المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[المبحث الخامس في أحكام الرياء] - بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية - جـ ٢

[محمد الخادمي]

فهرس الكتاب

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي التَّقْوَى] [

- ‌النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي فَضِيلَة التَّقْوَى]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي فِي تَفْسِير التَّقْوَى]

- ‌[النَّوْعُ الثَّالِثُ الْأَعْضَاءِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا التَّقْوَى]

- ‌[الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِي مُنْكَرَاتِ الْقَلْبِ]

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْخُلُقِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي فِي الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَعَدَدهَا سِتُّونَ]

- ‌[الْأَوَّلُ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع]

- ‌[الْأَوَّلُ كُفْر جَهْلِيٌّ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي كُفْرٌ جُحُودِيٌّ وَعِنَادِيٌّ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْقَلْبِ حُبُّ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْكُفْرِ كُفْرٌ حُكْمِيٌّ]

- ‌[السَّادِسُ اعْتِقَادُ الْبِدْعَةِ]

- ‌[السَّابِع اتِّبَاعُ الْهَوَى]

- ‌[الثَّامِنُ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ وَهُوَ الِاقْتِدَاءُ بِالْغَيْرِ]

- ‌[التَّاسِعُ الرِّيَاءُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ الرِّيَاء]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي آلَةُ الرِّيَاءِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ مَا قَصَدَهُ الْمُرَائِي بِرِيَائِهِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ فِي الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ فِي أَحْكَامِ الرِّيَاءِ]

- ‌[الْأَمَلُ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ السَّادِسُ مِنْ السَّبْعَةِ فِي أُمُورٍ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ السَّابِعُ فِي عِلَاجِ الرِّيَاءِ]

- ‌[الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ الْكِبْرُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْكِبْرِ]

- ‌[الْكِبْرِ جَائِزٌ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ]

- ‌[التَّذَلُّلُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي مِنْ الْخَمْسَةِ لِلْكِبْرِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ مِنْ الْخَمْسَةِ فِي أَسْبَابِ الْكِبْرِ]

- ‌[وَالثَّانِي مِنْ الْأَسْبَابِ السَّبْعَةِ لِلْكِبْرِ الْعِبَادَةُ وَالْوَرَعُ]

- ‌[السَّبَبُ الثَّالِثُ لِلْكِبْرِ النَّسَبُ]

- ‌[وَالرَّابِعُ الْجَمَالُ مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ]

- ‌[وَالْخَامِسُ مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ الْقُوَّةُ الْبَدَنِيَّةُ وَشِدَّةُ الْبَطْشِ]

- ‌[وَالسَّادِسُ الْمَالُ وَالتَّلَذُّذُ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ]

- ‌[لَلتَّكَبُّرَ دُونَ الْكِبْرِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ أُخَرُ الْأَوَّلُ الْحِقْدُ]

- ‌[السَّبَبُ الثَّالِثُ لَلتَّكَبُّرُ الرِّيَاءُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ فِي عَلَامَاتِ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ آخِرُ مَبَاحِثِ الْكِبْرِ فِي أَسْبَابِ الضَّعَةِ]

- ‌[الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ آفَات الْقَلْب الْعُجْبُ]

- ‌[الْخُلُقُ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ السِّتِّينَ مِنْ آفَات الْقَلْب الْحَسَدُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي مِنْ الْأَرْبَعَةِ فِي غَوَائِلِ الْحَسَدِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ فِي الْعِلَاجِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ لِلْحَسَدِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ أَسْبَابُ الْحَسَدِ سِتَّةٌ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ وَمِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ التَّطَيُّرُ]

- ‌[فَرْعٌ فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ]

الفصل: ‌[المبحث الخامس في أحكام الرياء]

الْتِفَاتُهُمْ إلَيْهِ بَلْ اللَّائِقُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَسْتَفِيدَ الرَّجُلُ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَكْمَلُ مِنْهُ وَيَنْتَفِعُ مِنْ عُلُومِهِ وَنَصَائِحِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَسَيْرِهِ (نَعَمْ لَا بَأْسَ) قِيلَ كَلِمَةٌ تُقَالُ فِي نَفْيِ بَأْسِ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ فِيهِ فَهِيَ لِلْإِبَاحَةِ (بِالْغِبْطَةِ) تَمَّنِي حُصُولِ مِثْلِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ لَهُ بِلَا زَوَالٍ عَنْهُ قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ الْغَلَبَةِ أَيْضًا لِئَلَّا تَتَعَوَّدَ النَّفْسُ الْحَسَدَ وَجْهُ الْإِشَارَةِ مُسْتَفَادٌ مِمَّا يُقَالُ كَلِمَةُ لَا بَأْسَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا تَرْكُهُ أَوْلَى لَكِنْ قَدْ عَرَفْت اسْتِعْمَالَهَا لَيْسَ بِكُلِّيٍّ، وَأَنَّ أَوْلَوِيَّةَ التَّرْكِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ.

(وَمِنْهَا) أَيْ مِنْ عَلَامَاتِ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ الْمُخْتَصَّةِ (أَنَّ الْأَكَابِرَ) مِنْ نَحْوِ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ (إذَا حَضَرُوا مَجْلِسَهُ) وَعْظًا أَوْ دَرْسًا بَلْ صُحْبَةً أَيْضًا (يُغَيِّرُ كَلَامَهُ) بِالْعِبَارَاتِ الْبَلِيغَةِ وَالْأَدَاءِ الْحَسَنِ (عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ) قَبْلَ الْحُضُورِ (تَصَنُّعًا) تَكَلُّفًا فِي صُنْعِ الْكَلَامِ (وَاسْتِمَالَةً) طَلَبَ الْمَيْلِ (لِقُلُوبِهِمْ) وَأَيْضًا يَزِيدُ وَيَنْقُصُ عَلَى مَا أَرَادَهُ قَبْلُ فَهَذَا رِيَاءٌ (نَعَمْ لَوْ زَادَ) بَعْدَ حُضُورِهِمْ (مَا يَتَعَلَّقُ بِإِصْلَاحِهِمْ) مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَالْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً (بِلُطْفٍ وَرِفْقٍ) لَعَلَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى - {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]- وَنَحْوُهُ (لِيَسْتَدْرِجَهُمْ) بِذَلِكَ الرِّفْقِ (إلَى التَّوْبَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ اللِّينَةَ وَالرِّفْقَ مُوجِبَةٌ لِلْأُلْفَةِ وَالْقَبُولِ كَمَا أَنَّ الْغِلْظَةَ وَالشِّدَّةَ مُوجِبَةٌ لِلتَّفْرِقَةِ وَالْعِنَادِ وَالْغَيْرَةِ (وَالصَّلَاحُ) مِنْ سُوءِ الْحَالِ إلَى حُسْنِ الْحَالِ (لِحُسْنِ ذَلِكَ) لِعَاقِبَتِهِ الْحَمِيدَةِ مَعَ خَالِصِ النِّيَّةِ (وَلَكِنْ مَحَلُّ تَلْبِيسٍ) فَلْيَكُنْ عَلَى بَصِيرَةٍ لِقُوَّةِ خَفَائِهِ (فَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ) الْأَمْرُ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ الْحَالُ (فَلْيَنْظُرْ إلَى الْخَلْقِ) كُلِّهِمْ (بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ) فَيَسْتَوِي عِنْدَهُ الْجَمِيعُ فَلَا يُمَيِّزُ غَنِيًّا لِغِنَاهُ وَكَبِيرًا لِكِبَرِهِ بَلْ يُعَامِلُهُمَا كَالْفَقِيرِ وَالصَّغِيرِ لَكِنْ كُلُّ ذَلِكَ أُمُورٌ وِجْدَانِيَّةٌ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا صَاحِبُهَا إلَّا بِعَلَامَاتٍ ظَاهِرَةٍ وَأَدِلَّةٍ دَالَّةٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ سُوءَ ظَنٍّ بِمُسْلِمٍ بَلْ إرْشَادٌ وَنَصِيحَةٌ وَحِفْظٌ وَمُحَافَظَةٌ خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ بِالْحَمْلِ عَلَى إطْلَاقِهِ

[الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ فِي أَحْكَامِ الرِّيَاءِ]

الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ مِنْ السَّبْعَةِ فِي أَحْكَامِ الرِّيَاءِ

(الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ) مِنْ السَّبْعَةِ (فِي أَحْكَامِ الرِّيَاءِ) مَا هُوَ مَذْمُومٌ أَوْ غَيْرُ مَذْمُومٍ وَمَرْتَبَتُهُ فِي الذَّمِّ (اعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاءَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا) كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ سَابِقًا كَالشَّجَاعَةِ وَالْحَذَاقَةِ فِي نَحْوِ الْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا وُضِعَ لِعَمَلِ الدُّنْيَا (لَا يَحْرُمُ إنْ خَلَا عَنْ التَّلْبِيسِ) بِأَنْ يُظْهِرَ الشَّجَاعَةَ فِي أَمْرٍ وَلَيْسَ لَهُ شَجَاعَةٌ فِي الْوَاقِعِ فَقَوْلُهُ (وَالتَّزْوِيرُ) كَعَطْفِ التَّفْسِيرِ أَوْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِلْوَاقِعِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ هُوَ الْحُرْمَةُ عِنْدَ عَدَمِ الْخُلُوِّ عَنْ التَّلْبِيسِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ كَوْنَ إظْهَارِ نَحْوِ الشَّجَاعَةِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ شَجَاعَةٌ حَرَامًا بَعِيدٌ وَإِرَادَةُ الْكَرَاهَةِ مِنْ الْحُرْمَةِ لَا يَصِحُّ فِي هَذَا السَّوْقِ (وَلَمْ يَتَوَسَّلْ بِهِ إلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ) تَحْرِيمًا فَقَطْ وَمَنْ عَمَّمَ إلَى الْكَرَاهَةِ أَيْضًا فَقَدْ غَفَلَ عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَفْهُومُ الْمَقَامِ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَسَائِلِ تَابِعٌ لِحُكْمِ الْمَقَاصِدِ فَالْحَرَامُ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً

ص: 106

إلَى الْحَرَامِ لَا إلَى الْمَكْرُوهِ بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا (وَلَكِنْ) حِينَئِذٍ (إنْ كَانَ) هَذَا الرِّيَاءُ (لِلْحَظِّ الْعَاجِلِ) أَيْ الدُّنْيَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا} [الإنسان: 27] نَحْوُ تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ وَالْجَاهِ لِمُجَرَّدِ التَّلَذُّذِ (فَمَذْمُومٌ) مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا لِقِصَرِ هِمَّتِهِ عَلَى الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ الْفَانِيَةِ سَرِيعَةِ الزَّوَالِ، لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي كَرَاهَةَ نَفْسِ الْحَظِّ الْعَاجِلِ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّك قَدْ عَرَفْت أَنَّ حُكْمَ الْوَسَائِلِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْمَقَاصِدِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مُجَرَّدَ الدُّنْيَا إذَا خَلَا عَنْ الْمَوَانِعِ وَسَلِمَ مِنْ الْعَوَارِضِ لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا بَلْ الظَّاهِرُ إبَاحَتُهُ

وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ السَّوْقِ أَنَّ الْمُرَادَ مَا هُوَ كَذَلِكَ وَعَدَمُ إرَادَةِ الْكَرَاهَةِ مِنْ الْمَذْمُومِ يَقْتَضِي أَنْ يُوجَدَ قِسْمٌ فَوْقَ الْمُبَاحِ وَتَحْتَ الْكَرَاهَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ أَيْضًا قِيلَ هُنَا فِي إثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ قَالَ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18]- ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ فَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ، لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلَبَ هُوَ الْمَذْمُومِيَّةُ تَحْتَ الْحُرْمَةِ فَيَكُونُ هُوَ الْكَرَاهَةَ كَمَا بَيَّنَ وَاللَّازِمُ مِنْ الدَّلِيلِ هُوَ الْحُرْمَةُ بَلْ الْخُلُودُ فِيهَا وَأَيْضًا قِيلَ هُنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16] وَهُوَ أَيْضًا كَمَا تَرَى، بَلْ نَفْسُهُ هُوَ صَرَّحَ كَوْنَهُ فِي حَقِّ الْكَافِرِينَ إلَّا أَنْ يُقَالَ فِي وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ إنَّ إيثَارَ الْعَاجِلَةِ عَلَى الْآجِلَةِ إنَّمَا هُوَ حَالُ أَهْلِ النَّارِ فَفِيهِ أَيْضًا مَا عَرَفْت (وَإِلَّا) بِأَنْ كَانَ وَسِيلَةً إلَى عَمَلِ الْآخِرَةِ كَإِظْهَارِ الشَّجَاعَةِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى إمَارَةٍ يُنَفِّذُ بِهَا حُدُودَ الشَّرْعِ وَيَرْفَعُ الْبِدْعَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ (فَمُسْتَحَبٌّ لِمَا بَيَّنَّا فِي حُبِّ الرِّيَاسَةِ) مِنْ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ إلَى أَخْذِ الْحَقِّ وَتَحْصِيلِ الْمَرَامِ الْمُسْتَحَبِّ، أَوْ الْمُبَاحِ أَوْ دَفْعِ الظُّلْمِ وَالشَّوَاغِلِ وَالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ، أَوْ إلَى تَنْفِيذِ الْحَقِّ وَإِعْزَازِ الدَّيْنِ وَإِصْلَاحِ الْخَلْقِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إنْ خَلَا عَنْ الْمَحْظُورِ كَالرِّيَاءِ وَالتَّلْبِيسِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ فَجَائِزٌ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ قِيلَ: وَأَرَادَ بِالرِّيَاءِ هُنَاكَ الرِّيَاءَ الْمُتَوَسَّلَ بِهِ إلَى مَنْهِيٍّ بِقَرِينَةِ قَيْدِ الْحُضُورِ فَلَا يُنَافِي كَوْنَهُ هُنَا مُسْتَحَبًّا.

(وَأَمَّا الرِّيَاءُ فِي الْعِبَادَةِ) الَّتِي كَانَتْ مَشْرُوعِيَّتُهَا لِمُجَرَّدِ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَحْصِيلِ رِضَاهُ (فَحَرَامٌ كُلُّهُ) بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، قِيلَ: هَذَا إذَا كَانَ بَاعِثًا عَلَيْهَا (بَلْ إنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْعِبَادَةِ) قِيلَ أَيْ الْفَرَائِضِ وَقِيلَ فِي ذَوَاتِهَا لَا فِي أَوْصَافِهَا (كَمَنْ يُصَلِّي الْفَرْضَ عِنْدَ النَّاسِ وَلَا يُصَلِّي فِي الْخَلْوَةِ) لِعَدَمِ مَنْ يَرَى عَمَلَهُ (فَكُفْرٌ عِنْدَ الْبَعْضِ) لَعَلَّهُ لِتَقْدِيمِ خَوْفِ ذَمِّ الْخَلْقِ مَثَلًا عَلَى خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ تَقْدِيمِ رِضَاهُمْ عَلَى رِضَاهُ تَعَالَى وَقِيلَ: لِأَنَّهُ عِبَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْبَعْضِ لِاسْتِلْزَامِ الِاسْتِخْفَافِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - فَتَأَمَّلْ فِي الْكُلِّ.

قِيلَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فَقَالَ (قَالَ فِي التتارخانية وَفِي الْيَنَابِيعِ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ لَوْ صَلَّى رِيَاءً فَلَا أَجْرَ لَهُ وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ) قَالَ الْمُحَشِّي أَيْ وِزْرُ الرِّيَاءِ وَوِزْرُ تَرْكِ الْفَرْضِ وَلَوْ لَمْ يُصَلِّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا وِزْرُ تَرْكِ الْفَرْضِ فَيَتَضَاعَفُ وِزْرُهُ لَكِنْ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا نُقِلَ عَنْ الْخُلَاصَةِ أَنَّهُ لَا رِيَاءَ فِي الْفَرَائِضِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ هَذَا فِي حَقِّ سُقُوطِ الْوَاجِبِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ لَا رِيَاءَ فِي الْفَرَائِضِ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْوَاجِبِ وَفِي الْأَشْبَاهِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَجْرَ لَهُ وَلَا وِزْرَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكْفُرُ) لِاسْتِخْفَافِ الشَّرْعِ، وَقِيلَ: لِتَرْجِيحِ تَعْظِيمِ الْخَلْقِ عَلَى تَعْظِيمِ الْخَالِقِ وَقِيلَ: لِعِبَادَتِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَقُولُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ يَلْزَمُ كَوْنُ مُطْلَقِ الرِّيَاءِ كُفْرًا وَالْحَمْلُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ بَعِيدٌ كَالْحَمْلِ عَلَى الْكُفْرِ الْحُكْمِيِّ لِعَدَمِ حُسْنِ الْمُقَابَلَةِ حِينَئِذٍ (انْتَهَى) كَلَامُ التتارخانية أَقُولُ لَعَلَّ وَجْهَ إكْفَارِ مَنْ كَفَرَ نَحْوُ حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ أَلَا أَنِّي لَسْت أَقُولُ تَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنَّ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَشَهْوَةً خَفِيَّةً» .

