِّ خَيْرٍ بِيَدِهَا وَحُصُولَ كُلِّ مُرَادٍ سُخِّرَ بِهَا (وَصِرْ عَاشِقًا) شَدِيدَ الْمَحَبَّةِ (مُسْتَهْتِرًا) مُسْتَدِيمًا (لَهَا) بِحَيْثُ لَا تُفَارِقُهَا وَلَوْ فَارَقْت عَجِّلْ وِصَالَهَا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَك صَبْرٌ وَقَرَارٌ عِنْدَ فِرَاقِهَا كَالْعَاشِقِ مَعَ الْمَعْشُوقِ (بِحَيْثُ لَا يُعَوِّقُك عَنْهَا عَائِقٌ أَصْلًا) مِنْ الْعَوْقِ أَيْ مَانِعٌ وَلَوْ عَظِيمًا قَوِيًّا فَرَجِّحْهَا عَلَى جَمِيعِ مُهِمَّاتِك عِنْدَ عُرُوضِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ (وَلَوْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ الْمَنْعِ عَنْ التَّقْوَى فَإِنَّ فَوَائِدَ التَّقْوَى وَمَنَافِعَهَا كَمَا عَرَفْت يَقْتَضِي أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي وُسْعِ الْعَبْدِ تَحْصِيلُهُ اسْتِقْلَالًا أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُرَاجَعَةَ وَالِاسْتِمْدَادَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَدْرَكَ فَقَالَ، وَلَكِنَّ {اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي} [فاطر: 8] مِنْ فَضْلِهِ (مَنْ يَشَاءُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ) يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ
فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُهُ عَدَمُ نَفْعِ سَعْيِ الْعَبْدِ وَعَدَمُ اقْتِدَارِهِ وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلتَّوْصِيَةِ بِالْجِدِّ وَالسَّعْيِ، وَأَنَّهُ جَبْرٌ قُلْنَا قَدْ مَرَّ الْجَوَابُ فِي مَوَاضِعَ وَقَدْ عَرَفْت الْجَبْرَ الْمُتَوَسِّطَ وَالْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لِلْعَبْدِ وَالتَّخْصِيصَ بِالْخَيْرِ مَعَ أَنَّ الشَّرَّ بِيَدِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَمَطْمَحُ النَّظَرِ وَقِيلَ سَكَتَ عَنْ الشَّرِّ تَأَدُّبًا وَقِيلَ؛ لِأَنَّ الشَّرَّ بِيَدِ النُّفُوسِ وَالنُّفُوسُ بِيَدِهِ تَعَالَى فَالْخَيْرُ مِنْهُ تَعَالَى بِالذَّاتِ وَالشَّرُّ مِنْهُ بِالْوَاسِطَةِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] قُلْت لَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ غَايَةِ السَّخَافَةِ كَمَا عُرِفَ فِي الْكَلَامِ {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120] يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (الْأَخْبَارُ) .
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّقْوَى أَرَادَ بَيَانَ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي أَفْضَلِيَّةِ التَّقْوَى لِيُعْلَمَ تَطَابُقُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الْأَخْبَارُ، أَيْ الْأَخْبَارُ مَا سَيَذْكُرُ أَوْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ أَوْ الْمُبْتَدَأِ فَمَنْ رَجَّحَ الْأَوَّلَ يَقُولُ الْمُبْتَدَأُ أَصْلٌ وَالْخَبَرُ وَقْفٌ تَابِعٌ فَالْمَذْكُورُ مُبْتَدَأٌ، وَمَنْ رَجَّحَ الثَّانِيَ يَقُولُ الْمُبْتَدَأُ مَعْلُومٌ وَالْمَقْصُودُ بِالْإِفَادَةِ هُوَ الْخَبَرُ فَهُوَ الْمَذْكُورُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ بَعْضُ الْأَخْبَارِ أَوْ جِنْسُ الْأَخْبَارِ الْمُرَادُ حُصُولُهُ فِي ضِمْنِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ، وَلَوْ أُرِيدَ الِاسْتِغْرَاقُ أَيْ جَمِيعُ الْأَخْبَارِ الَّذِي وَصَلَ إلَى الْمُصَنِّفِ لَمْ يَبْعُدْ كُلَّ بُعْدٍ (حَدّ) أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الْغِفَارِيِّ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لَهُ اُنْظُرْ» اعْتَبِرْ «فَإِنَّك لَسْت بِخَيْرٍ مِنْ أَحْمَرَ وَلَا أَسْوَدَ» إمَّا لِأَصَالَتِهِمَا فِي أَلْوَانِ الْإِنْسَانِ وَالْمَقْصُودُ شُمُولُ الْكُلِّ أَوْ الْأَحْمَرُ الْإِنْسُ لِغَلَبَةِ الدَّمِ فِي الْأَجْسَامِ التُّرَابِيَّةِ وَالْأَسْوَدُ الْجِنُّ لِغَلَبَةِ النَّارِ فِي الْأَجْسَامِ الْهَوَائِيَّةِ أَوْ الْأَحْمَرُ سُكَّانُ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْأَسْوَدُ سُكَّانُ الْبَوَادِي أَوْ الْأَحْمَرُ النِّسَاءُ لِرَاحَتِهِنَّ وَالْأَسْوَدُ الرِّجَالُ لِتَعَبِهِمْ فِي الْمَعِيشَةِ أَوْ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ «إلَّا أَنْ تَفْضُلَهُ» تَصِيرُ فَاضِلًا عَلَى كُلٍّ مِنْ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ «بِالتَّقْوَى» وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِتَقْوَى بِلَا لَامٍ أَيْ تَزِيدُ عَلَيْهِ فِي وِقَايَةِ النَّفْسِ عَمَّا يَضُرُّهَا فِي الْآخِرَةِ وَمَرَاتِبِهَا كَمَا سَتَعْرِفُهَا ثَلَاثَةٌ التَّوَقِّي عَنْ الْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ، ثُمَّ عَنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ، ثُمَّ عَنْ مَا يَشْغَلُ السِّرَّ عَنْ الْحَقِّ تَقَدَّسَ فَالتَّقْوَى أَمْرٌ يَفْضُلُ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى الْكُلِّ فَمَنْ كَانَ أَسْبَقَ فِيهَا فَأَسْبَقُ فِي الْفَضْلِ.
(هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ» ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ «فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ أَلَا» اسْتِفْتَاحٌ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّحْقِيقُ «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ» الْمُتْقِنُ لِلتَّكَلُّمِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِلَا تَكَلُّفٍ «عَلَى عَجَمِيٍّ» خِلَافِ الْعَرَبِ فَإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَجَمِيٌّ وَابْنُهُ إسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَرَبِيٌّ وَقِيلَ الْفَارِقُ هُوَ اللِّسَانُ كَمَا فِي حَدِيثِ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ «وَلَا» فَضْلَ «لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ» كَمَا عَرَفْت مَعْنَيَيْهِمَا إذْ الْفَضْلُ لَيْسَ دَائِرًا عَلَى النَّوْعِ أَوْ النَّسَبِ أَوْ الْمَكَانِ «وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ» آدَمَ عليه الصلاة والسلام جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ «إلَّا بِالتَّقْوَى» عَلَى مَرَاتِبِهَا أَشَارَ إلَى الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] أَلَا) حَرْفُ تَنْبِيهٍ أَيْضًا «هَلْ بَلَّغْتُ» بِالتَّكَلُّمِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]«قَالُوا بَلَى» أَيْ بَلَّغْت «يَا رَسُولَ اللَّهِ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» «قَالَ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ» أَيْ الْحَاضِرُ «الْغَائِبَ» وَقِيلَ الشَّاهِدُ الْعَالِمُ وَالْغَائِبُ الْجَاهِلُ الْغَافِلُ