قَالَ الْمُنَاوِيُّ سُئِلَ

ص: 107

الْحَسَنُ عَنْ الرِّيَاءِ أَهُوَ شِرْكٌ قَالَ نَعَمْ أَمَا تَقْرَأُ - {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]- وَقَالَ الْعَارِفُ الْجُنَيْدُ: الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ مَالِكٌ وَاَلَّذِي يَمْلِكُهُ هَوَاهُ مَمْلُوكٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ الْغَالِبُ عَلَى قَلْبِهِ رَبُّهُ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّات أَنَّ حَكِيمًا صَنَّفَ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ كِتَابًا فِي الْحِكْمَةِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَبِيِّهِمْ قُلْ لَهُ: قَدْ مَلَأْتَ الْأَرْضَ نِفَاقًا وَلَمْ تُرِدْنِي بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ شَيْئًا فَنَدِمَ وَتَرَكَ وَخَالَطَ الْعَامَّةَ وَتَوَاضَعَ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ قُلْ لَهُ الْآنَ: قَدْ وَافَقْتَ رِضَايَ، انْتَهَى.

وَأَيْضًا حَدِيثُ «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا جَاءَ الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدِّينِ» وَفِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ «، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ إنَّ هَذَا لَمْ يُرِدْنِي بِعَمَلِهِ فَاجْعَلُوهُ فِي سِجِّينٍ» (وَ) أَيْضًا (مِمَّنْ قَالَ بِكُفْرِهِ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رحمه الله ذَكَرَهُ فِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ فَأَغْلَظَ فِيهِ) أَيْ شَدَّدَ فِي هَذَا الرِّيَاءِ (حَيْثُ جَعَلَهُ مُنَافِقًا تَامًّا) كَامِلًا {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] فِي نِفَاقِهِ (مَعَ آلِ فِرْعَوْنَ) الْمُرَادُ إمَّا نَفْسُهُ أَوْ دَاخِلٌ هُوَ فِيهِ لَا كَمَا وَهِمَ بَعْضٌ مِنْ أَنَّ نَفْسَ فِرْعَوْنَ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ (وَهَامَانُ) وَزِيرُ فِرْعَوْنَ وَهُوَ فِرْعَوْنُ مُوسَى، فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: وَالْفَرَاعِنَةُ ثَلَاثَةٌ فِرْعَوْنُ الْخَلِيلِ وَاسْمُهُ سِنَانٌ وَفِرْعَوْنُ يُوسُفَ وَاسْمُهُ الرَّيَّانُ وَفِرْعَوْنُ مُوسَى وَاسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ وَهَذَا فِي أَصْلِ الْعِبَادَةِ لِمَا ذَكَرُوا.

وَأَمَّا فِي النَّفْلِ فَلَا يَكْفُرُ بَلْ لَا أَجْرَ لَهُ وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ كَمَا فِي تَتِمَّةِ الْفَتَاوَى مَنْ تَرَكَ فَرْضًا تَهَاوُنًا كَفَرَ، بَعْدَ قَوْلِهِ: مَنْ سَجَدَ أَوْ صَلَّى رِيَاءً كَفَرَ فَإِنَّهُ إنْ تَرَكَ فَرْضًا تَهَاوُنًا كَفَرَ.

(وَكَوْنُ غَرَضِهِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ الْآتِي لَا يُفِيدُ أَيْ غَرَضُ الْمُرَائِي (مِنْهُ) أَيْ مِنْ الرِّيَاءِ (الطَّاعَةَ كَصِيَانَةِ النَّاسِ عَنْ الْغِيبَةِ) فِي الرِّيَاءِ بِتَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ وَنَحْوِهِ فِي الْمَلَأِ وَبِعَدَمِ الصَّلَاةِ بِحُضُورِهِمْ (وَتَحْصِيلَ الْعِلْمِ النَّافِعِ) فِي رِيَاءِ الْمُتَعَلِّمِ فَإِنَّ الْمُتَعَلِّمَ يُرَائِي بِطَاعَتِهِ لِيَنَالَ عِنْدَ الْمُعَلِّمِ رُتْبَةً فَيَتَعَلَّمَ مِنْهُ عِلْمًا نَافِعًا (وَ) تَحْصِيلَ (بِرِّ الْوَالِدَيْنِ) بِطَاعَتِهِمَا وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا وَطَلَبِ رِضَاهُمَا فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ فَيَأْتِي الْعِبَادَةَ لِمُجَرَّدِ بِرِّهِمَا (وَ) تَحْصِيلَ (الْمَالِ عُدَّةً لِلْعِبَادَةِ وَقُوَّةً عَلَيْهَا وَتَفَرُّغًا لَهَا) مِنْ أَشْغَالِ الدُّنْيَا (وَدَفْعًا لِمَانِعِهَا) مِنْ طَلَبِ قِوَامِ الْبَدَنِ لِأَنَّ شَغْلَ

ص: 108

الْقَلْبِ بِالْمَعَاشِ يَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِعَاشِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لَوْ احْتَجْت بَصَلَةً مَا فَهِمْت مَسْأَلَةً (وَ) تَحْصِيلَ (الْجَاهِ) أَيْ رِفْعَةِ الشَّأْنِ وَالْقَدْرِ وَمَزِيَّةِ الشَّرَفِ بِالْمَنَاصِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ (كَذَلِكَ) أَيْ لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ إلَى عَمَلِ الْبِرِّ أَوْ كَانَ الرِّيَاءُ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ عُدَّةً لِلْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا.

(فَبَعْدَ تَسْلِيمِ صِدْقِهِ) أَيْ الْمُرَائِي فِي تِلْكَ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ رَاءَى لَهَا (لَا يُفِيدُ) فِي دَفْعِ الْحُرْمَةِ (وَلَا يَجْعَلُهُ) الرِّيَاءُ بِالْعِبَادَةِ (حَلَالًا) لِامْتِنَاعِ الِانْقِلَابِ وَلِعَدَمِ وُجُودِ رَافِعِ الْحُرْمَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ غَرَضَهُ الْمَذْكُورَ (تَلْبِيسٌ وَكَذِبٌ) عِنْدَ اللَّهِ (فِعْلِيٌّ) مَنْسُوبٌ إلَى الْفِعْلِ لِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ لَا كَذِبٌ قَوْلِيٌّ (وَصُورَةُ اسْتِهَانَةٍ) تَهَاوُنٍ (وَاسْتِهْزَاءٍ) سُخْرِيَةٍ لِأَنَّهُ عَبْدٌ (لِلَّهِ تَعَالَى) فِي الظَّاهِرِ وَلِغَيْرِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ غَايَتُهَا مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى رِضَا الْمَعْبُودِ؛ وَلِذَا قَالَ فِي صُورَةِ اسْتِهَانَةٍ وَاسْتِهْزَاءٍ أَوْ لِأَنَّهُ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ ثُمَّ صَرَفَ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ فِيهِ صُورَةُ الْمُسْتَهْزِئِ لَا حَقِيقَتُهُ إذْ حَقِيقَتُهُ كُفْرٌ (بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ قَصْدُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَلَبِهِ بِهَا الْمَالَ وَالْجَاهَ الْمَذْكُورَيْنِ) اللَّذَيْنِ يَسْتَعِينُ بِهِمَا عَلَى الْعِبَادَةِ يَعْنِي يَطْلُبُ بِالْعِبَادَةِ الْمَالَ لِيَكُونَ عُدَّةً لِلْعِبَادَةِ وَالْجَاهَ لِيَكُونَ سَبَبًا لَهَا وَلِدَفْعِ الظُّلْمِ وَالشَّوَاغِلِ وَالتَّفَرُّغِ لَهَا (ابْتِدَاءً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) بِدُونِ قَصْدِ غَيْرِهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ الْعَمَلِ وَإِحْدَاثِهِ، فَلَا يَضُرُّ مَا فِي مُجَرَّدِ الْإِظْهَارِ.