قِيلَ فِيهِ حَثٌّ عَلَى رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَحِفْظِهِ وَضَبْطِهِ، ثُمَّ التَّحَدُّثُ بِهِ لِأَهْلِهِ وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (ططص) الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمَةِ الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُنَادِيًا يُنَادِي» فِي عَالَمِ الْمَحْشَرِ إعْلَامًا لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ مَنْ أَكْرَمُ عِنْدَهُ وَإِيذَانًا بِشَرَفِ التَّقْوَى وَثَمَرَتِهَا «أَلَا إنِّي جَعَلْت» بَيْنَكُمْ «نَسَبًا» يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى رَحْمَتِي، وَهُوَ التَّقْوَى «وَجَعَلْتُمْ نَسَبًا» مَبْنِيًّا عَلَى عَرَضِ الدُّنْيَا وَحُطَامَاتِهَا «فَجَعَلْت أَكْرَمَكُمْ أَتْقَاكُمْ» لَعَلَّ الْفَرْدَ السَّابِقَ مِنْ التَّقْوَى هُوَ الْغَايَةُ فِي نِهَايَةِ التَّقْوَى مِنْ تَطْهِيرِ السِّرِّ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَطْعِ تَعَلُّقِ النَّفْسِ مِنْ كُلِّ مَا يَهْوَاهُ كَمَا فِي مَقَامِ جَمْعِ الْجَمْعِ عِنْدَ أَهْلِ اللَّهِ «فَأَبَيْتُمْ» أَيْ امْتَنَعْتُمْ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ «إلَّا أَنْ تَقُولُوا» فِي اعْتِبَارِ نَسَبِكُمْ الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ بَيْنَكُمْ فِي الدُّنْيَا «فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ خَيْرٌ مِنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ» مِنْ جِهَةِ الْجَاهِ وَالْمَالِ وَنَسَبِ الدُّنْيَا «فَالْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأَضَعُ نَسَبَكُمْ أَيْنَ الْمُتَّقُونَ» حَتَّى يُحْفَظُوا مِنْ الْمَخَاوِفِ وَيُوصَلُوا إلَى الْمَطَالِبِ وَتُقْضَى لَهُمْ الْحَوَائِجُ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَنْسَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
(حَدَّ) أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ (عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «سِتَّةُ أَيَّامٍ» فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا «اعْقِلْ» تَعْقَلْ وَانْتَظِرْ وَاحْفَظْ مَا لِلتَّشَوُّقِ بِالِانْتِظَارِ؛ لِأَنَّ
الشَّيْءَ بَعْدَ الطَّلَبِ أَلَذُّ أَوْ لِاخْتِبَارِ كَوْنِهِ طَالِبًا حَقِيقِيًّا أَوْ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِ لِذَلِكَ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا بَعْدَ السِّتَّةِ «يَا أَبَا ذَرٍّ مَا يُقَالُ لَك بَعْدُ» مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لِكَمَالِ الِاسْتِشْرَاقِ.
«فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ قَالَ أُوصِيَك بِتَقْوَى اللَّهِ» بِأَنْ تُطِيعَهُ فَلَا تَعْصِيَهُ وَتَشْكُرَهُ فَلَا تَكْفُرَهُ وَالتَّقْوَى أُسُّ كُلِّ فَلَاحٍ وَنَجَاحٍ فِي الدَّارَيْنِ.
قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ خَصْلَةٌ لِلْعَبْدِ أَجْمَعُ لِلْخَيْرِ وَأَعْظَمُ لِلْأَجْرِ وَأَجَلُّ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَأَعْظَمُ فِي الْقَدْرِ وَأَوْفَى بِالْحَالِ وَأَنْجَحُ لِلْآمَالِ مِنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ التَّقْوَى وَإِلَّا لَمَا أَوْصَى اللَّهُ بِهَا خَوَاصَّ خَلْقِهِ فَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي لَا مُتَجَاوَزَ عَنْهَا وَلَا مُقْتَصَرَ دُونَهَا وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ فِيهَا كُلَّ نُصْحٍ وَدَلَالَةٍ وَإِرْشَادٍ وَتَأْدِيبٍ وَتَعْلِيمٍ فَهِيَ الْجَامِعَةُ لِخَيْرِ الدَّارَيْنِ الْكَافِيَةُ لِجَمِيعِ الْمُهِمَّاتِ الْمُبَلِّغَةِ إلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْمُنَاوِيِّ «فِي سِرِّ أَمْرِك وَعَلَانِيَتِهِ» فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ وَالْقَصْدُ الْوَصِيَّةُ بِإِخْلَاصِ التَّقْوَى وَتَجَنُّبِ الرِّيَاءِ فِيهَا
قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا أَرَدْنَا تَحْدِيدَ التَّقْوَى عَلَى مَوْضِعِ عِلْمِ السِّرِّ نَقُولُ حَدُّهَا الْجَامِعُ تَبْرِئَةُ الْقَلْبِ مِنْ شَرٍّ لَمْ يَسْبِقْ عَنْك مِثْلُهُ بِقُوَّةِ الْعَزْمِ عَلَى تَرْكِهِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ وِقَايَةً بَيْنَك وَبَيْنَ كُلِّ شَرٍّ قَالَ هُنَا أَصْلٌ هُوَ الْعِبَادَةُ وَشَطْرَانِ اكْتِسَابٌ هُوَ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابٌ هُوَ تَجَنُّبُ السَّيِّئَاتِ، وَهُوَ التَّقْوَى، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوَّلِ فَاشْتِغَالُ الْمُبْتَدَئِينَ أَنْ يَصُومُوا نَهَارَهُمْ ويَقُومُوا لَيْلَهُمْ وَاشْتِغَالُ الْمُنْتَهِينَ أُولِي الْبَصَائِرِ، وَالِاجْتِنَابُ إنَّمَا هُوَ حِفْظُ الْقُلُوبِ عَنْ الْمَيْلِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى وَالْبُطُونِ عَنْ الْفُضُولِ وَالْأَلْسِنَةِ عَنْ اللَّغْوِ وَالْأَعْيُنِ عَنْ النَّظَرِ إلَى مَا لَا يَعْنِيهِمْ «، وَإِذَا أَسَأْت» إلَى أَحَدٍ «فَأَحْسِنْ» فِي فَوْرِهِ - {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]- فَلَا تَتْرُكْهُ يَسْخَطْ عَلَيْك فَرُبَّمَا يَدْعُو اللَّهَ عَلَيْك فَيُجِيبُهُ «وَلَا تَسْأَلَنَّ أَحَدًا» مِنْ الْخَلْقِ «شَيْئًا» مِنْ الرِّزْقِ ارْتِقَاءً إلَى مَقَامِ التَّوَكُّلِ فَلَا تُعَلِّقْ قَلْبَك بِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ بَلْ بِوَعْدِ اللَّهِ وَحُسْنِ كِفَايَتِهِ وَضَمَانِهِ - {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]
وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ مَا سَأَلَ إنْسَانٌ النَّاسَ إلَّا لِجَهْلِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَضَعْفِ يَقِينِهِ بَلْ إيمَانِهِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ وَمَا تَعَفَّفَ مُتَعَفِّفٌ إلَّا لِوُفُورِ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَتَزَايُدِ مَعْرِفَتِهِ وَكَثْرَةِ حَيَائِهِ مِنْهُ، وَإِنْ سَقَطَ سَوْطُك كَالْعَصَا فَلَا تَطْلُبْ مِنْ إنْسَانٍ مُنَاوَلَتَهُ بَلْ يَنْزِلُ هُوَ فَيَتَنَاوَلُهُ بِيَدِهِ «وَلَا تَقْبِضَنَّ أَمَانَةً» خَوْفًا لِلْخِيَانَةِ وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ إنْ عَاجِزًا عَنْ حِفْظِهَا، وَإِنْ قَدَرَ فَنَدْبٌ بَلْ إنْ تَعَيَّنَ فَوَاجِبٌ (قش) الْقُشَيْرِيُّ.
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوْصِنِي فَقَالَ لَهُ عَلَيْك بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا» أَيْ التَّقْوَى «جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ» مِنْ
خُيُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّهَا، وَإِنْ قَلَّ لَفْظُهَا كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِحُقُوقِ الْحَقِّ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَهُ «وَعَلَيْك بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْك بِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ نُورٌ لَك فِي الْأَرْضِ وَذِكْرٌ لَك فِي السَّمَاءِ وَاخْزِنْ لِسَانَك إلَّا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّك بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ»
قَالَ الْمُنَاوِيُّ، ثُمَّ الذِّكْرُ يَقَعُ بِاللِّسَانِ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِحْضَارُ مَعْنَاهُ فَلَوْ انْضَمَّ فَأَبْلَغُ الْكَمَالِ
(مج) ابْنُ مَاجَهْ.