(وَلَمْ يُرِدْ) بِذَلِكَ (إرَاءَةَ النَّاسِ وَإِسْمَاعَهُمْ) مِنْ السُّمْعَةِ (فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَا رِيَاءٌ كَمَا سَبَقَ) فِيمَنْ أَرَادَ إرَاءَةَ النَّاسِ أَوْ غَرَضُهُ صِيَانَةُ النَّاسِ (لِأَنَّهُ) أَيْ قَصْدَ عِبَادَتِهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً (لَيْسَ فِيهِ تَلْبِيسٌ وَلَا صُورَةُ اسْتِهَانَةٍ) لِكَوْنِهِ مُخْلِصًا إذْ كُلُّ مَا فِيهِ مَخْلُوطِيَّةٌ وَتَلْبِيسٌ فَلَيْسَ بِخَالِصٍ فَلَا يَكُونُ إخْلَاصًا كَمَنْ يَصُومُ لِلَّهِ وَيُرِيدُ خِفَّةَ مُؤْنَةِ طَبْخِ الطَّعَامِ وَشِرَائِهِ وَيَعْتِقُ لِلتَّبَرِّي مِنْ نَفَقَةِ الْعَبْدِ أَوْ لِسُوءِ خُلُقِهِ وَيَحُجُّ لِتَصْحِيحِ بَدَنِهِ بِالسَّفَرِ أَوْ لِهَرَبِ الْعَدُوِّ أَوْ لِتَفَرُّجِ الْبُلْدَانِ أَوْ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ لِتَسْهِيلِ الْمَعَاشِ، أَوْ لِلْمُحَارَسَةِ مِنْ الظَّلَمَةِ، أَوْ يَكْتُبُ مُصْحَفًا لِيُجَوِّدَ خَطَّهُ، أَوْ يَحُجُّ مَاشِيًا لِتَخْفِيفِ مُؤْنَةِ الْكِرَاءِ أَوْ يَتَوَضَّأُ لِلنَّظَافَةِ أَوْ التَّبَرُّدِ أَوْ يَغْتَسِلُ لِتَطْيِيبِ رَائِحَتِهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ إبْرَامِ السَّائِلِ أَوْ يَعُودُ مَرِيضًا لِيُعَادَ إذَا مَرِضَ فَإِذَا خَطَرَ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَيَذْهَبُ الْإِخْلَاصُ وَلِصُعُوبَةِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إخْلَاصُ سَاعَةٍ نَجَاةُ الْأَبَدِ وَتَوَقَّفَ أَكْثَرُ السَّلَفِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْخَيْرَاتِ حَتَّى امْتَنَعَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جِنَازَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالَ: لَيْسَ ظَفْرٌ فِي النِّيَّةِ.

(نَعَمْ لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْهُمَا) مِنْ الْمَالِ وَالْجَاهِ (الْحَظَّ الْعَاجِلَ) حَظَّ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ وَمُيُولَاتِهَا بِدُونِ قَصْدِ الْعِبَادَةِ (فَرِيَاءٌ) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ فِي ذَيْلِ قَوْلِهِ آنِفًا وَكَوْنُ غَرَضِهِ مِنْهُ الطَّاعَةَ (لَا يَحِلُّ) قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي وَإِنْ أَرَادَ مِنْ الْخَالِقِ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُرَادًا مِنْ الْخَالِقِ لَا يُفِيدُ إذَا لَمْ يَتَوَسَّلْ إلَى عَمَلِ الْآخِرَةِ كَمَا مَرَّ (لِأَنَّهُ جَعَلَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى آلَةً وَشَبَكَةً) صَيْدًا (لِلدُّنْيَا) لِأَنَّهُ جَعَلَ عِبَادَتَهُ لِنَفْعِ الدُّنْيَا فَقَطْ (وَقَدْ وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْعِ الْآخِرَةِ) فَقَطْ فَقَلَبَ الْمَشْرُوعَ وَعَكَسَ الْمَوْضُوعَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَفِيهِ قَلْبُ الْمَوْضُوعِ فَلَا يُفِيدُهُ) فِي انْتِفَاءِ الرِّيَاءِ (كَوْنُ إرَادَتِهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ الْخَلْقِ) لِأَنَّ هَذَا الْغَرَضَ الدُّنْيَوِيَّ يُنَافِيهِ فَإِنْ قِيلَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى تَخْرِيجِ الْبَيْهَقِيّ، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا»

وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ هَذَا مِنْ الطِّبِّ الْإِلَهِيِّ وَإِنَّهَا تَنْفَعُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ وَإِزَالَةِ الْمَرَضِ وَلِذَا كَانَ

ص: 109

عَادَةُ الْمَشَايِخِ قِرَاءَتُهَا فِي أَيَّامِ الْعُسْرِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إرَادَةُ مَتَاعِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ قُلْنَا أَجَابَ عَنْهُ الْغَزَالِيِّ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ وَحَكَى عَنْهُ الْمُصَنِّفُ فِي إنْقَاذِ الْهَالِكِينَ وَالْمُنَاوِيُّ أَيْضًا فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنْ يُرْزَقَ الْقَنَاعَةَ أَوْ الْقُوَّةَ عَلَى عِبَادَتِهِ وَعَلَى دَرْسِ الْعِلْمِ وَهَذِهِ مِنْ إرَادَةِ الْخَيْرِ لَا الدُّنْيَا لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ حِينَ عُوتِبَ فِي أَمْرِ وَلَدِهِ إذْ لَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ دُنْيَا: خَلَّفْتُ لَهُمْ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ، وَلِذَا كَانَ يَأْمُرُ ابْنُ مَسْعُودٍ بَنَاتِهِ بِقِرَاءَتِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ، وَحَمْلُ ذَلِكَ عَلَى ذَيْنِك الْقَنَاعَةِ وَالْقُوَّةِ أَيْضًا كَمَا فِي الْمِنْهَاجِ بَعِيدٌ وَقَدْ قَالَ أَيْضًا: وَقِرَاءَةُ هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ الشِّدَّةِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَرَدَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ الْمَأْثُورَةُ وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ مُمْكِنٍ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعِنْدَنَا أَيْضًا النُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا إنْ لَمْ يَصْرِفْهَا قَطْعِيٌّ وَأَيْضًا لَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ

وَقَدْ قُرِّرَ أَيْضًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْمَقْرُونَ بِشَرَائِطِ الرِّوَايَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَقَدْ عَرَفْت سَابِقًا مَشْرُوعِيَّةَ نَحْوِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَالْغَزَالِيُّ نَفْسُهُ صَرَّحَ بِالْخَوَاصِّ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَذْكَارِ الرَّبَّانِيَّةِ لِلْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَعَلَّ الْحَقَّ عَدَمُ الْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ وَجَوَازُ جِنْسِ ذَلِكَ مُطْلَقًا إنْ أَرَادَ بِالرِّزْقِ عُدَّةَ ذُخْرِ الْآخِرَةِ وَإِلَّا فَمَنْعُهُ، غَايَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ عَدَمُ الْجَوَازِ وَمَوْرِدُ النَّصِّ مَقْصُورٌ عَلَى مَوْرِدِهِ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِيمَا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ هَذَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ لَا يَكُونُ إرَادَةَ مَتَاعِ الدُّنْيَا بَلْ إرَادَةَ مَتَاعِ الْآخِرَةِ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَافْهَمْ كَيْفَ وَالْمُصَنِّفُ نَفْسُهُ مَعَ تَعْوِيلِهِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْغَزَالِيِّ بِأَنَّ اشْتِغَالَ الْآيَاتِ وَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ لِحِفْظِ نَفْسِهِ أَوْ لِوَاحِدٍ مِنْ أَصْدِقَائِهِ مِنْ الْآفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوْ لِقَهْرِ الْعَدُوِّ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ الْحِفْظِ وَالْقَهْرِ التَّفَرُّغَ لِلْعِبَادَةِ وَالتَّمَكُّنَ مِنْ تَأْيِيدِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالرَّدَّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَنَشْرَ الْعِلْمِ وَحَضَّ النَّاسِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذِهِ كُلُّهَا إرَادَاتٌ مَحْمُودَةٌ لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي بَابِ الرِّيَاءِ؛ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْهَا أَمْرُ الْآخِرَةِ بِالْحَقِيقَةِ، انْتَهَى.

(قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ} [الشورى: 20] بِعَمَلِهِ {حَرْثَ الدُّنْيَا} [الشورى: 20] فِي الْقَامُوسِ الْحَرْثُ كَسْبُ الْمَالِ وَجَمْعُهُ وَفُسِّرَ أَيْضًا بِالنَّفْعِ {نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20] أَيْ مِنْ بَعْضِ الدُّنْيَا فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يُؤْتِيهِ جَمِيعَ مُرَادِهِ {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] لِاسْتِعْجَالِهِ نَصِيبَهُ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِرَادَةَ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِكَوْنِهَا مِنْ الْمَخْلُوقِ فَعُلِمَ أَنَّ إرَادَةَ نَفْعِ الدُّنْيَا مِنْ الْخَالِقِ وَغَيْرِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَلَيْسَ لِمَنْ يُرِيدُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى - {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسراء: 18]- الْآيَةَ. كَمَا قِيلَ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ إرَادَةُ حَرْثِ الدُّنْيَا ابْتِدَاءً وَبِالذَّاتِ لَا بِالْعَمَلِ سِيَّمَا عَمَلُ الْآخِرَةِ فَالتَّقْرِيبُ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ، نَعَمْ، قَالُوا: الْحُرُمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ لَكِنْ الْمَطْلُوبُ هُنَا قَطْعِيٌّ وَمِثْلُهُ خِطَابِيٌّ إلَّا أَنْ يُدَّعَى ثُبُوتُ هَذَا الْمَعْنَى لِهَذِهِ الْآيَةِ بِالرِّوَايَةِ لَا بِالدِّرَايَةِ أَوْ بِدِرَايَةِ الْمُجْتَهِدِ وَالْمَقَامُ اجْتِهَادِيٌّ فَاعْرِفْ وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ «أَنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» حِينَ رَقَى بَعْضُ الْمُسَافِرِينَ عَلَى لَدِيغٍ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَبَرِئَ فَأَعْطَوْهُ شَيْئًا فَكَرِهَهُ أَصْحَابُهُ قَائِلِينَ أَخَذْتَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَجْرًا فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ سَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ فَجَوَابُهُ عَلَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ جَوَازُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ فِي الرُّقْيَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَغَيْرُهُ عَلَيْهِ لَا يُقَاسُ وَحَمَلَ بَعْضٌ الْأَجْرَ عَلَى الثَّوَابِ وَادَّعَى بَعْضٌ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا بِأَحَادِيثَ فِي مَنْعِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَوْ يُقَدَّرُ مُضَافٌ أَيْ رُقْيَةُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ سَبَبِ الْوُرُودِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا أَقُولُ: الْحَمْلُ عَلَى الثَّوَابِ اسْتَبْعَدَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَةِ سِيَاقِ الْحَدِيثِ وَتَوْبِيخِهِمْ أَخَذْت عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَجْرًا وَفِيهِ أَيْضًا الرُّقْيَةُ بِالْقُرْآنِ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ مَحْضَةٍ فَجَازَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا فَعَلَى هَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَوْلِ بِحَدِيثٍ خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَفِيهِ أَيْضًا الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ حَقَّ الضَّيْفِ وَاجِبٌ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْمِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ فِيهِ وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ مِنْ وَضْعِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدْ نُقِلَ الرَّدُّ وَالتَّشْنِيعُ عَنْ السُّيُوطِيّ وَأَمَّا رَدُّهُ بِسَنَدٍ غَيْرِ سَنَدِ الْبُخَارِيِّ، وَالْمَوْضُوعُ هُوَ ذَلِكَ

ص: 110

السَّنَدُ لَا سَنَدُ الْبُخَارِيِّ.

(وَأَمَّا تَأْثِيرُهُ) أَيْ الرِّيَاءِ (فِي الطَّاعَةِ) بِإِبْطَالِهَا وَنَقْصِ أَجْرِهَا (فَالْمَغْلُوبُ) بِأَنْ يَكُونَ جَانِبُ الْخُلُوصِ غَالِبًا عَلَى جَانِبِ الرِّيَاءِ فِي رِيَاءِ التَّخْلِيطِ (يُنْقِصُ أَجْرَهَا) أَيْ أَجْرَ الْعِبَادَةِ (وَلَا يُبْطِلُهَا) حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْقَضَاءُ فِي الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ - تَعَالَى - «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ فَمَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَإِنِّي مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ» عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَالْبَيْهَقِيِّ فَالْمُتَبَادَرُ مِنْ إطْلَاقِ الشَّرِكَةِ هُوَ التَّسَاوِي عُرْفًا وَشَرْعًا عَلَى مَا حَكَى الْمُصَنِّفُ عَنْ الْغَزَالِيِّ، وَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا فِيهِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ مِنْ رِيَاءٍ» . فَعَدَمُ الْقَبُولِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْجَوَازِ وَلَا عَدَمَ الثَّوَابِ أَصْلًا عَلَى مَا أَجَابَ بِهِ الْمُصَنِّفُ نَفْسُهُ، لَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْقَبُولِ هُوَ الْقَبُولُ الْكَامِلُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِنُقْصَانِ الْأَجْرِ، فَجَوَابُ الْمُصَنِّفِ مُحْتَاجٌ إلَى التَّأَمُّلِ بِمَا ذُكِرَ هُنَا؛ إذْ نُقْصَانُ الْأَجْرِ مُنَافٍ لِعَدَمِ الثَّوَابِ أَصْلًا (وَالْمُسَاوِي) لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا يَكُونُ شَامِلًا لِمَا يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا بِالْبَعْثِ عَلَى الْعَمَلِ وَلِمَا يَكُونُ مَجْمُوعُهُمَا بَاعِثًا عَلَيْهِ (وَالْغَالِبُ وَالْمَحْضُ يُبْطِلُهَا) أَيْ الطَّاعَةَ، قِيلَ: فَيَجِبُ إعَادَتُهَا، وَقِيلَ: قَضَاؤُهَا، لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ حَكَى عَنْ الْغَزَالِيِّ التَّرَدُّدَ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ الْمُسَاوِي لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَاخْتَارَ هُوَ نَفْسُهُ كَوْنَهُ مُسْقِطًا لِلْوَاجِبِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ أَقُولُ: هُوَ إمَّا بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ لِكَوْنِ تَوَارُدِ الْعِلَّتَيْنِ الْمُسْتَقِلَّتَيْنِ أَوْ النِّيَّةُ لَيْسَتْ بِمُسْتَقِلَّةٍ فِي الْوُجُودِ، وَإِنْ شِئْت تَقُولُ: إنَّ النِّيَّةَ مُسْتَقِلَّةٌ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَإِنْ فِي الْجُمْلَةِ فَفِي الْغَالِبِ سِيَّمَا الصُّورَةُ الْأُخْرَى لِلْمُسَاوِي أَيْضًا فَافْهَمْ (لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِيهَا) أَيْ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، يَشْكُلُ أَيْضًا إنْ أُرِيدَ النِّيَّةُ الْخَالِصَةُ الْمُسْتَقِلَّةُ فَالْمَغْلُوبُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَإِنْ فِي الْجُمْلَةِ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ فِي الْمُسَاوِي وَالْغَالِبُ إنْ سُلِّمَ فِي الْمَحْضِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي النِّيَّةِ كَوْنُهَا بَاعِثَةً وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ فِي الْمَغْلُوبِ بَاعِثَةٌ وَفِي الْمُسَاوِي لَيْسَتْ بِبَاعِثَةٍ وَجُزْءُ الْبَاعِثِ لَيْسَ بِبَاعِثٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَا يَذْهَبُ عَلَيْك وَأَنَّهُ جَارٍ فِي الْمَغْلُوبِ.