(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يَقُولُ مَا اسْتَفَادَ الْمَرْءُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى خَيْرًا» لَهُ «مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ» بِإِتْيَانِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الطِّيبِيِّ جَعَلَ التَّقْوَى نِصْفَيْنِ نِصْفًا تَزَوُّجًا وَنِصْفًا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ فِي التَّزَوُّجِ التَّحَصُّنَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَكَسْرَ التَّوَقَانِ وَدَفْعَ غَوَائِلِ الشَّهْوَةِ وَغَضَّ الْبَصَرِ وَحِفْظَ الْفَرْجِ «إنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا» بِصَوْنِهَا مِنْ الزِّنَا وَمُقَدِّمَاتِهِ بَيَانٌ لِخَيْرِيَّتِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْسِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو الزَّوْجُ إمَّا حَاضِرٌ فَافْتِقَارُهُ إلَيْهَا إمَّا مِنْ جِنْسِ الْخِدْمَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ فَتَكُونُ مُطِيعَةً أَوْ ذَاتَ جَمَالٍ وَدَلَالٍ فَمُسِرَّةٌ وَإِمَّا غَائِبٌ فَتَحْفَظُ مَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ مِنْ نَفْسِهَا «وَمَالِهِ» فَنَاصِحَةٌ.
عَنْ ابْنِ حَجَرٍ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ النَّسْلُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفَ دَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْمَقْصُودِ إلَّا أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَفْضَلَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ التَّقْوَى، ثُمَّ بَعْدَهَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ.
(طب) طَبَرَانِيٌّ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ «أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غُزَاةٍ أَوْ» مِنْ «سَرِيَّةٍ» قِطْعَةٌ مِنْ الْجَيْشِ يُقَالُ خَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةِ رَجُلٍ كَذَا نُقِلَ عَنْ الصِّحَاحِ «فَدَعَا فَاطِمَةَ» - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - حَتَّى جَاءَتْ «فَقَالَ يَا فَاطِمَةُ اشْتَرِي نَفْسَك مِنْ اللَّهِ تَعَالَى» أَيْ مِنْ عَذَابِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ «فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْك» لَا أَنْفَعُك «مِنْ اللَّهِ شَيْئًا» كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19]«وَقَالَ» النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِنِسْوَتِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ لِعِتْرَتِهِ» أَقَارِبِهِ
وَذُرِّيَّتِهِ «، ثُمَّ قَالَ مَا بَنُو هَاشِمٍ» وَهُمْ أَوْلَادُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَعْمَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمَّاتُهُ.
وَكَانَتْ أَعْمَامُهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَوْلَادُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ ثَالِثَ عَشْرِهِمْ وَهُمْ الْحَارِثُ وَأَبُو طَالِبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ وَالزُّبَيْرُ وَيُكَنَّى أَبَا الْحَارِثِ وَحَمْزَةَ وَأَبُو لَهَبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى وَالْغَيْدَاقُ وَالْمُقَوِّمُ وَضِرَارٌ أَوْ الْعَبَّاسُ وَقُثَمٌ وَعَبْدُ الْكَعْبَةِ وَجَحَلٌ بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ، وَهُوَ الْمُسَغَّمُ الضَّخْمُ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ، وَهُوَ الْقَيْدُ وَالْخَلْخَالُ وَيُسَمَّى الْمُغِيرَةُ وَقِيلَ كَانُوا أَحَدَ عَشَرَ فَأَسْقَطَ الْغَيْدَاقَ وَحَجْل وَقِيلَ تِسْعَةٌ فَأَسْقَطَ قَثْمًا وَعَبْدَ الْكَعْبَةِ وَعَمَّاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنَاتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ سِتٌّ: عَاتِكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَالْبَيْضَاءُ، وَهِيَ أُمُّ حَكِيمٍ وَبَرَّةُ وَصَفِيَّةُ وَأَرْوَى وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُنَّ إلَّا صَفِيَّةُ أُمُّ الزُّبَيْرِ بِلَا خِلَافٍ وَاخْتُلِفَ فِي أَرْوَى وَعَاتِكَةَ كَمَا فِي مَوَاهِبِ الْقَسْطَلَّانِيِّ لَكِنْ فِي مَصْرِفِ زَكَاةِ الْفِقْهِيَّةِ.