(وَهِيَ) أَيْ النِّيَّةُ (شَرْطٌ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عِبَادَةٌ) بَدَنِيَّةٌ أَوْ مَالِيَّةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ، يَشْكُلُ بِمَا فِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الْعَيْنِيِّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التِّلَاوَةَ وَالْأَذْكَارَ وَالْأَذَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَأَمَّا الْوُضُوءُ بِلَا نِيَّةٍ فَقِيلَ: لَيْسَ بِعِبَادَةٍ وَأَمَّا صِحَّةُ الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّازِمَ فِي الشُّرُوطِ مُجَرَّدُ وُجُودِهَا كَالْغُسْلِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ. وَفِي الْأَشْبَاهِ الْوُضُوءُ الْغَيْرُ الْمَنْوِيِّ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ لَكِنَّهُ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَخْطَأَ وَخَالَفَ السُّنَّةَ وَلَا يُثَابُ لِعَدَمِ إقَامَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ الْعِبَادَةِ مَا هُوَ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ وَأَمَّا الْوَسَائِلُ كَالْوُضُوءِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ لِصِحَّةِ الْعِبَادَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الثَّوَابِ شَرْطًا (لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ» الْعَمَلُ هُوَ حَرَكَةُ الْبَدَنِ فَيَشْمَلُ الْقَوْلَ وَقَدْ يُتَجَوَّزُ عَنْ حَرَكَةِ النَّفْسِ فَيَشْمَلُ نَحْوَ النِّيَّةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا عَمَلُ الْجَوَارِحِ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ أَيْ الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَادِيَّ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى نِيَّةٍ «بِالنِّيَّاتِ» النِّيَّةُ هِيَ الْقَصْدُ وَهِيَ عَزِيمَةُ الْقَلْبِ وَرَدَّ الْكَرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَزِيمَةً لِلْقَلْبِ لِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْقَصْدُ مَا نَجِدُهُ مِنْ أَنْفُسِنَا حَالَ الْإِيجَادِ، وَالْعَزْمُ: قَدْ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَيَقْبَلُ الشِّدَّةَ وَالضَّعْفَ فَفَرَّقُوا بِجِهَتَيْنِ فَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِهِ وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هِيَ انْبِعَاثُ الْقَلْبِ نَحْوَ مَا يَرَاهُ مُوَافِقًا لِغَرَضٍ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ، وَالشَّرْعُ خُصَّ بِالْإِرَادَةِ وَالتَّوَجُّهِ نَحْوَ الْفِعْلِ ابْتِغَاءً لِوَجْهِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَامْتِثَالًا لِحُكْمِهِ، كَذَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ شَارِحُ الْحَمَوِيِّ لِلْأَشْبَاهِ بِعَدَمِ صِدْقِهِ عَلَى الْمَنْهِيِّ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ عِقَابٌ، فَقَالَ: فَالصَّوَابُ هِيَ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ نَحْوَ إيجَادِ فِعْلٍ أَوْ تَرْكِهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْفِعْلِ مَا يَعُمُّ الْإِتْيَانَ وَالتَّرْكَ فَإِنْ قِيلَ قَدْ كَثُرَ وُجُودُ الْأَعْمَالِ بِدُونِ نِيَّةٍ قُلْنَا: نَعَمْ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا الْحَدِيثَ مِنْ قَبِيلِ الدَّلَالَةِ فِيهِ بِاقْتِضَاءِ النَّصِّ وَالْمُقْتَضِي هُوَ اللَّازِمُ الْمُتَقَدِّمُ الَّذِي اقْتَضَى النَّصُّ تَقْرِيرَهُ لِتَوَقُّفِ صِدْقِ الْمَنْطُوقِ عَلَيْهِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا وَأَمَّا عِنْدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فَمِنْ بَابِ الْمُضْمَرِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ عِنْدَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَنْطُوقُ شَرْعًا فَقَطْ، وَالْمُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ هُنَا صِدْقُ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ عَقْلِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ كَمُضْمَرٍ لَا مُقْتَضًى، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ ثَابِتٌ

ص: 111

شَرْعًا وَالْمُضْمَرُ لُغَةً أَوْ الْمُقْتَضِي لَا عُمُومَ لَهُ وَالْمُضْمَرُ لَهُ عُمُومٌ. فَمَعْنَى الْحَدِيثِ حُكْمُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ أَوْ صِحَّةُ الْأَعْمَالِ كَمَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ وَنُقِلَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَيْ كَمَالُ الْأَعْمَالِ لِحَدِيثِ عَدَمِ شَرْطِيَّةِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَهُمْ، وَأَوْرَدَ مَقَالًا لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ ثُمَّ قَالَ وَإِنَّمَا لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي إزَالَةِ الْخُبْثِ لِكَوْنِهِ مِنْ قَبِيلِ التُّرُوكِ كَالزِّنَا مِنْ حَيْثُ إسْقَاطُ الْعِقَابِ لَا يَحْتَاجُهَا وَمِنْ حَيْثُ تَحْصِيلُ الثَّوَابِ يَحْتَاجُهَا كَإِزَالَةِ النَّجَسِ لَا يَحْتَاجُ تَطْهِيرًا وَتَحْتَاجُ ثَوَابًا عَلَى امْتِثَالِ الشَّارِعِ لَعَلَّ هَذَا رَاجِعٌ إلَى مَا يُقَالُ إنَّ تَرْكَ الْمَنَاهِي إنْ بَعْدَ التَّشَهِّي فَمُثَابٌ وَإِلَّا فَلَا.

قَالَ الْحَمَوِيُّ فِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ عَنْ الْمُسْتَصْفَى مَا حَاصِلُهُ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ قَبِيلِ ظَنِّيِّ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ وَهُوَ يُفِيدُ السُّنِّيَّةَ وَالِاسْتِحْبَابَ لَا الْوُجُوبَ وَالِافْتِرَاضَ، وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ مَعَ تَصْرِيحِهِ فِي الْأُصُولِ مِمَّنْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى شَرْطِيَّةِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ أَقُولُ: فَاسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ حِينَئِذٍ مُشْكِلٌ فَتَأَمَّلْ وَأَقُولُ: أَيْضًا النِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ إيمَانِ الْمُكْرَهِ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا عَلَى الْأَصَحِّ وَقِيلَ: حَرْبِيًّا فَقَطْ وَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ، فَيَكُونُ عَامًّا خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ فَلَا يَكُونُ الْبَاقِي حُجَّةً قَطْعِيَّةً عَلَى الْمُخْتَارِ أَقُولُ: قَدْ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الْخَبَرِ الْمُؤَيَّدِ بِالنَّصِّ، فَالشَّرْطِيَّةُ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِآيَةِ - {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [البينة: 5]- «وَلِكُلِّ امْرِئٍ» أَيْ إنْسَانٍ وَلَا جَمْعَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ «مَا نَوَى» مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَحَظُّ الْعَامِلِ مَا نَوَاهُ لَا صُورَتُهُ يَعْنِي اعْتِبَارُ الْأَعْمَالِ عَلَى حَسَبِ النِّيَّةِ فَإِنْ كَانَ خَالِصًا فَلِلَّهِ وَإِنْ لِلدُّنْيَا فَلَهَا وَإِنْ لِنَظَرِ الْخَلْقِ فَلِذَلِكَ، فَمَنْ فَعَلَ غَافِلًا أَوْ نَائِمًا فَمُهْمَلٌ نَحْوُ أَفْعَالِ الْجَمَادِ وَمَنْ أَتَى بِطَاعَةٍ رِيَاءً وَسُمْعَةً أَوْ طَمْعَ عَطَاءٍ دُنْيَوِيٍّ، أَوْ تَوَقُّعَ ثَنَاءٍ عَاجِلٍ أَوْ تَخَلُّصًا مِنْ ذَمِّ النَّاسِ فَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْقَاضِي وَهَاتَانِ قَاعِدَتَانِ عَظِيمَتَانِ: الْأُولَى تَضَمَّنَتْ أَنَّ الْعَمَلَ الِاخْتِيَارِيَّ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَالثَّانِيَةُ تَضَمَّنَتْ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِحَسَبِ الْمَنْوِيِّ، وَقِيلَ: الثَّانِيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ نَوَى شَيْئًا يَحْصُلُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ لِمَانِعٍ كَمَرِيضٍ تَخَلَّفَ عَنْ الْجَمَاعَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي الْإِخْلَاصِ وَمِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي لَا يَخْرُجُ عَنْهَا عَمَلٌ أَصْلًا وَلِهَذَا تَوَاتَرَ النَّقْلُ عَنْ الْأَعْلَامِ بِعُمُومِ نَفْعِهِ وَعِظَمِ وَقْعِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» قِيلَ: مِنْ وُجُوهِهِ الْعَمَلُ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ شَوَائِبَ كَالرِّيَاءِ وَأَمَّا النِّيَّةُ فَلَا تَتَكَدَّرُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ الدَّيْلَمِيِّ «الْحَسَنَةُ تُدْخِلُ صَاحِبَهَا الْجَنَّةَ وَالْخُلُقُ الْحَسَنُ يُدْخِلُ صَاحِبَهُ الْجَنَّةَ، وَالْجِوَارُ الْحَسَنُ يُدْخِلُ صَاحِبَهُ الْجَنَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ رَجُلَ سُوءٍ قَالَ: نَعَمْ عَلَى رَغْمِ أَنْفِك» . قِيلَ: هُنَا النِّيَّةُ نَوْعَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْبُودِ وَيَتَضَمَّنُ إفْرَادَ الْمَعْبُودِ فَيَشْمَلُ نَفْيَ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ نِيَّةُ الْإِخْلَاصِ وَبِهَا أُمِرَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادِ فَهُوَ تَمْيِيزُ الْعِبَادَةِ مِنْ الْعَادَةِ وَمَرَاتِبِ الْعِبَادَةِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَقْرُبُ أَيْضًا حَدِيثُ الْجَامِعِ «النِّيَّةُ الصَّادِقَةُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ فَإِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ نِيَّتَهُ تَحَرَّكَ الْعَرْشُ فَيُغْفَرُ لَهُ» قِيلَ فِي شَرْحِهِ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ عَامِلٍ أَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ لَا سِيَّمَا الْعِلْمُ فَلَا يُرِيدُ بِهِ كَمَالًا دُنْيَوِيًّا أَوْ جَاهًا أَوْ شُهْرَةً أَوْ سُمْعَةً عَنْ السَّمْهُودِيِّ إنَّهُ كُلَّمَا خَرَجَ إلَى الدَّرْسِ يَقِفُ بِدِهْلِيزِهِ حَتَّى يُحَصِّلَ النِّيَّةَ وَيُصَحِّحَهَا ثُمَّ يَحْضُرَ قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي شَرْحِ الْحِصْنِ عَنْ ابْنِ أَبِي جَمْرَةَ: تَرْتِيبُ الْوَارِدِ عَلَى الْقَلْبِ مَرَاتِبُ: الْهِمَّةُ ثُمَّ اللَّمَّةُ ثُمَّ الْخَطْرَةُ ثُمَّ النِّيَّةُ ثُمَّ الْإِرَادَةُ ثُمَّ الْعَزِيمَةُ، فَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا بِخِلَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُخَرِ. وَقَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: وَأَمَّا حَدِيثُ النَّفْسِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَوْ يَعْمَلْ بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَحَاصِلُ مَا قَالُوهُ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ قَصْدِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى خَمْسٍ الْهَاجِسُ هُوَ مَا يُلْقَى فِيهَا، ثُمَّ جَرَيَانُهُ فِيهَا وَهُوَ الْخَاطِرُ، ثُمَّ حَدِيثُ النَّفْسِ يَقَعُ فِيهَا مِنْ التَّرَدُّدِ هَلْ يَفْعَلُ أَوْ لَا، ثُمَّ الْهَمُّ وَهُوَ تَرْجِيحُ قَصْدِ الْفِعْلِ، ثُمَّ الْعَزْمُ هُوَ قُوَّةُ ذَلِكَ الْقَصْدِ، وَلَا يُجْزَمُ بِهِ فَالْهَاجِسُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ وَالْخَاطِرُ الَّذِي بَعْدَهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى دَفْعِهِ بِصَرْفِ الْهَاجِسِ أَوَّلَ وُرُودِهِ، وَلَكِنَّهُ هُوَ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ مَرْفُوعَانِ بِالْحَدِيثِ وَإِذَا ارْتَفَعَ حَدِيثُ النَّفْسِ

ص: 112

ارْتَفَعَ مَا قَبْلَهُ بِالْأَوْلَى وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَوْ كَانَتْ فِي الْحَسَنَاتِ لَا يُؤْجَرُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَأَمَّا الْهَمُّ بِالْحَسَنَةِ يُكْتَبُ حَسَنَةً وَاحِدَةً وَبِالسَّيِّئَةِ لَا يُكْتَبُ، فَإِنْ تَرَكَ لِلَّهِ كُتِبَ حَسَنَةً وَإِنْ فَعَلَ فَسَيِّئَةٍ وَاحِدَةٍ، يَعْنِي يُكْتَبُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ وَحْدَهُ عَلَى الْأَصَحِّ وَأَمَّا الْعَزْمُ فَيُؤَاخَذُ بِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَقِيلَ: الْهَمُّ مِنْ الْمَرْفُوعِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ لَا يَأْثَمُ إنْ لَمْ يُصَمِّمْ عَزْمَهُ وَإِنْ عَزَمَ يَأْثَمُ إثْمَ الْعَزْمِ لَا الْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ كَالْكُفْرِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ هُوَ «أَنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ» قَالَ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ لِابْنِ مَالِكٍ: الْمُرَادُ مَا يُقْصَدُ إذْ الضَّرُورِيُّ مَعْفُوٌّ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ إلَّا أَنْ يُصِرَّ، ثُمَّ قِيلَ حَدِيثُ النَّفْسِ لَيْسَ بِكَلَامٍ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ وَلَا تَطْلُقُ بِهِ الزَّوْجَةُ وَأَيْضًا فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «إذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا سَيِّئَةً فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً وَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا» ، كَمَا فِي الْمَبَارِقِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ النَّوَوِيِّ الْمُرَادُ بِهِ الْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا تَسْتَقِرُّ سَوَاءً كُفْرًا أَوْ غِيبَةً فَمَنْ خَطَرَ لَهُ الْكُفْرُ بِلَا تَعَمُّدٍ فَصَرَفَهُ فِي الْحَالِ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، وَقَوْلُهُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ يَعْمَلْ فَإِنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَكُونُ مِنْ الْأَقْوَالِ أَوْ عَمِلَ بِمَا يَكُونُ مِنْ الْأَعْمَالِ فَيُؤَاخَذُ بِالْقَوْلِ فَقَطْ وَبِالْفِعْلِ فَقَطْ دُونَ حَدِيثِ النَّفْسِ أَوْ بِهِمَا مَعًا كَمَا اخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ وَعَنْ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْقُلُوبُ مَيَّالَةٌ إلَى كُلِّ طَارِئٍ عَلَيْهَا حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا مُحَالًا، أَوْ جَائِزًا، حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، مَعْقُولًا أَوْ مُتَخَيَّلًا، وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الْغَالِبَةُ عَطَفَ بِفَضْلِهِ وَعَفَا عَنْ كُلِّهِ بَقِيَ أَنَّ الْمَوْلَى الْمُحَشِّيَ قَالَ هُنَا: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَعَدُّدِ النَّفْعِ وَالثَّوَابِ بِتَعَدُّدِ النِّيَّةِ كَمَنْ تَوَضَّأَ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمُحَافَظَةِ الْوُضُوءِ وَسَجَدَ التِّلَاوَةِ الَّتِي عَلَيْهِ انْتَهَى أَقُولُ: تَفْصِيلُهُ إنْ كَانَ فِي الْوَسَائِلِ يَجُوزُ ذَلِكَ مُطْلَقًا كَمَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْجَنَابَةِ وَلِلْجُمُعَةِ لَهُ ثَوَابُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ فِي الْمَقَاصِدِ فَإِنَّ نَافِلَتَيْنِ كَمَا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لِسُنَّةِ الْفَجْرِ وَالتَّحِيَّةُ أَجْزَأَتْ عَنْهُمَا وَإِنْ فَرْضَيْنِ أَوْ فَرْضًا وَنَفْلًا فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُطْلَبُ مِنْ الْأَشْبَاهِ (رَوَاهُ عُمَرُ) بْنُ الْخَطَّابِ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) الْعَدَوِيُّ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ وَزِيرُ الْمُصْطَفَى ثَانِي الْخُلَفَاءِ (وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ) وَهُوَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ مَا لَهُ طُرُقٌ مَحْصُورَةٌ فَوْقَ الِاثْنَيْنِ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ مَا يُشْتَهَرُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فَيُطْلَقُ عَلَى مَا لَهُ إسْنَادٌ وَاحِدٌ بَلْ عَلَى مَا لَا إسْنَادَ لَهُ أَصْلًا، يَرُدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ الثَّانِيَ فَلَا يُنَاسِبُ لِغَرَضِهِ وَإِنْ الْأَوَّلَ فَالرَّاوِي فِي اعْتِقَادِهِ لَيْسَ غَيْرَ عُمَرَ فَكَيْفَ يَكُونُ مَشْهُورًا إلَّا أَنْ يُرِيدَ مِنْ الْمَشْهُورِ مَا هُوَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّ وَهُوَ مَا كَانَ وَاحِدًا فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ ثُمَّ اشْتَهَرَ بَعْدَهُ وَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَيْضًا فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَلَى تَخْرِيجِ أَبِي نُعَيْمٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ عَسَاكِرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى تَخْرِيجِ الرَّشِيدِ الْعَطَّارِ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِهِ مَشْهُورًا حِينَئِذٍ لَا يُفِيدُ عَلَى نَظَرِ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَنَّهُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعِرَاقِيِّ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ عُمَرَ وَعَنْ الْغَيْرِ وَمَا عَدَا طَرِيقِ عُمَرَ ضَعِيفٌ إلَّا أَنْ يَعُمَّ إلَى مَا وَرَدَ فِي مُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَلَوْ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ فَحِينَئِذٍ بَلَغَ الرَّاوِي إلَى ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ صَحَابِيًّا كَمَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ وَفِيهِ أَيْضًا: هَذَا حَدِيثٌ فَرْدٌ غَرِيبٌ بِاعْتِبَارٍ، مَشْهُورٌ بِاعْتِبَارٍ، وَفِيهِ أَيْضًا وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ الصَّحِيحِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا مِنْ عُمَرَ وَلَا عَنْ عُمَرَ إلَّا مِنْ عَلْقَمَةَ وَلَا عَنْ عَلْقَمَةَ إلَّا مِنْ التَّيْمِيِّ وَلَا عَنْ التَّيْمِيِّ إلَّا مِنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَمَدَارُهُ عَلَيْهِ وَإِنَّ مِنْ بَعْدِ يَحْيَى فَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَتَيْ إنْسَانٍ أَكْثَرُهُمْ أَئِمَّةٌ، بَلْ قِيلَ إلَى سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ فَمَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ التَّوَاتُرَ وَالشُّهْرَةَ فَبِالنِّسْبَةِ إلَى آخِرِ السَّنَدِ وَعَنْ النَّوَوِيِّ فِي إسْنَادِهِ شَيْءٌ يُسْتَحْسَنُ وَيُسْتَغْرَبُ وَهُوَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةٌ تَابِعُونَ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَالتَّيْمِيُّ وَعَلْقَمَةُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَطْرَفًا لَكِنَّهُ وَقَعَ فِي نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا، قَالَ وَهُوَ حَدِيثٌ مُجْمَعٌ عَلَى عِظَمِهِ وَجَلَالَتِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَابْتِدَاءِ أَرْكَانِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ (خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ) الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ

ص: 113

وَأَيْضًا قَدْ عَرَفْت تَخْرِيجَ أَبِي نُعَيْمٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْنِ عَسَاكِرَ وَالرَّشِيدِ (إلَّا مَالِكًا) قَدْ عَرَفْت السِّتَّةَ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السِّتَّةِ، وَقِيلَ عَلَى طَرِيقِ الْمُتَقَدِّمِينَ سَادِسُ السِّتَّةِ مَالِكٌ بَدَلَ ابْنِ مَاجَهْ فَمُتَّصِلٌ وَمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ غَرَائِبِ مَالِكٍ لَا يَضُرُّ؛ إذْ الْمُرَادُ كِتَابُهُ الْمُوَطَّأُ فَقَطْ.

(وَالنِّيَّةُ إرَادَةُ التَّقَرُّبِ بِالْعَمَلِ) إلَى اللَّهِ (الْبَاعِثَةُ عَلَيْهِ) صِفَةُ الْإِرَادَةِ (الْمُتَّصِلَةُ) صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ (بِأَوَّلِهِ) أَيْ الْعَمَلِ (حَقِيقَةً) كَمُقَارَنَةِ نِيَّةِ الْقَلْبِ بِتَكْبِيرَةِ اللِّسَانِ فِي الصَّلَاةِ (أَوْ حُكْمًا) كَصِحَّةِ الصَّلَاةِ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْ التَّحْرِيمَةِ إلَى التَّعَوُّذِ أَوْ إلَى الثَّنَاءِ أَوَّلًا إنْ أَتَمَّ الثَّنَاءَ أَوْ إلَى آخِرِ الْفَاتِحَةِ أَوْ إلَى الرُّكُوعِ أَوْ إلَى الرَّفْعِ مِنْهُ عَلَى الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ الْكَرْخِيِّ وَبِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ إلَى أَوَانِ الْوُضُوءِ إنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ وَفِي الْوُضُوءِ عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ، وَيَنْبَغِي فِي أَوَّلِ السُّنَنِ عِنْدَ غَسْلِ الْيَدِ، وَالْغُسْلُ كَالْوُضُوءِ، وَفِي التَّيَمُّمِ عِنْدَ الْوَضْعِ عَلَى الصَّعِيدِ، وَفِي الْإِمَامَةِ يَنْبَغِي وَقْتَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ لَا قَبْلَهُ، وَلِلْجَمَاعَةِ عِنْدَ أَوَّلِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاةِ الْإِمَامِ هَذَا لِلثَّوَابِ، وَأَمَّا لِلصِّحَّةِ فَالْأَفْضَلُ عِنْدَ افْتِتَاحِ الْإِمَامِ فَإِنْ نَوَى وَلَمْ يَشْرَعْ، قِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ لَا، وَفِي الزَّكَاةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَعِنْدَ الْعَزْلِ وَلَوْ دَفَعَ بِلَا نِيَّةٍ ثُمَّ نَوَى، وَالْمَالُ مَوْجُودٌ فِي يَدِ الْفَقِيرِ جَائِزٌ، وَفِي الصَّوْمِ جَازَ التَّقَدُّمُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَالتَّأَخُّرُ إلَى قُبَيْلِ نِصْفِ النَّهَارِ، وَالْأَفْضَلُ الْمُقَارَنَةُ، هَذَا فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ فَفِي غَيْرِهِ مِنْ قَضَاءٍ وَنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ فَيَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَفِي النَّفْلِ كَأَدَاءِ رَمَضَانَ، وَفِي الْحَجِّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ مَعَ التَّلْبِيَةِ أَوْ سَوْقِ الْهَدْيِ

ثُمَّ إنَّهُ تَصِحُّ نِيَّةُ عِبَادَةٍ فِي أُخْرَى كَمَنْ نَوَى فِي الصَّلَاةِ الصَّوْمَ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ اشْتِرَاطِ بَقَاءِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعِبَادَةِ فَلَوْ افْتَتَحَ الْمَكْتُوبَةَ ثُمَّ أَتَمَّهَا عَلَى اعْتِقَادِ التَّطَوُّعِ أَجْزَأَتْهُ ثُمَّ مَحَلُّ النِّيَّةِ هُوَ الْقَلْبُ فَلَا حَاجَةَ إلَى اللِّسَانِ لَكِنْ لَا بُدَّ فِي الِاعْتِكَافِ مِنْ التَّلَفُّظِ وَأَيْضًا مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إحْضَارِ النِّيَّةِ يَكْفِيهِ اللِّسَانُ (وَالْإِرَادَةُ) أَيْ لَفْظُ الْإِرَادَةِ فِي تَعْرِيفِ النِّيَّةِ (احْتِرَازٌ عَنْ مُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِاللِّسَانِ) مَعَ ذُهُولِ الْقَلْبِ وَقَدْ سَمِعْتَ آنِفًا مِنْ الْجَوَازِ فِي حَقِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إحْضَارِ قَلْبِهِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إذَا خَلَا عَنْ الْمَوَانِعِ وَطَبْعُهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ قَبِيلِ الْمَوَانِعِ، وَالْقَوْلُ إنَّ اللِّسَانَ حِينَئِذٍ بَدَلٌ وَثُبُوتُ الْبَدَلِ كَثُبُوتِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ إبْدَالٌ بِالرَّأْيِ، وَذَا لَا يَجُوزُ، ثُمَّ قِيلَ حَيْثُ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى نِيَّةِ الْقَلْبِ صَارَ الذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ فِي حَقِّهِ أَصْلًا لَا بَدَلًا.

ثُمَّ مِنْ فُرُوعِ هَذَا لَوْ اخْتَلَفَ اللِّسَانُ وَالْقَلْبُ كَالنِّيَّةِ بِالْقَلْبِ عَلَى الظُّهْرِ وَاللِّسَانِ بِالْعَصْرِ أَوْ بِعَكْسِهِ، فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقَلْبُ إلَّا فِي الْيَمِينِ فَلَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ إلَى الْيَمِينِ بِلَا نِيَّةٍ انْعَقَدَ يَمِينًا وَتَفْصِيلُ الْكُلِّ فِي الْأَشْبَاهِ، ثُمَّ فِي الْمَجْمَعِ لَا اعْتِبَارَ بِاللِّسَانِ لَكِنْ هَلْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يُسَنُّ أَوْ يُكْرَهُ أَقْوَالٌ، وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ لَيْسَ فِي التَّلَفُّظِ أَثَرٌ وَخَبَرٌ لَا صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ، بَلْ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ أَمِيرِ الْحَاجِّ وَمَكْرُوهٌ عِنْدَ بَعْضٍ، لَكِنْ فِي الدُّرَرِ أَمَّا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ وَيَحْسُنُ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ عَزِيمَةً (وَ) احْتِرَازٌ عَنْ (حَدِيثِ النَّفْسِ) لِأَنَّهُ عَرْضُ الْمَعْنَى عَلَى الْقَلْبِ وَالْإِرَادَةُ مَيْلٌ إلَى الْفِعْلِ، وَقَوْلُهُ (وَالتَّقَرُّبُ) احْتِرَازٌ (عَنْ الرِّيَاءِ الْمَحْضِ وَ) قَوْلُهُ (الْبَاعِثَةُ) احْتِرَازٌ (عَنْ الْقَصْدِ الْمُسَاوِي) فِيهِ التَّقَرُّبُ مَعَ غَيْرِهِ

ص: 114