وَأَمَّا بَنُو أَبِي لَهَبٍ فَلَا إكْرَامَ لَهُمْ لِقَطْعِ الْقُرْآنِ عَلَاقَتَهُ «بِأَوْلَى النَّاسِ بِأُمَّتِي» أَيْ بِأُمُورِ أُمَّتِي أَوْ مِنْ أُمَّتِي مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ قَبِيلَتِي الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْقَبَائِلِ يَعْنِي لَوْ كَانَ الشَّرَفُ بِالْحَسَبِ وَالنَّسَبِ لَكَانُوا هُمْ الْأَشْرَافُ لَكِنْ لَيْسَ كَذَلِكَ «إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِأُمَّتِي الْمُتَّقُونَ» مَرَاتِبُ الْأَوْلَوِيَّةِ عَلَى مَرَاتِبِ التَّقْوَى «وَلَا قُرَيْشُ» وَأَصْلُهُ دَابَّةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ الْبَحْرِ تَمْنَعُ السُّفُنَ مِنْ السَّيْرِ فِي الْبَحْرِ وَتَدْفَعُهَا فَتُلْقِيهَا وَتَضْرِبُهَا فَتَكْسِرُهَا.
قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: هِيَ سَيِّدَةُ الدَّوَابِّ الْبَحْرِيَّةِ وَأَشَدُّهَا وَكَذَلِكَ قُرَيْشٌ سَادَاتٌ النَّاسِ كَذَا نُقِلَ عَنْ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ لِلدَّمِيرِيِّ «بِأَوْلَى النَّاسِ بِأُمَّتِي إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِأُمَّتِي الْمُتَّقُونَ» لَا يَخْفَى أَنَّ الْهَاشِمِيَّ أَشْرَفُ مِنْ قُرَيْشٍ فَبَعْدَ نَفْيِ الْأَوْلَوِيَّةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا بُدَّ لِنَفْيِ هَذِهِ مِنْ وَجْهٍ فَالْوَجْهُ إمَّا لِدَفْعِ وَهْمِ عَدَمِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ الْهَاشِمِيِّ عَلَى مَفْهُومِ اللَّقَبِ أَوْ كَانَ فِي الْمُخَاطَبِينَ قُرَشِيٌّ وَأُرِيدَ تَنْصِيصُ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ أَوْ إيذَانًا عَلَى عَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ بِحَسَبِ الْكَثْرَةِ.
وَقَدْ عُرِفَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي نُكْتَةُ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ فِي بَحْثِ الْإِطْنَابِ، وَإِنْ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ لَكِنْ قَدْ رُدَّ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْإِتْقَانِ «وَلَا الْأَنْصَارُ» أَهْلُ الْمَدِينَةِ نَصَرُوهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى جَعَلُوهُمْ مُشَارِكِينَ فِي دَارِهِمْ وَدِيَارِهِمْ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ بَلْ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ احْتِيَاجٌ هُمْ قَبِيلَتَانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَمِنْهُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ لِكَثْرَةِ سُكْنَاهُمْ فِي صُفَّةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَعْلِيمِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ يَنْقَطِعُونَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَيَتَفَرَّغُونَ لِذَلِكَ الدِّينِ نَزَلَ فِي شَأْنِهِمْ قَوْله تَعَالَى - {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]- وَرَئِيسُهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - «بِأَوْلَى النَّاسِ بِأُمَّتِي إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِأُمَّتِي الْمُتَّقُونَ» فِي الْإِضَافَاتِ تَنْبِيهَاتٌ أَنَّ الِانْتِسَابَ إلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام لَيْسَ بِالْقَرَابَةِ وَلَا بِالْخِدْمَةِ وَلَا بِالْإِحْسَانِ بَلْ بِالتَّشَرُّعِ بِشَرِيعَتِهِ وَالتَّسَنُّنِ بِسُنَّتِهِ، وَهُوَ بِكَمَالِ الِاتِّبَاعِ لَهُ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا بَلْ سِيرَةً أَيْضًا إذْ حَاصِلُ الِاتِّقَاءِ مَأْخُوذٌ مِنْهُ لَكِنْ قَالُوا لَا شَرَفَ بِالنَّسَبِ إلَّا بِنَسَبِ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - تَرَكَ الْمُهَاجِرُونَ لَعَلَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي قُرَيْشٍ وَهَاشِمٍ وَلَوْ تَغْلِيبًا، ثُمَّ أَشَارَ إلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ «إنَّمَا أَنْتُمْ» إمَّا خِطَابٌ لِجَمِيعِ مَنْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَوْ لِلْمُطْلَقِ وَالْمُتَكَلِّمُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ فَتَدَبَّرْ «مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ» آدَم وَحَوَّاءُ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَأَنْتُمْ كَجُمَامٍ» مَا يُمْلَأُ بِهِ الصَّاعُ كَالْحُبُوبِ
وَقِيلَ الْمُكَالُ بِهِ لِتَسَاوِيهِ فِي الْعَادَةِ قَدْرًا وَثَمَنًا وَفُسِّرَ بِالْكَيْلِ وَقِيلَ أَيْ أَنْتُمْ مُسْتَوُونَ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالنَّسَبُ كَاسْتِوَاءِ رَأْسِ الصَّاعِ «الصَّاعُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إلَّا بِالتَّقْوَى» فَإِنَّ الْفَضْلَ عِنْدَ اللَّهِ مُعْتَبَرٌ بِالتَّقْوَى (وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ) فَضْلِ التَّقْوَى (كَثِيرَةٌ جِدًّا) فَيَطُولُ الْكَلَامُ بِذِكْرِهَا وَلَا يَتَحَمَّلُهَا الْمَقَامُ وَمِنْهَا أَحَادِيثُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «أُوصِيَك بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ» الْحَدِيثَ وَأَيْضًا «أُوصِيَك بِتَقْوَى اللَّهِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ»
وَأَيْضًا «أَكْرَمُ النَّاسِ أَتْقَاهُمْ» .
وَفِي الْمُحَاضَرَاتِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ «قَالَ لِمُعَاذٍ أُوصِيَك بِتَقْوَى اللَّهِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ وَحِفْظِ الْجِوَارِ وَرَحِمِ الْيَتِيمِ وَلِينِ الْكَلَامِ وَبَذْلِ السَّلَامِ وَحُسْنِ الْعَمَلِ وَقَصْرِ الْأَمَلِ وَلُزُومِ الْإِيمَانِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الْقُرْآنِ» .
وَفِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ «قِيلَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ آلُ مُحَمَّدٍ قَالَ كُلُّ تَقِيٍّ نَقِيٍّ آلُ التَّقْوَى جِمَاعُ الْخَيْرَاتِ» .
وَفِي الْمِنْهَاجِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «مَا أُعْجِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا أَعْجَبَهُ أَحَدٌ إلَّا ذُو تُقًى» (الْآثَارُ) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَطَبَ النَّاس فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ وُلِّيت أَمْرَكُمْ وَلَسْت بِخَيْرِكُمْ، وَلَكِنْ قَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّنَنَ فَعَلَّمَنَا اعْلَمُوا أَنَّ أَكْيَسَ الْكَيْسِ التَّقْوَى، وَأَنَّ أَحْمَقَ الْحُمْقِ الْفُجُورُ.
وَمِنْ خُطْبَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَيُّهَا النَّاسُ اعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّ لَهَا حَبْلًا وَثِيقًا عُرْوَتُهُ وَمَعْقِلًا مَنِيعًا ذُرْوَتُهُ وَبَادِرُوا الْمَوْتَ وَغَمَرَاتِهِ وَأَمْهِدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ، وَأَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ.
وَمِنْهَا أَيْضًا: أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ فَإِنَّهُمْ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ وَالزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَانًا وَيَفْتِنُونَ افْتِنَانَا.
وَحِينَ ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجِمٍ قَالَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ لَا تَبْغِيَا الدُّنْيَا، وَإِنْ بَغَتْكُمَا وَلَا تَأْسَفَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا زَوَى عَنْكُمَا وَقُولَا بِالْحَقِّ وَاعْمَلَا لِلْآخِرَةِ وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصِيمًا وَلِلْمَظْلُومِ عَوْنًا أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي، وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: لَا مُعِينَ إلَّا اللَّهُ وَلَا دَلِيلَ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ وَلَا زَادَ إلَّا التَّقْوَى وَلَا عَمَلَ إلَّا الصَّبْرُ وَعَنْ الْكِتَّانِيِّ قُسِّمَتْ الدُّنْيَا عَلَى الْبَلْوَى وَقُسِّمَتْ الْجَنَّةُ عَلَى التَّقْوَى
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ سَمِعْت الْحَرِيرِيَّ يَقُولُ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّقْوَى وَالْمُرَاقَبَةِ لَمْ يَصِلْ إلَى الْكَشْفِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَعَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرَّيْحَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ كَانَ رَأْسُ مَالِهِ التَّقْوَى كَلَّتْ الْأَنْفُسُ عَنْ وَصْفِ رِبْحِهِ وَالْمُتَّقِي مِثْلُ أَبِي زَيْدٍ الْبِسْطَامِيِّ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ - الْعَزِيزُ اشْتَرَى مِنْ هَمَذَانَ حَبَّ الْقُرْطُمِ فَلَمَّا رَجَعَ إلَى بِسْطَامٍ رَأَى فِيهِ نَمْلَتَيْنِ فَرَجَعَ إلَى هَمَذَانَ وَوَضَعَ النَّمْلَتَيْنِ وَأَيْضًا أَنَّهُ غَسَلَ ثَوْبَهُ فَقَالَ صَاحِبُهُ نُعَلِّقُ الثَّوْبَ فِي جُدَرَانِ الْكُرُومِ فَقَالَ لَا تَضْرِبْ الْوَتَدَ فِي جِدَارِ النَّاسِ فَقَالَ نُعَلِّقُهُ فِي الشَّجَرِ فَقَالَ لَا؛ لِأَنَّهُ يَكْسِرُ الْأَغْصَانَ فَقَالَ نَبْسُطُهُ عَلَى الْأَرْضِ فَقَالَ لَا؛ لِأَنَّهُ عَلَفٌ لِلدَّوَابِّ فَوَلَّى ظَهْرَهُ إلَى الشَّمْسِ وَالْقَمِيصُ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى جَفَّ.
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ غَرَزَ عَصَاهُ فِي الْأَرْضِ فَسَقَطَتْ وَوَقَعَتْ عَلَى عَصَا شَيْخٍ بِجَنْبِهِ رَكَّزَ عَصَاهُ فِي الْأَرْضِ فَانْحَنَى الشَّيْخُ وَأَخَذَ عَصَاهُ فَمَضَى أَبُو زَيْدٍ إلَى بَيْتِ الشَّيْخِ وَاسْتَحَلَّهُ وَرُئِيَ عُتْبَةُ الْغُلَامَ يَتَصَبَّبُ عَرَقًا فِي الشِّتَاءِ فَقَالَ؛ لِأَنَّهُ مَكَانٌ عَصَيْت رَبِّي فِيهِ لِأَنِّي كَشَطْت مِنْ هَذَا الْجِدَارِ قِطْعَةَ طِينٍ فَغَسَلَ ضَيْفٌ لِي يَدَهُ بِهَا وَلَمْ أَسْتَحِلَّ صَاحِبَهُ مِنْ رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ التَّقْوَى كَنْزٌ عَزِيزٌ وَجَوْهَرٌ نَفِيسٌ وَخَيْرٌ كَثِيرٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَفَوْزٌ كَبِيرٌ وَغُنْمٌ جَسِيمٌ وَمِلْكٌ عَظِيمٌ فَجَمِيعُ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَحْتَ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْوَاحِدَةِ أَيْ التَّقْوَى وَتَأَمَّلْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِهَا مِنْ تَعْلِيقِ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ وَعَدَّ مِنْهَا اثْنَيْ عَشَرَ
أَوَّلُهَا الْمِدْحَةُ وَالثَّنَاءُ {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] .
ثَانِيهَا: الْحِفْظُ وَالْحِرَاسَةُ مِنْ الْأَعْدَاءِ {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]
ثَالِثُهَا: التَّأْيِيدُ وَالنُّصْرَةُ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا - أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 128 - 194] .
رَابِعُهَا: النَّجَاةُ مِنْ الشَّدَائِدِ وَالرِّزْقُ مِنْ الْحَلَالِ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] .
خَامِسُهَا: إصْلَاحُ الْعَمَلِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70]{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 71] .
سَادِسُهَا: غُفْرَانُ الذُّنُوبِ {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 12] .
سَابِعُهَا: مَحَبَّةُ اللَّهِ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] .
ثَامِنُهَا: الْقَبُولُ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] .
تَاسِعُهَا: الْإِكْرَامُ وَالْإِعْزَازُ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .
عَاشِرُهَا: الْبِشَارَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63]{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64] .
الْحَادِيَ عَشَرَ: النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72]{وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل: 17] .
الثَّانِيَ عَشَرَ: الْخُلُودُ